المسرح والفلسفة وحدود الأداء
مجلة الفنون المسرحية
المسرح والفلسفة وحدود الأداء
ترجمة أحمد عبد الفتاح - جريدة مسرحنا
لقد كان مقدرا للفلسفة، وهي العلم الذي يهتم بالحقيقة والوجود وأسس المعرفة، أن تمقت المسرح، الذي يرتكز على الكذب والتظاهر والعوالم الزائفة. فلم تكن الهجمات الفلسفية على المسرح، لأنها صاحبت تاريخ الفلسفة منذ أفلاطون، متكررة فقط، بل كانت غير مفاجئة. وفي الوقت نفسه، دافع عن المسرح كثيرون من بينهم الكثير من كتاب المسرح من خلال ابتكار صورة ساخرة للفلاسفة فجسدوهم كحمقى ومشعوذين على خشبة المسرح، وهو التقليد الذي بدأ مع أرستوفانيس في مسرحية «السحب Clouds». وبالطبع يمكن اعتبار أفلاطون وأرستوفانيس ممثلين لعدم الثقة المتبادلة بين المسرح والفلسفة، عدم الثقة التي تم تعديلها من خلال التاريخ القياسي لكلا المجالين.
ولا بد من تحدي التعارض الموروث بين الفلسفة والمسرح، ويمكن أن يبدأ هذا التحدي من نشأته، بالإشارة إلى أن التعارض بين أفلاطون وأرستوفانيس يوجد في الواقع في داخل مجال المسرح، بين نوعي الدراما: حوار أفلاطون الفلسفي والكوميديا القديمة عند أرستوفانيس. وكلاهما ازدحم بالشخصيات المبتكرة التي تتكلم وتتفاعل في مختلف الظروف، وفي كل من الفرق بين الحجة المجردة والفعل التصويري scenic action المحسوس بشدة والموزع ببراعة. والشكل الدرامي الشائع المختار بواسطة هذين المؤلفين، ولو لم يكن مماثلا، فيمكن تناوله كنقطة انطلاق لاستنباط مغزى الدراما والمسرح بالنسبة لتاريخ الفلسفة – وبشكل معكوس، مغزى الفلسفة بالنسبة لتاريخ المسرح – الذي تم حجبه بواسطة الانقسام الظاهري بين المجالين. إذ يُنظر إلى الفلسفات المسرحية والمسرحيات الفلسفية باعتبارها ظواهر هامشية، عندما تُفهم على الإطلاق. ورغم ذلك، يؤكدون أنفسهم في تاريخ كلا المجالين مع بعض التكرار.
ويعد فريدريش نيتشه الفيلسوف الذي لم يبتكر فلسفة مسرحية فقط، بل تمكن أيضا من تقديم مجموعة من الأتباع، وهو تقليد كامل في الفلسفة المسرحية – وهو أمر نادر في تاريخ الفلسفة. فلم تدم عنايته بالفلسفة المسرحية وولعه بالمسرح طويلا، بداية من التراجيديا اليونانية وحتى فاجنر، رغم أن هذا الولع يمكن اعتباره أول مؤشر لمغزى المسرح في فكر نيتشة. والأقرب إلى جوهر أعماله هو اعتماده علي الشخصيات الخيالية والأقنعة مثل ديونيسيوس وزاردشت، ولكن أيضا نظريته الوهمية في القوى، التي تقوم علي مفهوم إجمالي للنزعة المسرحية. وعندما يتكلم نيتشة عن الأقنعة والأداء المسرحي والتجسيد فإنه يؤكد دائما أننا لا نفهم هذه النزعة المسرحية باعتبارها تشكيل ثانوي، وكأنه كانت هناك عوامل اكتسبت أقنعة لكي تخفي وجوهها الحقيقية. فلا توجد مقومات ثابتة وراء الفعل المسرحي، ولا يوجد ممثل بلا قناع وراء الشخصية، فقد أصبحت النزعة المسرحية هي الشرط الأساسي للحقيقة. والمسرحانية هنا في خدمة برنامج جوهري وتأسيسي مضاد: الجوهر والأرضية الصلبة – سواء كانت لغة متحولة أو مبادئ أخلاقية أو معرفة – المنتزع من تحت أقدام الفلسفة التأسيسية وازاحته لخشبة المسرح. والصادق مع مجمل المسرحانية، وهي مراحل علي طول الطريق.
فالنزعة التأسيسية المضادة أو الجوهرية المضادة هي التراث الذي يمنحه نيتشه لمختلف ورثته، بما في ذلك دراسة (جيل ديليوز (Giles Deleuze «التكرار والاختلاف Repitation and Difference»، وأيضا بيتر سلوتريك Peter Sloterdijk الذي يلقبه باسم «المفكر علي خشبة المسرح» في كتابه الذي يحمل نفس العنوان. ورغم ذلك، لم تٌستمد كل الفلسفة المسرحية في القرن العشرين من نيتشه مباشرة. فمثلا، حول والتر بنيامين دراسته للدراما التراجيدية الألمانية إلى تمرين فلسفي، واستخدم عدد من المنظرين، من بينهم فيليب لاكو - لابارث Philippe Lacoue - Labarthe وجان فرنسوا ليوتار Jean - Francois Lyotard، المفاهيم المسرحية في نظرياتهم أيضا. وبمجرد أن نلتفت إلى دور المسرحانية في فلسفة القرن التاسع عشر والقرن العشرين، نلاحظ رغم ذلك أن الفلسفة قبل نيتشة، بداية من هيجل مرورا بكيركيجارد وصولا إلى ماركس، تعتمد علي المجازات والمفاهيم المسرحية. وبعد قرون من الخصومة الواضحة، والتي تم التعبير عنها فيما يسمى التحيز المسرحي المضاد، يبدو أن المسرح والنظرية قد عادا مرة أخرى إلى أصلهما اليوناني المشترك وهو الفكر والفرجة.
وقد كان تلاقي المسرح والنظرية محسوسا في القرن العشرين في عدد من فروع العلم المختلفة. فدراسات في العلوم السياسية وعلم الاجتماع، مثل دراسة ريتشارد سانيت Richard Sannitt «سقوط الشخصية العامة the fall of the public man «تعامل مع المسرح باعتباره مثالا مفضلا لتكوين مجال العمل العام، بينما يستخدم ايرفنج جوفمان Erving Goffman في دراسة «تحليل الإطار» ما يسميه «الإطار المسرحي» كوسيلة لتنظير تنظيم الخبرة. علاوة علي ذلك، يجلب فيكتور تيرنر Victor Turner النماذج المسرحية إلى الانثروبولوجيا، أو بحسب الكيفية التي تنظر بها، يجلب الأنثروبولوجيا إلى دراسات المسرح.
ورغم ذلك، فان مجال الدراسة الذي يمثل عودة النظرية المسرحية واعتمدت عليه المجالات المسرحية الأخرى هو دراسات الأداء. فعلي الرغم من أن دراسات الأداء قد فصلت نفسها عن مفهوم المسرح، فمن الممكن أن يٌري الأداء باعتباره صيغة امتداد المسرحانية إلى مجالات أخرى. ولهذا السبب، سوف استخدمه لإثارة سؤال حدود المسرح في النظرية، وحدود مفهوم المسرحانية (أو الأداء) وهو ينظم
امتداد هذا المجال الشاب لمزيد من المجالات. ولعل كينيث بوركKenneth Burk هو الكاتب الذي يستدعي هذا الاستفسار والذي تتجاوز اهتماماته كل سلسلة دراسات الأداء بداية من المسرح الطقسي والأنثروبولوجيا وصولا إلى فلسفة اللغة وعلم الاجتماع، والذي يتم تناوله باعتباره أحد أسلاف دراسات الأداء. ولذلك، اقترح من خلال قراءة بورك التدقيق في مؤثرات المسرح داخل النظرية وهي تٌطبق علي سؤال حدود دراسات الأداء.
النزعة الدرامية عند كينيث بورك
يذكر العلم الناتج عن السرديات والأساطير التأسيسية المستوحاة دراسات الأداء في أعمال كينيث بورك، دون أن يكون قادرا علي تحديد مكانه في تشكيل المجال. فمثلا تناقش دراسة مارفن كارلسون «الأداء: مقدمة نقدية «إسهامات بورك في ثلاثة مجالات مركزية في نشأة دراسات الأداء: الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، وأداء اللغة. ويشير مؤسسو دراسات الأداء في جامعة نيويورك، وهما فيكتور تيرنر وريتشارد شيشنر، إلى بورك بشكل متكرر. وأود أن اقترح أن مركزية بورك في دراسات الأداء تكمن في حقيقة أكنه أكثر من مجرد شخص طور الشكل في الفلسفة المسرحية وأعطاها اسمها: النزعة الدرامية Dramatism. واقترح أن نقرأ بورك علي أمل فهم أفضل للشروط التنظيمية والفلسفية التي أنشئت دراسات الأداء، لأنه من خلال التوصل إلى اتفاق مع ظهور النظرية المسرحية وفلسفتها نستطيع أن نفهم الفروض الفلسفية لهذا المجال.
تصف النزعة الدرامية عند بورك التوسع التدريجي في المسرحانية التي تبدأ بالاهتمام بالتراجيديا اليونانية، وتستمر مع نظرية مسرحية للغة وعلم اجتماع التفاعل الإنساني، وتتبلور في استخدام المسرحانية كمعيار نحكم به علي تاريخ الفلسفة نفسه. وتكرست الدراسة الأولي – وهي في شكل كتاب - إلى ما سماه بروك فيما بعد النزعة الدرامية، وهي «فلسفة الشكل الأدبي The philosophy of the literary form» (1941). وفي هذه الدراسة، وأثناء فصل «قراءة الشعر» يقاطع بورك نفسه لكي يلاحظ أن «المنظور العام الذي يتضافر مع منهج تحليلنا يمكن أن يتميز باختصار بأنه نظرية في الدراما «. ونظرية الدراما هذه ليست موجهة نحو تحليل مختلف الأشكال الدرامية أو مسرحيات العصور المختلفة، بل هي نظرية في نشأة الدراما. ويواصل بورك كلامه قائلا «نقترح تناول الدراما الطقسية باعتبارها الشكل الأصيل والمحور، مع كل صور الفعل الإنساني الأخرى التي تعٌامل كمتحدث يشع من هذا المحور «. ويصدق علي هذا الاهتمام بالأصول، الإشارات إلى ظهور الدراما اليونانية من أغنية الماعز التي امتدت إلى أشكال أخري من الطقوس، وهو اهتمام مدفوع بتأثير كتاب جيمس فرايزر «الغصن الذهبي The Golden Bough، (وقد التقط شيشنر فيما بعد هذا الخيط وقدم استجابته لفرايزر وللمسرح الطقسي). ورغم ذلك يدافع بورك عن طقوس الإخصاب ورقصات المطر باعتبار أنها كامنة في البنية الزراعية الفعالة. حتى القبيلة التي تعتمد علي الخرافات يجب أن يكون لديها عدة طرق ملائمة لتحديد العقبات والفرص الحقيقية في العالم، والا لن تستطيع أن تحافظ علي نفسها. ويقول بورك ذلك وكأنه عالم أنثروبولوجي مهتم بالصورة الوظيفية للطقس والمسرح الطقسي.
ورغم ذلك، يتضح بشكل متزايد أن بورك أقل اهتماما بطقوس قبائل بعينها من المخطط المستمد من علماء الأنثروبولوجيا الأوائل، مثل فرايزر، إذ يٌفترض أن تسمح له أنماط السلوك البشري العامة والطقوس في النهاية أن يحلل كل صور الفعل الإنساني. ولعل أحد نماذجه المفضلة هو الأضحية Scapegoat، التي تربط اهتمامه بالتراجيديا اليونانية بالتاريخ (قطع رؤوس الملوك) ويربطها بسوسيولوجيا مختلف الأنساق العقابية. ولن نندهش أن نسمع أن بورك في النهاية لم يهتم بالاعتراضات التي أثيرت ضد الملائمة التاريخية لنظريته في الطقس والمسرح الطقسي، لأن ما كان يسعي ورائه هو تحديد المتغيرات – مفردة أو مجموعة من الأحداثيات، تستخدم بشكل أفضل من أجل تكامل الظواهر المدروسة بواسطة العلوم الاجتماعية. ولذلك يتجرد بورك شيئا فشيئا من موضوعات التحليل الفورية، وهو الأصل الطقسي للتراجيديا اليونانية، وينتقل إلى نظرية عامة لا تنتهي فقط بضم كل التفاعلات الإنسانية ولكن أيضا دراسة الطبيعة أيضا. إذ يقول «الخطوط العريضة لوضعنا يمكن أن تكون مدونة كالتالي:(1) لدينا الدراما والمشهد الدرامي. والدراما تتجسد أمام خلفية. (2) وصف المشهد هو دور العلوم الفيزيقية، ووصف الدراما هو دور العلوم الاجتماعية. وفي مسار هذا التوسع المتطرف في «المحور الدرامي «يذكر بورك أولا في الهامش ما سماه فيما بعد خماسية الكاتب الدرامي، وهو المخطط المسرحي القابل للتطبيق العام.
وبالنسبة لمفكر تخطيطي مثل بورك، فان النقلة من أصل التراجيديا اليونانية إلى كل مجالات الفعل الإنساني ثم إلى العلوم الطبيعية تحتاج عددا من الخطوات الوسيطة. ويتحقق هذا التوسيط بتصنيف الفعل الرمزي الذي يتنبأ ويمضي إلى ما وراء نظرية أوستن في أفعال الكلام Speech acts التي دخلت إلى مفردات دراسات الأداء في الثمانينات. إذ تٌفهم نظرية اللغة باعتبارها فعلا رمزيا بالمقارنة إلى ما يسميه بورك الدلالي المثالي the semantic ideal. والدلالي المثالي هو صياغة أوستن لفعل الكلام الاستفزازي Constative speech act، ومحاولة استخدام اللغة كوسيلة تنظيمية للحقيقة. إذ يرى بورك أن هذه المثالية الدلالية التي قدمت بوضوح بواسطة فيلسوف حلقة فيينا رودولف كرناب Rudolf Carnap الذي سعي إلى اختزال اللغة إلى مجموعة من الجمل البديهية الأولية يمكن أن تٌستنتج منها بالمنطق. ويناقش بورك هذه المثالية لكي يوضح عنفها المعياري. ومن خلال توقعه لنقد أدورنو وهوركهايمر للمنطق الوسائلي، وهجوم فوكوه علي عقلانية التنوير، يوضح بورك أن الدلالي المثالي يمكن أن يستخدم للسيطرة علي البشر بطريقة مماثلة لترخيص السيارة، بسجل محفوظ في المركز الرئيس، ومثل معايير بيرتيليون Bertillon للمجرمين المشهورين. وبالطبع يشير بورك إلى زنزانة بينتام الدائرية كمثال لأنواع التأديب والعقاب الذي يمارسه الفهم الوضعي والتصنيفي للغة.
ولمعارضة الدلالي المثالي الذي يجعل من اللغة وسيلة للتوظيف مثل سجلات الشرطة، يقترح بورك نظرية في الفعل الرمزي تنطلق من أفعال الجسم البشري، حتى عندما يتعلق الأمر بتحليل القصائد. وفيما يبدو علي الأرجح أنها عبارته المشهورة، يقول بورك إن «الفعل الرمزي هو رقص التوجه... وفي هذا التكلف في القصيدة، قد يصبح الجسم في النهاية منغمسا. فتأكيد بورك علي النطق، ورغبته في ربط فعل الكلام بالجسم ككل، هو التصحيح للدلالي المثالي الذي حاول أن يعزل اللغة عن مشهد النطق وموقفه. وقد سبق أن قدم كل من أوستن وفيتجنشتاين أساسا مماثلا، بتأكيدهما أن اللغة تكون ذات اعتبار في لحظة التجسيد التي سماها أوستن الأدائية Performativity. ورغم ذلك، في حين يتوقف أوستن عند تصنيف مختلف مواقف النطق، ينقل بورك نظرية اللغة إلى مجال الشعر والفن عموما. ولعل اهتمامه بفهم أفضل للشعر الذي يعمل في كل فعل كلام ولكن فعل الكلام الذي يضعه في مقدمة أفعال الكلام الخاصة التي تسمى الشعر. فما معنى تأمل قصيدة في إطار رقص التوجه؟.
وهنا يقترب بورك من التقاليد التي تهتم بالربط بين الجسم واللغة علي الأخص، وتحديدا نظرية الإيماءة theory of gesture. فالإيماءة هي التصنيف الذي يربط تعبير الجسم بتعبير اللغة، وبذلك يعد بملء الفراغ الذي تركته نظريات اللغة التي تقوم علي الدلالي المثالي. فمثلا، يشير بورك إلى الناقد الأدبي ر.ب.بلاكمور R.P. Blackmur الذي استخدم مصطلح الإيماءة في قراءة الشعر. لخشيته أن تتحول الإيماءة إلى مصطلح مجازي، ينتقل بورك في النهاية إلى نظرية ريتشارد بياجيت في اللغة الإيمائية التي تقدم فهما حرفيا للغة الإيمائية باعتبارها تقوم علي اختيار مجموعة من الوحدات الصوتية. ويشارك كل من باجيت وبلاكمور في تقاليد طويلة لتنظير الأصل الإيمائي للغة (عند كودلاك وفيكو وهيردر ووربرتون ورسو) والتي كانت تستخدم غالبا بواسطة كتاب الحداثة لصياغة نقدهم للمجرد واللغة غير الإيمائية (بيكيت وجويس وهوفمنستال ومالارميه). والأهم، رغم ذلك، هو حقيقة أن تصنيف الإيماءة يربط اللغة والأدب بمجال المسرح، حيث كانت تستخدم بشكل موسع بواسطة منظري وممارسي المسرح، بداية من فاجنر ومايرهولد وصولا إلى بريخت وارتو. ولذلك يدفع بورك تحليل أفعال الكلام بدقة في التوجه الذي حاول أن يتجنبه أوستن لأنه اعتبره طفيلي وشاذ، وهو تحديدا المسرح والمسرحانية.
ولكن كيف تستخدم نظرية الفعل الإيمائي الرمزي لفهم كل أشكال التفاعل الإنساني؟. يبدأ بورك بشيء مماثل لتعريف ريتشارد شيشنر للأداء بأنه «السلوك الذي يمارس مرتين «. فلكي كل حركة تصبح إيماءة فيجب أن تكون تمثيلية Representative. وهذا يعني أنها يجب أن تتكرر. فمثلا عندما يضع شخص يده علي الطاولة تعد هذه حركة فريدة، وهي فعل حقيقي، ومع ذلك سمعت رساما تعجب من هذه اللحظة «هكذا... هو وضعك المميز. إذ يصبح الفعل الفريد إيماءة وملمح توجه، إذا كان يٌرى باعتباره جزء من سلسلة تكرارات. فالإيماءة أو التوجه تؤسس كذلك صلة بين مختلف أشكال الفعل الرمزي، بداية من الإيماءات التكرارية في الحياة العادية وصولا إلى نماذج الصور وتداعي المعاني المتكررة في القصائد.والخطوة الحاسة الأخيرة في امتداد المسرحانية إلى التصنيف الفلسفي حدثت بعد ذلك بعدة سنوات، ففي دراسته «قواعد الدوافع A Grammer of Motives» (1945)، يطور بورك منهجا لقراءة كل تاريخ الفلسفة في إطار مسرحي. ويمكننا أن نتناول هذا النص باعتباره بلورة لتحوله المسرحي، لأن كل تاريخ الفلسفة نفسه يٌري بأثر رجعي من خلال عدسات مسرحية. ومما لا شك فيه أن بورك يقدم ما أشار إليه، وهو تحديدا الخماسية الدرامية dramatist pentad التي تتكون من خمسة مصطلحات أو تصنيفات بداية من الممثل عند أرسطو، والواسطة والفعل والهدف والمشهد. تقدم أربعة من هذه المصطلحات – الممثل والطاقة والفعل والهدف - مختلف المنظورات علي الحدث (الفعل)، والتصنيف الدرامي الأولي، بينما يصف المصطلح الخامس – وهو المشهد – المكان أو المجال الذي يقع فيه الحدث. ورغم ذلك يبدو أن التخطيط الدرامي يتهيأ تجاه تحليل الدراما – يمكن أن نستخدمه كما فعل أرسطو، لكي يقول إن الحدث الدرامي أهم من العامل (أو الشخصية) – فليس مقصودا أن نحلل فعلا الدراما، التي لا يزال بورك يستشهد بها كثيرا، بل بالأحرى ما يمكن أن يسمى التاريخ المسرحي للفلسفة. ويكتب بورك مستعيرا ببراعة من الرياضة: «في هذا الفصل لن يكون هدفي فقط أن ألخص وأكتب عن فلسفات الماضي. فأنا أحاول بالأحرى أن أوضح كيف أن مصطلحات أساسية بعينها يمكن أن تستخدم «لتسمية المسرحيات» في أي فلسفة وكل فلسفة. وربما لا يوجد تعريف أفضل للتحول المسرحي من افتراض أن الفلسفات المختلفة هي ذاتها تقوم علي فهم مختلف للمسرحانية، التي تجد تحت كل نسق فلسفي مسرحية.
وبمجرد أن يتم تثبيت المسرحانية في قلب الفلسفة، يصنف بورك كل فيلسوف يستحق الذكر ويحلله – أفلاطون، وأرسطو، وهوبز، وسبينوزا، وبيركلي، وهيوم، وليبينتس، وكانت، وهيجل، وماركس، وجيمس سانتيانا، وقد تطول القائمة – والذي يتميز بأي مصطلح من المصطلحات الدرامية الخمسة. فهؤلاء الفلاسفة الذين تصدروا المشهد هم فلاسفة ماديين، والذين ركزوا علي العامل (الشخصية) فلاسفة مثاليين، والذين ركزوا علي القوة هم فلاسفة عمليين، والذين استثمروا في الهدف هم فلاسفة صوفيون، والذين اهتموا بالفعل هم فلاسفة واقعيون. وبهذه الطريقة يتم استنتاج الركيزة المسرحية لأي فكرة فلسفية وتترجم إلى الخماسي. فمثلا، تصبح فكرة الذات في المثالية العامل المسرحي، بينما تصبح الشروط المادية في الماركسية المشهد. ويمكن أن يستخدم هذا التمرين في الترجمة أيضا لابراز التناقض داخل نسق فلسفي بعينه. وفي قراءة للبيان الرسمي الشيوعي، مثلا، يوضح بورك أن هناك توتر بين تفضيل الشروط المادية، بمعنى المشهد، والأمل في الفعل الثوري الذي سوف ينقل المشهد. ولذلك لا تؤسس المصطلحات الدرامية الخمسة الإطار الذي يتضح فيه تاريخ الفلسفة فقط، بل أيضا يتوظف باعتباره تصنيفات تحليلية تبرز التناقضات والمناطق العمياء في كل فلسفة.
المسرح والجدل(الديلكتيك):
لأن نزعة بورك الدرامية توظف كنوع من الفلسفة الشارحة metaphilosophy، وهي نسق لتحليل تاريخ الأنساق الفلسفية، فلا بد أن نسأل من أين استمدت هذه الفلسفة نفسها. ويجيب بورك مباشرة بقوله: «العلاقة بين الدراما والجدل(الديلكتيك) واضحة، فقد كٌتبت جدليات أفلاطون بشكل ملائم بأسلوب الدراما الطقسية. ورغم ذلك، لم يكن المصدر الرئيس لما وراء تاريخ الفلسفة عند بورك هو نزعة أفلاطون الجدلية، بل جدليات هيجل. فما ورثه بورك من هيجل هو فهم التاريخ باعتباره عملية درامية. إذ تبدأ فلسفة التاريخ عند هيجل بالتأكيد علي أن تاريخ العالم يحدث وكأنه في المسرح وينتهي بتأمل تاريخ الروح في مختلف تمثيلاتها المسرحية (schauspiele). فتاريخ العالم يتوافق مع المسرح، وأن المراحل المختلفة في تاريخ العالم هي التغيرات الكبيرة في الشاهد والشخصيات. وفي سياق مماثل، يكتب بورك قائلا: «بمساواة الدرامي بالجدلي، نملك تلقائيا أيضا منظورنا لتحليل التاريخ، والذي هو عملية درامية أيضا تتعلق بالتعارض الجدلي «. وهنا نقترب من أحد الروابط الأساسية بين الفلسفة والمسرح، وتحديدا صلة القرابة بين الجدلية والدراما. فكلاهما يصران علي تعدد الأصوات، ويثق كلاهما أن هذه التعددية سوف تولد التحول والتغير: دراما التاريخ هي التحول الذي ينبع من مواجهة المواقف غير القابلة للاختزال. وبمساعدة بورك، نستطيع أن نفهم أن رؤية هيجل للفلسفة التي تتجاوز الفلسفة اليونانية تعني أن فلسفته الجدلية ليست إلا تجريدا عاما للمسرح الحواري. ومن خلال قراءة تاريخ الفلسفة بشكل درامي، أو باستخدام مصطلحه «درامي» يعيد الفلسفة الجدلية إلى المسرح التي كانت مستمدة منها أصلا.
علي الرغم من أن بورك يربط الفلسفة بالمسرح، فان أعماله تقدم تقلبا مميزا بين اهتمام بالمسرح وميل لاستنتاج مفهوم فلسفي من المسرح. فلا يبدو أن هناك دمج سهل للمسرح والنظرية، حتى بالنسبة لفلاسفة المسرح هؤلاء. وبشكل أو بآخر، يستمد كل منظري التحول المسرحي مجازاتهم وتشبيهاتهم الرئيسية من المسرح الفعلي. استمد هيجل مجازاته من التراجيديا اليونانية، واستمدها نيتشه من ريتشارد فاجنر، واستمدها بنيامين من الباروك، واستمدها ديليوز من ارتو. ورغم ذلك، عاجلا أم آجلا، فإنهم يتحولون جميعا بعيدا عن المسرح باعتباره موضوع الاستفسار الأولي. فلم يكن عمل نيتشه المبكر حول نشأة التراجيديا نصا في مجال تاريخ المسرح، بل نصا فلسفيا تصادف أن يأخذ شكل التاريخ الإسقاطي والتأملي لتاريخ التراجيديا. وقد تأكد هذه الرؤية في حقيقة أن نيتشه انقلب علي فاجنر فيما بعد وضد المسرح أيضا، رافضا لفاجنر باستخدام مفردات مسرحية مضادة. وبالمثل كان لدراسة والتر بنيامين للمسرح في عصر الباروك هدفها النهائي في المقدمة الفلسفية الطويلة لهذا العمل، التي اقتبست من هذه الدراسة مفردات الحداثة المسرحية. علاوة علي ذلك لم يكن ديليوز يهتم كثيرا بالمسرح كمفهوم تأملي للمسرح الذي وجده في كتابات ارتو النظرية والتصريحات، والتي كانت هي نفسها في حالة تعارض مع كل الممارسة المسرحية الموجودة بالفعل.
ويبدي بورك رغم ذلك مزيدا من الاهتمام بالمسرح أكثر من هؤلاء الفلاسفة المسرحيين، ويقتبس بهوس متكرر من تاريخ الأدب الدرامي، بما في ذلك الدراما اليونانية وشكسبير وابسن. وعلي الرغم من هذه المعرفة العميقة والاهتمام بالدراما والمسرح، لم تقدم نصوص بورك نفسها كدراسات في النقد المسرحي والدرامي. إذ يفهم بورك هذا التفاعل، الذي يربط الفلسفة بالمسرح، والذي يفصلهما في نفس الوقت: «كل فلسفة من ناحية أو أخرى هي خطوة بعيدا عن الدراما. ورغم ذلك، لكي نفهم بنيته، يجب أن نتذكر دائما أنها، علي نفس المنوال خطوة بعيدا عن الدراما «. ويمكننا أن ندفع هذه الحركة المزدوجة من التجاذب والتنافر إلى أبعد من ذلك. فكلما اقتربت الفلسفة من المسرح، كان لا بد لها أن تبعد نفسها عنه لحمايتها من أن تصبح لا شيء إلا شكلا مختلفا للمسرح.
ويمكننا في هذه المرحلة أن نفهم أن استخدام نيتشه للمسرح لا يصف تحولا للفلسفة عن التحيز ضد المسرح إلى حب مكتشف حديثا له. فما يسمى تحيز أفلاطون المضاد للمسرح وتحول نيتشه تجاه المسرح هما استجابتان مختلفتان للمصاهرة المستمرة بين المسرح والنظرية التي كانت جزء من الفلسفة منذ بداية المسرحيات الفلسفية لأفلاطون. ولم تصف أعمال نيتشه تحولا كبيرا للفلسفة تجاه المسرح كموضوع للدراسة – منذ كتاب فن الشعر لأرسطو – بل كصيغة ومنهج لممارسة الفلسفة. ويمكننا بالطبع أن نجد لحظات الانجذاب إلى المسرح في النزعة الفلسفية للمسرحانية المضادة philosophical antitheatricalism، مثلما يمكن أن نجد لحظات لنقد المسرح في تحول نيتشة المسرحي. فلا يوجد فيلسوف كان فكره مرتبطا بالإشارات إلى المسرحيات والبديهيات المسرحية المجردة أكثر من بورك، ولذلك لا أحد من الذين لاحظوا بدقة أكثر إيماءة الجاذبية والنتافر بين الفلسفة والمسرح.
ويبدو أن التوتر بين المسرح كموضوع للدراسة وكنموذج تنظيري، ونقد المسرح الذي يصاحب تاريخ الفلسفة المسرحية، يفسر علاقة التشابه المستمرة بين دراسات الأداء ودراسات المسرح. وعلى الرغم من التحليلات التي أقيمت باسم دراسات الأداء استمرت في اهتمامها في الكثير من أشكال المسرح – المسرح غير التقليدي والمسرح الطقسي – فقد فصلت دراسات الأداء نفسها عن المسرح باعتباره موضوع تحليلها الأساسي أو المركزي. ويمكننا رغم ذلك أن نقول إن مصطلح الأداء قد صيغ لتعريف المجال الجديد بأنه شيء يرتبط بالمسرح ويستبعد منه في نفس الوقت. وهذا التقارب والتباعد الآني له نتائج مهمة، وهو تحديدا أن دراسات الأداء لن تستطيع أن تعرّف نفسها من خلال موضوع دراستها. ورغم ذلك، فان ما يعٌرف دراسات الأداء هو مصطلح ومنهج التحليل الذي يقوم علي مفهوم السلوك الممارس مرتين، المستمد في النهاية من التمثيل رغم أنه ليس مقصورا علي هذا المفهوم. إذ يميل وصف دراسات الأداء في اتجاه نموذج إضافي، لأن دراسات الأداء تشارك في موضوعات تحليلها مع كل تلك المجالات التي يقال إنها ترتبط بها: علم الاجتماع والأنثروبولوجيا واللسانيات والدراسات الأدبية والفلسفة، وحتى الاقتصاد والتكنولوجيا. فما يقدم هوية دراسات الأداء في هذا المجال المتنازع عليه لموضوعات التحليل هو بالضبط ما يسميه بورك النزعة الدرامية: إحساس بالإمكانيات الطموحة ومسرحانية أساسية لكل شيء. فكيف يمكن أن نبدأ في تأمل مثل هذه الحدود التي لا تعتمد علي تعيين حدود موضوعات الدراسة بل تعتمد علي افتراضات الأداء نفسه؟.
وفي البحث عن هذا التحديد الوظيفي، نستطيع أن نعود مرة أخرى إلى أعمال بورك، لأنه في ثنايا نظريته في النزعة الدرامية يميز حدود ما يسميه النزعة الدرامية، وما يمكن أن يمتد، رغم ذلك، لكي يضم الأداء أيضا. ولأن الوحدة الأساسية في تحليله هي الحدث، ولأن الوحدة الأساسية في الحدث هي الجسم البشري في حالة حركة هادفة، فان النزعة الدرامية هي تخطيط يعتمد علي العامل البشري، والطاقة الإنسانية والفعل البشري والهدف البشري. وهذا بالطبع ما يجب أن نتوقعه من المنهج الفلسفي المستمد من المسرح، والذي هو شكل فني يعتمد علي المؤدي البشري الحي. ونتيجة هذا الشكل من الفلسفة المسرحية هو التطور المستمر للشخصيات أو النماذج داخل فلسفة، وهو ميل إلى التشخيص personification. ويمكن أن نفهم هذا الميل التشخيصي حرفيا، لأنه عند تقديم أفكار كثير من الفلاسفة الجدليين أو الدراميين يعتمد بقوة علي النماذج أو الشخصيات الخيالية أو التاريخية ومن بينهم أفلاطون وسقراط ونابليون منوجهة نظر هيجل وزرادشت من وجهة نظر نيتشه. فعندما تعتمد الفلسفة علي التشخيص، فان الخطر الذي يتربص في الخلفية هو المجاز والشخصية (المتكلم البديل)، وتشخيص الكينونات المجردة. فهل يجب أن نفهم سقراط باعتباره صورة لمعلم لأفلاطون أو باعتباره تشخيص للفلسفة؟. وهل زرادشت نيتشه هو نموذج للإنسان الأعلي أم منفصل عنه (أم شخصية غيرملموسة منسوبة إلى نيتشه)؟.
وأجادل بأن الاعتماد علي التشخيص يؤسس حدودا للفلسفة المسرحية. وأحد طرق قياس هذا الحد هو النظر إلى تاريخ المسرح نفسه. ففي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، جاء اعتماد المسرح علي الممثلين البشر والتشخيص في إطار زيادة الفحص الدقيق. وقد حاول عدد كبير من منظري وممارسي الطليعة والطليعة المبكرة، بداية من ادوارد جوردون كريج وفيسفولد مييرهولد وصولا إلى أوسكار شليمر وتادويش كانتور أن لا يشخصوا المسرح لكي يتخلصوا من اعتماده علي النموذج البشري. وتعلم الممثلون أن يقلدوا العرائس والأشياء والآلات عندما لا يتم استبدلهم تماما بالجمادات. وتاريخ عدم التشخيص هذا في تاريخ المسرح ترك الفلسفة المسرحية كما هي. إذ يقدم نيتشه وبنيامين وديليوز ولاكان صياغات للتحول المسرحي التي تشك في البشري والشخصي والمشخص. وفي نفس الوقت، واجهت صعوبات كبيرة. حتى عندما تم استبعاد الممثلين من المسرح واستبدلوا بالأشياء، كان يعاد تشخيص هذه الأشياء من خلال فهمها لبدائل للبشر الذين ظلوا متعلقين بهم. بالإضافة إلى ذلك، مثلما أن التمرد ضد التشخيص في المسرح هو مشروع يعاني من التعقيدات، فكذلك الحال مع محاولة التخلص من الميل إلى التشخيص من الفلسفة الدرامية. فقد كانت النزعة الدرامية عند بورك راسخة في مشكلة التشخيص وعدم التشخيص هذه. والأهم أن بورك لاحظ أن مشكلة التشخيص ارتبطت بشكل حميم بمنهجه المسرحي أو الدرامي نفسه. ففي حين يرتبط أربعة من مصطلحاته، وهم تحديدا، الفعل والحدث والطاقة والهدف، بالعنصر البشري وكذلك الميل التتشخيصي للنزعة الدرامية، فان المصطلح الخامس، وهو المشهد يتجاوز التشخيص. إذ يمكن أن يٌرى باعتباره نوع من الحد الداخلي للتشخيص الذي يبدو أنه جزء لا غنى عنه من المسرح والفلسفة المسرحية. ورغم ذلك، فان مشكلة الحد الداخلي هي أنه لا يمثل غير الشخصي الا باعتباره حدا للشخصي: فهو لا يمكن أن يسمي غير الشخصي إلا في إطار الأساس أو المشهد الذي تتجلي فيه الدراما الذاتية لأفعال البشر، والأحداث والطاقات. ولذلك يقدم بورك الاكتشاف المذهل التالي: «لذلك لدينا نوعين من المشاهد: أحدهما يسمي وظيفة داخل الخماسي، والثاني يسمى وظيفة خارج الخماسي، لأن مصطلح شديد العمومية مثل النزعة الدرامية يستدعي اللا درامي non - dramatist باعتباره نقيضه السياقي الوحيد. وحقيقة أن أحد هذين الاستخدامين يسمو بالآخر يمكن إخفائها بحقيقة أننا من خلال استطاعتنا أن نشير إما إلى جميعهم بنفس كلمة مشهد «. إذ يقود تأمل حدود تشخيص الخماسي بورك إلى مصطلح يتحدد من خلال وقوعه خارج النزعة الدرامية تماما، وهو تحديدا «اللا درامي». والشيء الممتع والمزعج في ما يتعلق بتحديد مفهوم اللا درامي، رغم ذلك، هو أنه لا يوجد فقط خارج حدود النزعة الدرامية، بل أنه في نفس الوقت جزء من النزعة الدرامية. ونتيجة هذا الحد المزدوج، ويدرك ذلك بورك بوضوح، هو لاشيء أقل من انهيار النزعة الدرامية: «في حالة الخماسي الذي قدمناه، فبعد أن أكدنا، علي سبيل المثال، علي الحاجة إلى توظيف كل المصطلحات الخمسة في مفردات دائرية الدوافع، لخصنا موقفنا بأنه درامي – وعندئذ اكتشفنا فجأة أن مصطلحنا قد انهار في عنوان جديد وأن له نقيض لادرامي باعتباره أساسه المنطقي. «
ويمكن أن تظل النزعة الدرامية نسقا أنيقا مغلق ذاتيا لأن اللا درامي قد دخل من خلال حصان طروادة المزدوج المشهد. فقد يظهر المشهد خارج الخماسي بأنه مشهد ثاني فحسب، ولكن هذا التناظر مضلل، المشهد من خارج الخماسي لا يشبه المشهد من داخله، مع أنه السياق أو النظير التي يتيح للمشهد من داخل الخماسي أن يظهر بما هو كذلك (كمشهد). واعتماد المشهد هذا علي شيء لم يعد يسمى ببساطة مشهد يقاطع العمل الأنيق للنزعة الدرامية لأنه يحمل حدودها إلى داخل قلبها.
ويستنتج بورك خلاصة من الانهيار الذي أجبرعلي ملاحظته في خماسيته الدرامية: الدرامي نفس يجب أن يكون هو نفسه له أساس في اللادرامي..ولذلك هناك نقطة يتحدد فيها منظور الكاتب الدرامي في إطار نقيضه السياقي، إذ يجب أن يمحو ذاته في فعل النطق نفسه.
وفي نهاية نزعته الدرامية يعلن بورك كذلك نوعا من الطمأنة الذاتية للنزعة الدرامية، من خلال ما يسميه «ذوبان الدراما dissolution of drama. وهذا الذوبان لا يعني أن خماسيته الدرامية خاطئة، فهي تعني فقط أنه من خلال التعامل معها ,لا يستطيع تجاهل أن الخماسي هو عملية انهيار، وأنه يجب أن يمحو ذاته في لحظة النطق”.
يمكن أن يٌفهم النقد الذاتي باعتباره ذريعة تعي النزعة الدرامية حدوده، ولا سيما ميلها إلى تجسيد غير المجسد، وهو ما سماه بورك في مناسبات متفاوتة تفعيل المشهد agentification of the scene. لأن اللا شخصي منفصل جذريا عن الانقسام بين الممثل والمشهد، فهو يقع خارج المسرح وخارج الخماسي. وبالطبع يعتمد الخماسي علي هذا اللا شخصي الذي يوجد بعيدا. وهذا المشهد الذي لا يرتبط بأي مشهد هو حد النزعة الدرامية ويدعونا بورك إلى ألا ننسى هذا الحد، حتى لو كان هذا يعني أننا يجب أن نكون دائما داخل عملية محو النزعة الدرامية. وطبقا لهذا الخط الفكري، لن تكون النزعة الدرامية محدودة بالمعنى المكاني، وكأنما كان هناك مجال واحد يمكن تطبيقه تماما عليها ومجال ثان يجب أن تبقي بعيدة عنه. فحدود الدرامية بالأحرى هي حدود منهجية ووظيفية، ونتيجة لذلك، لا يمكن أن تطبق الدرامية بشكل مريح علي أي شيء، ولا حتى المسرح. لذلك تحتاج الممارسة الأمينة للنزعة الدرامية فعل دائم من المقاطعة والتحديد الذاتي.
ويمكن أن نخلص إلى بعض النتائج من نقد بورك الذاتي القوي. إذ لا يتنبأ هنا بعدة ملامح في دراسات الأداء ويؤسس علاقة بين الفلسفة المسرحية ودراسات الأداء. بل انه يحدد لنا حتمية تأمل حدود النزعة الدرامية، التي يمكن أن نتناولها كنقطة انطلاق لتأمل حدود الأداء. وقد بدأ عدد من العلماء العمل في هذا الاتجاه. ومن بينهم جانيل رينيه Janelle Renelt وجوزيف روشJoseph Roach في كتابهما «النظرية النقدية والأداء Critical Theory and Performance» 1992، وجوديث باتلر Judith Butler في كتابها «الأجسام هي المهمة: حول الحدود المنطقية للجنسBodies that matter: the discursive limits of sex» 1993، وكتاب (بيجي فيلان Peggy Phelan) «غير الملحوظ: سياسات الأداءThe unmarked: the politics of performance «1993، وكتاب فيليب أوسلاندر Philip Auslander «الحيوية: الأداء في عالم وسائطي Liveness: performance in a mediatized world» 1999، وكتاب جون ماكينزي Jon Mckenie» أن تؤدي أو شيء آخر: من النظام إلى الأداء Perform or else: from discipline to performance» 2001. وبمختلف الوسائل، تمثل هذه النصوص روحا جديدة في النقاش المنهجي، وتأخذ علي عاتقها النصوص الكلاسيكية في هذا المجال وتحتاج أطر تنظيرية جديدة.
وهي الروح التي أثير بها سؤال حدود الأداء. فإذا تناولنا ريادة بورك، وفكرنا أن حدود الأداء لا يمكن أن تتضمن بالضرورة علي تحديدا لأهداف التحليل التي يجب أن تطبق عليها حدود الأداء نفسها. إنها تتضمن بالأحرى نقدا بالمعنى المنسوب إلى كانت، وهو تأمل حدود مفهوم الأداء (أو المسرحانية) نفسه. فمن أجل هذا المشروع، يمكن أن نحتاج أن نطور مصطلحا مضادا للأداء، مصطلحا يلعب دور المصطلح الثاني، الخارجي بشكل متطرف، ومفهوم المشهد في تأملات بورك. فما هو مشهد الأداء، وما هو مشهد ذلك المشهد، الذي يساعد تفاعل المشهد والأداء بدون أن يكون منه؟. ما الذي يمكن أن تشبهه دراسات الأداء والذي يمكن أن يمحو ذاته في لحظة نطقه والذي من شأنه أن يرسم اللا أدائي المتطرف في قلب الأداء؟
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
مارتن بوشنر Martin Puchner: يعمل أستاذا للأدب الإنجليزي والأدب المقارن بحامعة كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية. ومن أبرز أعماله: “رهاب خشبة المسرح: الحداثة والمسرحانية المضادة والدراما Stage Fright: modernism، antitheatricality and drama”.
وهذه الدراسة من كتاب “فلسفة الأداء المسرحي: التقاطع بين المسرح والأداء والفلسفة” الذي صدر عن جامعة ميتشجان عام 2009. وهي تقع في الفصل الثاني (الصفحات41 - 54).
تأليف : مارتن بوشنر
0 التعليقات:
إرسال تعليق