تراجيديات سينيكا تخاصم خشبة المسرح
مجلة الفنون المسرحية
تراجيديات سينيكا تخاصم خشبة المسرح
تراجيديات سينيكا تخاصم خشبة المسرح
«لوكيوس أنايوس سينيكا» فيلسوف وخطيب وكاتب درامي روماني، كتب أعماله باللغة اللاتينية، وقد ولد في قرطبة بإسبانيا سنة 4 قبل الميلاد، ويلقب بسينيكا الفيلسوف الأصغر، تمييزاً له عن والده الخطيب الشهير، الملقب بسينيكا الأكبر، وقد ذهب كاتبنا في صغره إلى روما، حيث تعلم هناك البلاغة والفلسفة، وأقام مدة في مصر ضيفاً لدى خالته زوجة حاكم مصر الروماني، وقد أجبره الإمبراطور الروماني «نيرون» على الانتحار، وتوفي سنة 65 ميلادية بالقرب من روما، وحاولت زوجته أن تلحق به، لكن محاولتها الانتحار لم تنجح.
تعلم سينيكا في صباه النحو والخطابة، وتتلمذ على يد الفلاسفة الفيثاغورثيين، وبوحي منهم أصبح نباتيا، لذلك ظل نحيف الجسد حتى مات، وتعلم الفلسفة الرواقية، وظل مؤمنا بها حتى نهاية حياته، وقد اشتهر باعتباره كاتبا وخطيبا في عهد الإمبراطور كاليجولا، الذي حقد عليه لذكائه الشديد، وفي عام 41 ميلادية نفاه إلى جزيرة كورسيكا، وظل بها لمدة ثماني سنوات، إلى أن عفا عنه الإمبراطور كلاوديوس الذي طلب منه تعليم ابنه نيرون الذي كان عمره وقتها 12 عاماً.
علم سينيكا نيرون مبادئ أخلاقية كثيرة، وزرع فيه حب الفضيلة، وبعد وفاة الإمبراطور كلاوديوس تولى نيرون الحكم، ولم يترك معلمه سينيكا، وإنما أخذه معه، ليستفيد من نصائحه، وصار مستشاره الأول حتى عام 62 ميلادية، وكان كثيراً ما يقبل نصائحه، لكنه كان يشعر في كثير من الأوقات بأنه مقيد، ولا يملك حريته الكاملة، لأن أمه كانت تسيطر على الحكم، وتتدخل فيما يقرره، ولذلك قرر أن يستقل بحكم روما، ويخلع أمه عن الإمبراطورية، بل عن الحياة بأكملها.
لكن سينيكا بوصفه معلما رفض أن يقتل نيرون أمه، وكتب إليه خطابا يبرئ نفسه من تلك الجريمة البشعة ثم شعر سينيكا بعد ذلك بالاشمئزاز من فساد نيرون وانحرافه الأخلاقي، وقرر أن يتركه واستأذن في اعتزال الحياة السياسية، والتخلي له عن ممتلكاته، فقبل نيرون اعتزاله السياسي، وأبقى له ممتلكاته إلا أنه في عام 65 ميلادية اتهمه بالتآمر عليه، وبالفعل حكم عليه بالموت وأجبره نيرون على الانتحار، وصادر ممتلكاته، فأنهى سينيكا حياته على الطريقة الرواقية، حيث قطع شرايينه وسط أهله وظل ينزف حتى مات.
يوضح كتاب «ثيستيس» وقد ترجمه إلى العربية أحمد حمدي المتولي، أن سينيكا كان ينادي بضرورة خلع الإمبراطور نيرون من الحكم من خلال رمزية أسطورة «أويدبيوس ملكا» لأنه كان يرى أن خلاص طيبة من الشرور والأمراض يكمن في خلع أويدبيوس وطرده بعيدا عنها، وكذلك خلاص روما يكمن في نفي نيرون بعيدا عنها، فهو يرى أن أويدبيوس مثل نيرون تماما، حيث يعتبر كلاهما مذنبا، فقد انتهك كلاهما قوانين الأخلاق، ولذلك يذكر سينيكا قومه بأن عاقبة روما ستكون مثل عاقبة طيبة، إن تركوا ذلك الوحش بداخلها على قيد الحياة (يقصد نيرون).
كان سينيكا مثل كبار مثقفي عصره ضليعا في اللغة اليونانية وثقافتها، لا سيما على صعيد الفلسفة والأدب والمسرح، وكتب تسع مسرحيات تراجيدية، ولم يكن في نيته أن تعرض بل أن تقرأ في الصالونات الأدبية، ولم يكن أحد كتاب التراجيديا في العصر الروماني يتوقع أن يتم عرض مسرحياته أمام الجمهور، وبالمثل فإن سينيكا لم يكن يخطر بباله أن تقدم تراجيدياته على خشبة المسرح، وذلك الذي جعل أغلب الدارسين يقولون إن تراجيديات سينيكا كتبت لتقرأ، وليس لتمثل على المسرح، إلا أن هناك من يرى أن سينيكا كان يفكر في عرض مسرحياته للجمهور، وقيل أن إحدى رسائله تكشف عن اهتمامه بالعروض المسرحية، كما أن شخصياته كانت تغري في وقتها الممثلين الكبار، ليقوموا بتمثيلها على خشبة المسرح. كان غرض سينيكا الأساسي من كتابة مسرحياته هو تجسيد أفكاره الفلسفية والأخلاقية الرواقية في شخصيات تخوض صراعات درامية حادة بين قوتين، العقل والحكمة من طرف، والعاطفة الجامحة والغريزة من طرف آخر، والتعبير الأدبي يؤثر بشدة في الأذن، ويعتبر أشد نفاذا إلى العقل وأعمق تأثيرا في القلب من النصوص الفلسفية الجامدة التي لا يصل إلى معناها إلا الضالعون في لغتها، وكان سينيكا لا يهتم بهؤلاء قدر اهتمامه بعامة الناس.
وقد اختلفت مصادر تراجيدياته، لكنها في كل الأحوال مأخوذة عن اليونانية، فكانت إما مستمدة من الملاحم والأساطير، وإما عن النصوص التراجيدية مباشرة، واختلف سينيكا في مسرحياته عن المسرح الإغريقي، حيث كان يترك لشخصياته حيزا كبيرا للتعبير عما يكمن بداخل شخصياته الدرامية، كي يبرز ما يحدث بداخل النفس من مشاعر متضاربة ومنفصلة، فيوضح للمستمع خطر الانفعال إذا تجاوز حد الاعتدال، وأفلت من زمام العقل، ولم يكن سينيكا يسعى إلى التأثير الفني في أعماله المسرحية بقدر ما كان يسعى إلى إيضاح عمق المفاهيم وتغلغلها في النفس والعقل لكي يوصل إلى المتلقي مفهومه عن الكلمة، يبالغ سينيكا في تراجيدياته في إظهار نتائج تحكم الانفعال في الإنسان مما يولد الجرائم الدموية التي تتجاوز الخيال في عنفها، وهنا يركز على إبراز الأفعال العنيفة على المسرح عيانا، الأمر الذي كانت المأساة اليونانية تتجنبه كليا.
-----------------------------------------------------------
المصدر : الخليج
0 التعليقات:
إرسال تعليق