مسرح العبث بمذاق عربي في العرض البحريني «الكراسي»
مجلة الفنون المسرحية
مسرح العبث بمذاق عربي في العرض البحريني «الكراسي»
-----------------------------------------
المصدر : محمد ولد محمد سالم - الخليج
مسرح العبث بمذاق عربي في العرض البحريني «الكراسي»
ما الذي تعنيه استعادة مسرح العبث، في اللحظة الراهنة من واقع المجتمع العربي، هل اللحظة العربية الراهنة عبثية، مهشمة عاجزة، بلا هدف، ولا وجهة، ما الذي يريد حسين العصفور أن يقوله من خلال استعادة أطروحات يوجين يونسكو في مسرحيته الشهيرة «الكراسي»؟ التي أخرجها العصفور لمسرح أوال في البحرين، وقدمت مساء أمس الأول في رابع ليالي مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي، وقد سبق وقدمت في جهات العالم الأربع، وفي الوطن العربي مراراً وتكراراً.
كتب يونسكو «الكراسي» عام 1951، عن حفلة خطابية وهمية يقيمها زوجان هرمان، فالزوج بلغ 95 عاماً، والزوجة 94 عاماً. يرى الزوج أنه رجل عظيم، يحمل أفكاراً عظيمة تستطيع أن تخلص البشرية من مآسيها، وتجعلها تعيش في رغد وسعادة، لكنه لم تتح له فرصة لذلك، فقد عاش كل عمره حارساً للمساكن، ولم ينظر إليه الناس يوماً باحترام، وتبدو زوجته متأرجحة بين لومه على نزقه الذي ضيع عليه فرصاً كثيرة، فلم يستطع أن يبلغ أية مرتبة ذات شأن، وبين الاقتناع بقدراته، وأنه رجل عظيم فعلاً، والآن وفي عمره هذا ومع زوجته قرر الزوج أن يدعو أهل المدينة جميعهم لكي يبلغهم رسالة يحملها، ولكنه عاش طوال عمره ذليلاً، ولم يعرف يوماً كيف يعبر عن نفسه، لذلك استأجر خطيباً لكي يبلغ رسالته إلى ذلك الجمع.
يتوافد على منزل العجوزين أناس وهميون، غير مرئيين، لكنّ الزوجين يستقبلانهم تباعاً، ويتخيران لهم الكراسي حسب المكانة الاجتماعية، وتتكاثر صفوف الكراسي الفارغة، وأثناء الاستقبال تدور حوارات لا يسمع منها سوى إجابات الزوجين وأسئلتهما وتعليقاتهما، لكنها تكشف عن جوانب من حياة المجتمع، وتراتبيته، وازدراء أصحاب المناصب العليا والمكانة الاجتماعية الرفيعة لمن هم دونهم، كما تكشف عما كان يحلم به كلا الزوجين في الماضي، المرأة الحسناء التي أحبّها الزوج وحلم بالزواج منها، والمارشال الذي كان يتمنى أن يصير مثله، وفني التصوير الذي كانت الزوجة تتمنى أن تتزوجه.. إلخ.. يكتظ المكان بالمدعوين من كل الطبقات، وتسمع موسيقى الشرف، ويفتح الباب فيدخل الملك وهو أيضاً غير مرئي، ويحاول الزوج الذي أصبح محاصراً بالبشر أن يصل إلى الملك لكي يحييه، فلا يستطيع، ثم يصعد فوق الكراسي، فيكلمه معبراً له عن سعادته وامتنانه بالشرف الذي أولاه إياه بمجيئه إلى منزله المتواضع، ويلقي عليه كل أنواع التمجيد والعرفان، لكن صوته ظل ضائعاًً بين الجمهور، حتى أنه لم يستطع أن يمتع ناظريه برؤية التاج على رأس الملك الذي حجبه عنه الناس، وكانت الزوجة طوال ذلك تردد صدى كلمات زوجها، وتؤكد ما يقوله.
أخيراً يدخل الخطيب، فيدعو الزوج الجموع إلى الاستماع له، ويطلب من الخطيب أن يتكلم وأن يبلغ عنه رسالته كاملة غير منقوصة إلى تلك الجموع، ويشعر الزوجان في تلك اللحظة بالزهو، ويقرران فجأة الانتحار فيقفزان في لحظة واحدة من نافذتين متقابلتين، ويتهيأ الخطيب للكلام، لكن، لا يصدر عنه سوى همهمة وزعيق أشبه بأصوات الأبكم، وحين لا يستطيع الكلام، يكتب أحرفاً مبهمة على سبورة قريبة منه، ثم يمحوها ويكتب أخرى، وأخيراً يكتب كلمة «و د ا ع ا»، ويخرج، وتسمع أصوات ضحك وضجيج وصخب، وتنتهي المسرحية.
الزوج فاشل، وحياته وزوجته فارغة، وكل ما يقوم به لإثبات عظمته وهم، مثل أولئك الأشخاص الوهميين الذين استدعاهم، والكراسي التي ظلت فارغة، والرسالة التي يظن أنه يحملها فارغة، مثل ذلك الخطيب الأبكم، ولن تكون نهاية ذينك الزوجين إلا بتلك الطريقة العبثية «الانتحار».
هذا ما تقوله مسرحية يونسكو، ولم يخرج عرض حسين العصفور عن هذه الرؤية، وكان تصرفه في المسرحية طفيفاً، رغم أنه حذف من النص أجزاء، لكن ما حذفه كان تفصيلات فرعية، ولم يكن مفاصل أساسية، والشيء الوحيد الذي تغير هو شكل النهاية، فالزوجان لم ينتحرا في عرض العصفور، بل بقيا حتى انصرف الخطيب، وقد اجتاحت المكان زوابع برد، وانصب عليهما الثلج حتى جمدهما البرد، ولا يبدو أن هذا التغيير يمثل إضافة كبيرة، فسواء انتحر الزوجان أو تجمدا من البرد ففكرة العبث هي نفسها، ولقد كانت دوماً إحدى الانتقادات التي توجه إلى اتجاه العبث أنه يمثل شكلاً فكرياً واحداً حتى ولو تعددت مظاهر التناول، ففي النهاية لن تكون تلك المظاهر على اختلافها سوى تعبير عن «عبثية الحياة» وهي فكرة مغلقة غير قابلة للتطوير والإضافة، ومن هنا نشأت الأزمة التي وقع فيها هذا التيار، ولم يستطع تجاوزها، وأدت به إلى أن ينتهي سريعاً في أوروبا، ويصبح جزءاً من تاريخ الفكر، يمكن أن يستفاد منه في إطار رؤى جديدة أكثر تقدمية وانفتاحاً، ومن هذه الزاوية فإن المخرج لم يضف أي جديد على ما كان مطروحاً من قبل، ولم يستطع أن يفتح كوة ولو صغيرة في تلك القلعة العبثية الموصدة، وأظن أن الراهن العربي بحاجة إلى ما يفتحها، وليس إلى ما يؤكدها.
يحمد للعرض قدرة الممثليْن الرائعة، وأدائهما السليم باللغة العربية، كما يحمد له الاستخدام الجيد لعناصر السينوغرافيا.
المصدر : محمد ولد محمد سالم - الخليج
0 التعليقات:
إرسال تعليق