الجسد والمرايا.. قراءة في نماذج من النصوص المسرحية لغنّام غنّام
مجلة الفنون المسرحية
الجسد والمرايا.. قراءة في نماذج من النصوص المسرحية لغنّام غنّام
حاتم التليلي
نظّم مخبر “بحوث في التنوير والحداثة والتنوّع الثقافي”/ ورشة بحث الجماليات المعاصرة، ندوة حول “صـورة الأرض في المـمارسات الفـنية الفـلسطينية المـعاصرة”، بإشراف: د. أمّ الزّين بنشيخة المسكيني، شارك فيها أكاديميون وجامعيون ومسرحيون من تونس وفلسطين وفيما يلي مداخلة الباحث حاتم التليلي محمودي حول تجربة الفنان الفلسطيني غنّام غنّام.
الجــــــــــــــــــــــــــــــسد والمـــــــــــــــــــــــــرايا قراءة في نماذج من النصوص المسرحية لغنّام غنّام
تـــــــــــأصـيل: المـسرح من الأرض إلى مغالطات المدينة
منذ قدم قديمه، قبل أن يُمَأْسَسَ، وحتّى قبل نشأة المدينة – ربّما منذ عشرة آلاف عام مضت بعد أن ضرب جفاف مروّع منطقة الشرق بأسرها، فعمّت المجاعات وساد الفناء-، ولد ذلك الفنّ – الذي صار فيما بعد اسمه مسرحًا-، من رحم الأرض، صيغةً عُلْيَا عن غوائل الحياة ورعب الفلاح القديم وخوفه من الجدب: منذ تلك الأزمنة السحيقة، الإنسان يبحث له عن الخصب، لذلك كلّما عمّت المصائب؛ علت الأصوات البشريّة بالنّواح والأغاني الجنائزيّة الحزينة، حيث لا ثمّة غير الاندثار والهلع والخوف من الانقراض، وكلّما قدم ربيع، ما، بعد فصل من الأمطار، علت طقوس الاحتفال والانبعاث والولادة.
المسرح ابن الطبيعة، أمّا ما قيل في شأنه من أساطير فهي محلّ تشكيك، فعلى الأغلب إنّ إلهه (تمّوز) أو (أدونيس) أو (إيزوريس) أو (دموزي) كان آدميّا، وإلا كيف نقرأ هذه الشذرة التي اقتطعها (فاضل الربيعي) من “كتاب الفلاحة النبطية” لصاحبه (ابن وحشية): “إنّ هذا الشهر المسمّى (تمّوز)، فيما ذكر النبط ما وجدت في كتبهم، اسم رجل، كانت له قصّة عجيبة طويلة، وقتل، وزعموا، قتلات قبيحة بعضها بعقب بعض” . ألا يمكن أن يكون نفسه الاله الاغريقي (ديونيزوس) وهو القادم إلى اليونان من أحراش شرقية بعيدة كما تمّ التّأكيد مع (إيكار السقّاف) ؟ ألم تكن نهاية هذا الاله الأخير مماثلة للأوّل وهو الذي مات مشويًّا، قربانًا بائسًا وشهيدًا كما وصفه (المسكيني) في كتابه “الهوية والحرية” ؟ ليس المسرح ابن المدينة كما ساد الاعتقاد، ولكنّه ابن الأرض وطفلها في أوّل المطاف، وإن شئنا الاعتراف بأنّه وليد المدنيّة والتحضّر، علينا أوّلا الاعتراف بأنّه الضدّ النّوعي لتلك الطقوس الأولى والاحتفالات القائمة على انفعالات الطبيعة.
لقد كانت الأرض ركحه الأوّل، ذلك الفضاء المفتوح على السماء والأصقاع، فيما بعد صار هذا الركح مغلقًا منذ نشأة المدينة، أو لنقل بإيعاز سياسي، منذ تلك اللحظة التي أشرف فيها (بيزاستراتوس) على مهرجان ديونيزوسي بالكامل، ومن ثمّ كان أن رفعت الاحتفالات الجمعية من الساحات العامة إلى أفضيتها وقاعاتها ، مرورا بقصائد الشعراء الغابرين، إلى أن حلّت فلسفة القرن الرابع قبل الميلاد فأرست جملة من القواعد والضوابط لهذا الفنّ.
صحيح أنّ هذا الفن يهدم نفسه ويتجدّد باستمرار، ولكنّ منعطفاته الفكرية والجمالية وتقاطعاته مع الحالة السياسية والاجتماعية لا يمكن أن تفصله عن كلّ فاصلة قد تقطعه مع جذوره الأولى، وإلا كيف نفسّر عودته الآن إلى ينابيعه الأولى رغم حيف التقنية والديجتال؟ إن ارتباطه العميق كفنّ حيّ بالذّات الآدمية هو ما سيجعله قرين الأرض دائمًا، محاكيًا جسدها الكوكبي وفقًا لمنظورات هذا الانسان الذي يسكنها، ووفقًا لآلامه العظيمة، بوصفه حفيد ذلك الاله الغابر، ودمه الذي شربت شقوقها حرارته، منذ (أوزريس) في مصر الفرعونية، و(دموزي) في بلاد الرافدين، و(أنكيدو) المطعون بقرن الخنزير، مرورا بـ(اليسوع) معلّقة أوصاله على الصليب وجسد (الحسين) المبتورة أطرافه، ووصولا إلى الجسد الفلسطيني: لم تُقَطَّعْ أعضاء جسده فحسب، وإنّما مُزِّقَتْ أرضه إلى خرائط فاستحالت كما حدّث عنها القرآن “فراشا مبثوثا”.
ماذا إذن بوسع الفن المسرحيّ الفلسطيني أن يقول الآن لهذا الآدمي؟ كيف يمكنه مسرحةُ هذه الأرض؟ أيّ صورة يمكن أن يقدّمها أمام هذا الحيف؟ لقد تحوّل الجدب القديم إلى آلة استيطانية حديثة تتحرك بأشداق كلب الجحيم (سربروس) لتعذّب الأرواح البريئة وتشرّدها، مثلما تحوّل الخصب القديم إلى مجرّد بيان غاضب يلقيه رهط من السياسيين المتخاذلين. نقرأ لـ(شمعون ليفي) في كتابه “المسرح الاسرائيلي، الأنا والآخر ومتاهة الواقع” ما يلي:”في السنوات الأولى للاستيطان اليهودي في أرض إسرائيل (فلسطين) أشبع الأدب العبري، نثرا وشعرا ومسرحا ونقدا بمصطلحات المكان، وبالذّات الأرض”، ونقرأ أيضا لنفس الكاتب من نفس الكتاب “في المرحلة الأولى من إقامة المسرح الاسرائيلي حيث كان الربط بين الماضي والحاضر، كان الفضاء هو البطل الحقيقي، ويمكن الاشارة إلى أمرين ملحوظين في هذه الفترة: في المسرحيات الرائدة لم تكن صراعات بين الشخصيات، ويتبين أن الطرف الآخر للصراع المسرحي كان المكان/الفضاء” ، إنّ ما نستنتجه هو كيف قامت السرديات الإسرائيلية على مغالطات فكرية وسياسية عديدة، هي الآن تنعكس على راهن الفن المسرحي الإسرائيلي واشتغاله، لا سيّما من حيث موضوعاته وخلفياته وخرائط هويته بصفته يتحرك ضمن دائرة مُأَدْلجةً ومرسومة له سلفًا، هذا ما يدعونا الآن إلى التساؤل عن الدور الذي لعبه المسرح الفلسطيني ضمن معادلة النوائر والنزاعات هذه؟ أي صورة للأرض انعكست في مراياه وهي التي انعكست في مرايا المسرح الاسرائيلي كما لو أنّها حقيقة تاريخية تقول بمشروعية التواجد الصهيوني وأحقيته التاريخية؟ كيف يمكن أن نقوّض، مسرحيًّا، ذلك الادّعاء القائل بالأحقّية الاسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، إذ لم يعد يخفى علينا سبيُ الفنّ وتوظيفه سياسيّا ومعرفيّا وأنتروبولوجيّا لتكريس جملة من المغالطات التاريخية.
جسد الأرض في مرايا الجسد الكتابي
نحن في هذا السياق، سوف لن نذهب إلى تفكيك المسرح الاسرائيلي ذاته، وإنّما سنحاول البحث في التجربة المسرحية الفلسطينية، من خلال نصّي”صفير في الرّأس، صلاة للقدس” و”سأموت في المنفى، بدل فاقد” للفنّان المسرحي (غنّام غنّام)، القاطن حاليا بمدينة الشارقة، مسئول على الاعلام والنشر بالهيئة العربية للمسرح، منهما نسلّط الضوء لا على رمزية الأرض بما هي الآن تمثل جسدًا مُمزَّقَةٌ أوصالهُ في مرايا المشهد السياسي، وإنما على امكانية تقول بمدى قدرة الفنّ المسرحي والتجربة الفلسطينية بالخصوص، على تقويض مزاعم السرديات الكولونيالية الخاطئة ومشروعيتها في استباحة تلك الأرض.
كتب النصّ الأوّل سنة 2012، أمّا شخصياته ففلّاح فلسطيني وصحفي فرنسي من أصول فلسطينية وضابط صهيوني، وتدور أحداثه برمّتها عن كيفيّة صمود ذلك الفلاح في وجه حملات الاستيطان وتشبثه بأرضه إلى أن تمّ ايقاعه في المكيدة، مكيدة الأعداء الذين هجّروه عن بيته، أما الثاني فقد كانت صياغته النهائية في سنة 2017، قائم على ممثل واحد، بوصفه نصا مونودراميا، وبطله الكاتب (غنام غنام) نفسه، يدلي بسيرته وسيرة الأرض الفلسطينية، كما يدلي بسيرة عائلة كاملة وزّعت قبورها خارج الأراضي الفلسطينية وفي مدن شتّى نتيجة الملاحقة والهروب من سياسات التوحّش والاستيطان والقتل والتشريد والسجون الاسرائيلية وغيرها العربية، لهذا كانت صرخته واضحة المعالم منذ عتبة النص “سأموت في المنفى”، وعلينا أن ننتبه إلى تلك العبارة التي رافقت هذه العتبة “بَدَلُ فاقِدٍ” (بَدَلْ فاقِد) ، بما هي تحيل إلى “تعبير حكومي في بلاد المشرق للوثيقة التي تستخرج بدل وثيقة مفقودة أو ضائعة أو تالفة”: فاقد هويّة إذن أم فاقد أرض وتاريخ وأهل؟ وما نجاعة هذا (البدل) إن كان لا يتعدّى وثيقة ما من خلالها نكتشف تلك الاجراءات والحلول الوقتية والترقيعية لمهاجر أو لاجئ، لا لشيء إلا لكي يبقى حيّا؟ وهل ثمّة في المقابل بدل للأرض؟ حتما لا، إنّها مجرّد وثيقة لتقنين ومأسسة المنفى: كأّنه لم يعد ثمّة أمل، كأنّه ثمّة اقرار نهائي لا مفرّ منه بضرورة نسيان الوطن، وكأنّه ثمّة اقرار نهائي أيضا بضرورة العيش خارج الخرائط والمدن، وكأنّه ثمّة ما يوحي بمولد الانسان الفلسطيني الجديد، ذلك الانسان الذي يجرّ تاريخه على طريقة (سيزيف) ليصبح في النهاية انسانا كوكبيّا لا ملّة ولا هوية له. وعلى العكس، إنّه انسان يبدو في نظر من أفقدوه كينونته انسانا مسقطا على الزمن والمكان: جسدٌ مراياه أرضٌ تُشْطَبُ عنوة من الذّاكرة.
ما يمكن أن ننتبه إليه أوّلا، هو تلك الممارسة الميتانصية التي بني عليها كلّ من النصين، بوصفها “عملية إدماج للبعد النقدي داخل العمل الإبداعي” وشكلا من أشكال تعالق نصّ بنصوص أخرى، صار يمكن تنزيلها ضمن أطر الخطاب الواصف أو الشارح، بما هو خطاب يسمح “للمتكلم في أيّة لحظة أن يعلّق على تلفظّه الشخصي داخل هذا التلفّظ” ، إنّ ما يدفعنا إلى القول بأنّ “صفير في الرأس، صلاة للقدس” و”سأموت في المنفى” نصان ميتامسرحيان – يمكن فيما بعد قراءتهما من منظورات عديدة مثل التجويف والمرآوية وقاعدة التأمّل الذّاتي كإحدى الآليات التي قام عليها الميتامسرح منذ أن تمّ اعلانه وريثا شرعيا للتراجيديا مع (ليونويل أبيل) في مطلع الستينات من القرن الماضي، وبوصفه نتيجة جراحات علمية وفلسفية قوّضت القيم المطلقة ونسّبتها- ، أنّهما “مثابة شبكة خلافية، ونسيج من الآثار تشير بطريقة لا نهائية إلى شيء غير نفسها، أي إلى آثار خلافية أخرى، وهكذا فإن النص يتخطّى كلّ الحدود المخصّصة له”.
فبقدر ما ثمّة انعكاس لرؤية المؤلّف ومنظوراته إزاء العالم والقضية التي يعالجها، ثمّة نقدٌ مُمَسْرَحٌ من داخل النص المسرحي نفسه وهو ما يحيل إلى موقف جمالي، وثمّة أيضا في كلّ من النصين نوع من المضاعفة اللعبية وذلك من خلال تقنية التضمين، بمعنى رفد خرافة فرعية داخل خرافة أصلية، وهو ما يمكن الاصطلاح عليه بالمسرح داخل المسرح.
ما لا يمكن إغفاله، أن الميتامسرح كرؤية أنطولوجية وفلسفية للعالم – نسبة إلى قراءة أبيل-، كان موعدا مع وقوف الإنسانية على “شفا جرف هار”، وخاصّة بعد انهيار قيمها المطلقة والثابتة وبعد أن تمّ تقويض كل التصورات التي حافظت لعصور على ذلك الزمن المجرّد المتعالي والثابت، فلم يكن ثمّة غير الاستلاب وتخريب المفاهيم والالتباس والتعقيد والفوضى، لقد أجبرت أسسه وخلفياته الفكرية الانسان ليكون على عدم ثقة بنفسه. الأنكى من ذلك، هو مسلوب الإرادة، شكّاك وهدّام، وأمام قوى وحشيّة لا براء له منها غير أن يخبط في دهماء المعنى.
ربّ أسئلة ستلاحقنا الآن: من سيكون هذا الانسان الفلسطيني/ “البدل فاقد” للفلسطيني الأصلي؟ كيف ينتسب إلى أرض بدل فاقدها هو المنفى؟ ألا يمكن القول بأن تلك الأرض أرض اسرائيلية نسبة إلى هذه المغالطة المروّعة التي تشرّع إليها هذه العبارة اللغوية؟ كيف يمكن مسرحة هذه الفاجعة كتابيا؟ أو لنقل على لسان (غنّام غنّام): لقد “صار هناك فلسطينيون وليس هناك فلسطين”، وليكن: إن هذه العبارة “بدل فاقد” تحوّلت الآن إلى مرايا لذلك الجسد الجغرافي الضائع.
أن نبحث الآن عن صورة تلك الأرض من زاوية الوظائف الميتامسرحية ورهاناتها، فمعناه استنطاقنا لأصولها من منظور الجسد الكتابي في النصين، بالبحث في دلالاتها التاريخية والأنثروبولوجية: تصاحبنا في هذه النقطة شخصية الفلاح (صبري غريب) التي نقرأ عنها في “صفير في الرأس، صلاة للقدس”، ومعناه تفكيك ما تعرّضت له من تخريب سياسي وتهجير قسري لأهلها من خلال الحفر في شبكة العلاقات بين الشخصيات وأفعالها ومنظوراتها، هذه المرّة ستصاحبنا شخصية نفس ذلك الفلاح وابنه (سمير) الذي مات شهيدا مقابل الضابط الصهيوني من نفس النص، وشخصية (صابر غنام)، أب (غنام غنام)، من نص “سأموت في المنفى”، ومعناه أيضا الهجرة في مراياها بوصفها انعكاس الهوية في قلوب الذين شرّدوا قسرا خارجها، ربما ليس ثمّة شخصية مسرحية أكثر تعبيرا على ذلك من شخصية (غنام غنام)، البدل فاقد عن (غنام غنام الأصلي) من النص الثاني، ومعناه أخيرا رمزيتها الانسانية خارج دائرة الانتماء، نقتطع هذه الرمزية من زاويتين، الأولى تمثلها شخصية الصحفي الفرنسي من أصول فلسطينية، أما الثانية فتمثلها الممارسة الميتانصية للنصين حدّ السواء، بما توفرا عليه من آثار عديدة، حيث تضافرت فيهما أكثر من لغة على غرار اللجة الفلسطينية، وتعالقت فيهما نصوص بأخرى، تاريخية وشعرية وقانونية وشذرات عديدة من النصّ القرآني أيضا، فولدت نوعا من التسامي النصي، أفضى إلى كتابة كونية.
أرض وتاريخ
نقرأ في نص “صفير في الرأس، صلاة للقدس” حوارا بين شخصيتي الصحفي الفرنسي (سمير) والفلاح الفلسطيني (صبري غريب) ما يلي:
(صبري : بتعرف إنه أول بيت للبني آدم في أريحا؟
سمير : شعب من القبرات يبني أعشاشه في تربته.
صبري : هذا الحكي قبل عشر آلاف سنة..أريحو مدينة القمر.
سمير : شعب من القبرات يبني أعشاشه في تربته
صبري : سألت مرة شيخ مقرئ الأقصى عبد الله يوسف ألله يرحمه.
سمير : شعب يتلوا أناشيده على ضفاف الشريعة.
صبري : قال لي ابونا ابراهيم عليه السلام يمكن عمره أربع آلاف سنة.
سمير : شعب من القبرات يبني أعشاشه في تربته و يتلوا أناشيده على ضفاف الشريعة.
صبري : يعني أبو جدهم عمره أربع آلاف سنة ، معناته الريحاوي اللي بنى أول بيت على الأرض أعتق منه بست آلاف سنة، و زيتونة سيدي أحمد البدوي في قرية الولجة زرعها فلاح فلسطيني قبله بألف سنة.
الأرض، والفلاح، وشجرة الزيتون، والنبوّة، أضلاعُ تاريخٍ تحاول المزاعم الاسرائيلية طمسه، صار ممكنا الآن تفنيدها بتسليط الضوء على ذلك “الريحاوي” الذي عمّر تلك الأرض، أمّا ما يؤكّد صحّة هذه المعلومة التي أوردها (غنّام غنّام) على لسان شخصية (صبري غريب)، فتلك المفارقات لقد كرّست الدولة الإسرائيلية جهودَها كي تطمس حقائق تاريخية كبيرة لتبرّر احتلالها فلسطين، وتمّ تقويضها بشكل نهائي، ربما في هذا السياق نستدلّ ببحوث العراقي (فاضل الربيعي) وكتبه: “القدس ليست أورشليم” و”فلسطين المتخيلة” و”حقيقة السبي البابلي” وغيرها من المقالات التي استندت إليها مؤخرًا منظمة (يونسكو) كقرائن تنسف نهائيًا مقولة العلاقة التاريخية لليهود بالمسجد الأقصى وحائط البراق . لقد ذهبت “إسرائيل” إلى تشغيل “المظلومية”، لا “مظلومية” محرقة الهولوكست فحسب، وإنما سردية السبي البابلي أيضًا، فادّعت أنها ضحية النوائر، ومن ثمّ تجاهلت كونها قبيلة عربية بائدة من أصول يمنية مثلها مثل عديد القبائل الأخرى، وهذا ينم عن حقيقة تقول إنه ليس ثمة “إسرائيل واحدة” بل ثمة “إسرائيل أخرى” أيضًا، الأولى بائدة مثلها مثل القبائل اليمنية القديمة، أما الثانية فكيان كولونيالي واستعماري، التجأ إلى تشغيل الأولى واستثمارها تاريخيًا؛ كي يجد مشروعية التواجد.
أرض وتـخريب
كيف تمّ – منذ معاداة العُرُوبِيين التَتْريك إلى العمالة لبريطانيا وصولًا إلى استنبات الورم الصهيوني هناك-، تخريب تاريخ فلسطين وتهجير أهلها؟ يكشف لنا (غنّام غنّام) عن عاملين مهمّين ساهما في ذلك، ففي النص الأوّل “صفير في الرأس، صلاة للقدس” نكتشف عامل الغطرسة والقوّة من خلال حملات التهجير والاستيطان والقتل والتنكيل التي مارسها الاسرائيليون ضدّ الفلسطينيين، نكتشف ذلك من خلال شخصية ذلك الفلاح (صبري غريب) ومقتل ابنه، ثمّ تشبثّه ببيته إلى أن تمّ ايقاعه في مكيدة لا براء له منها، فصار لزاما عليه المغادرة والالتحاق بصفوف المهجّرين، لقد تمّ اتهام ابناءه باغتصاب فتيات يهوديات وعربيات ومن ثمّ سجنهم، هكذا تمّت مساومته بين موتهم أو الرحيل. أما في النص الثاني “سأموت في المنفى”، بوصفه نصّا يؤرّخ لمحنة شخصية عايشها الكاتب، فنكتشف مع شخصية “صابر غنام” و”ناصر غنام”، حجم الخيانات العربية…
لقد مات صابر محروقًا ومشويًّا وشهيدًا مثله مثل ذلك الاله المسرحي (ديونيزوس) بعد أن التهمته النّار في مدينة جرش وهو الذي غادر (كفر عانا) إلى (أريحا) صغيرا بعد أن تمّ التحيّل عليه من الأقرباء ليسطوا على ما تركه له أبيه، هذا الرجل الذي نكتشفه من خلال ما قال عنه (غنّام غنّام) “اشترى بارودة ألمانية ليدافع عن أرض خسرها بالخديعة قبل أن يخسرها بالاحتلال”، أما ابنه (ناصر) فقد كان رهين الاعتقال في أقبية مخابرات جرش، يتساءل المؤلّف المسرحي هنا عن أبيه الذي مات بعيدا عن مجمل أبناءه “من قتل صابر؟ نار الحاكورة أم نذالة المحقق؟ أم تلك المنافي التي أخذتنا بعيداً عنه فيبس مثل شجرة مهجورة؟” لصالح من مات (صابر غنام) بهذا الشكل؟ يا لوطأة ذلك اللحم المشوي الذي تفوح رائحته، ألم يكن ربّ اليهود (يهوه) إلها (أوموفاجيّا) إلى حدّ بعيد، عاشقا لتلك الرائحة مثلما تحدثت عنه (التوراة) كما نقرأ في هذه الشذرة “ونزلت نار من قبل الربّ، وأحرقت الشحم والذبيحة الكاملة التي على المذبح” ، فكم من (يهوه) الآن يتحالف ضدّ الجسد الفلسطيني ويتقدّس بالقرابين منه؟
أرض ومنفى
نقرأ في نص “سأموت في المنفى” ما يلي: “أنا غنام البدل فاقد عن غنام، حين أموت في المنفى، يكون غنام الأصلي قد مات، وظل البدل فاقد معلّقا في الفراغ”، لقد دفن كلّ من الأخ (فهمي) والأم (خديجة) والأب (صابر) في مكان غير مكان الآخر، ولم يعد ثمّة بدل فاقد عن الأرض إلا المنفى، وليس ثمّة من يحمل ذاكرتها غير القبور، نقرأ أيضا تلك الشذرة النصية التي تصف (غنام غنام) وهو في مقبرة (سحاب): “قلّبت بصري ورحت أنظر للشواهد في المقبرة، من العبّاسية، من اللد، من رام الله، من جنين، من بيسان، من الطنطورة، من بئر سبع، من أريحا.. يا الله، فلسطين بمدنها وقراها توزعت على شواهد القبور”.
يتساءل هذا المنفي، ابن (كفر عانا)، وهو الذي ولد في (أريحا) ومنها التجأ إلى (جرش) فـ(عمان) وصولا الآن إلى (الشارقة) في دولة (الامارات) عن أين سيكون قبره هو الآخر؟ إنّها لأعنف تراجيديا يشهدها العالم أن يكون المنفى بدل فاقد عن الأرض، وأن تكون القبور بدل فاقد عن فلسطين، وأن لا تعرف حتّى أين سيكون قبرك في المستقبل بوصفك أيضا بدل فاقد عن كينونتك الحقيقيّة، وأحيانا يتمّ حرمانك من الموت بالصياغة التي تريدها كما وقع مع الفلاح (صبري غريب) وهو الذي أراد أن يموت “غزّا”، بمعنى أن يغرس في الأرض ويظل رأسه في العراء مطلّا على القدس، وهو الذي أراد أن يكون قبره أيضا بين جذري شجرة زيتون فإذا به يُرَحّلُ من بيته نهائيا ويتمّ استبعاده من مسقط رأسه (بيت إجزا).
في كتابه “الشيطان هو الضجر” نقرأ لـ(بيتر بروك) ما يلي: “نمارس المسرح حيثما نكون، المسرح في كل مكان، كل واحد منا ممثل، إذن، نستطيع أن نفعل أي شيء أمام أي انسان، هذا هو المسرح”، ويضيف بالقول في موضع آخر: “يمكنني أن أتناول أي مكان خال، فأسميه مسرحا عاريا” ، أما أن ننتبه إلى فضاء اللعب الذي ستدور فيه أحداث “سأموت في المنفى”، فيمكننا مراقبة (غنام غنام) وسماعه في أوّل النص/ العرض وهو يخاطب الجمهور: “لن أستعمل إضاءة مسرحية خاصة، فلا شيء مثل الوضوح بيننا، و لن استعمل المؤثرات و الغناء المسجلين (…) أنتم الآن معي في قاعة المطار”، ليس ثمّة بهذا الشكل ركح اعتيادي كالذي تعرفه المسارح اليوم، أما الأرض، ركح المسرح الأوّل، فهي غائبة أيضا، هذا ما يوحي بدلالتين، الأولى نقد ممسرح ضدّ المسرح نفسه، أما الثانية فنوع من الاقامة في “الفضاء الخالي” كتدليل على ضياع الأرض نفسها، وضياع الفضاء الفلسطيني برمّته، ويبقى الحلم عالقا في الفراغ نتيجة أوّل طعنة حاسمة لحقت بالفلسطينيين، هكذا يردّد في آخر النص: “أنا الذي ولدت عام 1955 دعوني أختار يوم وفاتي : إنه 15 /5 /1948”.
الأرض والإنـسان والهوية
ثمّة مفارقة مدهشة من حيث تسمية الشخصيات، فالصحفي الفرنسي (سمير) من أصول فلسطينية يحمل نفس التسمية لابن الفلاح (صبري غريب)، مات الثاني مقتولا من قبل الضباط الاسرائليين فإذا بالعائلة تسمّي معظم أبناءها بنفس الاسم كنوع من اختراق الموت والانتصار على الحيف والظلم والإصرار على سكنى الوجود الفلسطيني، أما الأوّل الذي نكتشف أبعاده في “صفير في الرأس، صلاة للقدس” فقد أدلى بالقول “يمكن لمثلي أن يعرف الإجابة عن سؤاله الذي لم يكن يؤرقه ” أنا لا أشعر بالانتماء”، فهل صارت فلسطين لا تعني شيئا لبعض أبنائها، أولئك الذين ولدوا في المنفى وشرّدوا؟ للوهلة الأولى قد يبدو لنا ذلك، ولكن النهاية تقول بالعكس، فـ(سمير) رغم جنسيته الفرنسية الحالية لم يسلم هو الآخر من الاعتقال، لقد دافع عن (صبري غريب) ضد الضابط الصهيوني. هذا ما يكشفه الحوار التالي.
(الضابط : إذا بدك مستعد أجيبلك السفير الفرنسي لهون، بس أنت هيك بتعمل أزمة دبلوماسية.
سمير : السفير ما بلزمني.
الضابط : لأنك مستعد تخون فرنسيتك)
وهذا ما يمكن اكتشافه حين نتحدث على لسانه الآن: “في فلسطين، يمكن للمرء أن يعرف سر الكون و سر الإنسان، أسرار الأرض و أسرار السماء”. لقد تحوّلت تلك الأرض إلى مركز لكل الأشياء، تجتمع فيها التناقضات والمفارقات برمتها، أما ما يؤكد ذلك فالممارسة الميتانصية لعوالم الكتابة المسرحية في النصين، فبقدر ما تم توظيف المعجم الديني في نص “صفير في الرأس، صلاة للقدس”، كان النص الثاني “سأموت في المنفى” عبارة عن نهر متدفق من الأصوات: ثمّة رَفْدٌ لنصوص عديدة، أغاني فلسطينية شعبية، وقصائد لمحمود درويش وأحمد شوقي، ومقاطع من المواثيق الدولية ووعد بلفور، إضافة إلى حضور اللهجة الفلسطينية والعربية الفصحى معيّة شذرات من اللغة العبرية والفرنسية والانجليزية، هذه الكتابة القائمة على التسامي النصي، ستحيل حتما إلى نوع من الرمزية الكونية لتلك الأرض، ولكن من يسكنها الآن؟ من يقيم في جلدها منذ أن تمّ طرد ذلك الفلاح؟ رغم أننا نعرف الاجابة سلفا، إلا أنه سيبدو لنا جليّا، أن شيطان (بيتر بروك) سيظل يؤرّق، مسرحيّا، ذلك الورم الصهيوني، ما دام ثمّة كُتَّابٌ وشعراء ومسرحيون في كلّ مكان في العالم يهتفون باسم فلسطين، بعد أن صار ممكنا اللعب في أيّ “فضاء خال” و”مسرح عار” باسمها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق