قراءة في كتاب: الفن العربي المعاصر، مقدمات تأليف : عبد الكبير الخطيبي
مجلة الفنون المسرحيةقراءة في كتاب: الفن العربي المعاصر، مقدمات
المؤلف: عبد الكبير الخطيبي
ترجمة: الدكتور فريد الزاهي
إنجاز القراءة: الصديق الصادقي العماري
تقديم
يزخر الفن العربي بأشكال تعبيرية وتلوينات زخرفية جد متميزة، وهي نابعة من الموروث الثقافي الأصيل، الذي يجسد للوجود العربي الإسلامي على مر التاريخ، من جانبه الفني خاصة. وإن ما يميز هذا الفن أنه يحتوي على علامات ورموز وأشكال تعبيرية قابلة للتحول والتكيف والتجديد، لأننا أصبحنا نرى معالمه ونماذجه في مختلف الأعمال الإبداعية الغربية. إذ أنه شكل محل اهتمام وجذاب العديد من الفنانين والباحثين والكتاب الغربيين على اختلاف أنواعهم وانتماءاتهم. بالرغم من أن الفكر الغربي يحاول أن يقزم من قيمة وفعالية الثقافة الأخرى، ومنها العربية على وجه الخصوص، ويعتبرها متخلفة وفي مستوى أدنى من الثقافة الغربية، في الوقت الذي يدعو فيه إلى المثاقفة والتثاقف بين الحضارات.
ينطلق الفكر الغربي من كون ثقافته هي المتميزة والمتقدمة وأنه المؤسس الحقيقي للحداثة، غير أنه في ظل غزارة وانتشار ودمج أشكال وألوان الفن العربي في مختلف الأعمال الفنية الغربية منذ مطلع القرن العشرين وقبله، يحق لنا التساؤل حول حدود المركزية الغربية التي تدعي السبق في بناء الحداثة والمعاصرة، وعن مصداقية هذه المركزية وامتداداتها. فلا يمكن الحديث عن الحوار والتفاعل والتواصل بين الحضارات في ظل التقزيم والتهميش والهيمنة. لذلك، فإن أي بناء حضاري يفرض التبادل الثقافي المتوافق والمتوازي، تتغذي على حسابه كل الفنون من أجل خدمة الإنسانية، هو ما ذهب إليه باتريس بافيس، باعتباره من دعاة المثاقفة، الذي يقول: ”إذا كان هناك ثمة خطاب يجب أن نسعى لتجاوزه، فهو التمركز الأوربي المنكفئ الذي يجعل من أوربا حصنا منيعا ضدا على أي شكل من أشكال المثاقفة مع آخرها...“.
والفن العربي اليوم في حاجة ماسة إلى تدوينه وتسجيله على مر الحقب التاريخية، من أجل أن يتم حفظه وتداوله، بالرغم من ”أن كتابة تاريخ الفنون العربية المعاصرة أمر أصعب بكثير من كتابة تاريخ الأدب العربي، نظرا للصعاب التي تعترض تداول اللوحة والعمل الفني عموما بين الدول العربية، ونظرا أيضا لما يكتنف الكتابة عن الفن من هشاشة تعود بالأساس إلى طغيان الكتابة الصحفية على الكتابة النقدية والتحليلية“. وفي هذا الإطار يأتي كتاب عبد الكبير الخطيبي بعنوان ”الفن العربي المعاصر“، والذي علمل على ترجمته فريد الزاهي، من بين المحاولات الجادة في إلقاء نظرة على هذا الفن ومحاولة إبراز أهم مكوناته ومميزاته، وقدرته الفعالة على التفاعل والحوار مع الفنون الأخرى من جميع بقاع العالم، والمشاركة في بناء حضاري يسعى إلى خدمة القضايا الإنسانية.
1.طلائع الفن العربي المعاصر
ينطلق عبد الكبير الخطبي، في حديثه عن ”الفن العربي المعاصر“، من ”المعاصرة“ بكونها راهنية و "هي تعايش بين أنماط عديدة من الحضارات، تمتلك كل واحدة منها ماضيا تليدا متفاوتا في القدم والتبجيل، متميزا بقوة الابتكار والحفاظ على تراثه"، وبالتالي فهي سيرورة من التبادلات والتفاعلات بين مجموعة من الثقافات المختلفة والمتنوعة، الضاربة في الزمان والمكان، وكل واحدة منها لها ما يميزها من غنى وعراقة في تخوم التاريخ، بحمولته الإنتاجية والإبداعية والتراثية. وهذا ما ينفي عن الغرب كونه السباق لبناء الحداثة والمعاصرة، ويضرب في عمق ادعائه المركزية والتفرد والتميز.
وقد عمل الخطيبي على إثارة تساؤلات حول مسألة التمييز بين الفن الحديث والفن المعاصر، والحدود الفاصلة بينهما، و يعتبر أن مسالة وجود حدود فاصلة بينهما أمر يبقى محل والتباس بالرغم من ادعائنا حول هذه الحدود، إذ يقول في هذا الصدد:" فأين يبدأ الفن الحديث؟ هل يبدأ مع الانطباعية؟ أم مع التجريدية؟ و أي تجريدية نعني؟ يقال أن الفن المعاصر قد انبثق في الخمسينيات بعد حرب بالغة الضراوة“. في مقابل ذلك يسلم الخطيبي بالتقطيع التاريخي الذي يعتبر أمرا ضروريا، لكنه يرفضه لكونه يتأسس على المركزية الغربية، لأنه في نظره ”لايقدم نظرة مكتملة عن ابتكار الحداثة والمستقبل في دوائر حضارية أخرى“، خاصة عند الحضارة الشرقية والعربية الإسلامية، لأن الثقافة الغربية تقصي الثقافات الأخرى وتحاول أن ترفع من شأن ثقافتها، وتهمش الآخر بعد السيطرة عليه واستغلال ثقافته بدافع المثاقفة والتثاقف.
و يضعنا الخطيبي في منهجه الذي سيقارب من خلاله "الفن العربي المعاصر"، بقوله: فبعد أن تكون الخصائص الكبرى لحضارة معينة قد منحت قيمتها الحقة، أنداك يمكننا مقارنتها بحضارة أخرى، وإبراز القيمة المتبادلة للحضارات الفاعلة في مسألة الفن، وتماثلانها وأصالتها، و حوارها أيضا. فالمقارنة تأتي بالتميز". ومن هذا المنطلق، يرى عبد الكبير الخطيبي أن المقارنة بين الحضارات تكون على أساس ما تتوفر عليه كل حضارة من موروث ثقافي وقيمي، وفاعلية إنتاجية وإبداعية، خاصة في مسالة الفن، بعيدا عن السيطرة والاستغلال وتحكم حضارة، تدعي لنفسها القوة والهيمنة، في أخرى بدوافع إيديولوجية أو سياسية أو إمبريالية، وهذا ما يعطي لكل حضارة القيمة التي تستحقها ويميزها عن غيرها. وبهذا يمكننا الحديث عن حوار وتفاعل و تعايش بين الحضارات.
وصف الخطيبي الفن العربي الإسلامي الكلاسيكي بمجموعة من المميزات مثل: ”استقلال اللون، وصفاء الأشكال، وهندسة مطلقة(...)، وقوة الزخرفي، سواء في العمارة أو التوريق أو الزواقة، أو المنمنمات والخط والفنون والحرف الاستعمالية بتنوع موادها، من حجر ومعادن ونحاس...“، وهي خصائص تميز بها هذا الفن منذ القدم، لكنها مازالت متداولة ومتوارثة من جيل لأخر، لأنها ضمن اشتغاله وممارسته اليومية، وبالنسبة له جزء من ثقافته، وتجسد لتاريخه الطويل. إنها مميزات تدخل في مكنون الذاكرة الجماعية للإنسان العربي الإسلامي، يعمل على تجديدها و إحيائها حسب تطورات كل عصر دون الممساس بأصالتها.
وقد أكد الخطيبي أن هذا الفن العربي الإسلامي الكلاسيكي، بما يتميز به من سمات، جذب أهتمام العديد من الفنانين الأوربيين إما في المعارض الدولية أو من خلال رحلتهم إلى مختلف الدول العربية والشرقية من أجل اكتشافه، إذ يقول في هذا الصدد: ”هكذا بدأت أوروبا تكتشف تدريجيا هذا الثراث الكلاسيكي العربي الإسلامي. ونحن لا ننسى هنا المعرض العالمي بفيينا ( 1873) الذي كان مسرحا لاكتشاف حضارة مغايرة. من ثم أيضا ينبع سحر الفنانين الذين رحلو نحو شرقهم كإميل غراسي (إلى مصر سنة 1869) وكلود رونوار (إلى الجزائر سنتي 1879 و1982)، وفاسيلي كاندانسكي (إلى تونس بين 1904 و 1905 و إلى مصر وسوريا وتركيا سنة 1932)، وموريس دوني ( إلى الجزائر وتونس والشرق الأوسط في ما بين 1907 و 1910)، وألبير ماركي ( الذي قام بزيارات عديدة للمغرب والجزائر بين 1911 و1945)،...“، وغيرهم من الذين سحرتهم قيم وعادات وتقاليد العرب والشرق. وقد عمل هؤلاء الفنانين على استكشاف هذا الموروث وتوظيفه في بعض أعمالهم، نتيجة ما تركه من شغف وإعجاب في نفوسهم بفعل ما يكتنزه من زخرفة توظيف للون وقداسة نابعة من أصالة وندرة هذا التراث. وبهذا لا يمكن الحسم والجزم بأن الغرب هو السباق لاكتشاف و بناء الحداثة، بل أن الفن العربي الإسلامي، بكل مميزاته، هو شريك في بناء حداثتنا، مادامت ” قيمة الفن ذي الأشكال الثابتة، الذي يخضع للرغبة في الخلود، لم تكف عن بصم نظرة التشكيليين وذاكرتهم البصرية“.
إن ما سبق دفع الخطيبي إلى القول إن ”المعاصرة في ذاتها شبكة مكونة من عدة هويات تشكيلية. إنها نسيج من الصور والعلامات“. وبهذا فإن المعاصرة التي يدعي الغرب أن له السبق في إحداثها بثقافته المتفوقة والمهيمنة على كل الثقافات، هي خليط من هويات بما تحمل من ثقافات مختلفة ومتنوعة للعديد من الشعوب، وبالرغم من ادعائه الانفتاح والتفاعل والحوار بين الثقافات، فهو يجد في ذلك سبيلا لحل مشاكله واتساع سيطرته على جميع الثقافات حتى الهامشية منها. ويضرب الخطيبي مثالا بالتجريدية كأهم ما يتميز به الفن العربي الإسلامي، ومقارنتها مع قرينتها عن الفن الغربي، بقوله: ”إن هذه التجريدية نابعة من حضارة العلامة، حيث ظل الكتاب، بخطه وقوته الزخروفية، المعبد الكتابي الذي يمنح لكل معاينة Visualisation أخرى معناها الفعلي، وهي بأشكالها الخالصة والهندية، ليس لها نفس التاريخ ولا نفس التأريخ ولا نفس التأليف الجمالي الذي يتميز به الفن التجريدي الغربي“.
ومن أجل تعزيز ذلك، استأنس بقول بول فاليري: ”إن المخيلة الاستنباطية الأكثر تحررا، والتي واءمت بشكل باهر بين الصرامة الجبرية ومبادئ الإسلام التي تحرم دينيا كل بحث عن محاكاة الكائنات في النظام التشكيلي، هي التي ابتكرت التوريق. وأنا أحب هذا التحريم. فهو يجرد الفن من عبادة الأصنام، ومن الخيالات الزائفة والحكي والاعتقاد الساذج ومحاكاة الطبيعة والحياة، أي من كل ما ليس خالصا، ومن كل ما لا يكون خصبا بذاته“. وفي هذا القول اعتراف بعراقة التراث العربي الإسلامي، وصرامته وأصالته، إذ أنه مبني على أسس متينة تتعالى عن الزيف والتحريف، قابل للتطوير والتجديد.
يرى الخطيبي، “إن هذه الحضارة هي حضارة العلامة التي تغدو صورة، بينما الحضارة الأوروبية، منذ الإغريق، منحت الاستقلال للصورة في علاقتها بالعلامة وسلطتها، بالشكل نفسه الذي تحقق به ذلك قبلها في مصر الفرعونية، خاصة في مضمار النحت. إنه الاختلاف الحضاري الذي يحمل في طياته الإمكانات الإبداعية الخلاقة. كما يمكنه أن يغدو مجالا لاضطرابات الهوية إذا نحن انتقلنا من هذه التراث لذلك“. إن الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة العلامة بامتياز، ظلت متفوقة وصامدة على مر السنين لارتباطها بالصورة التي أعطتها قيمتها باستمرار، فتجسدها في مظهر من العلامات والرسوم والأشكال والألوان والرموز... هو ما أعطاها جماليتها الفنية الدائمة، في مقابل الأوروبية التي أفلتت الصورة وحاولت البحث عن بديل منقد هو ما جعلها في مستوى أقل وأدنى تتأرجح بين ثقافة وأخرى، وثراث وآخر.
كما أن عدم الاستقرار والانتقال من تراث لأخر أو دمج بين ثقافات متعددة وصياغة قالب ثقافي تراثي مختلط سيؤدي إلى اضطراب في الهوية. فانجذاب العديد من الفنانين الغربيين إلى التراث العربي الإسلامي، وعودة الفنانين العرب لهذا الثراث، لم يكن بهدف الحنين أو التقديس في الغالب، وإنما نظرا لما أبان عليه من مكونات وخصائص وأشكال من زخرفة ومعمار ونحت وغيرها. إنها حضارة العلامة، في نماذجها الإبداعية والإنتاجية، الخلاقة والجذابة والأخذة للأحاسيس والمشاعر المرهفة الحية. كما ”أن هذه العودة إلى التوريق والخط والمعمار والفسيفساء والفتنة العدنية للزربية يظل مصحوبا باكتشاف الفن الغربي وتجريديته. وهي عودة لا تشكل في حد ذاتها أمرا مستحسنا أو مستهجنا، و إنما هي وعد ورهان على تحويل الماضي وقواه الباطنية“. فهو سعي نحو استكشاف التراث الأصيل وما يكتنزه من مؤهلات ومقومات فنية، إنه استنطاق للمورث الثقافي العربي الإسلامي ليعبر عن نفسه، لكن يجب أن يأخذ مكانته وقيمته التي يستحقها في علاقاته مع الثقافات الأخرى، في تفاعل وتواصل دائم، وتأثير وتأثر إيجابيين بعيدا عن الإقصاء والتهميش والاستغلال.
وقد انتقد الخطيبي الفنانين العرب الدين استهواهم الفن الغربي التجريدي و أقبلوا عليه وتبنوا أشكاله التعبيرية دون الاهتمام بمعالم الحضارة العربية، ضاربين بذلك الأصل والذاكرة الجماعية ودورها في الحفاظ على الحضارة، و التجسيد للوجود عبر الزمان، إذ يقول في هذا الإطار:" فقد اكتسبوا المهارة والتقنية وقضايا التوقيع والسوق ورهان المعارض الدولية، و هي لعبة مرايا يجرب فيها كل فنان عربي حضه ويبيع أعماله. إنه يشارك في الحضارة العولمية لتفاعل العلامات INTERSIGNE باعتبارها حضارة تقترح فيها الصورة والعلامة والتقنوعلوم مختبرا جديدا يتجاوز ويتنافس فيها اللامادي مع حب الفنان التقديسي للمادة وللمواد والحوامل التقليدية".
وقد وصف الخطيبي الفن الكلاسيكي العربي الإسلامي بمواصفات شملت هندسة البيوت والقصور والجوامع وأن ما يميزها هو صفاء الأشكال وعراء الجدران التي تزينها زخرفة خفيفة"، وانتقل بعد ذلك إلى الخط باعتباره مكونا جماليا، من مكونات هذا الفن، يضفي صبغة جمالية في الكتابة من خلال "تموجات بين فن الخط واللون والإنشاد الصامت الذي ينبثق من الورقة ومن الفضاء بكامله". وفي هذا الإطار، نوه الخطيبي بالخط الصيني الياباني، والعربي لغزارة مكوناته وأشكاله التعبيرية، لأنه ”يغني مخيلتنا الفضائية، مجبرا خطية الكتابة على أن تصير أكثر حركية و أكثر انطلاقا". مستشهدا في ذلك بقول "كلود ليفي ستراوس" “بأن الموسيقى والخط يمتلكان خاصية تجريدية رائعة للفضاء/ الزمن".
وقد تطرق الخطيبي إلى المكانة التي يحتلها الشعر العربي خاصة في نبرته الغنائية الملهمة، مقارنة مع الشعر الغنائي المتوسط والأوروبي، من حيث ”الترادف بين الكلمات المنشدة والآلات الموسيقية الأولى المجلوبة من الشرق الخاضع لقاعدة القافية، باعتبار أن ذلك قد شكل كشفا كبيرا بالنسبة للشعر الأوروبي في القرون الوسطى". أما بخصوص التو ريق في الفن الكلاسيكي العربي الإسلامي، أعتبره الخطيبي مسلكا أخر للتجريدية، يهدف بالأساس إلى نقل العلامات إلى صور، إذ يرى أننا:" لسنا أمام وهم الطبيعة والجسم الإنساني الذي تمنحنا إياه المحاكاة، وإنما أمام الهندسي المتداخل مع العناصر النباتية والحيوانية. إنها هندسية مرتبطة بالترقيم الجبري الذي استخلصت منه، منذ القرن السابع، نقط واعجام حروف الهجاء العربية...".
ومن هذا المنطلق، يحاول الخطيبي إبراز المكانة والأهمية البالغة التي يحضى بها الفن الكلاسيكي العربي الإسلامي، من خلال مقارنته بالفن الأوروبي، خاصة في الفن، الذي يدعي الهيمنة والمركزية في بروز الحضارة المعاصرة، إذ أصبح بإمكان الخطاط أن يرتجل لوحة مليئة بالعلامات من خلال التركيز على مكونات وأشكال الفن العربي، مثله في ذلك مثل الشاعر في علاقته بالأوزان، ويستدل الخطيبي على هذا باستحضاره للفنان الفلسطيني كمال بلاطة "حين يحلل العلاقة الخفية بين بلاغة اللغة العربية والتوريق، أي تصنيف الألفاظ حسن ثنائية الجدر وثلاثيته لدى النحاة، وتحويلها بالقلب والنقص والإضافة واستبدال الحروف، أي كل هذا التشجير للجسم اللساني الذي عليه ينبني التوريق. فما نسميه مثلا ومجازا توريق ماتيس لا أصل له في اللغة و تقسيمها إلى علامات مكتوبة، وإنما أساسه في فن الخط واللون، والانزلاق الدقيق بين مستويات التأليف". وهنا، تظهر أهمية التوريق وفاعليته كبنية مكونة من أجزاء مترابطة ومتداخلة، وهو الأمر الذي تتميز به اللغة العربية من حيث الترابط بين الحروف والكلمات ومدى قدرتها على إيصال المعنى والدلالة، كذلك من خلال الخطوط وترابطها عبر علامات مكتوبة.
و في إطار حديثه عن العلاقة بين التوريق وبلاغة اللغة العربية، يطرح الخطيبي سؤالا جوهريا حول الفنانين ونوع العلاقة التي تربط بينهم في تعاطيهم لموضوعات الفن، خاصة أمام التعدد والاختلاف في موضوع الهوية العربية، إذ يقول: "هل يوجد لدينا فعلا مجموعة متألفة من الفنانين؟ فالعربي، في نظرنا هو ذلك الذي يقدم نفسه على أنه كذلك، هناك حيث يوجد، في مرسمه وفي طرف ما من أطراف المعمور، مهما كان أصله الجغرافي والديني والعرقي، ومهما كان بلده وأعماله نفسها". وهو بذلك يحاول أن يؤكد على أن الفنانين العرب منتشرين في كل الدول والشعوب، وأينما وجدوا يعبرون بأعمالهم الفنية عن تراثهم وحضارتهم العربية الإسلامية، هذا التراث الذي يحضى بالقداسة والتبجيل، لكن تبقى أسئلتهم عبر انتاجاتهم متضاربة حول أحولهم الحقيقة ما دامت الهوية العربية متعددة ومتشبعة بين العربي والبربري والإسلامي واليهودي... وغيرها من الأحوال التي توارثت على المنطقة.
لذلك، يقترح الخطيبي، أنه "بإمكاننا إذن أن نكتفي فقط بصفة "عربي" كما بإمكاننا أن نركب هوية إسمية أكثر تمفصلا: عربي بربري، عربي إسلامي، عربي يهودي... وهكذا دواليك تبعا لقاموس غير مكتمل وشامل يعود بنا لتاريخ الفن الطويل الذي يهمنا هنا". هذا التعدد والاختلاف في أشكال ومكونات الهوية العربية، يطرح أشكالا كبيرا في الحسم في معالم هذه الهوية، إذ يمكن أن نقول بتعدد هويات فرعية من داخل الهوية العربية الشاملة، كذلك الإقرار بهوية عربية إسلامية واحدة تنصهر فيها كل أشكال و تعبيرات وطقوس الثقافة العربية، وهذا الأشكال دفع الخطيبي إلى محاولة وضع تركيبات اقتراحية، إذ أن هذا الاختلاف والتعدد يطرح إشكالا كذلك على مستوى الفن والفنانين العرب الدين يتواجدون في مختلف الدول، والدين قال الخطيبي في حقهم:" كأهم ينتمون بدالك إلى المجموعة الدولية للفنانين".
وفي نهاية هذا الفصل المعنون ب "طلائع الفن العربي المعارض" يحسم الخطيبي في موضوع انتماء الفنان باعتباره عربي "يقدم نفسه من حيث هو كذلك"، في ظل حضارة تعددية وغنية بتراثها العريق، إذ يفصح لنا عن مقاربته المنهجية المعتمدة بقوله:" اخترنا جزافا منهجية متحركة، منصاعين لإيقاع فكري معين قادر على الإمساك بمواطن قوة الفن العربي المعاصر". وقد عمل الخطيبي على عرض مجموعة من اللوحات التشكيلية لفنانين عرب من دول مختلفة، وهي لوحات تعبيرية غنية من حيث الحمولة الثقافية، وظفت فيها علامات ورموز دلالية واستعملت فيها ألوان متعددة وخطوط وحروف، إذ أن لكل لوحة رسالة وموضوع معين، كالتالي:
ـ شفيق عبود لبنان.
البحر، 1984، 130 ͯ 120 سم، زين على القماش.
ـ ضياء العزاوي، من مواليد 1939 ببغداد ( العراق)
تأليف : 1986، 183 ͯ 122 سم، أكريليك على الخشب
..فاتح المدرس، من مواليد 1922 بحلب ( سوريا)
اللاجئون، 1984، 120 ͯ 180 سم، زيت على القماش
ـ شاكر حسن آل سعيد، من مواليد 1925 بالسماوة ( العراق)
كتابة على البحر، 1984، 120 ͯ 0 12 سم، أكريليك على الكرتون
ـ بايا، 1931ـ 1999( الجزائر)
امرأة وفراشات، 65 ͯ 58 سم، ألوان غواشية على الورق
ـ فريد بلكاهية، من مواليد 1934 بمراكش ( المغرب)
فجر ثان، قطر اللوحة 250 سم، حبز على جلد مبسوط على الخشب
ـ فؤاد بلامين، مواليد 1950 بفاس( المغرب)
بدون عنوان، 1984، 160 ͯ 130 سم، أكريليك وكرتون ملصق على القماش.
ـمحمد بن مفتاح، من مواليد 1946 بتونس ( تونس)
خيمة، 1999، 76 ͯ 56 سم، حفرية على الورق.
2.من الاستشراق إلى الاستغراب.
استهل الخطيبي هذا الفصل بحديثه عن زيارة "دولا كروا" المغرب سنة 1832، حيث اكتشف جزء من معالم الحضارة المغربية، غير أنه اهتم بما يخدم مذكراته فقط، إذ استهواه "نور البلاد ومشاهد الحياة اليومية والعمارة والأشياء"، هذه الزيارة طبعت تجربة دولاكروا في إبداعاته الفنية اللاحقة، حيث سيجذبه ”لعبة الأنوار والخطوط والأشكال الملائمة آنئد للمشهدية الشاسعة التي سوف يبلورها في لوحاته الخالدة“، وهكذا يتم اكتشاف التراث والثقافة العربية من قبل الفنانين الغربيين، حيث يدمجونها في أعمالهم الفنية، التي يصبح لها شأن عظيم في ما بعد، وهو ما يؤكد القيمة والفاعلية للحضارة العربية الإسلامية، إذ بإمكانها أن تدخل في حوار وتفاعل وتواصل دائم مع الحضارات الأخرى، وليس كما يروج لذلك الفكر الغربي بمركزيته المتحجرة، أنها حضارة دونوية هامشية لا ترقى إلى أن تواكب التطورات المجتمعية. ومن بين هذه الأشكال والنماذج التي استهوت وجذبت اهتمام دولاكروا و كذلك هنري ماتيس هي الجوانب المرتبط بالفن وأشكاله من "الملامح الفنية لحضارة العلامة هذه، واستقلال اللون وقوة الزخرفة والخطاطات المعمارية والحيطان واستعمال المواد، والبعد الثاني والتوازن بين التوازي واللاتوازي أو بين المنظورات المتعددة التي تنسج الفضاء..."، وكلها أشكال تعبيرية شدت اهتمامهما وشكلت موضوع اشتغالهما في أعمالها الفنية لقيت نجاحا كبيرا في معارض ولقاءات، مما يبرز الأهمية الكبيرة لحضارة العلامة، العربية الإسلامية، ومدى قدرتها على اختراق كل الحضارات، والتأكيد على السبق في العراقة والوجود، وضرب في المركزية الأوروبية التي تدعي هذا السبق.
وقد أشار الخطيبي إلى فكرة أساسية وجوهرية تتمثل في "التقاطع الحضاري عبر الفن. و هو تقاطع من الخصوبة بحيث يبرهن لوحده على الحوار السري، لكن المرئي، بين المنتوجات الثقافية للإنسان. وفي هذا الإطار تأتي مبادرة مجموعة من الباحثين والفنانين الغربيين لاستكشاف مقومات ومعالم الفن العربي الكلاسيكي الإسلامي، والصيني والياباني والافريقي، إذ أصبح الجديد بالنسبة لهم هو الآخر.
كما تطرق الخطيبي إلى العلاقة التي ربطت الشرق بالغرب عبر قاطرة الفن، خاصة الفن التشكيلي، مستشهدا في ذلك بعمل المتخصص جون كارزويل الذي قدم "معلومات قيمة عن ظهور التشكيل الصباغي في المشرق، وذلك بفضل تجار الحرير الفارسيين ويبدو إننا مدينون لهم باستخدامهم لفنان هولندي لزخرفة بعض الكنائس بأصفهان في القرن السابع عشر". وقد أشار الخطيبي إلى المبادلات بين الشرق والغرب عبر الفن من خلال "استيراد و تصدير التحف والأشياء الثمينة" و هي مرحلة تجسد للحوار عن طريق الفن من خلال رحلة الشرق إلى الغرب و رحلة الغرب إلى الشرق خاصة عند" اهتمام الشاه عباس و السلطان العثماني محمد الثاني بالفن الأوروبي. بل أكثر من ذلك، أقام بليني في إسطنبول ورسم بها الصورة المشهورة، لذلك السلطان".
فقد أصبحت التحف الشرقية محل استلهام و جذب من طرف الفنانين الغربيين، لدرجة أن جل هذه التحف تم التعرف عليها واكتشافها في الغرب، كما أن التحف الغربية استعملت في كل مظاهر الزينة والزخرفة في المشرق، الأمر الذي أكده الخطيبي بقوله: هكذا تم اكتشاف التشكيل في المشرق بفضل العثمانيين والأقلية الأرمينية المهاجرة في بلاد فارس. و قد ظل هذا التشكيل لمدة طويلة مكونا تزيينيا في البيوت والقصور الفخمة...". إن عملية التبادل بين الشرق و الغرب على مستوى الفن تجعل منه مقوما من مقومات التقاطع والتفاعل والحوار بين الحضارتين بما يعطي لكل حضارة القيمة والفعالية التي تستحقها، و ذلك لا يتم إلا من خلال الاعتراف بتمييز كل حضارة، وتفادي الهيمنة و المركزية والاقصاء والتهميش.
إن هذا النوع من التبادل على المستوى الفني كان له أثار ايجابية، تمثلت في تطور أنواع عديدة من الفنون، إذ يؤكد الخطيبي: وقد كان لهده المبادلات في مجال التحف التزيينية نتيجتان أثرتا في المشرق: تطور التشكيل الايقوني والتمثلي( من صور شخصية ومناضر طبيعية) في الكنائس المحلية والبيوت والقصور البورجوازية آنذاك من جهة، والتأثير الواضح للتشكيل والفوتوغرافيا على المنمنمة العثمانية والفارسية من جهة ثانية." ومن هذا المنطلق، تتضح المساهمة الفعلية التي قام بها الشرق في التأسيس للحداثة، إن على مستوى الفن، من خلال الصور الشخصية والمناظر الطبيعية والتحف التي تعبر عن عمق وغنا التراث الشرقي، بما يتضمن من أشكال تعبيرية وطقوس وممارسات تقليدية، غير أن هذا التقدم والتطور الذي عرفه الشرق اختلف تماما على النهج الذي اتبعه الغرب، وهو ما أكده الخطيبي بقوله: ففي الحين الذي كان فيه الفن الأوروبي في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين يبتكر حداثته، كان الشرق يدخل، عبر لعبة مرايا دائمة ومدواخة، في التشخيص ويعود باستمرار للتجريد. كان ذالك تجريدا مضطربا يندرج بين حضارة الصورة وحضارة العلامة.
والاختلاف يتضح في كون الغرب كان يبني و يؤسس لتصور ورؤية معينة تحكمها خلفيات إيديولوجية و سياسية واقتصادية وثقافية... في جميع مناحي الحياة، على اعتبار ان مرحلة نهاية القرن التاسع عشر شكلت مرحلة حاسمة يطبعها النضج والتغيير المرتقب، في الوقت الذي كان الشرق يعيش حالة اضطراب وتبعية، خاصة بين ثقافة الصورة وثقافة العلامة على المستوى الفني الذي يهمنا في هذا الإطار. وقد قدم الخطيبي نماذج من الفنانين الشرقيين الذين طبعت أعمالهم هذه المرحلة، إذ يقول: يجسد هذه المرحلة بعض الفنانين من أمثال النحات المصري الرائد محمود مختار (1891ـ1934)، ومحمود سعيد ومحمد ناجي المصريين أيضا، وكدا رساموا المنمنمات الجديدة كالجزائري محمد راسم...".
وقد عمل الخطيبي في هذا الفضل على إبراز أهمية ومقومات الفن العربي الكلاسيكي الإسلامي ومدى قدرته على التعبير عن حضارته، من خلال الاكتشفات والبحوث التي قام بها الفنانين الغربيين، الذين سكنهم هاجس الانفتاح على الآخر وعلى ثقافته، كما عمل على إبراز العلاقة التبادلية بين الثقافة الشرقية والغربية على المستوى الفني، و إظهار التقاطع والتبادل بينهما.
3ـ تحولات:
ينطلق الخطيبي، في هذا الفصل، من الطابع المزدوج للفن العربي الكلاسيكي الإسلامي و الذي يرى فيه مجالا لتحاور الحضارات، خاصة في المنمنمة والأيقونة وتصويريتهما، والتشكيل على المسند CHEVALET والنحث ذو الطابع الأكاديمي، وقد ضرب مثالا عن أعمال الرسام الجزائري محمد راسم. هذا الطابع يتجسد من خلال أعمال وإنتاجات الفنانين، إذ أن كل حضارة تعبر عن نفسها من خلال إبداعات فنانيها، كما "تقوم في كل حضارة بحجب أو إعادة حجب الأخرى عبر فنانين من هنا وهناك، كل واحدة حسب نظام قيمها ومعتقداتها“. وبهذا يعتبر الفنان من خلال انتاجاته سفير وطنه يحاول إبراز مقومات ومعالم وقيم حضارته، عبر المحتوى والألوان ونوع الرموز و العلامات...
و في هذا الإطار أشاد الخطيبي بالمكانة الكبيرة التي تحتلها المنمنمات والتي تنبعث من قوة الزخرفي، مستشهدا بتجربة "المسلم محمد راسم" بقوله: إن لوحة الحرب البحرية لراسم لا تخلو من الجاذبية والعنف والمهارة التعبيرية التي وسمت ترصيع غوستاف كليمت للجسد الأنثوي. فلدى الفنان المسلم محمد راسم تبدو المرأة منمنمة بشكل كامل ومزخرفة في زينتها". وبهذا تعد المرأة وصورتها موضوعا تلتقي فيه الحضارات، إذ أن كل حضارة تتناولها وفق رؤيتها وتصورها، وتحاول تقديم رسائل حول صورتها. إن "المرأة نفسها يتم تناولها باعتبارها بهجة تشكيلية يتماهى فيها الفن والرغبة في صراع شهواني تقوم فيه الوصيفات والغلمان والخصيان باللهو والمرح“. أما بخصوص الأيقونة في علاقتها بالكنيسة الشرقية لها دلالات ومعاني أخرى، لها علاقة بالدين وفي خدمته، بل تسخر لخدمة أهداف ومصالح الكنيسة سواء تعلق الأمر بداخلها أو خارجها، إذ يرى الخطيبي إنها "تعتبر صورة ورمزا وأمثولة ALLEGORIE وحكاية مناقب، أي عالما قائما بذاته منذورا للتأمل والصلاة، في صمت تكون فيه الصورة جنب الإله وقديسيه".
وقد أكد الخطيبي على أهمية اهتمام الفنانين العرب بالإيقونة في أعمالهم و إنتاجاتهم، ودور ذلك في الحفاظ على الموروث الثقافي والذاكرة الجماعية التي تتوارث عبر الأجداد، وقد مثل لذلك بأعمال الفنان السوري اليأس زيات الذي نزع "نحو اتجاه ايقوني جديد ذي طابع علماني وعربي منفتح على مكتسبات التجريد الأوروبي، محافظا على ما تتميز به الأيقونة من ثبات عمودي. ففي الأطفال والعصافير والمدينة(1971)، قام الفنان ببناء ثلاثية داخلية حيث كل عنصر مستقل يمثل مشهدا بكامله. ومن الأكيد أن هذا المنزع الايقوني الجديد، في مواجهة للفن العالمي الحديث، قد ساعده في جمع شتات موروث الأجداد في داخله". كما استدل الخطيبي بعمل الفنان السوري "فاتح المدرس" الذي تفنن في استعمال الإيقونة في أعماله، من خلال توظيف الألوان في توضيح وإظهار ملامح الشخصية، واعتماد الأشكال الهندسية كالمربع والدائرة بطريقة تضفي جمالية جذابة، وتعبر عن غنى وعراقة المضمون، إذ يقول الخطيبي في حقه: "يذكرنا أسعد عرابي ببعدها الرمزي الجوهري: «تنبني الشخصية بين ملامح شبح مشخص ورسم علامة فتيشية تكاد تكون هندسية، وتشبه وجها غريبا تقع ملا محه بين البيولوجي والعقلاني، منحدرا من الثنائية الشهيرة للمربع والدائرة. تخط الدائرة الوجه الإنساني واستدارة القمر والشمش، وترسم في الآن نفسه الهلال الليلي وقرني ثور مقدس...".
إضافة إلى ذلك يرى الخطيبي أن "الراقص في لوحة الدرويش والغجر( 1978)، بالرغم من كثرة ألوانه فهو يحيل على الصورة المظلمة والنظرة الفارغة اللتين تذكران بسكينه الصوفي الجوال بعد دوخته وطوافه، بما يتخلله من موسيقى وذكر."، و بالتالي هذا العمل بالرغم من أنه يتضمن وسائل وتقنيات ومكونات العمل التشكيلي، إلا أنه ظل ناقصا من حيث المضمون والرؤية، لذلك شبهه الخطيبي ب "تسكينه الصوفي الجوال"، لأنه لا يخبر الحقيقة و تبقى الصورة فيه فارغة ومظلمة، غير أنه يبقى عملا يتطلع لخلق الانجذاب والإثارة عبر عواطف وأحاسيس الفنان، يستقي موضوعاته من الذاكرة الجماعية.
أما بخصوص تصنيف أعمال مروان الفنان السوري، يرى الخطيبي: "صنفت أعماله في ثلاث مراحل: المرحلة التشخيصية، التي تلتها مرحلة الرؤوس المشاهد، ثم الدمى. كما تم الربط بين أعماله وأسماء من قبيل إدفار مونش وجورج بازليتز وشوينباك". كل هذا يبرز القيمة الفنية لمروان من حيث تركيزه على الصرامة في التشكيل بالاعتماد على مراحل واضحة المعالم، لدرجة أنه بلغ مرتبة ارتبطت أعماله فيها بأسماء بارزين، مما يبين التقاطع بين الفنانين العرب والغربيين بما يدعو ويؤكد على الحوار والتفاعل المستمرين بين الحضارات من خلال قاطرة الفن.
حاول الخطيبي الشرح بالتفصيل للعمل الفني لمروان من خلال الوقوف على طريق الاشتغال الدمى، من حيث الشكل والحركات و تنوعها، من حيث الوضعيات التي تتخذها، مع وجود الحكاية. كذلك البناء الدرامي الذي تظهر من تعابير الوجه واللون، إذ يقول في حقه: " مروان يمارس التشكيل بالشكل نفسه الذي يكتب به العربية، من اليمين إلى اليسار، وهذه الوجهة هي تخطيط الجسد. ومن هذا الموروث الفضائي يحتفظ بإيقاع معين، وذلك بموقعة عمله في الفن المعاصر العالمي". وبهذا اعتبر مروان فنانا، عمل على اختراق المجال الثقافي من خلال احترافية في عمله الإبداعي، وبالتركيز على الذاكرة الجماعية بما تحمل من مقومات، وهنا تظهر البصمة التشكيلية التي ركز عليها .
ويقول الخطيبي:" أن إيثار اليمينية في التشكيل، و الكتابة أو الرسم كما هو الأمر في الخط العربي، هو الملمح المميز لحضارة توجه نفسها تبعا لنمطها في إضفاء الطابع الفضائي على إدراك الأشياء و الكائنات و الزمن." أي أن الحضارة العربية لها مميزات خاصة تميزها عن غيرها من الحضارات، كاليمينية التي تتجسد في الكتابة والتشكيل والرسم، وكما هو الحال في الكتابة بالخط العربي وما يتميز به من جمالية. هي سمات ترسم مسار هذه الحضارة خاصة في الفن، وعبرها يمكن أن نفهم وندرك قيمة العمل الفني في الأشياء والكائنات والزمن، باعتبارهم أهم المحددات الأساسية لهذا العمل الفني.
وقد شكلت هذه اليمينية محل جذب واهتمام العديد من الفنانين الغربيين، وظهرت من خلال أعمالهم وإنجازاتهم، مما يبرز أن قيم و معالم الحضارة العربية لها قيمتها وفاعليتها، تعبر عن نفسها من خلال إبداعات الفنانين العرب وتوظيفها في أعمال و إبداعات الغربيين. ومن هؤلاء، يقول الخطيبي: كالأمريكي برايان جازين...، وفنان «الشرق الممنوع» الذي أقام بالمغرب من 1950 إلى 1973. فقد اكتشف هذا الأخير فن الخط الذي يمتاز به البلد وموسيقاه الشعبية وجاجوكة جبال الشمال..." و أصبحت "اللغة و التشكيل، والوجه الفضائية وتأليفها في علامات غربية آو يتم التظاهر بغرابتها، مصدرا لإلهام جان دوغوتيكس في سياق آخر يتعلق بفن الخط الياباني، الذي يدين ببنيته الأساس، كما نعلم، للخط الصيني". وبهذا المعنى، كانت الحضارة الشرقية فضاء فضاء للاكتشاف من طرف الفنانين الغربيين، والمعروف أن الثقافة الصينية واليابانية تتميز بغزارة في الطقوس والعادات و التقاليد والأشكال التعبيرية على تنوعها، إذ نجد هذه الغزارة في أعمالهم الفنية، من حيث توظيف اللون والجسد والحركات والأشكال الهندسية والرموز والخطوط وغيرها. فالثقافة الشرقية عموما جذبت العديد من الفنانين في المسرح و التشكيل و الموسيقى وغيرها.
4ـ أولوية العلامة:
تطرق الخطيبي في بداية هذا الفصل إلى الأنواع الثلاثة للحضارات، وهي حضارة الصورة في أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية، و حضارة العلامة في الهند والصين والدول الإسلامية، كذلك حضارة الإيقاع التي تتميز بها الدول الإفريقية بما تحمل من أساطير، والتي تتميز ببراعة في التشكيل. في نظره "هذا التصنيف إذا كان يبسط الأمور، فله مع ذلك فضل إبراز بعض الاختلافات الحضارية. ولنأخذ فن الخط العربي. فالعلامة تحيل أولا على فن التخطيط الحروفي، وهو فن من العتاقة بحيث يضمن الديمومة والاستمرار الحضاري للكتاب"، هذه الاختلافات بين مميزات ومعالم كل حضارة هي التي تخلق التميز والتفرد، وتعطي لكل حضارة مكانتها الخاصة، إلى جانب الحضارات الأخرى، وهو منفذ للبحث عن نقط التقاطع وتحقيق التبادل والتفاعل والحوار الدائم من أجل نهضة حضارية في خدمة الإنسانية، تتغذي عليها جميع الفنون وكل أشكال التعبير.
يضيف الخطيبي بخصوص مميزات الخط العربي: فهو يمتلك سننه وأساليبه و تقاليده الكبرى، وهو يكتب على حوامل متعددة، من رق وورق وحجر، أي على كل مادة قابلة لان تحتضن تآليفه". هذه المميزات هي التي جعلت فن الخط العربي محل إلهام وجذب من قبل الفنانين التشكيليين والرسامين، كما أن الخط في النص قابل لأن يتحول إلى زينة وزخرفة بفضل تقنية الكتابة، لأنها تعمل على نسج المعنى والدلالة، و "إن التوزيع الذي تقوم به للعلامات يدخل القارئ أو المتفرج في فضاء شعري ليس خطيا البتة، بل يقوم بتعليق مسار القراءة في جدول للعلامات ينمحي فيه التعارض بين الشكل والمحتوى وبين الدال والمدلول. إنه ينتظم لوحا آخر للقراءة، و فضاء غير محدد، منفصما بين الكتابة والحرية الخطية، وبين الخطية والتشكيل". وبهذا المعنى يكون للكتابة دور مهم في إظهار زينه الخط وانمحاء التعارض بينه وبين الشكل، من خلال توزيع منتظم ومتناسق للعلامات في إطار شعري يستهوي القارئ أو المتلقي و يفتح أمامه أفقا للتأويل واستنباط المعنى والدلالة.
وبخصوص التشكيل، حدد الخطيبي أهمية الخط ودوره في تغيير المشهد والسجل البصري، لارتباطه بالتأليف التصويري، إذ ميز في التشكيل الذي يستمد مادته من اللغة العربية خاصة حول مسالة الحرف بين مستويات:
ـ الحرفية الهندسية،
ـ تجريد الخط المشكل،
ـ الحرفية الرمزية،
الحرفية الزخرفة.
و ذكر الخطيبي مجموعة من الفنانين الدين سلكوا هذا الاتجاه، على لسان جبرا إبراهيم جبرا، أمثال: ̎الفنان العراقي شاكر حسن، وعمله المتمثل في تفتيت الحرف، وكيف يقوم فنانون آخرون بتحويل التمثيل التشخيصي إلى تأليف بين الحروف̎. إضافة إلى أعمال الفنان التركي أمنتو جرنيزي الذي قام بإخراج فيلم قصير شخصياته من حروف، وهو عبارة عن قصة حب وتماه مطلق بين الإنسان و العلاقة. كذلك العمل الإبداعي الذي أنجزه الفنان الإيراني الزنده رودي، الذي"قام بتجدير رسم وتشكيل الحرف، و تطويعه لضرورات التخطيطية وإيقاعها، وللون ولهندسية إعجامية حركية، ثمة حيث تغدو شكلا خالصا، وتقدم نفسها في أشكال هندسية عبارة عن أرقام و خرائطية، ورموز وتمائم، بل وفتيشهات وشذراات حلمية، وفي شكل كلمات وحروف مستلهمة من التقليد الكتابي للفن الإسلامي". إن هذه البراعة في استعمال الحرف، وقدرته على التعبير بصيغ وأشكال مختلفة ومتنوعة، من خلال العلامات والرموز، يعطي للخط القيمة والفعالية الكبيرة التي تبوءه مكانة الصدارة عند فناني حضارة العلامة وغيرهم، باعتباره مقوما من مقومات اللغة العربية التي يستمد التشكيل منها مادته الأساسية.
العديد من الفنانين العرب تشبتوا بالخط العربي، في احترام تام لقواعده الأساسية، ”كالعراقيين حسن المسعودي وسعيد الصكار وعثمان واقي الله، قد ظلوا أوفياء لتقاليد فن الخط، بمهاراته وتقنيته الملائمة ومقروئيته، واحترام الأساليب القديمة، بما فيها التأليفات الخطية“. غير أن التقليد في فن الخط، حسب الخطيبي، قد تغير سياقها، إذ يعتبر أن الخط قد فقد قدسيته، حيث مثل لذلك في أعمال العراقي رافع الناصري الذي قام "بتحويل شكل العلامات وتحويل الصفات الدينية المرتبطة بدلالاتها الأصلية“.
وقد أدرج الخطيبي مجموعة من اللوحات الفنية لنخبة من الفنانين، الذين اشتغلوا على الخط العربي، في أشكال ونماذج متنوعة، من خلال هنسة مصاغة باللون والكلمات والاقام والرموز وغيرها من المكونات، حيث يعرف الحرف فيها تغيرات متعددة ومتنوعة حسب رؤية ورسالة الفنان، نذكر منها:
ـ عبد الله بنعنتر، من مواليد 1931 بمستغانم( الجزائر)
ركوب بتيبازا، 130 ͯ 217 سم، زيت على القماش
ـ كمال بلاطة، من مواليد 1942( فلسطين)
الله نور، 59.5 ͯ 46.5 سم، سريغرافية على الورق
-أحمد الشرقاوي، 1967- 1934( المغرب)
تأليف، رقم4، 1967، 29 ͯ 37 سم، حبر على الورق
-رفيق الكامل، من مواليد 1944، بتونس ( تونس)
كسوف، 1984، 290 ͯ 195 سم، أكريليك على الكرتون
ـ الجيلالي الغرباوي، 1930ـ1971( المغرب)
بدون عنوان، ألوان غواشية على الورق 20 ͯ 27 سم.
إن هذه النماذج وغيرها ترجمة بشكل كبير تغير الحرف، حسب نوع الفنان والعمل الإبداعي والرسالة التي يود تقديمها للقارئ أو المتلقي. هذا التغير فرضته ميولات واتجاهات المبدعين وانتمائتهم، فمنهم من عمل على "إعادة تأليفه بعد تفتيته، كما هو الأمر لدى الفنان التونسي نجا مهداوي(من مواليد 1937)، أو أنه يتوالد بحيث يتكرر الحرف نفسه إلى ما لانهاية بغزارة وحيوية نجد أنفاسها معها أمام هوس بالعلامة المكتوبة المليئة حتى الإشباع والفارغة في الآن نفسه، كما هو الحال مع المغربي المهدي قطبي. هذا التطبيق والوغز يبثه الجزائري رشيد قريش(من مواليد 1947) بمحورته حول وحدة كتابية تذكر بشكل ساطع بالكتابة الرمزية idéographie الصينية". ومن هذا المنطلق، تظهر أهمية الحرف رغم تغير سياقه من فنان لآخر، حيث له القدرة على التوظيف بعبقرية، ويعمل كل فنان على استخدامه حسب السياق والموضوع الذي يشتغل عليه، كذلك حتى نوع الرسالة التي سيؤديها في علاقته مع المكونات لأخرى للعمل الإبداعي.
هذا الشكل الذي أصبح الفنانون يشتغلون به، من خلال العودة إلى العلامة يقول الخطيبي عنه:" هذه العودة إلى العلامة ما قبل الإسلامية هي معطى من معطيات الذاكرة والنسيان نجده في كل حضارة. فهناك، لدى المصري آدم حنين (المولود سنة 1929) ولدى آخرين غيره، تشتغل الإحالة على الفن الفرعوني والكتابة الهيروغليفية والنحت العمارة معا. وهنالك في الأبعد، لدى اليمني علي الغداف، ثمة حروف الهجاء الحميرية وذكرى ملكة سبأ، أو أيضا في أعمال الكثير من الفنانين العراقيين". فهناك اهتمام كبير من قبل الفنانين العرب بالخط العربي، وما يتوفر عليه من زخرفة وجمالية وتأصيل للثقافة العربية الإسلامية. ومن شأن هذا التوظيف الواسع في جميع البقاع أن يساهم في مشاركة الموروث الثقافي في البناء الحضاري، كذلك في قدرته على التعريف بالتراث والثقافة العربية الإسلامية على مستوى الفن خاصة. كل ذلك شكل محاولة جادة من الفنانين على اختلافهم، من أجل العودة لتراث الماضي الذي يجسد لأصالة حضارة العربية، والنبش في هذا التراث ومحاولة إظهاره ومنحه القيمة التي يستحقها في علاقته مع تراث الآخر، هو بمثابة بوابة للحوار والمثاقفة والتبادل الثقافي والتواصل المستمر بين الحضارات. فالحوار بين الحضارات لا يمكن أن يتم إلا من خلال تجاوز المركزية الأوروبية، وإظهار قيم الحضارات الأخرى ومنحها القيمة التي تستحقها.
و العودة إلى الأصول تطرح أمام الفنانين عوائق وإكراهات، سواء أثناء تفكيك الموروث أو إعادة تركيبية، بأشكال وأنماط في "التشكيل والرسم والحفر والسريغرافيا مختلفة. من ثمة ينبع عائق آخر. وهو يتمثل في الشكل الذي يمنح للعمل، و الذي يلزم أن يحيل على هذا الموروث و يتجاوزه في الآن نفسه من خلال التجديد المتوافق مع مكتسبات الحضارة العربية الإسلامية من جهة، و مع مبتكرات الفن المعاصر العالمي من جهة ثانية". هذا الأمر يتطلب من الفنانين التجديد في طريقة العمل، وإدخال تقنيات و وسائل ومعايير جديدة، من حيث استعمال الألوان والمشاهد وصناعة الصورة، وتوظيف الحروف، والجسد بكل إيحاءاته، لصناعة واجهة مثيرة وجذابة بمضمون تراثي يكون وفيا للأصالة و يتماشى مع الفن المعاصر العالمي. وقد ذكر الخطيبي نماذج لفنانين تمكنوا من السير على هدا النهج، خاصة الفنان العراقي ضياء العزاوي،"الذي تجاوز هذا العائق بطريقة أشبه بطريقة التكعيبيين، وذلك عبر هندسية يتم ضبطها من خلال إشراق الألوان والمشهدية الحركية". و الأمر نفسه عند شاكر حسن الذي يتعامل مع " فن الخط بقوة الأثر والبصمة، المصحوبة بكتابات متنوعة على لوحة/جدار محزوزة و مرشوشة، تارة بنوع من المواجهة القاسية، و تارة بإدخال المنظور فيها بحيث تضطرب وتنصاع وتشطب".
يرى الخطيبي أن جل الفنانين العرب الذين حاولوا التوفيق بين التراث الأصيل لحضاراتهم والفن العلمي، مع الاحتفاظ بهويتهم وقيمهم، ساهموا في خلق حوار بين الحضارات ومن شانه أن يساعد على إ”قامة مدونة ودائرة معارف مقارنة بين أنماط الشاهد. وفي هذا يكمن أساس علم جديد من اللازم تطويره، أي سيميائيات جامعة Intersémiotique بمناهجها و أنظمتها الإحالية“.، وهذا يشكل أساس الحوار بين الحضارات، لأنه يستدمج كل القيم والأشكال والتعبيرات الفنية لكل الشعوب، حيث تعطي لكل حضارة القيمة التي تستحقها في احترام تام، يبدأ بالاعتراف والتوظيف الايجابي.
يتحدث الخطيبي عن سحر الفنان والقوة المحركة لهذا السحر، والممثلة في التخطيطية التي تعمل بين الحرف واللون والمادة، إذ يعتبرها "ارتجال تحت المراقبة تتبلور بتسلسل ايقاعي، بالشكل الذي تحقق به ذلك في مجال أخر هو المجال المتفرد لموسيقى الجاز". هي مقارنة حاول الخطيبي أن يوضح من خلالها دور الحلم التخطيطي وإمكانية تحققه، إذ يحظى الخط بأهمية بالغة، لأنه قابل للتحقق في مجالات متنوعة ومختلفة، و لديه سلطة ومهارة عجيبة قادرة للتعبير عن سحر الفن، وقد ظهر ذلك من خلال الممارسة الإبداعية الفارسية كذلك، إذ يرى أنه "في فن الخط الفارسي كانت هذه التحولات للعلامات عميقة في إبداعها، فالكتاب شاهد من شواهد التشكيل، وإطاره يتغير في بعده، وحامله يتنفس بشكل مغاير من ورقة لأخرى".
الحضارة العربية والشرقية وضعت قواعد أساسية للفن، ولكل واحدة منهما قواعد خاصة تحددها، وهذا ما اعتبره الخطيبي "علامة على الاستمرارية ومكسبا كبيرا"، لكن هذا التصور المبني على قواعد لا يخلو من التباسات وتواجهه عوائق على مستوى تطوره في العالم العربي، هذه القواعد مبنية على أساس ”الطابع الهندسي المحسوس، الشفاف لكل المواد كما هو حال فن الخط العربي الإسلامي، أو عبر التوازن بين الفراغ والامتلاء كما هو الأمر في الخط الصيني والياباني".أما بخصوص العوائق التي تواجه الفن العربي المعاصر يذكر الخطيبي: ”فيما وراء الشاهد الزخرفي، يلاقي عائقين يحدان من مدى العلامة: المنزع الثقافي والمنزع الشكلاني". هما عائقان يقفان أمام الفنان، من حيث بناء أعماله حول الموروث الثقافي والوفاء للذاكرة الجماعية. فالفنان العربي الأصيل، عليه أن يكون وفيا للثقافة الأصلية فيما يعرضه من أعماله وإنتاجاته، وفي توافق مع الفن العالمي، توافق في الشكل والبناء المحدد في قواعده وأساليبه المتفق عليها من أجل أن يكون قادرا على التعبير عن حضارته والمشاركة في بناء تقدم حضاري مشترك يفيد الإنسانية.
و في هذا الإطار يشيد الخطيبي بأعمال الفنان المغربي أحمد الشرقاوي، بحكم تجربته، تجمع كل مكونات العمل الفني التشكيلي من خلال حركة فنية فريدة، إذ يقول في حق أعماله: ”ليس ثمة في أعمال الشرقاوي من تعبيرية تجريدية، ولا من لطخية أو حركية وإنما ثمة صرامة الخطوط والعلامة التي تغدو شكلا ولونا. إنها وحدة في التأليف وتوازن ونقاء وتعديل مستمر للمجموع في أسلوب لم يكف عن التوضح فيما هو يعمق رهفاته". إنها تجربة فريدة تظهر من خلال انكشاف العلامة في الشكل واللون، وانسجام في جميع مكونات العمل، دون الخوض في الجوانب الهامشية، حيث التوازن والتوافق والصرامة في استعمال الخطوط.
يعمد الشرقاوي إلى عزل مساحة قريبة من البيضاوية أو في شكل مستطيل[...] وثمة أيضا تقنية أخرى تتمثل في قماش القنب المتراكب الذي يتماوج حتى حوافيه، فيمنح للوحة إيقاعا وتراكبا بين مستويين". من هنا، تتضح الطريقة التي يشتغل بها هذا الفنان، من خلال استعماله للأشكال وتموقعها في اللوحة، والوسائل الموظفة، كل هذا يجعل المتلقي في حالة انصهار مع مكونات هذه اللوحة، حيث تسبح عين الناظر في العلامات والألوان والخطوط، لاستخلاص المعنى والدلالة في فضاء متكامل الأجزاء. يقدم الخطيبي نماذج من أعمال الشرقاوي التي تبين هذه البراعة التي منحت للتشكيل العربي إشراقا فريدا،" لوحة رقصة الثعبان( 1964)، أو في الحنفية الحمراء( 1964)، وباب الفتح(أيضا سنة 1964)،......أو كما يتم ذلك في لوحة محبة القطط ( 1964) وهي حيوانات نعرف نظرتها المغناطيسية، وقفزتها المطاطية في رغبة الفنانين وحركتهم، وبذلك يتابع الشرقاوي عملية بحث صارمة، بصرامة تستهدف الالتقاط والإمساك. إنه لا يمثل لشيء تبعا لمبدأ المشابهة وإنما تبعا لنقل علامة نحو أخرى...". و بهذا، يعد الشرقاوي حالة فريدة تسعى إلى تجاوز التشابه في إبداعاته، و البحث عن المنسي وإظهار قيمته وفاعليته بشكل مختلف لما دأب عليه زملائه.
و في اتجاه أخر يضرب الخطيبي مثالا لأحد الفنانين العرب الدين اشتغلوا على تطبيقات الأشكال التخطيطية، وهو الفنان التونسي "قويدر التريكي"، الذي يحفر على الورق، فهو خطاط يشتغل على الكتابة التصويرية، أي البكتوغرافيا التي عرفها الخطيبي، من خلال تعريفات المؤرخين، بأنها "كتابة من الإشارات تبث للغائبين هذا الخبر المهم أو ذاك الذي يتعلق بحياتهم اليومية. وفي معنى ثان، فهي تنتمي أصلا لفن الخط trait وإلى لا تحدد أصلي بين الرسم و الكتابة. إنها كتابة عتيقة، تحتفظ في ذاكرتها بتخطيطات الهيروغليفيا والكتابة التصويرية الصينية واليابانية ". إنها تركز على أحداث وقائع الحياة اليومية للإنسان، كتابة أصلية ينفرد فيها التريكي بالجانب التصويري من خلال الحفر والرسم على الورق، من أجل تحويل المكتوب إلى تصاوير. وبهذا كان للحضارة الصينية واليابانية مكانة متميزة جذبت العديد من الباحثين والفنانين على اختلاف انتماءاتهم.
"إن الكتابة التصويرية للفنانين ، كما هي لدى قويدر التريكي أو ميشو، تترجل العلامات وتغازلها، محركة إياها في زمن المرتجلة أوالتأمل المشجع على حلم اليقظة النشيط. ويتمثل معجمها التصويري في أشكال إنسانية وحيوانية ونباتية تتناسل وتتكاثر عبر العدوى الحلمية ". يحاول الخطيبي توضيح طريقة عمل الفنانين في الكتابة التصويرية، من حيث استخدامهم للعلامات والرموز والأشكال بشكل ارتجالي مما يحفز المتلقي على قراءة العمل، و يجعله يقظا باستخدام عقله لاستنباط المعنى والدلالة، حيث الأشكال والتعابير في شكل إنساني وحيواني ونباتي. هذه العلامات التي لا تبقى مستقرة على حالها بل تتوالد وتتكاثر مما يعطي للعمل غزارة وغنى مملوء بالمعاني والرسائل الفريدة.
لذلك يرى الخطيبي أن " الخطاط التصويري، هو بالتأكيد حاكي عالم ساحر وحنيني. إنها حكاية بلا بداية ولا نهاية، تمنح لنا هنا في وجهاتها المتعددة في الفضاء و في تنويعاتها مختلفة تمسك بها العين حسب متعتها. وإذا كانت ألف ليلة وليلة تسري بتمازج قصصها، فإن التريكي يفك التمازج ويعزل العناصر بعضها عن بعض ويمسرحها، ويعيد تأليف المشهد المتعوي والتكرار بأناة وصبر. إن الخطاط التصويري يكرر العناصر نفسها وينوعها بحثا عن سعادة بسيطة، فذلك سعي وجودي على حد البراءة و الجرح". فالخطاط التطويري، من خلال الحفر والكتابة، يعمل على تقريب المتلقي من اللوحة، محاولا رسم خطط تسلسلية متكاملة، عبر سلسلة من العلامات والوحدات، والدخول إليها صعب من الخروج منها لأنها تفتح المخيلة وتتحمل أكثر من تأويل، باعتبارها شبكة من التعقيدات، تنطق بلسان العامة وتتمحور حول قضايا الإنسان ومعيشه اليومي.
هذا النوع من الكتابة نجده عند الفنان التونسي محمد بن مفتاح، الذي يرى فيه الخطيبي أنه" رسام وحفار ذو حساسية كبرى تجاه المادة، عنقودا من العلامات والوحدات الخطية، يلفها و يبنيها في شكل متاهة". و نجده عن فنانين آخرين بشكل أخر، حيث " العنقود من العلامات (كإحالة للموروث الشعبي) توجهه مليحة أفنان تبعا لخط منكسر ومضطرب بحيث يترك الورقة تنساب مع نفسها". وبهذا يكون لكل خطاط تصويري طريقة ومنهج في التعامل مع العلامات في تصوير رسالته الفنية، والتركيز على الخط وأشكال إطهاره. كذلك الأمر نفسه في الرسم على الجدران والزخرفة من داخل البيوت، بما يعطي للحياة طبع آخر في شكل فني متميز، خارج المتاحف التي تبقى فيها التحف واللوحات الفنية منفية ومهمشة، وفي هذا الإطار يتحدث الخطيبي عن عبد الله غريو، الذي ترك بصماته في مدينة فاس وجعلها في حلة جديدة ، "بعد أن بصم حيطان المدينة وأشجارها بتخاطيطه وكتاباته ترك المدينة مثل مختلس للعلامات، لم يمسك التحقيق (الفني والبوليسي) منها غير أثار آيلة للانمحاء". فإن التخطيط التصويري على الجدران في الساحات والشوارع يضفي عليها صبغة جمالية، من خلال تجسيد حقيقة الواقع، من خلال رسائل نبيلة تترجم إلى أخلاق وقيم المجتمع، وتعيد للذاكرة الجماعية قيمتها، وتوريثها لدى الأجيال القادمة، كما أن هذا الموروث يصبح محل جذب واهتمام الناس المحليين والأجانب، تلك هي مهمة الفنان الذي يحلم بواقع غير المعاش ويتنبأ لغد أفضل.
إن تحويل الكتابة إلى تخطيط تصويري من خلال هندسة تشكيلية للعلامات، في شكل عنقود أو سلسلة مترابطة ومتوالدة متناسلة يدفع إلى التفكير والسفر بمخيلة المتلقي في فضاء الذاكرة الجماعية، من أجل محاولة فك الرموز والعلامات، وكل ذلك مستوحى من الثقافة والتراث بما يحمل من زخرفة ونقوش وأشكال تعبيرية وطقوس وعادات، وبالتالي، التجسيد للهوية التي تؤاطر عمل الفنان من خلال حلمه وسحره الفني، الأمر الذي يؤكده الخطيبي بقوله: وهي علامات آتية من بعيد، من قلب ثقافة جهوية، بوفرة طلاسمها، وأثارها ونقوشها الزخرفية، ووفرة أخاييل الرسوم المنسوخة. هذه المذكرة، باعتبارها دليل الهوية الرمزية، يتم الزج بها بشكل مستمر ومتجدد في لعبة التنقل والتحول".
يختم الخطيبي هذا الفصل المعنون ب "أولوية العلامة"، بطرحه لإشكال جوهري، من خلال تساؤل م ـ ج برنار بصدد الفنان الجزائري محمد خدة، « كيف للإنسان أن يمارس التشكيل بالرغم من وجود الحياة≥، إذ يتساءل: "هل يتعلق الأمر بواجب أم رغبة مجروحة؟ كيف السبيل إلى ممارسة التشكيل من غير أن يتحول المرء إلى قربان؟" وهو سؤال يطرح نفسه أمام وجود الطبيعة بكل مكوناتها وأشكالها وزخرفتها، و بالتالي كيف يستطيع الفنان التشكيلي، التعبير عن وقائع يضيف إلى الطبيعة والحياة صورا وأشكالا تعبيرية من شانها أن تزيد من جماليتها ورونقها، بالرغم من أن الطبيعة، مع الوقت، تقضي على هذه الأشكال والتعبيرات الإبداعية، وهل عمل الفنان نابع من حرقته ومعاناته أم الأمر يرتبط بواجب مهني لا اقل ولا أكثر؟
5 ـ المتفرد دون في الفن:
يدعو الخطيبي في بداية هذا الفصل إلى تحليل و تفكيك الفن الذي ينظر على أنه ساذج وشعبي، للتعرف على حقيقته، كيف ما كان الشكل الذي يقدم لنا به نفسه، لأن النظرة السطحية له، من منطلق الأفكار المتداولة المشتركة يقودنا إلى المغالطة والحكم الخاطئ. يقول في هذا الصدد: يقال عنه أنه فن ساذج وعفوي، وأولي و شعبي، إن لم يكن فنا بدائيا أو عتاقيا و غريزيا. إن فن الارتجال هذا يدعونا لأن ننظر إليه ونفككه بالشكل الذي يقدم لنا به نفسه"..
وفي هذا الإطار يقدم الخطيبي مجموعة من نماذج الفنانين الذين تميزوا وتفردوا في إنتاجاتهم الفنية، حاولوا بشكل عصامي التعبير عن معاناتهم وأحاسيسهم، وعن وقائع المجتمع، من خلال استعمال اللون، والجسد، والكائنات الإنسانية والحيوانية والنباتية، عبر حكايات أسطورية خيالية تستهوي وتجدب المتلقي، مصاغة في لوحات تشكيلية تعبيرية خطتها أنامل قادرة على تحويل المستحيل إلى الممكن. و يستشهد الخطيبي بأعمال الفنانة الجزائرية بايا، و التي قال في حق أعمالها: من ثم تنبع تلك النباتات والحيوانات الأسطورية، وتلك النساء المرتديات أزياء منسوجة بالزهور، وتلك الفساتين والأشياء الجميلة التي تزين الحياة بشكل فردوسي.(.......)إنها حكاية تلامس اللون، وتحلم به نابعا من الأنامل، كمادة ننقلها حتى أبواب البصر".
هذه الفنانة التي أعجب بأعمالها الكاتب الفرنسي أندري بروتون، قال في حقها: "الملكة التي تمسك بالغصن الذهبي". فالفنانة بايا أبدت واستهوت العديد من الكتاب والمتلقين من خلال أعمالها المميزة، وهاهو شبح بايا الكهونتي، المرسوم على قماش ابن عذراء المستقبل، وهي تنزع عن وجهها جزاءا من الحجاب، لتكشف ما هو عليه العالم الجديد الموحد والمتناغم و المحب لذاته.... فالرغبة الإنسانية لديها في طورها الخالص، لا تقبل بأي عائق أمام الإشباع، نادرة نفسها بلا قيود للتحقق...". هي مواصفات تتحدى العوائق والصعاب، وتوظف الخرافة والأسطورة النابعة من السريالية، وكل الأشكال والرموز والاثارات والأيقونات، لصناعة سلسلة متوالية من العلامات العجائبية من خلال سياق الحكاية العجيبة.
كذلك اشتغال بايا على النحت يجعلها تستحضر الفنان العظيم بيكاسو، من خلال أعماله تقنياته، وهي إشارة لاشتغالها في إطار الفن المعاصر العالمي والحديث، هذه المسالة تشترك فيها هذه الفنانة العصامية مع فنانين آخرين مثل كوبرا والفنانة المغربية الشعبية المولودة سنة 1929، وهو لقاء وتقاطع بين الفن الذي اعتبر بدائيا وعفويا والفن الحديث، مما يعبر عن الحوار بين الحضارات عبر قاطرة الفن، والقيمة المتميزة لأشكال وتعبيرات الفن العربي الإسلامي، ومدى قدرته على التعبير بكل جدية وقوة صريحة.
وبخصوص الفنانة المغربية الشعبية، يقول الخطيبي: "ذات الأصول القروية كانت عرافة. وعوض أن تكشف الأوراق بدأت في التلوين. وفي إحدى الليالي عاشت حلما تقول عنه: "( لقد حلمت هناك، في الغرفة المجاورة التي تفضي إلى الحديقة. كنت في بيتي، وكانت السماء زرقاء ومدرعة بالأعلام التي تصفق مع الرياح، كما لو كان ثمة عاصفة. وكانت ثمة شموع منيرة تنتشر من الغرفة التي كنت بها حتى الحديقة بكاملها. انفتح الباب، ودخل رجال متلفعون بالأبيض، وقدموا لي قماشا وريشة. كان من بينهم شباب وعجوزان بلحيتين طويلتين. ثم قالوا لي: من هنا فصاعدا هذا هو مصدر قوتك). كيف كنت أكسب قوتي وقوتها؟ ماهي حظوظ وممكنات امرأة أمية؟ أنت تضحكينني".
إنها قصة الشعيبية التي انطلقت منها شرارة عملها الإبداعي، إذا كان الاشتغال باللون بداية مشوارها الفني، قصة عاشتها في عالم الأحلام وترجمتها إلى الواقع، رغم الإكراهات التي تعيشها في حياتها اليومية، بالرغم من أن حالتها الاجتماعية كانت جد ضعيفة و ربما مزرية. تقول في هذا الصدد: كنت أقوم بأعمال البيوت، وتنظيف الغسيل وتلميع الأرضية لكني كنت أقوم بجدية بمهنتي تلك. ثم جاءني ذاك الحلم. وفي الغد قصصت حلمي على اختي. وقد كان علي تحقيقه. و في اليوم الموالي، توجهت إلى المدينة القديمة، واشتريت الصباغة، الصباغة التي تستعمل لصبغ الأبواب، لم يكن الأمر مهما. المهم كان بالنسبة لي هو الخلق و الإبداع، والبدء في العمل و الانجاز. وكان لابني طلال أستوديو، وقد رأيته فيه يمارس التشكيل". تلخص الشعيبية قصتها مع بداية اشتغالها بالتشكيل، حيث إنه نتج بمحض الصدفة، من حلم إلى ترجمته على أرض الواقع، من خلال الاشتغال على الألوان بطريقة عجيبة، وتحويلها إلى رسومات وكتابات تصويرية بطريقة تستهوي المتلقي وتفتح مخيلته للتأويل، من خلال قصص وحكايات مستوحاة من خيالها، وهي تموذج للفنان العصامي الذي تحدى العوائق وعبر عن قلقه وهواجسه من صلب انشغاله واشتغاله اليومي.
وسيرا على هذا النهج، يرى الخطيبي أنه ثمة فنانين آخرين أبدعوا في توظيف العلامة والخط، عبر تحويل الصورة بفعل أحاسيسهم ومشاعرهم المرهفة من مظاهر ممزوجة بالكتابة والفرح، بقوله: هذه الوحدة في المساحة بين العلامة والخط، يحققها مغربي أخر هو مولاي احمد الإدريسي (1929ـ1973) بشكل رائع. فهذا التلوين العجيب، والأخ البصري لروثكو، مؤلف يملك ببساطة تشكيلية لا تخلو من الجرأة. فخلف المشاهد اليومية، ثمة دائما خطاطة خرافة أو أسطورة". فالفنان عبر حسه الفني الشغوف إلى الإبداع، يسعى دائما إلى خلق السعادة من خلال إنتاجاته الفنية التي تحول الأشياء والأحداث البسيطة إلى أعمال تجدب وتثير الاهتمام، وتدفع المتلقي إلى استخدام عقله، ودلك من خلال إعادة ابتكار عوالم الحياة ومقاومة الغناء، من خلال التعبير عن الموروث الثقافي الذي ينتمي إليه.
فإذا كان ينظر إلى الفن العربي على أنه سذجا وبدائيا، فان ثمة فنانين عرب أبدعوا وأنتجوا من ثقافتهم العربية الأصلية بما أبهر الفنانين والمتتبعين الغربيين وغيرهم، إذ أكد الخطيبي أنه "مند اكتشاف الفنون الزنجية، بأن هذا الفن كان بشكل كبير وراء ابتكار الحداثة في مجال النحت والتشكيل". ويضيف في هذا الصدد، محاولا ضحد فكرة كون الفن العربي بدائيا وسدجا، بقوله: تنتمي ثلاثية الاثنولوجيا التقليدية( الطفلـ البدائيـ الأحمق) إلى معارف عن الإنسان وحضارات ولي زمنها. فدوار «الأحمق» يعتبر الأن هو نفسه حاملا للابداع والابتكار". وبهدا يحاول الخطيبي التأكيد على قيمة وفعالية الحضارة العربية من خلال مقومات الفنان الذي يعبر عن نفسه وعن وجوده، يتحدث بلسان حضارته، والوفاء للذاكرة الجماعية التي تختزن تراثا عريقا وقيم حضارية لها مساهمة فعلية في صناعة الحداثة وليس كما يروج له الغرب بمركزيته العنيفة الاستغلالية.
يختم الخطيبي هذا الفصل بمتفرد آخر، وهو الفنان المغربي عباس صلادي الذي رسمت أعماله التشكيلية صورة جادة، تصور حكايات خرافية وأسطورية مظهرها، لكنها تحمل في طياتها من خلال الرموز والعلامات، والتخطيطات الهندسية عمقا غنيا يلهم ويجدب المتلقي يجعله يسبح في معاني ودلالات الإبداع. "أعماله التشكيلية، التي تبدو في الظاهر حكاية، تصور خرافات وحكايات سحرية بطلاسمها ومدنها الخيالية، وهي هندسات معمارية لا تجد مشروعيتها إلا في ذهبية مسحورة فعلا بنقطة اقترانها العاطفية والعجيبة. فكل شيء يتبدى في لحظة بصر".
فقد عمل الخطيبي على ذكر مجموعة من الرواد الفنانين الذين تفردوا بأعمالهم وإبداعاتهم الفنية، مركزين على تحويل النص بكل أشكاله الثقافية والتراثية مبرزين بذلك أهمية قيم وطقوس ومعالم الحضارة العربية ومدى أهميتها في صناعة الحداثة.
6.عن التجريد
انطلق الخطيبي في هذا الفصل من حديثه عن النقد الفني وسيرورة تكونه انطلاقا من التطورات التي عرفتها مجموعة من العلوم والتخصصات، باعتباره حاملا لرؤية ومتضمنا لقواعد وتقنيات معينة، إذ يقول في هذا الصدد: ”النقد الفني سنن تكون تدريجيا تبعا للتطورات التي عرفها الفن والجماليات الفلسفية والأدبية كما لدى هيجل وبودلير“. في ظل وجود أعمال وإنتاجات إبداعية فنية، وتصورات نظرية في إطار الفن، جاء النقد الفني كقراءة تسعى إلى فهم وتحليل وتفسير المنتوج الفني، جاء من أجل محاولة استخلاص المعاني والدلالات التي يكتنزها العمل الفني، من أجل معرفة سلبيات و إيجابيات العمل الإبداعي، بهدف تقويمه وإظهاره للمتلقي العادي الذي لا يقوى على سبر أغواره بدقة واحترافية.
كما تطرق الخطيبي إلى الخلل الذي يعرفه تعريف الفن العالمي، خاصة عندما يتعلق الأمر بأعمال بعض الفنانين الذين يتواجدون خارج موطنهم الأصلي ويعتبرون أعمالهم عالمية، ”لهذا تفصح العبارة الشائعة ≤الفن العالمي≥ عن لبس بين. فهي تحيل في الظاهر إلى الهوية، وإلى تعريف مجموعة من الفنانين الذين يتجاوزون الحدود القطرية.“ مع أن الخطيبي حدد للفن العالمي شروط محددة، على الفنان أن يحترمها في عمله الإبداعي كي يندرج ضمن الفن العالمي، إذ يقول: ”ففي كل عمل فني يفرض نفسه، يتعلق الرهان بالأصالة المحددة والحصرية للفنان وبأسلوبه وموقعه الاجتماعي. ففي الوحدة التي تسم تلك التجربة، يستمر العمل الفني في الانتماء إلى فضاء حضاري معين“. فإن الفن العالمي ليس تعريفا خاصا للفنان، أو امتياز يكتسبه بتواجده خارج الوطن، و إنما من خلال عمله الإبداعي الذي يأخذ بعين الاعتبار المعاير والمحددات التي تعطيه القيمة والفعالية، بالتركيز على مصداقية ما ينتج، بأسلوب وتقنية عريقة، تعطي لعمله الأصالة وانتماءه لفضاء محدد، وحسب متطلبات وميولات الجمهور، وتبعا لما هو مطلوب.
يحاول الخطيبي في هذا الفصل تناول مسألة التجريد في الفن العربي الإسلامي، مقارنة مع التجريد في الغرب، خاصة على مستوى الفن، على اعتبار أن الفن العربي له خصائص تميزه مثل الزخرفة واستقلال اللون والهندسية المطلقة...، كل هذا وغيره جذب اهتمام العديد من التشكيليين الغربيين، مع أن الغرب يعتبر سباق لبناء الحداثة. وقد أكد ”أن التجريدية في الغرب كانت منتهى لتحول حضاري مغاير: لقد نشأ العمل الفني والصورة غير التشخيصية بعد سلسلة مدهشة من عمليات التفكيك، والتخلي المتتالي عن المرجعيات التي نهض عليها الفن الأوروبي منذ قرون، أو على الأقل التيار المهيمن داخله. فقد ظهر أولا الجمال، الذي لا يمكن تصوره إلا داخل فلسفة شاملة أو ديانة معينة،... وأخيرا بدأ انفتاح المتحف على كل الأساليب وكل العصور وفي كل مكان من المعمور،بحيث هبت على العالم الفن الغربي موجة عاتية من الصور أغرقته في لجته“. وفي هذا توضيح لسيرورة نشأة التجريد في الغرب، حيث جاء نتيجة توليد أفكار وقناعات وتصورات، والتخلي عن أخرى، حسب التطورات والمتغيرات التي يعرفها العصر، غير أن التجريد في الفن العربي، ووفقا لما اشترطه الخطيبي سابقا، من أصالة وأسلوب وموقع اجتماعي، بقي محافظا على وفائه للموروث الثقافي في أصوله ومرجعياته، وهذا لن يمنعه من التكيف مع مستجدات العصر، في إطار القواعد والمعايير المعترف بها داخل الفن العالمي.
أما مسألة انفتاح الفن الغربي على المتاحف، يقول الخطيبي: تعود فكرة ≤المتحف≥ وتارخ إنشائه إلى القرن التاسع عشر. ويعود ذلك إلى ما توارثته العائلات الأرستقراطية والبرجوازية من تحف وأشياء جميلة“. فالعائلات المرموقة كانت تحتفظ بالأشياء الثمينة التي ورثتها على مر التاريخ، لأنها تعتبرها جزأ من حضارتها وموروثها الثقافي، للحفاظ عليها من الإتلاف والضياع، ومن أجل استدامتها للأجيال القادمة. أما عند الشعوب الإسلامية، بالرغم من توفرها على أشياء ثمينة من حلي ومجوهرات وتحف، لم تكن تعرف هذا النوع من الفضاءات، مما أدى إلى تشتت موروثها وتوزعه في متاحف غربية، ف ”تظل المنقولات لذلك غير معروفة عند مالكيها. وعن هذا الكتمان نجم تبدير موروث ذي قيمة نادرة، بين متاحف أوروبا و أمريكا الشمالية وبلدان غنية أخرى. وهكذا تم تصنيف الأشياء الجميلة المنقولة من الحضارة الإسلامية في أقسام ≤الفنون الجميلة≥ أو المتاحف الإثنوغرافية ومتاحف الحضارات العجائبية“.
غير أن هذا الوضع لم يدم طويلا، حيث برزت محاولات للنبش في هذا الموروث الثقافي العربي العريق، من قبل فنانين وكتاب ومبدعين، بدأ من ”إنشاء مجموعة الفن والحرية سنة 1938 من قبل الكاتب المصري جورج حنين(1973-1914) برفقة الفنانين التشكيليين رمسيس يونان(1966-1913) وفؤاد كمال،(1973-1919) وكمال التلمساني(1962-1910)، لكن أيضا برفقة كتاب آخرين كألبير كوسيري وهنري كورييل وإدمون جابيس. وقد تفثتت هذه المجموعة دينامية خاصة في الحياة الثقافية والفنية، من خلال المقالات والمجلات والكتب والصور والمعارض...“، وهكذا أصبح للموروث الثقافي العربي الإسلامي يحفظ ويتداول بشكل تشخيصي، حتى يكون الجميع قادرا على معرفته والتأمل في شأنه، وربما البحث في أصوله ومكوناته، إذ تميزت هذه المرحلة بالعلاقة بين الفن والسياسة أو القول التمرد السياسي عن طريق الفن.
وبموازاة مع هذه الطفرة النوعية في تاريخ الفن العربي الإسلامي، قطع الفن الغربي أشواطا مغايرة غير تشخيصية، في إطار موجة من العلامات والرموز والتقنيات، مع العلم أن أوروبا في القرب التاسع عشر كانت تعاني من حالة التدهور والأزمة الخانقة، إذ يقول الخطيبي في هذا الصدد: ”وحين ظهر هذا التوجه السوريالي، الأصيل والهامشي في الآن ذاته، في الحياة العامة المصرية، كان الفن الأوروبي قد تطور حثيثا نحو أسلوب غير تشخيصي منهجي ونحو تفكيك نشيط. كان هذا التفكيك، الذي فك أوصال نظام التمثيل عبر هزات عنيفة....“. فقد طرح الخطيبي تساؤلات حول درجة التقدم الذي عرفه الفن العربي الإسلامي، بالرغم من اعتماده على السوريالية التي كانت تتماشى مع توجهات الغرب أنذاك، ومسألة تطور الفن الغربي مقارنة مع الفن العربي الإسلامي رغم الأزمة الخانقة التي كان يعرفها الغرب بقوله: ”هل كان الأمر يتعلق بسوء تفاهم؟ ألم تقم مجموعة الفن والحرية فقط، عبر المحاكاة بإعادة إنتاج التداعي الحر بين الكلمات والصور الذي كان عزيزا على السوريالية في سنواتها الأولى؟“، إذ يجيب في نفس الآن على أن بعض أعضاء مجموعة الفن والحرية حاولوا السير على الطريقة التي انطلقوا بها، بقوله: ”نعم، من دون شك، فقد استمر رمسيس يونان، وهو أحد أعضاء المجموعة المؤسسين، في طريقه“.
وقد ذكر الخطيبي تجربة فنانة حاولت السير على نفس النهج، والتي عملت على الربط بين الفن والسياسة، وواجهت مضايقات وعوائق وبالرغم من ذلك نجحت في تحقيق حلم التمرد السياسي عن طريق الفن، إنها ”إنجي أفلاطون(1989-1924)، وهي تلميذة للتلمساني، على تحقيق هذا الاتحاد المحلوم به بين الفن والتمرد السياسي. وقد مكنها الاعتقال،(...)، من الاشتغال أفضل على لعبة الأنوار“. إن ما تعرضت له إنجي من وراء أعماها و إنجازاتها يجعلنا نحكم على أن عملها يندرج ضمن الفن الملتزم، الذي يحاول إيصال الحقيقة عن طريق التعبير الحر، ودون تملق أو كتمان. وبخصوص مميزات عملها، باعتبارها امتدادا لأفكار لمجموعة الفن والحرية، يقول الخطيبي: ”تنتظم مناظر إنجي أفلاطون برشاقة وميل نحو المنمنمة، وتشبيك الرسم واللون على خلفية موحدة. هذه الأعمال ذات المنزع النسوي واليساري والمسلحة بثقافة كونية تعتبر في الآن نفسه راهنة ولازمنية في بلد مثل مصر يتهدد الاندثار أعمدة حضارته العميقة“. وبذلك، تعد إنجي مثالا للفنانة العصامية، التي تحدت السيطرة وسعت نحو استقلالية الفن باعتباره وسيلة من وسائل التعبير الحر.
يقدم الخطيبي مجموعة من الأمثلة لأعمال الفنانين العرب الذين أبدعوا في لوحاتهم التشكيلية، مركزين على إظهار الموروث الثقافي العربي الإسلامي، باعتمادهم على وسائل وتقنيات وفق معايير محددة. وهي كالتالي :
-محمد خدة، من مواليد 1930 بمستغانم(الجزائر)
منطقة القبايل، 1960، 130 ͯ 217 سم، زيت على القماش
-رشيد قريشي، من مواليد 1947 بعين بيضا (الجزائر)
تكريم ابن عربي، منشأة برباط سوسة
-مروان، من مواليد 1934 بدمشق (سوريا)
وجه، 1999، 103 ͯ 78 سم، ألوان مائية و إكريليك
-محمد المليحي، من مواليد 1936 بأصيلة (المغرب)
تجلي، 1982، 150 ͯ 120 سم، إكريليك على الخشب
-عباس صلادي، 1992-1950 (المغرب)
بدون عنوان، 1981، 45 ͯ 37 سم، ألوان مائية وحبر على الورق. (مجموعة المعمل، الرباط)
-منى السعودي، من مواليد 1945 عمان(الأردن)
المرأة الطائرة، 83 ͯ 83 ͯ 13سم، مرمر أبيض.
-إلياس الزيات، من مواليد 1935 بدمشق (سوريا)
أطفال وعصافير ومدينة، 1971، 130 ͯ 130 سم، زيت على القماش.
وقد تميزت كل لوحة فنية بمجموعة من المميزات، منها الطريقة والتقنية والألوان والأحجام والأشكال الهندسية، إضافة إلى الزخرفة والمنمنمات.....، حيث أنها صورت مظاهر من الحياة اليومية التراثية والتاريخية التي تجسد للمعيش اليومي للإنسان العربي، إذ أن لكل لوحة إطار خاص يجسد لمكان وزمان معينين. وكلها أعمال عبرت عن أصالتها وإحيائها للماضي العريق مسايرة المعاير والتقنيات المتعارف عليها بأسلوب حضاري متميز، وإن هذا من شأنه أن يعبر عن موروث ثقافي عربي إسلامي يندرج في التاريخ والمدونة التي شاركت في بناء المعصارة والحداثة، وليس بالشكل الذي يروجه الغرب.
و عن الفنانين التجريدين الذين تلقوا تكوينهم في المدارس الوطنية أو في الخارج، و الذين ظلوا في بلدان خارجية أو رجعوا إلى وطنهم أو بقوا يتراوحون بين وطنهم والخارج، أكد الخطيبي أنه مهما كان نوع استقرارهم فإنهم يحملون ذاكرة فنية تجسد للموروث الثقافي المحلي وذلك لأن "العمل الفني يرحل في الزمن والمكان مصحوبا بذاكرة المحمولة"، إذ أنه يعتبره " عبارة و تعبير للأعمال الفنية عن تنقلاتها من الرسم إلى الأروقة، إلى المجموعات الخاصة، ثم المتاحف". وبهذا الشكل قطع الفن التجريدي مراحل و عرف تحولات عميقة حسب الطرق و الظروف التي حكمت مساره، ويبقى الفنان العربي سفير وطنه أينما حل وارتحل، يعبر عن أحاسيسه وانفعالاته في بلاد الغربة، وعن شوقه لوطنه من خلال استحضار كل أشكال التعبير التي تستنطق موروثه العربي الأصيل.
وعن هذا الموضوع، ذكر الخطيبي تجربة شفيق عبود "الذي ارتاد مرسم فرنان ليجي وأندري الحوت وآخرين، ينتمي لمدرسة باريس. لكنه، فيما وراء هذا الانتماء، يمتلك أسلوبه الخاص الذي يجد مرجعيته في ما بعد الحرب وابتكاراتها" : فشفيق بالرغم من تلقينه تكوينا في مدرسة باريس، إلا أنه ظل محكوما بمرجعيته وأسلوب حكمتا أعماله الإبداعية، و يتعلق بمخلفات الحرب العالمية الثانية، وبالتالي حاول النبش في ما تركته هذه الحرب من دمار، وما ترتب عنه بعد ذلك. و يؤكد الخطيبي أن "التجريد الذي نتحدث عنه موقف ذهني و فعل يعيد هيكلة العلاقة بين المرئي واللأمرئي"، أي أنه قناعة وتطبيق، يساهم في إعادة بناء الروابط بين المظهر التصويري وما يختزنه من معاني ودلالات وأبعاد إيحائية، بما يساعد المتلقي على الفهم و التأويل.
مجموعة من الابتكارات الفنية العربية وجدت في الحركة التجريدية أسلوبا ومنهجيا، والتي استقت أعمالها الفنية من ثقافات وطقوس الشعوب الشرقية، خاصة الصين واليابان، فالعمل الفني، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، مع ظهور الحركات الطليعة التجريبية، شكل فضاء للحوار والتقاطع بين الحضارات بمختلف أنواعها، و "كثيرة هي الحركات التي وجدت أصلها في ابتكارات كاندانسكي، وبول كلي، وموندريان، ومالفيتش، وماتيس، ودلونيي، فيما كان الأمريكيون يكتشفون في بلادهم، بحماسة و حتى الدوار، الحرية الحركية أو حرية الفن اللامتحدد informel، و منحى تجريديا يدين بالكثير لفن الخط الصيني و الياباني". فقد انجذب العديد من الفنانين والباحثين الغربيين، ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر نحو الشرق وإفريقيا، من أجل البحث والتنقيب في الطقوس والعادات والتقاليد وكل أشكال التعبير الأخرى، إذ شكلت الثقافة الصينية واليابانية على وجه الخصوص فضاء رحبا للباحثين الغربيين. وقد أعطت رحلة الغرب إلى الشرق نفسا جديدا للثقافة الغربية، إذ دخلت الحضارات في حوار دائم ومستمر، في تبادل وتفاعل مزدوج.
و عن أعمال الفنان شفيق عبود، الذي ينتمي لهذه الحقبة، يقول الخطيبي: " ففي لعبة الطفل (1961) مثلا، فإن لمسة النظر، الذي يملك رؤية لمسية، تبدو محمولة على توازن بين النبرات والتناغمات، مانحة لهذه اللوحة إشراقا يظل اللون محتفظا بمقياسة ...". تلك هي مواصفات و مميزات أعمال عبود الذي أثبت في عمله الفني أنه يربط بين المرئي واللامرئي، من خلال التوازن بين النبرات والتناغمات، مستعملا اللون بشكل منظمم ومرتب ترثيبا يحافظن على المقاسات. إضافة إلى أن عبود ظل محافظا على قيم ومكتسبات الحضارة العربية. كما قدم الخطيبي نموذجا أخر تمثل في أعمال الفنان الجزائري عبد الله بنعنتر ، التي ظلت ”مرتبطة أصلا بالتجريد الحركي السائد في الستينيات، قبل أن تتطور باتجاه أسلوب مستقبلي وتجريبي، فإنها تمتاز باستمرارية رائعة. فقد امتلك هذا الفنان بعض مكتسبات التجريدية الغربية بسعادة غامرة، باعتباره حفارا ورساما ومصورا لأكثر من سبعين كتابا فاخرا مهداة لشعراء مرموقين...".
غير أن بنعنتر سار على نهج آخر ذي طابع محلي، من خلال شخصنة مناظر طبيعة مليئة بالحيوانات والنباتات باعتماد قوة وجاذبية اللون، كل ذلك نابع من حسه الفني المرهف، إذ يقول في حقه الخطيبي : "بيد أن بنعنتر يتحدث أيضا عن نور من نوع آخر، أي عن نور محلي تستضئ به جهة معينة ومواقع ومناظر معينة. إنها لفكرة رائعة أن يقوم بشخصنة الضوء الطبيعي والإقامة فيه باعتباره شعاعا متحولا ...".
إن العمل الذي يقوم به بنعنتر، خارج وطنه، بإحياء تراثه واستنطاق الماضي العريق، يساهم في خلق جسور التواصل والحوار بين الحضارات، من خلال الشخصنة والتجريد، محاولا استنطاق الطبيعة ومكوناتها، وإثارة انتباه المتلقي إلى بعض صورها الجمالية، ويسشهد الخطيبي بموقف مونيك بوشي تجاه عمل من أعمال بنعنتر، من خلال قوله: "تدعونا مونيك بوشي، بعمقها الشاعري، إلى تأمل سلسلة الزائرات لبنعنتر: "أحيانا، وبالرغم من عتمة الليل، تصل الزائرة الملهمة إلى مرتبة جمال لا يضاهى، وأحيانا أخرى تبدو الكتلة المقشرة كما لو أنها تتماوج....."
يرى الخطيبي أنه "منذ أكثر من نصف قرن والفنان العربي الحديث لا يكف عن تملك تراثه ونظام أشكاله ومعه بعض مكتسبات الفن التجريدي العالمي. وهو أحيانا يستدرج نفسه نحو تجريدية ذات طابع عربي، حيث لا أولوية للعلامة ولا عودة للأقانيم التقليدية..."، وهو بذلك، أي الفنان العربي الحديث، يحاول التشبث بتراثة وأصالته والتي طبعت أعماله الابدعية، محاولا استثمار ما تعلمته حول التجريد في إطار الفن العالمي لكن مطبوعا ومؤطرا بالذاكرة الجماعية العربية، محاولا صياغة تجربة إبداعية بشكل تدريجي عربي في تجاوز تام للممارسات الفنية التقليدية.
و في هذا الصدد يذكر الخطيبي بأعمال أحد الفنانين التونسيين الذين تتماشى تجربتهم مع هذا الاتجاه، بقوله: لقد عنون الفنان التونسي رفيق الكامل(المولود سنة 1944) أعماله لسنة 1987: تحويلات. التحويل انطلاقا من تقنية التغطية، وربما إن الخلفية ذات لون واحد فإنها تصعد إلى السطح، هنا وهناك، في تأليف دينامي، يترجم الألوان والأشكال إلى عوارض قاطعة".
يقارن الخطيبي درجة التماطي مع استقلالية اللون في الأعمال الفنية بين الفنانين الغربيين و فناني الحضارة العربية الإسلامية، إذ أن استقلالية اللون في الغرب، و التي تأثرت بها كل من أعمال عبود و بنعنتر و غيرهما، وقد "كانت هذه الاستقلالية عبارة عن فتح تدريجي، وذلك عبر أعمال، غوغان وفان غوخ و سيزان و الانطباعيين"، على خلال استقلالية اللون عند الفنانين المنتمين إلى التراث العربي الإسلامي، حيث هناك الأشكال والزخرفة والهندسة المطلقة... يقول الخطيبي: أما في المجال الحضاري العربي الإسلامي فإن تلك الاستقلالية تندرج في نسف من الأشكال وتعادل التنويع في المظاهر التي تتلاعب بها قوى الزخرفية من خلال الهندسية المطلقة وأشكالها التوريقية ذات المنحى المتاهي".
هذه الصفات التي يتميز بها الفن العربي الإسلامي تجعله مجالا خصبا وقابلا للتوظيف والتداول عبر الثقافات، كذلك محل جذب واهتمام، وهذا ما نعطيه الديمومة والاستمرارية بميزته الخاصة التجريدية الهندسية، والتي يصفها الخطيبي "بعناصر متعددة، كالمويجة و المربع السحري، والمضلع النجمي، وأشكال أخرى مستقاة من الفسيفساء، والمعمار وفن الخط والفنون والحرف".
و في إطار العودة إلى التراث والاشتغال عليه في أعمال فنية بارزة، يذكر الخطيبي مجموعة من الفنانين الذين عبروا بشكل إبداعي محترمين مميزات الحضارة العربية الإسلامية، ومن بينهم "الفنان اللبناني صليبا الويهي إذ يقول في حقه: الأول الذي فتح الطريق نحو فن هندسي صارم، مغتن بمؤثرات جديدة. إن ممارسته للفن الجداري وللزجاجيات، التي تحتفظ كما نعلم ببعض أسرار اللاهوت و التصوف، وعشقه للوحات الكبرى التي يمتد على مساحتها لون طاغ لا يكف عن صياغة عصابات رقيقة في جوانبها...".
أما بخصوص أعمال الفنان المغربي محمد المليحي، و التي تأتي في نفس السياق لكن بشكل مغاير، "ثمة المويجة والمويجة على الدوام، بالرغم من أنه قد استدعى، في الستينيات، سلسلته من المربعات الصغيرة باعتبارها تمارين في الإيقاع بين الهندسية واللون، ملتحمة في الحركة نفسها". كما يذكر الخطيبي بالتقاطعات بين الحضارات، خاصة الشرقية والعربية الإسلامية، عبر الفن، و خاصة في ما يتعلق بالهندسية وتوظيفاتها، "ربما كان علينا أن نذكر بأن هذه الهندسية التي يتحدث عنها الفنان بعبارات تنتمي للتصوف الياباني (زين) مسكونة بقوى الزخرفة، النابعة من الفن العربي الإسلامي، سواء منه الأرستقراطي أو الشعبي...". يدرج الخطيبي أعمال هؤلاء الفنانين، خاصة في ما يتعلق بممارستهم للهندسية الخشبية، ضمن "النزعة البنائية التي يمكنها أن تراهن على أحد عناصر هذا التشكيل كاللون أو العلامة أو الشكل المتوالي أو خصائص المادة. و تكون البنائية الهادئة أو محايدة حين تبرز تأليف حصريا وواضحا، أما ذا صبغة هندسية أو سيميائية".
يرى الخطيبي في هذا الإطار، أن الذي يعتمد على الزخرفة واستقلالية اللون والهندسية المطلقة، عن طريق هذه النزعة، يمكنه بناء عمل فني منسجم ومتكامل الأجزاء، يفتح مخيلة المتلقي لسبر أغوار المنتوج التصويري، سواء المتجسد في الواجهة والمظهر الخارجي، أو المختفي المتعدد الأبعاد.
يضرب الخطيبي مثالا عن هذه النزعة في "بنائية الفنان المغربي فريد بلكاهية( المولود سنة 1934). إنها أعمال رائعة لفنان بحاثة، مرتبط بالاستقلال الخيميائي للمادة، مستكشف الفنون الاستعمالية ومعها الفضاء اللامتحدد بين الشكل والنحت. يواجه بلكاهية النحاس، ثم الجلد المبسوط على ألواح خشبية، بطاقة كبرى بحيث أن شفافيتها القليلة المعالجة تقنيا تلطف بعض الشيء من حدتها وتوترها، وهو يزخرفها بالعلامات والرموز و الشعارات الرمزية...“.
كما يذكر الخطيبي بالفنانة الفرنسية المغربية نجية المحاجي التي سلكت نفس الاتجاه في التقنية الهندسية الخشبية، إذ يقول في حقها: إنها تتابع بحثها عبر تجريدية هندسية مؤسلبة حتى يغدو الرسم البياني خالصا برموزه العتيقة، المصرية والإغريقية والمتوسطة، إنه تشكيل بالغ التقنية، فهو تأمل في الصمت الذي تجسده تنويعات الصور الهندسية باعتبارها مظاهر للنظام والكمال والمعمارية الحسية ذات الأبعاد الرفيعة". وبهذا عملت نجية على استدماج أشكال وأنواع من الرموز والعلامات المختلفة من ثقافات مصرية وإغريقية، وبذلك انفتحت على تراث آخر وربطته بالثقافة المغربية، بالرغم من أنها تزاوج بين الفرنسية والمغربية.
كذلك الفنان المصري آدم حنين الذي اعتمد على التحويلات مثله مثل بلكاهية بالتركيز على ورق البردي والتمثال، حيث كان إبداعه بشكل يبعث الروح في المنسي، والذي وأظهره بطريقة حديثة عن طريق الحجر والبرونز والجبص، "و من ثم نجد في أعمال حنين ذلك النسيج ذا الألياف المتشابكة، والمظهر والمحبب، الذي وهو يمتص اللون المائي (...) يزج بنا في تناغم متجانس بين النبرات الدافئة". وبذلك، جعل من أعماله الفنية إحياء جديد لموروث قديم لا يعترف بحدود الزمان والمكان، قدمها في شكل متكاملا و متناغم في تسلسل واضح، الأمر الذي جعل الشاعر الفرنسي "ألان بوسكي" يشيد بإبداعاته الفنية، بقوله: ثمة إحساس بالهشاشة المدموعنة وذات المدى الطويل، كما لو أن كل ورقة قد تأكسدت بفعل توالي القرون، إنه فن مكتمل ومتكامل".
وبهذا، العمل التشكيلي الذي ينجزه آدم حنين نابع من رجوعه إلى التراث الفرعوني الأصيل، الذي جسده عبر تماثيل مختلفة ومتنوعة، في تسلسل متناغم للعلامة، في طابعها التجريدي والتشخيصي، وهذا العمل وظفه في التشكيل والنحت حيت "ينبثق إحساس بالتوازن والاستقرار والصمت والأبدية الهاربة من تواصف المساحات هذه، حيث تتسلل خفية هذه العلامة أو تلك النابعة من ذاكرة تلذة".
فكل فنان من الفنانين العرب يعمل على اعتماد أسلوب ومنهج معينk بتوظيف أساليب وتقنيات حديثة من أجل محاولة إبداع إنتاج فني يحاول فيه أن تكون وفيا لأصالته وتراثه، والانفتاح على معايير وتقنيات الفن الحديث، حتى وأن اختار فضاء بينيا باعتباره مهاجرا خارج الوطن. وبهذا يربط جسور التواصل والحوار والتبادل الثقافي بين ثقافته والثقافات الأخرى، دون تقزيم الآخر أو النيل من ثقافته.
فإذا كان آدم حنين قد أبدع في فن النحت مقارنة مع فن التشكيل، فإن الأردنية منى السعودي أبدعت في فن النحت مقارنة مع فن المعمار. و قد تجلى عملها الإبداعي في النحت في الأسلوب والتقنيات المعتمدة، وكذلك في الوسائل والمتن الذي حمله إنتاجها الإبداعي، الأمر الذي دفع الخطيبي إلى الاستشهاد بهذه الفنانة المغربية الوفية لأصالتها العربية والساعية إلى اختراق ركب الحداثة والمشاركة فيه، بقوله: إن اعتماد هذه النحاتة المتميزة على مواد متنوعة، من الحجر الجيري الوردي لإربيد حتى رخام كارار كي ينهض تمثالها على قاعدة من الأشكال والأساطير، يظهر كيف تضع امرأة مسلمة موهبتها في خدمة خيال مادي فعلي و حداثة ابتكارية، متماشية مع التحولات العميقة التي تخترق المجتمعات العربية".
و في سياق آخر، بعيدا عن البنائية والنسيجية، و من داخل الفن التجريدي، و في إطار الاهتمام بالحركة الارتجالية، يقترح الخطيبي، ومن منظور مخالف، فنا مغربيا وفيا لتراثه الأصيل مرتبطا ببيئته و كل مكوناتها، إنه الفنان الجيلالي الغرباوي الذي اهتم بالحركة واندفاعية الألوان، حيث يجسد إحساسه المرهف في لوحاته الإبداعية، إذ يقول الخطيبي في حقه: "إنه فنان حركي، أي فنان مشدود إلى الرؤية المباشرة والدوار والعاصفة، و الدخول السريع في اندفاعية الألوان. هكذا هو يحول ألمه(الذي كان عميقا وكبيرا) إلى صور وتجريد غنائي إلى درجة غدا معها المكروه الذي صاحبه مفككا أمام أعيننا. إنه تحول يتحقق بفضل ملائمة فورية بين الرؤية والحركة واللون. وفي لوحته الغواشية على الورق، نظل معجبين بالقوة الجامحة والصمت المخملي، والطقوس السحرية للصدفة والتخلص من وطأة الفتنة....". تلك هي مميزات أعمال الغرباوي، بأسلوبه المتميز، في ممارسته للتجريد، باستعمال هواجسه وآلامه واندفاعاته، في محاولة منه إلى ترجمة كل هذا في بناء متكامل منسجم، تنقشع منه معالم التراث المغربي الأصيل بأساليب وتقنيات حضارية متجددة.
و الغرباوي كفنان مغربي شكل التراث في كل إبداعاته نقطة انطلاقه وتركيزه الأساس، كغيره من الفنانين المغاربة والعرب عامة، من خلال إنتاجاته في صور حركية تتحدث عن نفسها أمام ملتقي بإمكانه قراءتها وتحليلها وفهمها، نحو المساهمة في بناء الحداثة التي ادعى الغرب أنه المؤسس الوحيد لها، وفي محاولة من الفنانين العرب لتجاوز مركزية الغرب و الدخول في حوار بين الحضارات من داخل فضاء بيني مشترك يتجاوز الإقصاء والسيطرة.
و هو النهج الذي دأب عليه الفنان المغربي محمد القاسمى بقوله: "أنا أفك وأكتب بالمقلوب التوريقات والزخارف النباتية والعقدة التجريدية للإسلامي". و هو فنان سعي في أعماله، سواء في التشكيل أو الكتابة، إلى محاولة تسلق ركب الحداثة من خلال فك رموز التراث العربي الإسلامي في جزء منه، إذا قال عنه الخطيبي: لتتصوروا إنسانا يرسم ويمارس التشكيل والكتابة ويستكشف، انطلاقا من تعدديته الفنية تلك، الممكنات الجديدة للوحة والجدار أيضا والمنشآت والأعلام على شاطئ المحيط الأطلسي، إلى درجة لا يمكننا إلا أن نفكر معها هنا بصورة الأطلانط.... فأعماله الإبداعية حظيت بمكانة مرموقة استهوت العديد من المتتبعين والفنانين، ”رأى البعض أنها تقترب من تيار الفعل التشكيلي (Action painting) الأمريكية وكاهنها الأكبر جاكسون بولوك. ".
إنه فنان عبقري وشغفه يتحاور مع الطبيعة ويوجه أعماله بكتاباته التي تعبر عن منهجية وطريقته في العمل إذ يعد ”مهووسا بمسعاه الخاص، باعتباره بحثا عن الحد والأثر". الحد و الأثر مفهومان رأى القاسمي أنهما محركان رئيسيان للاشتغال على التراث أو الموروث الثقافي بكونه يجسد للذاكرة الجماعية المغربية، حيث تظهر الآثار في مكونات وعناصر اللوحة، عبر اللون وطريقة الاشتغال وتسلسل الأحداث، و من خلال القوة الخارقة التي تنفجر من الجسد بوصفه علامة وحامل للعلامات، و عن الحد يقول الخطيبي: "نستطيع القول أنه يشتغل داخل وخارج هذا الفضاء التشكيلي". يضيف كذلك، أن الحد هو ما يشد الفنان إلى هويته وقد تحولت إلى صور وعلامة ومفهوم. أما الأثر فهو: "الذاكرة والموروث البصري والكتابة، ورسم الحركة وإيقاعها القاطع والمتراكب فرشة على الأخرى، وذلك حتى نهاية اللوحة". يعتمد القاسمي على مفهومين متلازمين أحدهما يكمل الآخر، الحد له علاقة بالانجذاب إلى الهوية بعد تحولها إلى رموز وعلامات وأجساد وأشكال، أي في أثر واضح لتراث غني ومرموق، و بذلك، يبحث في التراث على الحياة من خلال الحركة الدائمة، و من خلال آثاره الواضحة على اللوحة.
إن العمل الذي يقوم به الفنان، والذي يشتغل فيه على الموروث الثقافي الأصيل، يحوله إلى أثار واضحة تظهر وتختفي عبر الألوان والرموز والعلامات والأشكال بكل أنواعها، يجعله ينخرط في بناء حضاري يتجاوز الزمان والمكان، يجعل منه فنانا مبدعا محترفا، ذلك هو حال الفنان المغربي فؤاد بلامين الذي يقول الخطيبي في حقه: ”أكثر تركيز على المادة ولعبة الذاكرة التي تفرزها في حياة الفنان . وبعد أن كانت ذات منحى تصوري وإقلالي، بدأت تلح على التوافق الذي يربط بين الحركة وتحولات المادة، وبين خلق للأشكال يمكنه أن ينبثق من التوتر الفضائي ومأسسته“. إنه بناء من نوع خاص، يربط الألوان ببعضها في تناسق وتناغم وتسلسل يعطي لعمله الإبداعي قيمة ودلالة تجذب انتباه المتلقي وتفتح مخيلته للتحليل والتفسير والتأويل، إذ يصبح لعمله الإبداعي أثرا يترك بصماته في التاريخ يتنافس مع أعمال أخرى، وينخرط في بناء حضاري في شقه الفني، من خلال التركيز على ثلاث عناصر أساسية: ”العلامة والمكان والذاكرة“ .
وفي نهاية هذا الفصل يؤكد الخطيبي أن محاولته هذه تعتبر بمثابة مدخل لإثارة بعض المفاهيم المتداولة في النقد الفني، مع التركيز على الروابط التي تجمع بينها والتي تعرف إهمالا ونسيانا، إذ عمل على ”تأكيد العلائق اللامفكر فيها بين التمثيل والتجريد والتشخيص والعلاقة والشكل واللاشكل“. إذ شكل التجريد وحدة الفصل الأساسية للمناقشة قصد تقديم تحليلات ملائمة لرهانات الفن العربي المعاصر، هذا الفن الذي يحضى بقيمة سامية وعريقة باعتباره موروثا رفيعا ينتمي لحضارة العلامة.
7.من النحت إلى الفيديو
يرى الخطيبي ”إن التشكيل، ومفهوم التشكيل يتغيران تبعا لفن متعدد التقنيات، يحركه هاجس الشاهد والتوليف، أي توليف بين الشكل والتصوير الضوئي(الفوتوغرافيا)، وبين الديزاين والفوتوغرافيا والمنجزة Performance والفوتوغرافيا والسينما، والتشكيل والنحت، والنحت والمعمارة، والديزاين والمعمارة، والمواد واللامواد، حتى التيه. إن هذا التوليف يندرج ضمن ثقافة لهوية جديدة، وضمن ميل واضح للسينوغرافيا(المشهدية)“. إن هذا الشكل الجديد في الفن الذي ينبني على الشاهد والتوليف بين مجموعة من الأشكال الفنية الأخرى، هو توجه جديد أفرزه الانخراط في الفن العالمي وضرورة استغلال التقنية العلمية، ومواكبة مستجدات السوق العالمية ومبتكراتها، لكن دون التخلي عن الأصالة والهوية، غير أن هذا النوع أفرز ”عزلة الفنانين العرب في ≤حركة العالمية≥ هذه“.
فقد تعددت توجهات الفنانين العرب، منهم من اتخذ فضاء بينيا بين الحضارات، ومنهم من بقي متشبتا بثقافته وأصالته، إذ يؤكد الخطيبي في هذا الصدد: ”إنها نقطة الهروب، والسرعة، ودوخة الأصوات والصور والذاكرات“، أي أنه فن يحاول مسابقة الزمن، وتقديم الجديد بأسرع ما يمكن في ظل تعدد الثقافات والهويات، في زمن غلبت عليه ثقافة الصورة، وأصبح فيه الشاهد مسيطرا وغالبا على الأشكال الأخرى. ”فنحن في بداية هذا القرن، لانزال نسعى للتعرف بدقة على دور الفنان في علاقته بثقافته ودينه ونقط هويته المتوسعة في الزمن الآتي، وقدرته على ابتكار المستقبل“.
منذ أعمال محمود مختار مؤسس النحت المصري الجديد، لم يكف النحت العربي عن إعادة تملك ماضيه، ذلك الماضي الثقيل الذي كتبه التراث الإسلامي وأنساقه الفقهية الصارمة. ومنوقتها، تكيف النحت مع جمالية ذات منحى صوفي، سواء كانت تشخيصية أو تجريدية. وبهذا المعنى، ظل النحت العربي وفيا لثقافته ولموروثه القديم، غير أنه اتخذ مسارا صوفيا، والذي طبع منحاه وتوجهه، إذ أن الفنانين تأثروا بهذا الاتجاه منذ تجربة محمود مختار. ومن بين الأعمال الفنية، خاصة التي ركزت على النحت، وحاولت التركيز على الموروث الثقافي الإسلامي في منحاه الصوفي، التشخيصية والتجريدية، يذكر الخطيبي بأعمال الفنان اللبناني شوقي الشوكيني، الذي يستخدم ”ورق الضامة ولعب الخط وتماثيله الصغيرة المتاهية“. هذا الفنان يحاول استعمال أشيائ بسيطة لتصوير قضايا كبرى، حيث يستخرج من الخشب والرخام لوحات تعبيرية ممزوجة بالألوان والأشكال والمنحنيات وغيرها، وقد صرح الشاعر صلاح ستستسه قائلا: ”....عرفت أعمال الشوكيني البساطة لصالح المنحنيات والخطاطات. وبما أنه يتعامل مع المادة، من خشب ورخام، كما لو كانت مرقنا Clavier، فإنه يستخرج منها تنظيمات شكلية قوية ورفيعة ينطبق عليها من فوق الاقتراح التشخيصي“.
إضافة إلى فنانين آخرين من بينهم ”ندا رعد(المولود سنة 1934) بإضفاء طابع درامي حاد عليه، وذلك بتأليف لأشكال مجزأة، وتجميع لصفائح وقضبان الحديد،... أما مهدي موتشار(من مواليد 1943) فإنه يفضل المنشأة Installation، وهي مفهوم وسط بين التجريد الهندسي الإقلالي(المربع، المضلع النجمي، المعروف في الإسلام) والبساطة الكبرى للمواد، كما يبدو ذلك مثلا في تلك سلسلة من الآجر أو العواميد الخشبية...“. هؤلاء الفنانون حاولو تقديم أعمال غنية بحمولاتها الثقافية الوفية للموروث الحضاري العربي، وذلك من خلال التنويع في الأشكال والوسائل والتقنيات ومواضيع الاشتغال، لتبليغ رسالة هادفة، ذلك هو العمل الذي يسعى إلى إثارة انتباه المتلقي إلى جوانب مهمة من الوجود والحياة، باعتبار الفن وسيلة من وسائل تخليق الحياة والإعداد للإندماج في المجتمع.
وفي نفس السياق، يقول الخطيبي: ”ويقدم لنا ثلاث مواهب من أصول جزائرية، هم يامو وعبدي وشريف، محتوياتهم من الزجاج والحبال والخشب والمعدن، فيما يقدم لنا المغربي محمد حجلاني، بمرتجلاته التي تمتح من الذاكرة الحية لصناع مراكش باقة من المواد، من خشب نادر عطر وفضة وعظام وحبال القنب، ليدعونا إلى مظاهر زخرفية أخرى منسوجة في الأثاث، من ضمنها أيضا فن الخط والتمائم والأرقام،...“، كما نجد معالم واضحة ومتجلية في الأعمال الفوتوغرافية للفنان المغربي التهامي الناضر، التي يعتبرها الخطيبي: ”حد لتمثيل الجسد. لكن بأي جسد يتعلق الأمر هنا؟ وإذا كانت الفوتوغرافيا حسب رولان بارت، تمكن من عودة الميت والشبح، فإن المشهدية الدرامية العميقة لهذا الفنان تملك ما يجعلنا في حيرة. هكذا يقدم لنا، في طواف غير منتظم وتبعا ̎للمواضيع̎ المطروقة، أجسادا متحجرة وأطفالا يكبرون منذ ولادتهم وأياد غريبة(آسيوية أو مغربية) مشدودة وظهورا متجعدة بل مثلومة،...“. إنه تمثيل للجسد فوتوغرافيا، وما أدرانا ما الجسد بلغته العميقة بوصفه علامة وحامل للعلامات، تجسيد لدراما عميقة من نوع آخر، عودة للحياة والموت، للحاضر والغائب، إنه عمل متميز من خلال منطلقاته ووسائله وأهدافه، في استعادة للماضي بكل مقوماته الثقافية، واستشراف للمستقبل في أبعاده الحداثية المعاصرة.
ويختم الخطيبي هذا الفصل بتجربة الفنانة اللبنانية منى حطوم التي سلكت نفس المسار وتجسد ”هذا الأفق على جسدها وعلى المتفرج، انطلاقا من المنجز والفيديو. فكل جسد ينظر إلى نفسه كمختبر يتجه نحو اللامادي“. ركزت منى على الجسد وما يختزنه من طاقات جبارة من أجل تقديم الجديد الممتع في أعمالها، متجاوزة بذلك التصورات والتنظيرات القديمة. هذا الجسد الذي يعد بمثابة رمز وصورة بكل إيحاءاته وإشاراته وحركاته، إذ من شأنه أن يقدم ما تعجز اللغة الكلامية عن إيصاله. ويمكن القول أن أعمال منى حطوم تعبر عن معانات الإنسان المعاصر، والتي تنعكس على جسده، مثل العنف والصراع والمتناقضات وغيرها. ”ففي الجسد الغريب، تقوم كاميرا دقيقة بتفحص المظهر الخارجي للجسد والبشرة، قبل أن تلج إلى باطن الجسد لتتفحص مناطق أكثر غورا ويستحيل الوصول إليها. وعبر حركة تصويرية دائرية أمامية نشاهد جسدا بلا مقاومة موضوعا تحت المراقبة الطبية، وفضاء غامضا وغريبا معروضا على شاشة دائرية...“. تلك هي مواصفات طريقة منى في العمل وكيف تتصور عمل الجسد في حركاته التصويرية والدائرية.
8.خاتمة
يختتم الخطيبي كتابه المعنون ب ”الفن العربي المعاصر، مقدمات“ بالتركيز على الدور الأساسي الذي يلعبه الفن في تفكيك شفرات النص وجعله قابلا للقراءة والفهم عبر السفر بمخيلة المتلقي إلى أفق أرحب يمكنه من التفاعل والتحاور معه، لأن القراءة تحتاج إلى الخيال الواسع والتأمل العميق. فالفن في نظره لعب دور القاطرة بين النص بكل أنواعه الفنية وبين متلقيه، إذ يؤكد أنه ”حول الخطية إلى مقطوعة من العلامات تقلع بالنص نحو مشهده التشكيلي، أي الزمن المرسوم والمنشود للحرف وتقفيه بين الصوت والمعنى الذين يتناسجان فيه. ونخال الأمر عنكبوتا، وهندسة متحركة ومأسورة تبني ما تراه. وبما أن الخط صورة للتضعيف والتكرار، فإنه يمسرح نهاية الكتاب وخطيته“.
في الوقت نفسه، يرى الخطيبي ”أن حضارة تفاعل العلامات، التي تتطور بسطوة قوية تكبت معها اختلاف الحضارات ومواطنها، تمنح لفن الخط حياة جديدة في فضاء العلم التقني ووسائطه المتعددة“. فالتحول الذي تعرفه الحضارات، خاصة في مجال الفن، هو تحول غير بريئ، لأنه يقلل من شأن حضارة ويرفع من شأن أخرى، تبعا لعوامل إيديولوجية وسياسية أو إمبريالية، كذلك في ظل مجتمع تحكمه الإعلاميات والتقانة الجديدة. كما أن حضارات العلامة الصينية واليابانية والعربية الإسلامية، على وجه الخصوص، تبقى تابعة لثقافة الغرب وتوجهاته الكبرى، باكتشافاته وإنجازاته، بما يستعمله من امتيازات ووسائل، وهو الأمر الذي أصبح يهدد الهوية العربية على وجه الخصوص، إذ يرى الخطيبي أنه ”في العقدين الأولين من هذا القرن، اكتشف العالم العربي التشكيل والفوتوغرافيا، والسينما التي جعلت منها مصر في وقت قصير صناعة للصورة والتي لاتزال مزدهرة الآن في التلفزيون. وقد سبق الاستشراق التصويري تملك العرب للتشكيل على المسند الذي تعايش مع ظاهرة التشكيليين السذج المحليين، كما لو كان هؤلاء نتاجا لذلك. واستمرت ممارسة المنمنمات، غير أنها تعرضت للتطور وأعادت صياغتها الفوتوغرافيا والتشكيل“.
خاتمة عامة
لقد حاول عبد الكبير الخطيبي في هذا الكتاب التطرق إلى أشكال ومميزات الفن العربي المعاصر، وذلك من خلال إبراز أهم الإشكالات الكبرى التي يتخبط فيها هذا الفن، وعلاقته بالمعاصرة والحداثة التي يدعي الغرب أن له السبق في بنائها، على الرغم من أن الثقافة العربية متجدرة في التاريخ، ولها مساهمات ومشاركات على مر الحقب والأزمنة، كما أن بعضها لا يعترف لا بالحدود الجغرافية ولا الثقافية. وقد انطلق من في محوره الأول من طلائع هذا الفن، بالتركيز على أهم ركائز الحضارة العربية الإسلامية الكلاسيكية من زخرفة وهندسة مطلقة ومنمنمات واستقلالية اللون وصفاء الأشكال والقوة الزخروفية والخط والحرف... باعتبارها قابلة للثبات والتغير في نفس الآن، قابلة للتكيف والسفر خارج الحدود.
هذه المميزات والمكونات هي التي جعلت مجموعة من المستشرقين من فنانين وباحثين غربيين ينجذبون نحو الموروث الثقافي العربي، إذ حاولوا النبش في أنواعه وأشكاله التعبيرية وتوظيفها في أعمالهم الفنية، إذ نتج عن ذلك تبادل وتفاعل وحوار بين الحضارات، عبر قاطرة الفن، كما شكل الشرق على وجه الخصوص فضاء غنيا بكل طقوسه وعاداته وتقاليده وكل أشكاله التعبيرية بحثيا للغربيين وغيرهم.
كما تطرق الخطيبي إلى التحولات التي عرفها الفن العربي على مستوى تطوير الأساليب والتقنيات ووجهات النظر، إن على مستوى الرجوع للذاكرة والتركيز على الأيقونة واللغة التشكيلة وغيرها، إذ أصبح لكل فنان منزع معين يؤطر عمله الفني، فمنهم من حاول الرجوع للموروث الثقافي، ومنهم من فضل الاستقرار في فضاء بيني بين الحضارات، ومنهم من ولع بالثقافة الغربية. وبين هذا وذاك شكل التبادل على مستوى الأشكال التعبيرية الثقافة نافذة للحوار والتفاعل بين الحضارات على المستوى الفني. كما عمل الخطيبي على إبراز الأولوية التي تحظى بها العلامة في جل الأعمال الفنية للحضارة العربية، واعتبرها حضارة العلامة، عن طريق الخط والحرف والأشكال الهندسية والتشخيص والتمثيل.
كما حاول الخطيبي ذكر مجموعة من الفنانين العرب الذين تفردوا في إنتاجاتهم الفكرية، من خلال تركيزهم على الموروث الثقافي بكل مكوناته. وقد عمل هؤلاء الفنانين على محاولة إحياء الماضي ورد الاعتبار للذاكرة الجماعية. كما تطرق إلى التجريد الذي طبع أعمال العديد من الفنانيين العرب. وفي الفصل الأخير تطرق إلى مرحلة مهمة من مراحل الفن وهي التحول من النحت إلى الفيديو، حيث أشار إلى التأثير التي تتعرض له الهوية بفعل التقنية والإعلاميات، والتي أصبح معه الفنان ينسلخ من ثقافته الأصلية.
بيبليوغرافيا
عبد الكبير الخطيبي، الفن العربي المعاصر، مقدمات، ترجمة فريد الزاهي، مطبعة عكاظ الجديدة-الرباط، ماي 2003.
فريد الزاهي، فتنة الحواس، كتابات عن الفن العربي المعاصر، مطبعة النجاح الجديدة- الدار البيضاء، ط1، بدعم من وزارة الثقافة، 2016.
خالد أمين، المسرح ودراسات الفرجة، المركز الدولي لدراسات الفرجة، سلسلة 14، 2011.
J .C . LAMBERT, ‘’L’image dans la peinture non figurative’’, dans l’ouvrage collectif Comment vivre avec l’image, PUF, 1989 , p. 269.
Benanteur, catalogue d’exposition, 3 avril-4 mai 1977, Palais des arts et de la culture de Brest.
Baya, in trois femmes peintures, catalogue IMA, 1990
0 التعليقات:
إرسال تعليق