قراءة في كتاب "التجريب بين المسرح الغربي والعربي" للدكتور سعيد الناجي
مجلة الفنون المسرحية
كريم الفحل الشرقاوي
في كتابه " التجريب بين المسرح الغربي و المسرح العربي " يربط الباحث سعيد الناجي انبلاج إرهاصات التجريب في المسرح الغربي أساسا بالطفرات العلمية و التحولات السوسيوثقافية التي كانت تقودها الطبقة الوسطى في أوروبا منذ منتصف القرن 19 . الأمر الذي ساهم في نمو وعي تاريخي مغاير لدى هذه الطبقة في علاقتها بأشكال و أنماط الإنتاج الثقافي عموما . زكتها حفريات المنهج التجريبي المختبري و ما أحدثه من هزات و ارتجاجات خصوصا بعد تسربه إلى العلوم الإنسانية ما مهد لظهور انعطافات مسرحية متجددة زكتها عدة عوامل :
- بروز سلطة المخرج / مؤلف العرض المسرحي و السيد الجديد للمسرح المعاصر .
- افتتاح أندري أنطوان للمسرح الحر بباريس و الثورة التي أحدثها منهجه في الإخراج المسرحي .
- ظهور الإضاءة الكهربائية و ما أحدثته من تأثير عميق غير معالم و أبعاد الفضاء المسرحي .
- ظهور السينما أضفى قيما ثقافية وجمالية جديدة . ما دفع بالمسرحيين في الغرب إلى البحث عن خصوصية الفرجة المسرحية .
- ثورات السينوغرافيا الحديثة و ما أحدثته من انقلاب جوهري في جماليات تأثيث الفضاء المسرحي .
خلال مقاربته التحليلية اختار الباحث منهجيا مداهمة بوابة التجريب انطلاقا من الفضاء المسرحي كبؤرة لتأجج و اشتعال أطروحات التجريب في المسرح الغربي " إننا نبني تحليلنا لمفهوم التجريب على فرضية مفادها أنه اشتغال على الفضاء المسرحي و تثوير له في أفق خلق علاقة جديدة بين صانع الفرجة المسرحية و الجمهور " ( 30 ) من هذا المنطلق يظهر جليا تبني الباحث لنفس تقسيم " آن أبرسفيلد " التي اعتبرت أن المسرح يتأرجح بين نمطين متباينين أحدهما مسرح المنصة و الثاني مسرح الشارع . و بالتالي يفصل منهجيا بين التجارب التي سعت إلى تغيير قوانين العلبة الإيطالية من داخلها و التجارب التي حاولت هدم جدران العلبة و اللجوء إلى فضاءات مفتوحة تتغيا التواصل و التلاقي مع المتلقي في مكامن تجمعاته وتجمهراته . حيث حاول أصحاب الاتجاه الأول توظيف الأدوات و الإمكانات التي أتاحها التقدم التقني من خلال الاعتماد على الإضاءة و دينامية اللغة السينوغرافية و فسح المجال لجماليات ركحية تحتفي بطقوسية جسد الممثل وإشراقاته التخييلية و الروحية . أما الإتجاه الثاني فقد راهن على الإنفلات من سلطة العلبة الإيطالية و اقتحام فضاءات مغايرة كالساحات العمومية و الأسواق و مواقع الآثار وغيرها .
وعند مقاربته للتجريب و الحداثة اعتبر الباحث أن تطور بعض الفرجات الأخرى و على رأسها السينما دفع بالتجريبيين في الغرب إلى البحث عن خصوصية الفرجة المسرحية لا في ما يميزها عن الآخر كما هو الشأن بالنسبة للمسرح العربي .. و إنما في ما يميزه عن باقي أنماط الفرجات الأخرى . ليتم بذلك التركيز على الممثل و المتلقي باعتبارهما قطبي أي عملية مسرحية صميمية . فكان الاحتفال بالجسد لدى كروتوفسكي و مسرح القسوة لدى أرطو و و المسرح الأنتروبولوجي لدى باربا و مسرح الموت لدى كانتور ... ليبحث بذلك التجريب في المسرح الغربي عن حداثته عبر تنصله من سلطة القواعد الأرسطية و سلطة الكلاسيكية و سلطة المؤلف و سلطة الفضاء الواحد و سلطة اللغة الواحدة و سلطة الحقيقة الواحدة ... ليصير العرض المسرحي التجريبي ممتلكا لوعي متعدد الرؤى .. متعدد اللغات .. متعدد الفضاءات .. متعدد النصوص ... إن المسرح التجريبي باختصار هو الفاتح الاول لشهوة التعدد و الاختلاف في الثقافة الغربية .
وعند تناول لأسئلة التجريب في المسرح العربي ذهب الباحث إلى أن المسرحيين العرب حاولوا البحث عن خصوصية و هوية المسرح العربي من خلال تجريب تأسيسي يراهن على تأصيل و تجذير الفرجة المسرحية في التربة الثقافية العربية . لينطلق مسرحنا العربي - حسب الباحث - انطلاقة متعثرة . بحيث لم يتم البحث عن جوهر المسرح العربي الذي يميزه كنوع ضمن أشكال و أنماط التداول الثقافي بقدر ما تم البحث فيما يميزه عن المسرح الغربي الذي هو عبارة عن مسارح متعددة التجارب و التيارات و المشارب و المرجعيات الفلسفية و الإستطيقية .
وهكذا نادت فئة بوجود مسرح عربي قديم . بينما إرتأت فئة ثانية أن المسرح العربي الحديث ارتبط وجوده بالمسرح الغربي . فيما اختارت فئة ثالثة التموقع في المنزلة ما بين المنزلتين متشبثة بوجود أشكال فرجوية عربية ما قبل مسرحية . هذه الآراء المتجاذبة اعتبرها سعيد الناجي دليل على خضوع أصحابها لإكراهات الوعي الممزق بين الذات و الآخر .. ما أدى إلى ارتهان المسرح العربي بأربع سلط : سلطة المسرح الغربي و سلطة التراث و سلطة الإيديولوجيا وسلطة النص .
هامش :
(1) سعيد الناجي – التجريب بين المسرح الغربي و المسرح العربي – مطبعة دار النشر المغربية الدارالبيضاء – الطبعة الأولى1998 - ص 30 .
0 التعليقات:
إرسال تعليق