لماذا هيمن المنحى السياسي على المسرح الشبابي العربي؟
مجلة الفنون المسرحيةلماذا هيمن المنحى السياسي على المسرح الشبابي العربي؟
المسرحيون العرب يجسدون واقع بلدانهم بين اليأس والصراع.
عواد علي_ ألعرب
لقد هيمنت المواضيع والأطروحات السياسية على المسرح العربي الشبابي من خلال العروض المقدمة مؤخرا من المحيط إلى الخليج. وقد يكون ذلك بتأثير من الواقع المشحون بالأحداث السياسية والصراعات. فكيف عالج المسرحيون المسائل السياسية المتشابكة والمعقدة مسرحيا؟
تتزايد تجارب المسرح الشبابي في العالم العربي من عام إلى آخر، بل إنها تفوق تجارب الأجيال السابقة من الناحية الكمية، ويكفي أن نشير إلى وجود أكثر من 30 مهرجانا مسرحيا محليا وقوميا ودوليا تقام في جغرافيات عربية مختلفة تحت عناوين “المسرح الشبابي” و”مسرح الهواة” و”المسرح الجامعي”.
من بين أبرز المهرجانات المخصصة للشباب نذكر تمثيلا: مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي، مهرجان مسرح الشباب العربي ومهرجان منتدى المسرح في بغداد، مهرجان الكويت لمسرح الشباب العربي، مسرح الشباب في صفاقس بتونس، مهرجان مسرح الشباب في طنجة، مهرجان دبي لمسرح الشباب، مهرجان مسرح الشباب في الرياض، مهرجان مسرح الشباب الأردني عمون وغيرها.
وإزاء هذا الكم من التجارب المسرحية الشبابية، ليس بإمكان أي ناقد مسرحي عربي أن يقدم وحده مقاربة موضوعية لتوجهاتها وسماتها الفنية والفكرية من دون الرجوع إلى ما يكتبه النقاد والكتّاب عنها في بلدانهم. وفي هذه الحال ستكون كتابة الناقد وتصوراته متأثرة، بالتأكيد، برؤى هؤلاء النقاد وذائقاتهم ومعاييرهم، إن لم تكن خاضعة لها.
وعلى هذا الأساس ليس أمامي خيار، إن أردت أن أبحث في المسرح الشبابي العربي، سوى الاعتماد على المراجع المكتوبة عنه، باستثناء تلك التجارب التي أتيحت لي الفرصة أن أشاهدها في هذا المهرجان المسرحي أو ذاك. ولذلك لا أدّعي شمولية النماذج التي سأقف عليها في هذا المقال، بوصفها تجارب ذات مستوى إبداعي متقدم، تمثّل وجهة نظر نقدية خاصة بي.
المنحى السياسي
في اعتقادي أن القول بهيمنة المنحى السياسي على المسرح الشبابي العربي، وغياب التجديد عنه أمر يدعو إلى إعادة طرحه بصيغة السؤال الآتي: لماذا هيمن المنحى السياسي على المسرح الشبابي العربي؟ وهل غاب التجديد عنه؟
في رأيي إن حضور الموضوع السياسي بارز، بالتأكيد، في هذا المسرح، ذلك لأن الواقع العربي قاتم تطغى عليه مشاكل سياسية كبيرة ناتجة عن طبيعة الأنظمة الحاكمة القائمة على الاستبداد والشمولية، أو على نمط شكلي من الديمقراطية، إضافة إلى الصراعات بين القوى السياسية، والفقر والأزمات المعيشية التي تعاني منها شرائح واسعة من المواطنين، وأشكال التطرف والعنف والإرهاب المنتشرة في العديد من الدول العربية.
للموضوع السياسي حضور بارز في المسرح الشبابي ذلك أن الواقع العربي قاتم تطغى عليه مسائل سياسية معقدة
وبما أن المسرح، شأنه شأن الأجناس الفنية والأدبية الأخرى، يجب أن يكون على تماس مع الواقع، فإنه من الطبيعي أن يركّز المشتغلون فيه على هذه المشاكل السياسية، وانعكاسها على حياة شعوبهم. ولو كانت هذه الشعوب مرفهة، ولا تعاني من أزمات سياسية واقتصادية، وتطرف وإرهاب، وانتهاك لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وغياب العدالة والمساواة، إلخ. لما طغى الهم السياسي على أعمال المسرحيين، سواء أكانوا من الجيل الجديد أم من الجيل السابق.
وحين نعترف بهيمنة هذا الهمّ على النتاج المسرحي، فإننا لا نستطيع أن نغفل الكثير من الموضوعات الاجتماعية والإنسانية والوجودية التي تناولتها تجارب مسرحية في هذا البلد العربي أو ذاك، كما أن مسألة التجديد أو الابتكار لم تغب عن العديد من الأعمال الشبابية ذات الطابع السياسي، ناهيكم عن الظروف الصعبة (الرقابية والإنتاجية) التي تعرقل إبداعات الكثيرين منهم.
وتدليلا على نضج تجارب مسرحية للجيل الجديد من الناحية الفنية، بالرغم من كونها ذات منحى سياسي، أقف على ثلاثة نماذج من المسرح العراقي والتونسي، في سبيل التمثيل، هي “صفر سالب”، “ستريبتيز” و”الأرامل”. أما التجارب المسرحية غير السياسية فسأختار نماذج منها في مقال لاحق، نظرا إلى ضيق المجال هنا.
تعرية الصراعات
Thumbnail
شكّل عرض “صفر سالب” للمخرج علي دعيم، الفائز بجائزة أفضل إخراج مناصفة مع عرض “الأرامل” لوفاء طبوبي من تونس في أيام قرطاج المسرحية عام 2017، تجربة كوريغرافية مبدعة تناولت الواقع العراقي المأساوي الراهن.
وبالرغم من قتامة العرض فقد أكد أن ثمة أملا لإعادة البناء. فالصفر يرمز إلى العرب لأنهم اخترعوا هذا الرقم، والسالب يرمز إلى سلبية أصحاب القرار الذين يجسدهم العرض على شكل خيال الظل، ويحاول أحدهم صعود الدرج، وحين يصل إلى الباب يجده مغلقا فيتركه ويعود أدراجه.
وتنعكس سلبية أصحاب القرار على المجتمع الذي استسلم، أيضا، لليأس. وبذلك حمل العرض، بصياغته البصرية القائمة على لغة الجسد، دعوة للمجتمع إلى التخلي عن سلبيته وعدم الاستسلام واليأس، والعمل على تغيير الواقع المأساوي.
وسعى المخرج علاء قحطان، في عرضه “ستريبتيز” لفرقة مسرح بغداد للتمثيل، الذي كتب نصه مخلد راسم، إلى تعرية الانقسامات والصراعات السياسية والثقافية التي يعيشها العراق بعد الاحتلال الأميركي، من خلال ما يجري في بيت أسرة عراقية يرمز إلى البلد.
خمسة شخوص يشتركون جميعهم في لباس أحمر اللون (إشارة إلى الدم)، الأب رمز السلطة العليا، اتكالي وجبان باع الوطن مقابل سلامة نفسه، ينتهي مصيره إلى الموت خنقا، والأبناء على اختلافاتهم يرمزون الى الشعب، يدور بينهم صراع يومي، ويحملون أحلاما بسيطة تتمثل بالخروج إلى الشارع، من دون الاصطدام بالجثث، أو الاستماع إلى أصوات إطلاق الرصاص، أو استنشاق رائحة الموت.
أما الابن الأكبر فهو متطرف فكريا يميل إلى الفكر الإخواني وتطبيق حد القتل والشّرع، ويريد أن يرهبه الجميع، يفقع عين أخيه الأوسط، الخانع، غير المبالي بالآخرين ولا بهواجس المجموعة، المنشغل فقط بذاته. أما أصغرهم فهو أنموذج للإنسان المتمرد، الصارخ، الراغب في تجاوز كل مُعيقات السلطة والحواجز ليشعر بإنسانيته، ولا يزال يحلم بوطن سُرقت أحلامه، وأُجهضت آمال أبنائه، لكنه يتعرض للذبح.
ووسط هؤلاء أمّ تخرج من البيت ولا تعود، وفتاة هي أصغرهم تعاني من القيود المفروضة عليها، وتمثل أنموذجا للمرأة في المجتمع الذكوري المغلق. وحين سُئل المخرج عما أراد إيصاله قال إنه حاول تعرية كل شيء في البلد: السياسة والثقافة والدين والفكر والإنسان نفسه، وكشف الوحش الكامن داخل النفوس، الذي ظهر بعد الاحتلال عام 2003، فكانت الأسئلة كبيرة مجسدة في هذه العائلة المفككة القائمة على التقاطعات بين أفرادها.
وتدور أحداث مسرحية “الأرامل”، التي اقتبستها المخرجة التونسية وفاء طبوبي عن نص للكاتب التشيلي الأرجنتيني الأصل أرييل دورفمان يحمل العنوان ذاته، ونالت جوائز عديدة في أكثر من مهرجان حول ثلاث نساء مناضلات، واحدة كبيرة في السن اعتقلت السلطة زوجها، والثانية امرأة بسيطة أمية أعتُقل أخوها والثالثة فتاة مثقّفة أعتُقل والدها، يعتصمن على شاطئ البحر في إحدى القرى التي مزّقتها الحرب، في دولة لم يجر تحديدها من أجل إضفاء بعد إنساني على المسرحية، لتُطالب كل واحدة منهنّ بإعادة جثمان زوجها أو أبيها أو أخيها، من الذين اعتُقلوا بحجة أنهم متمرّدون خانوا بلادهم لأنهم اعترضوا على السلطة.
تعيش كل واحدة من هؤلاء النسوة مأساتها الخاصة من جهة، والمأساة الجماعية لرفيقاتها الأخريات من جهة أخرى. ومع انتشار قصتهنّ في الإعلام بشكل واسع تأخذ الأحداث منعطفا مغايرا، حين تتعرّف المرأة البسيطة على ضابط يتقرّب إليها في خدعة ليُنهي اعتصامهنّ، وهي تعتقد أنه يحبها وسيلبي طلباتها هي ورفيقتيها بتسليمهن جثث أقربائهنّ، وحينما تكتشف النسوة خدعته يستأنفن اعتصامهنّ على نحو أقوى، لكن هذه المرة ليس بهدف الحصول على الجثامين أو إطلاق سراح رجالهنّ، بل حتى يُغادر المتسلّطون البلاد، وتتحرّر من جورهم، ويحظين هنّ بحريتهنّ.
جسدت طبوبي رؤيتها الإخراجية في لوحات عديدة، اشتملت كل واحدة منها على إبراز المشهدية البصرية الملائمة للحالة على نحو متقن جماليا وإيقاعيا، فكانت منظومة العرض المسرحي تجتمع كلها في كل لوحة، من أداء وسينوغرافيا، وبرعت في ربط هذه اللوحات بعضها ببعض بدقة عالية وانسيابية. وقد أشاد أكثر من ناقد بموهبتها الإخراجية، والأداء المتقن لممثلات العرض نادرة التومي، فاتن الشوايبي ونادرة ساسي، وقدرتهن على التعبير عن العذابات الداخلية للشخصيات، والتدرج في الوعي الذاتي والجمعي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق