أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الثلاثاء، 20 سبتمبر 2016

الرقص الدرامي ( تشكيل المعنى )

مجلة الفنون المسرحية



الرقص الدرامي ( تشكيل المعنى )

د. احمد محمد عبد الامير

إنّ للرقص الدرامي استقلاله الخاص والذي يعزى إلى تقديمه لنظام تخطيطي لما هو موجود، أي ما يرتبط بوجود الإنسان ونشاطه  . في نهاية القرن التاسع عشر، بدأ الاهتمام يتحول في المسرح من اللغة المعروفة أو التقليدية إلى لغة خاصة به وهي لغة الجسد، إذ بدأ المسرحيون الجدد يكتشفون ما للصورة والجسد من تأثير كبير في المشاهد. خصوصاً بعدما أخذت الطروحات الحداثوية بالاتساع المضطرد في مجالات الفن والأدب والمسرح والتي اقترنت عادة بالتمرد والتحرر المدفوع برغبة التحدي ، تحدي قدرة عناصر العمل المسرحي على ِالتوحد في وحدة فنية كاملة، لذا يمكن القول بأن فهم الرقص الدرامي كعمل حداثوي بوصفه شيئاً يحدث بصورة جمالية دائمة التحول أو بوصفه هدفاً أو واقعة مدركة تولد فائضاً من المعاني تنتجها آنياً جملة من العناصر المتفاعلة في العرض من خلال لحظة مسرحية هي بعض من لحظات العمل برمته ( ). والرقص عموماً، يعد أقدم الفنون وأعرقها، إذ يخاطب الآخرين بلغة الحركة للتفاعل مع المجموع والتعبير عن مظاهر الحياة. وعلى نحو يكون فيه المؤدي والمشاهد مشتركان معاً في إنتاج المعنى ضمن إطار الحدث ذاته، أو الطقس الروحي الذي يحيطهما من هنا أكتسب الرقص المعبر خصوصيته وهويته الثقافية التي تجسد صورة هذا المجتمع أو ذاك من خلال تقديمها على هيأة فعل معبر .  
يعرّف (ليفاري) الرقص بأنه: " رقص تكون فيه الحركة والموسيقى والديكور والملابس تابعه جميعها لسياق القصة والحبكة المسرحية " ( ). وينظر إليه على أنه: تأدية حركة بجزء أو أكثر من أجزاء الجسم على إيقاع ما للتعبير عن شعور أو معان معينة، وهي على أنواع وأصناف تنماز بخصوصية الأداء أو الوصف ( ). أما(سوزان لانجر) فتعرف الرقص الدرامي بأنه: " حركة أو نسق حركي فصل نفسه عن الحركة في عمومها بحكم تكوينه، إذ يكتسب هويته الفنية داخل سياق العرض ليتميز بذلك عن الحركة العادية "( ). ويعرّفه (مارتن) في كتابه (الرقص الحديث) بأنه: " التعبير من خلال الحركة الجسدية المنظرة في شكل دال عن مفاهيم وأفكار تتجاوز قدرة الفرد على التعبير عنها بوسائل فكرية عقلانية " ( ). ويعرف الرقص (جان لوي بارو) بأنه: " حالات الروح التي تترجم إلى تعبير جسدي " ( ).

ترى (سوزان فوستر) في كتابها (قراءة الرقص) ، الرقص الدرامي بأنه تجسيداً لخصائص داخلية وذاتية لكنها جمعية في نفس الوقت ( ) ، كما ويعرف بأنه التعبير من خلال الحركة الجسدية المنظمة في شكل دال عن مفاهيم وأفكار تتجاوز قدرة الفرد على التعبير عنها بوسائل فكرية عقلية ( ). (الأشقر) ترى بأنه: ابتكار معاني معبرة باستمرار ليعطي معنىً للوجود وعلى نحو يكون معه لغة مكثفة معاشة شعورياً ومفرزة بأفعال الوعي ( ). وبهذا المعنى يصبح العرض الدرامي الراقص تجسيداً أو خلقاً للواقع بفعاليته وديمومته ذاتها التي تحدث بشكل ملموس، لذا فقد تمتع بخصوصية شعورية الحياة نفسها ، بمعنى أنه مسرحة للواقع ، يقدم المعنى أو ينتجه في وعي المشاهد من خلال قيمة فكرته الفلسفية الأساس، والتي تنقل حالة شعورية وفكراً ذهنياً على نحو ما مع ملاحظة قابلية حركاته للتحول، الأمر الذي يجعل منه وبكل الأحوال قابلاً للفهم وفقاً للسياق الذي يرد فيه .
وهنا يعرّف صاحب المقال (الرقص الدرامي Drama Dance ) بأنه: نمطاً من الفن المسرحي الذي يركن إلى انسجام التشكيل الحركي تماشياً والإيقاع الموسيقي ليرسم صورة جمالية في وعي المتلقي، يلبي ويعتمد في الوقت ذاته عن حاجات نفسية ويخدم أغراضاً فلسفية وجمالية وشعورية، ليقدمها في عملاً أدائي تعبيري واحد .
على وفق ذلك، يعمل الرقص الدرامي على تفعيل الوعي وتعميق قراءته للواقع من خلال تقديمه بصورة جمالية، ذلك أن الأنشطة الاعتيادية تبدو ذات طابع غرائبي حينما تقدم في إطار فني يدفعنا بالنتيجة إلى إعادة اكتشاف ماهيتها من خلال تشكلها الظاهراتي. كما أن للرقص الدرامي وظيفة الإضاءة الرمزية للحقائق الإنسانية التي لا يمكن التعبير عنها لغوياً، وذلك من خلال المزاوجة بين الوظيفة التعبيرية والحركة الدالة. لذا يمكن القول بأن فن الرقص الدرامي ومن خلال حركاته المعبرة كدلالات وعلامات يساعد على احتواء تاريخ الإنسانية، من خلال إدراكه (تشخيصه) وإعادة إنتاجه (تجسيده) شعورياً كما يظهر لتجليات الوعي والوجدان، إذ يرتبط فيه التجسيد الخارجي بالتعبير الجسدي عن المشهد الطبيعي، أي أن خصائص الحركة الأدائية المعبرة تصبح بهذا المعنى متخطية لنمطية الأسلوب أو المنهج، أو حتى مجرد التعبير عن شيء معين، بل تصبح طاقة معبرة عن فلسفة كاملة يتلازم فيها التمظهر الخارجي مع المضمون .
وقبل الولوج إلى بحر التقنية وقراءة العرض الدرامي الراقص، لا بد لنا من تحديد بعض المفاهيم الخاصة بأنواع الرقص حتى يتسنى لنا الابتعاد وتحديد شكل النوع الذي سنتحدث عنه عن باقي الأنواع المرتبطة بجنس الرقص بشكل عام، ومن ذلك نورد الأنواع وفروقها، وكما يلي( ):
1. الرقص التجريدي ((abstract dance: رقص بحت لا يتقيد بفكرة أو قصة معينة .
2. الرقص التعبيري (action dance): رقص يعبر عن فكرة أو موضوع معين .
3. الباليه (ballet dance): نوع من أنواع الرقص الكلاسيكي الفني يتميز بالتنوع الجمالي والشكلي والمهارة والدقة الأدائية في التصميم والأداء التعبيري الخاص والفريد وهو معروف بثلاثة أساليب فنية أدائية مدرسة: الفرنسية، الايطالية، الروسية .
4. الرقص الفلكلوري :(folk dance) رقص جماعي تؤدية جماعات ما قد لا تكون متخصصة بالرقص تعبر رقصاتهم عن عادات وتقاليد مجموعة ما أو هوية ما إقليمية شعبية أو دينية. يعد من الأنواع القديمة في الرقص وأكثرها انتشارا وتنوعا ما بين الشعوب ويعد جزأ من موروثا ويعبر عن هويتها الثقافية وامتدادها التاريخي والثقافي وان لكل دولة عدد من الفرق من هذا النوع، للعراق مثلا ثلاث فرق تمثل فلكلور مدينة البصرة وإقليم الشمال والفرقة القومية للفنون الشعبية، ولمصر عدة فرق متخصصة في هذا المجال من الرقص وتعد (فرقة محمد رضا) من أشهرها محليا ودوليا إذ تجمع اغلب أنواع الرقصات المصرية من الساحل الشمالي إلى أسوان جنوبا. وهذا النوع من ابسط أنواع الرقص من حيث التدريب والأداء والتقديم لأنه محدود الشكل والتصميم ومقيد بالمنقول والمحفوظ في الذاكرة الجمعية ولا يعرف لها صاحب أو مؤلف بل هي ملك للجماعة وتعبر عنهم جيل بعد جيل. تعد أحيانا شكلا من أشكال الرقص الوطني أو القومي .

5. الرقص الوطني (national dance): رقصات جماعية تعبر عن ثقافة جماعات كبيرة تعرف بالتميز والتفرد لتعبر عن تلك الجماعات التي تمثل دولة ما من الدول وتميزها عن الدول الأخرى في شكل الأداء وتعبر عنها كإيقونة، وهي وتتشكل عن مجمل الرقصات الفلكلورية القديمة لتلك الدولة دون تمييز ما بين نوع فلكلوري ونوع آخر .
6. الرقص السلالي (الفلكلوري)(folklore): وهو من أقدم الأنواع وأعرقها ارتباطا بالتقاليد والخرافات والأساطير الموروثة قديما في العصور الغابرة والمختلفة وتعبر عن ثقافة ومحمول فكري مهم وتروي حكاية أسطورية كالنشوء والولادة والخصوبة والنماء أو تعبر عن موقف إنساني من الوجود، يقدم في المعابد والمناسبات الدينية المهمة كاحتفالات الأكيتوية. أمثالها الرقصات السلالية القديمة: الهندية، والهندوسية، والفرعونية ..
       كانت البوادر الأولى لولادة الحركة المقصودة لذاتها والمعبرة لدى الإنسان عندما ازدادت حاجته الملحة للتعبير عن تجربته ومعاناته لأقرانه الآخرين ، وذلك عندما بدأت بوادر وعيه الأول بذاته وتقلباتها بالتشكل، فأراد تبعاً لذلك نقل شعوره إلى إنسان آخر معلماً إياه تجربة مرت به أو لغيره أو لغز محير له، من هنا أصبح جسم الإنسان وعاءً يحوي لغته وإيماءاته وحركاته . وقد استمرت هذه الرغبة في التعبير وهذه الوظيفة في الأداء إلى اليوم، بل أصبحت لبنى أساس في احتواء كل المعاني التي يريد الفرد التعبير عنها ( ). من هذا المنطلق ، قال المهتمون بالنشاط المسرحي إن تطور فن التمثيل تأتى عن تنامي فن الرقص الدرامي، إذ كانت الحركة التعبيرية ناجحة في تحقيق ذلك كما كانت وسيلة اتصال شعورية مثلى وذلك أنها إيقاع وقصة وفعل، وهذا ما وطد علاقتها بالشعور الدرامي وجعل منبعها العاطفة، أما محتوى الحركة فيدرك آنياً من خلال تشكلها وتنوع إيقاعها، إذ من خلال هذا الشكل المتنوع يتكون لدى المشاهد صورة ومضمون الفكرة المعبر عنها كما تتضح وبالدرجة نفسها من خلال التتابع والتماسك الحركي مع بعضها البعض. إضافة إلى ذلك، فإن المشاهد يشكل معنى الحركة في وعيه كظاهرة فيما يتوصل إلى درجة من المعرفة يستقري من خلالها الحركة آنياً، أي أن ما يقرأه المشاهد هو ظاهر الحركة ليكمل هو بدوره الإحساس بها، وعندما يتوهج الإحساس يبدأ البحث عن المعنى برفع المعايير والمقاييس والتوصل تدريجياً إلى المعنى الأساس ( )، وهي طروحات ظاهراتية في الجوهر تتلاقى مع ما قال به (أنغاردن) من قصدية التوجه صوب الموجودات (العمل المسرحي) واستقراء ماهيته من خلال ما يقدمه من ظاهر يكون المضمون لصيق به في الأساس .

على وفق ذلك، يمكن القول أن الفلسفة التي تنقلها الحركة التعبيرية هي فلسفة العرض ذاتها ، والتي تسعى إلى إظهار تقلبات الذات والطبيعة وظواهرها، لذا يجب أن تخدم الحركة التعبيرية وتوظف لإظهار الفكرة الفلسفية التي أثارت الجدل دون أن تستثني علائق المعنى مع الوجود الذي إليه ترجع الفكرة، فالحركة يجب أن تحقق شكلاً درامياً على مستوى الحس (التعبير) والمكان والزمان ( ). تنشط الحركة التعبيرية من خلال خصائصها الإعلامية والإخبارية والابلاغية في فرز المعنى ومن خلال سلسلة أدائية تنسلخ عن بساطة التشكيل وتقليدية الأداء لتتعالى بذلك عن التمظهر السطحي البسيط ولتدخل في أفق جمالي يتسم بالتعدد والتنوع ، إذ تبدأ في الإفصاح مع بداية العرض. لذا يصبح المعنى كما أشار (أنغاردن) أول ما يتأسس في وعي المشاهد ( ) . 
طبقاً وطروحات الظاهراتية، تنتفي عن الحركة التعبيرية في العرض الدرامي الراقص الافتراضات المسبقة ذلك لو أن المشاهد بحث عن قصد مبدع العرض أو ما يسمى بالمعنى الأحادي لتحول تركيزه وانحسر على المعنى النفعي الذي ينسب عادة للعروض الإخبارية، ولأن الرقص الدرامي عرضاً غير إخباري فإن ذلك يعني أن له معنى خاص ينمو في بيئته هو . يختلف بالضرورة عن المعنى النفعي ذو اللغة الناقلة والتي تزعزعت عن عروشها في الرقص الدرامي الحديث الذي ابتكر لنفسه لغة تتطابق تلك التي حلم بها (رولان بارت)، لتصنع الاضطراب في يقينيات اللغة وتحررها من المعتاد، أنها تلك الحركة المعبرة الغير قابلة للنقل بقدر ما تبدو قابلة للتحرير والتساؤل والتوليد ، لذا فالرقص الحديث أصبح قادراً على الانفلات من سطوة الفكر ألمفاهيمي ، كما الظاهراتية. بمعنى آخر، له القدرة على أن يتمرد على الفهم والدلالة الأحادية التمركز ( )، وهو ما يسميه (دريدا) بـ( المركزية الفكرية ). على وفق ذلك، فالحركة التعبيرية في العرض الدرامي الراقص ليس من شأنها أن تحمل المشاهد على قنص المعنى فحسب، بل تهدف إلى زجه في فيض معرفي تساؤلي ينبثق من العرض ذاته ، أي أخذه في رحيل معرفي استكشافي لطبقات العرض الراقص، والمعبر عنه بلغة مشكلة إبداعياً لأجل تغير من بنية الذائقة أساساً لتصبح النتيجة فهماً ذاتياً يزيد من قيمة المضمون الوجودي للعرض، ويثري الأبعاد الجمالية التي أقصت اللغة التخاطبية واستبدلتها بلغة لم تزل عصية الفهم ولم تتوضح جلياً نوعاً ما حتى الآن، إذ من خلال هذه القراءة الاستكشافية لهذه اللغة وهذه الانفتاحات الثقافية تتشكل دلالة وتأويل الحركة التعبيرية انطلاقاً من فجواتها اللا محدودة وانتهاءً بلحمة هذه الفجوات. وأن هذه القراءة تعمل على تفتيت الفكرة التقليدية التي تنسب للعرض الدرامي الراقص معنى أحاديا ، لذا فهي أصبحت بالضرورة غير معنية بمهمة الكشف عن المعنى الثابت أو المخبوء، بل بقراءة نوعية تعيد إنتاج المعنى انطلاقاً من الحركة التعبيرية الراقصة ذاته 

من خلال (نتشه) عن أهمية لغة الرقص لديه إذ قال " أن الرقص مواجهة وانقلاب على الجسد الانضباطي وهو نفسه في لا انضباطيته هذه يمسرح حركة الواقع ويتمرد على يقينياتها، ولعل العرض الذي يغاير المألوف في اللغة المتداولة ومن قبلها في المجتمع يشكل خرقاً لما هو موثوق فيه من خلال الجسد, وهكذا تكون لغة الرقص ملحمة كوميديا الجسد وتراجيديته، إذ يتجلى المؤتلف والمختلف في جغرافيته بمنعطفاتها وأغوارها وبلاغتها " ( ). ولأن الجسد هو التعبير الأول في المسرح فأنه يتحول في انتقاله من الحياة الطبيعية إلى الخشبة إلى طبيعة أخرى مجازية، و تتحول أيضاً مختلف اللغات الأخرى من طبيعتها المادية إلى مستويات مجازية. والتعبير الجسدي في العرض الدرامي الراقص ينتمي إلى ذلك الفضاء المجازي الذي من خلاله يحول اللغة الدرامية إلى لغة واقعية لها خصوصية وبنية مميزة ( ) .
إنّ المعنى في الرقص الدرامي المحول في الحركة التعبيرية أساساً ليس بالشيء المعبر عنه لغوياً، بل أنه شيئاً فعلياً منتج، لذا تصبح العلاقة بين اللغة والمعنى هي علاقة إنتاج لا نقل. وفي هذا المضمار يقول عميد الأدب العربي (أدونيس) أن مضمون الفن كامن في العمق الذي يحفره الشكل، فإذ كان المضمون عميقاً فإن الشكل (الحركة التعبيرية هنا) هو الذي حفره وهو الذي أنتج (المعنى) وأوجده ( ). إضافة إلى ذلك، وبالاستناد إلى الفرضية التي تقول أن الحركة هي الموقع الحصين للمعنى في الراقص الدرامي والى فرضية أن كل حركة هي حركة دالة، تصبح لغة الرقص منتجة للمعنى متجاوزة في الآن ذاته لأي شكل محدد لها مسبقاً ولها بالمقابل شكلها أو تمظهرها الخاص بها. وهي طروحات تلتقي مع الفهم الظاهراتي للخطاب الجمالي لدى (أنغاردن) إذ من خلال هذا الشكل يُنتج المعنى الموجه بفعل القصد في الإنتاج، وفعل التأسيس القصدي في المشاهدة، بعد أن تتخذ موقعها في محيط الوعي الذاتي وتؤول بفعل فعل الفهم ومدياته . 
على الرغم من ذلك التلازم المعروف بين الحركة التعبيرية والمعنى، إلاّ أنه يمكن تحديد الفرق بينهما فالمعنى ثابت والحركة متغيرة ، وللحركة التعبيرية أكثر من تمظهر واحد ينتج معنى واحد مع ملاحظة، فارق القراءات المتعددة لها ، لذا يمكن القول إن اختلاف الدلالة مرده الحركة التعبيرية لا تنوع المعنى، أما من يقرر ذلك فهو المشاهد، إذ ينشئ المبدع أو المؤلف معنى في حين يُعَيّن المشاهد الدلالة، وهذه العلاقة بين الطرفين - بنية الفهم وبنية العمل كما يسميها (أنغاردن) - هي التي تحدد آلية التأويل ذاتها، كما أن لهذه المسافة دوراً في منح المشاهد فرصة التجول بالدلالة في آفاق أكثر رحابة واتساع، لتصبح هذه الدلالة هي الإشارة الخاصة التي تحول العرض من وجوده الممكن إلى وجوده الملموس ( ) . 
على وفق ذلك، تصبح عملية التواصل متجاوزة لنمط التبادل اللفظي بين (المرسل والمستقبل)، إذ حتى لو امتنعنا عن الكلام فإننا مع ذلك نرسل إشارات جسدية وقد عبر (فرويد) عن ذلك بقوله " عندما تصمت الشفاه تتكلم الأصابع " ( ). كما إن التواصل المعروف مع العروض الدرامية الراقصة لا يعني بالضرورة منحها دلالة محددة أو واحدة لها، بل يعني الالتهاء بإنتاج المعنى من خلال قراءة متفاعلة مشاركة في الإنتاج، وهذه المشاركة تحتم على المشاهد أن لا يعنى بموضوعة العرض فحسب بل بالحضور المادي أمامه كشكل تعبيري كما يتبدى له، وان لا يقف عند حدود التساؤل عن معنى هذه الحركة أو تلك، بل الإجابة عن كل ما تطرحه هذه الحركات أمام الوعي من تساؤلات، وما تفتحه أمام وعيه من آفاق تأويلية ( )، على اعتبار أن مبهمات الحركة التعبيرية تفسر دائماً بطرق مؤداها (الاختلاف) مرده هذا الإبهام لذا يكون معناها بالضرورة معنى مؤجل ( ) . لذا فعلى مصمم الحركة التعبيرية أن يطرح جانبا الحركة التي تشكل مادة الحياة اليومية بممارساتها الجسدية الاعتيادية، وأن يختار ذلك النوع الذي لا يخضع لضرورات الجسد أو يترتب عليها، بل ينتج عن حاجة نفسية أو عاطفية أو  جسدية، لذا فإن الرقص لا يمكن أن يكون مجرد توالي حركات، بل أنه حركة معبرة دائمة التحول ( ). إضافة إلى ذلك فإن الحركة التعبيرية تأتي على ثلاث أشكال، رد فعل بإزاء الشيء أو ضده أو تجسيداً لماهيته ( ) . 
فالرقص إذن هو لغة الجسد المؤداة بإيماءات وتحريض وتفعيل مع الروح، ولهذا فهو يشكل علاقة تواصلية مع الآخر المحيط به، والموجه خطابه قصدياً إليه، كما أنه وفي الآن ذاته محاولة للاستمرار في الواقع والتفاعل معه والتحاور جدلياً مع قضاياه الوجودية . والرقص بمعناه الواسع هو انتفاضة جسدية قد تكون أو تبدو غامضة أحياناً . لكنها تبقى بكل الأحوال انتفاضة يقيمها ويحكيها الجسد، إنه غوصاً في أعماق الذات ليساهم في إغناء كينونتها الإنسانية، إنه تعميق وتوسيع حدودها وثراء معناها: كما ويمكن القول بأن الرقص الدرامي (كوجيتو) ديكارتية، يؤكد عنفوان الإنسان من الداخل ما دام هناك تقويم متواصل لهذا الداخل وهكذا ( أنا أرقص إذن أنا موجود)، فالرقص توازن الروح مع الجسد وتوازن الجسد مع الواقع، وتوازن الروح مع الروح من خلال الجسد . 


المصادر والمراجع :
1. كاي ، نك : ما بعد الحداثة والفنون الأدائية ، ت : نهاد صليحة ، القاهرة : الهيأة المصرية العامة للكتاب، ط1 ، 1999 ، ص 30 .
2. ليغاري ، سيرج : فن الرقص الأكاديمي ، ت : أحمد محمد رضا ، القاهرة : دار الكتاب العربي للطباعة والنشر ، 1998 ، ص 29 .
3. ينظر: مجموعة من المؤلفين : مجموعة المصطلحات العلمية والفنية التي اقرها المجمع، المجلد 4 ، القاهرة: الهيئة العامة لشؤون الطباعة ، 1983 ، ص 119 .
4. كاي ، نك : ما بعد الحداثة والفنون الأدائية ، ت : نهاد صليحة ، مصر : الهيأة المصرية العامة للكتاب، 1999 ، ص 137 .
5. المصدر نفسه ، ص 131. للمزيد ينظر : عيد ، كمال الدين :أعلام ومصطلحات المسرح الأوربي ، الإسكندرية : دار الوفاء لدينا للطباعة والنشر ، ط1، 2005 ، ص 335-340 .
6. ليبهارت، توماس: فن المايم والبنتومايم ، ت : بيومي قنديل، مصر: الهيأة المصرية العامة للكتاب ، 2005، ص 82 .
7. كاي ، نك : المصدر السابق ، ص 114 .
8. المصدر نفسه ، ص 131 .
9. الأشقر ، أكرم : الرقص لغة الجسد ، بيروت : دار الفرات للطباعة والنشر ، 2003 ، ص 39.
10. ينظر: مجموعة من المؤلفين : مجموعة المصطلحات العلمية والفنية التي اقرها المجمع، المصدر السابق نفسه والصفحة نفسها .
11. سوريل ، ولد : الأوجه العديدة للرقص ، ت: عنايات عزمي ، القاهرة : دار غريب للطباعة والنشر، 1974، ص 28 .
12. كرومي ، عوني وآخرون : المصدر السابق ، ص 188 .
13. المصدر نفسه ، ص 191 .
14. العقود ، عبد الرحمن محمد : الإبهام في شعر الحداثة، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة كتب عالم المعرفة، ب . ت، ص 323 .
15. العقود ، عبد الرحمن محمد : المصدر السابق ، ص 328 .
16. الأشقر ،  أكرم : المصدر السابق ، ص 39 – 40 .
17. فريز ، سير جيمس : الغصن الذهبي ، دراسة في السحر والدين ، ت : أحمد أبو زيد ، القاهرة : الهيأة المصرية العامة للكتاب ، 1971 ، ص 45 – 46 .
18. العقود ، عبد الرحمن محمد : المصدر السابق ، ص 332 .
19. العقود ، محمد عبد الرحمن  : المصدر السابق ، ص 321 – 322 .
20. الغريب ، منى : الإيحاء والإيماءة ، بحث منشور على شبكة الانترنيت ، مجلة عرب ، ع 124 ، يونيو ، 2001 ، ص 3 .
21. أبو زيد ، نصر حامد : أشكليات القراءة وآليات التأويل ، بيروت : المركز الثقافي العربي ، ط4، 1996 ، ص33 .
22. العقود ، عبد الرحمن محمد : المصدر السابق ، ص 327 .
23. كاي ، نك : المصدر السابق ، ص 136 .
24. كرومي ، عوني ، وآخرون : المصدر السابق ، ص 188 - 190 .


0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption