العلاقات المسرحية والفنية بين مصر وتونس (3) علاقات وطنية وفنية / د. سيد علي اسماعييل
مجلة الفنون المسرحية
العلاقات المسرحية والفنية بين مصر وتونس (3) علاقات وطنية وفنية
من المعروف أن هناك علاقات بين مصر وجميع الدول العربية، ومنها تونس بلا شك! وأغلب هذه العلاقات معروفة ومسجلة، وخصوصاً العلاقات التاريخية والسياسية والاقتصادية .. إلخ. أما العلاقات الثقافية فمنها المعروف المشهور، ومنها المعروف غير المشهور، ومنها غير المعروف إلا في أضيق الحدود، ومنها غير المعروف إطلاقاً والذي سنتعرف على جزء منه في هذه المقالة، وسنتعرف على الكثير منه في بقية المقالات!
صاحب باليّن
من المواقف المسرحية التي حدثت منذ تسعين سنة، وتُعدّ من الأسرار الثقافية والمسرحية، ولم تُنشر ولم يتحدث عنها أحد من قبل، أن الكاتب المسرحي المصري «أحمد زكي السيد» ظهرت كتاباته المسرحية بين عامي 1927 و1932، وكتب فيها مجموعة مسرحيات، منها: «فاتنة بغداد، ولص بغداد، وماجدولين، والمدينة المسحورة، وعمر بن العاص أو فتح مصر»، وهذه الأعمال مثلتها عدة فرق مصرية، منها: فرقة أولاد عكاشة، وفرقة علي الكسار، وفرقة جانيت هانم. أما المسرحية الوحيد التي كتبها، والتي لم تظهر على خشبة المسرح، فكانت مسرحية «صاحب بالين»! والسبب في ذلك إنها أساءت إلى تونس!!
وتتمثل تفاصيل هذا الموضوع في أن الكاتب كتب مسرحيته عام 1931، وقدمها إلى الرقابة لأخذ التصريح بتمثيلها على خشبة مسرح «دار التمثيل العربي»، وقرأ الرقيب المسرحية، وكتب ملخصاً لها، قال فيه: «تعود الجيوش التونسية من إحدى الحروب بقيادة قائدها «سرحان» الذي يأتي معه بمئات من الفتيات السبايا ليوزعهن على كبار الدولة التونسية بعد أن يختار أجملهن وهي «فاطمة» لتكون زوجة له؛ ولكن ابنه «أحمد» يرى الفتاة فيحبها وتحبه. وللقائد سرحان ابنة هي «عالية» يحبها الأمير «سليم» وهو ابن أخ سلطان تونس وولي عهده، ويريد باي تونس أن يكافئ قائده سرحان فيخطب منه ابنته عالية، ثم يرى كذلك الفتاة فاطمة، وهي ابنة الأمير «عبد الحفيظ» فيخطبها كذلك من أبيها ويجعل لزفافه بالفتاتين يوماً واحداً. ويتآمر التونسيون على سلطانهم لأنه رجل ظالم ويخلعونه من عرشه ويولون ولي عهده الأمير سليم وبذلك تنتهي المسرحية».
والمفروض أن الفرقة تنتظر تصريح الرقابة بالتمثيل؛ ولكن للأسف أرسلت الرقابة إلى محافظ مصر خطاباً يفيد رفض المسرحية، وضرورة الالتزام بمنعها وعدم عرضها على الجمهور! والسبب في ذلك، كما جاء في الخطاب الرسمي بناءً على تقرير الرقيب «إبراهيم حسني»، الذي اختتم تقريره قائلاً: «الرواية في ذاتها لا مغزى لها، وفيها تعريض جارح بسلطان تونس وتصويره بأنه مستبد ظالم، وأنه شهواني يملأ قصره بمئات الجواري والحسان، ولا هم له إلا مغازلتهن. كما أن في الرواية تعريضاً كبيراً بملوك الشرق الذين يملأون قصورهم بالنساء. وفيها أيضاً تآمر شعب على سلطانه وخلعه وتولية سواه، ومن رأيي عدم التصريح بتمثيلها».
والواضح من الوثائق المكتشفة بخصوص هذه المسرحية، أن تقرير الرقيب تم عرضه على مدير الرقابة، الذي كتب تأشيرة قال فيها: «لا أرى مانعاً من التصريح مبدئياً بتمثيل هذه الرواية بعد إدخال التعديلات الآتية: أولاً، استبدال باي تونس بأمير آخر، ثانياً: حذف ما شطبته بالقلم الأزرق في الصفحات 14، 20، 24، ثالثاً، حذف الفصل الثاني الذي وردت به المؤامرات على خليفة الباي». وبالبحث لم أجد أية إشارة تفيد تمثيل هذه المسرحية، مما يعني أن المؤلف لم ينفذ التعديلات المقترحة لأنه غير مقتنع بها، أو لأنها تعني إعادة كتابة المسرحية مرة أخرى، لذلك ارتضى بمنعها ولم يقم بأي تعديل عليها!
والشاهد هنا أن الرقابة لم توافق على إظهار حاكم تونس بهذا المظهر المخزي، ولم توافق على عرض مؤامرة شعب تونس على حكامه وتجسيد ذلك على خشبة المسرح وأمام الجمهور المصري حفاظاً على العلاقات بين البلدان العربية عموماً وبين تونس ومصر خصوصاً! هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن المسرحية من الممكن أن تؤثر سلباً على الجمهور المصري، لأن مصر في ذلك الوقت كانت تحت حكم الملك فؤاد، ومن الممكن أن يتأثر الشعب المصري بما يراه على خشبة المسرح، حتى ولو كانت الأحداث تدور في تونس، لأنها من الممكن أن تحدث في مصر!!
مع تونس ضد فرنسا
مع اشتداد الحركة الوطنية في بلاد المغرب العربي – ومنها تونس – في أوائل خمسينات القرن العشرين، أمام فظائع الاحتلال الفرنسي، قامت مصر بمنع الفرقة الفرنسية من التمثيل في الأوبرا المصرية، كما كان مقرر لها! وحدث هذا في ديسمبر 1952، أي بعد قيام ثورة يوليو بخمسة أشهر، أي قبل أن يستتب الأمر للضباط الأحرار بصورة كاملة! ومهما كان الأمر فهذا الموقف يُحسب لرجال الثورة المصرية، حتى ولو قللت من شأن هذا الموقف الوطني بعض المجلات، مثل مجلة «الجيل الجديد»، التي قالت:
«قررت وزارة المعارف على أثر الحوادث الدامية التي جرت في تونس ومراكش أخيراً إلغاء موسم الفرقة الفرنسية بمسرح الأوبرا الملكية. ولكن الفرقة الفرنسية، وصلت إلى الإسكندرية في نفس الوقت الذي صدر فيه القرار ومثلت حفلاتها على مسرح الهمبرا. ثم انتقلت إلى القاهرة، وبدلاً من أن تقدم موسمها على مسرح الأوبرا قدمته بقاعة إيوارت [بالجامعة الأميركية بالقاهرة]! فهل يقصد قرار الوزير منع الفرقة الفرنسية من العمل بمسرح الأوبرا فقط، أو منعها من زيارة مصر والعمل بمسارحها إطلاقاً؟ إذا كان يقصد الأمر الثاني وهذا هو المعقول، فإن الفرقة الفرنسية قد أحيت موسمها كاملاً، وقد انتقل رواد الفرقة والذين اشتركوا في حفلاتها التي كانت ستقام بمسرح الأوبرا إلى مسرح قاعة إيوارت بنفس اشتراكات مسرح الأوبرا، أليس هذا عجيباً؟!»
كمال بركات
ظهر «كمال بركات» بين عامي 1946 و1949 ممثلاً وكاتباً للسيناريو والحوار في فيلم «ضحايا المدينة»، ثم مساعد مخرج في أفلام «ملاك الرحمة، ويد الله، وضربة القدر، وشادية الوادي»، ثم مخرجاً وكاتباً للسيناريو والحوار في فيلمي «المليونيرة الصغيرة، وأرواح هائمة». وبالبحث عن اسم «كمال بركات» في الإنترنت، لم نجد أية معلومات عنه سوى المعلومات السابقة! أما المعلومة «الوحيدة» التي وجدناها عشرات المرات، والتي ارتبطت باسمه منذ عام 1948، هي إنه مكتشف الفنان «رشدي أباظة»، الذي أعطاه أول دور تمثيلي له في فيلم «المليونيرة الصغيرة».
اختفاء «كمال بركات» وعدم وجود أية معلومات عنه، راجع إلى أنه سافر إلى تونس في مهمة جليلة، تُعدّ نموذجاً للتعاون الفني بيت مصر وتونس! وأظن أن «كمال بركات» استقر في تونس بقية حياته، وربما مات هناك، وهذه نقطة بحثية مهمة أمام الباحثين التونسيين المتخصصين في الإذاعة والغناء! ومن الممكن للباحثين الانطلاق في بحوثهم من المعلومات التالية!
في ديسمبر 1954 نشرت مجلة «أهل الفن» كلمة كتبها المخرج «كمال بركات» الذي ترك السينما ليعمل في إدارة التمثيليات بالإذاعة التونسية - وقد أنعم عليه جلالة باي تونس بنيشان «الكوماندور» - قال فيها: تركت مصر في مارس 1952 بعد أن تعاقدت للعمل كمدير لقسم التمثيليات العربية في إذاعة تونس، وكونت هناك فرقة من خيرة الشباب، وخرجت بها من حيز ونطاق الهواية إلى الاحتراف، وتكونت بذلك في تونس أول فرقة إذاعية تمثيلية ثابتة، يتقاضى أفرادها مرتبات شهرية من الإذاعة، وتقدم هذه الفرقة تمثيلية كل مساء سبت تستغرق حوالي ساعة. ومعظم الروايات التي قدمتها هذه الفرقة من روائع الأدب العالمي، مثل: «ذهب مع الريح»، و«سيرانو دي برجراك» و«ماجدولين»، وكثيراً ما يكتب لنا الكُتّاب التونسيون تمثيليات تعالج عيوبنا الاجتماعية. ومن ممثلي الإذاعة اللامعين السيدات: نعيمة المهدي، ونجوى إكرام، وفاطمة بوذنية، وزهرة فايزة، ودلنده عبده. والسادة: محمد الهادي، والبشير الرحال، وتوفيق العبدلي، وصالح المهدي، وعبد الرحمن عبيريجة، وبوديبرج، والعرقاوي، وبن جدو. وقد فكرت في الخروج بهذه الفرقة إلى المسرح ومواجهة الجماهير التي طالما استمعت إلينا في الميكرفون، فكونت فرقة «العشرين» على غرار فرقة العشرين التي كونتها في مصر من قبل. ويتولى رياسة الشرف لفرقة العشرين سمو الأمير «صلاح الدين باي» أصغر أبناء جلالة «محمد الأمين باشا» باي تونس. وستقدم الفرقة باكورة أعمالها هذا الموسم إن شاء الله. وقد رسمت لنفسي برنامجاً عندما غادرت مصر لأعمل في تونس، أطلقت عليه «مشروع الخمس سنوات» وينحصر برنامجي في الإنتاج الفني طوال موسم العمل والدراسة والاطلاع خلال الاجازة الصيفية».
واستمر كمال بركات في سرد أعماله أثناء فترة الصيف، حيث سافر من تونس إلى باريس وتنقل بين أستوديوهات الإذاعة والتليفزيون والسينما لمدة شهر، ثم انتقل إلى لندن وقضى بها شهرين لدراسة فن المسرح في مسرح شكسبير التذكاري، والتنقل بين أستوديوهات إنجلترا السينمائية للوقوف على أحدث ما وصلت إليه، ونجح في الاتفاق هناك على إنتاج فيلم مشترك تُصور مناظره في جبال تونس والجزائر ومراكش، وتدور أحداثه حول شخصية أفريقية وهي «هانيبال»، وقام بالاتصال بأصحاب رؤوس الأموال التونسيين لتمويل هذا المشروع. ومن أعمال كمال في لندن قيامه بإخراج بعض التمثيليات لإذاعة لندن منها: «أغنية الموت» و«رصاصة في القلب» لتوفيق الحكيم، وكانت من أداء أنور وجدي وليلى فوزي. كما قام إبراهيم رزق بتسجيل ندوة جمعت بين كمال بركات ويوسف وهبي وفريد الأطرش لصالح الإذاعة البريطانية من خلال أستوديوهاتها في باريس.
وبعد انتهاء شهور الصيف، عاد كمال للحديث عن تونس، قائلاً: «وانتهت رحلتي لأعود إلى تونس حيث تقام أول محطة للتليفزيون في الشرق. أنها محطة تونس التي بدأ إنشاؤها فعلاً وستفتتح رسمياً في نهاية عام 1955. وقد صحبت معي السيدة فايدة كامل والمطرب إبراهيم حمودة لبعض حفلات المسرح في تونس وتسجيلات راديو تونس. ثم الأوبريت الضخمة التي أعدها للمسرح والإذاعة في تونس ويشترك فيها نجوم الإذاعة التونسية مع فايدة كامل وإبراهيم حمودة».
هذا الخبر وجدت له خبراً آخر متعلقاً به في مجلة «الفن»، جاء فيه: «تلاقي البعثة الفنية المصرية التي استقدمتها الإذاعة التونسية ترحيباً وحفاوة من جميع الأوساط في تونس، وقد لاقت أولى حفلاتها نجاحاً عظيماً، وطالب الجمهور تقديم الفرقة في حفلة ساهرة على المسرح، وستستجيب محطة الإذاعة لهذا الطلب، وتقيم حفلة كبيرة في القريب، وستقدم فرقة الإذاعة التونسية قريباً، أولى حفلاتها التمثيلية على المسرح، ويشرف على هذه الفرقة المخرج كمال بركات، وتضم هذه الفرقة مجموعة قوية من الفنانين».
وفي فبراير 1955 أخبرتنا مجلة «أهل الفن» بعودة الفنانين المصريين بعد أن أحيوا عدة حفلات غنائية في تونس بدعوة من «راديو تونس»، وقد تلقت المجلة رسالة من «كمال بركات» رئيس قسم التمثيليات العربية بإذاعة تونس، قال فيها: «كنت في القاهرة لأتعاقد مع بعض الفنانين المصريين لتقديم برامج جديدة لمحطة الإذاعة التونسية، وقد تعاقدت لحساب راديو تونس مع الأستاذ إبراهيم حمودة والسيدة فاطمة علي والمنلوجست محمد كامل والموسيقيين رضا إبراهيم وأحمد العريان وأبو اليزيد الغنيمي وصالح الكراني. وسافرت هذه البعثة الموسيقية إلى مطار «العوينا» بتونس .. وقد تعاونت الفرقة الفنية المصرية مع فرقة الإذاعة التونسية فأصبح التخت مكوناً من عشرة أفراد، ستة تونسيين، وأربعة مصريين. والموسيقيون التونسيون هم: رضا القلعي أول عازف كمان بتونس، وناصر ... [اسم غير واضح] عازف كمان، وعبد الرازق الصباغ عازف كمان، وعبد الحميد بلعلجية للناي، وصادق الكيلاني فيولونسيل، وإبراهيم المهدي الكنترباس الوحيد في تونس. وكانت الفرقة المصرية موضع حفاوة وتكريم الوسط الفني التونسي والشعب التونسي الشقيق، وما أن وصلت هذه الفرقة من الفنانين المصريين إلى تونس حتى بدأت تمارينها، وقدمت بعد ذلك برامج ناجحة لمحطة الإذاعة التونسية، نالت تقدير وإعجاب الشعب التونسي المعروف بولعه الشديد بكل ما يأتيه من الشرق. وخاصة من الشقيقة الكبرى مصر. وقد احتفى سمو الأمير صلاح الدين باي أصغر أنجال جلالة مولانا محمد الأمين باشا باي تونس. احتفى سموه بالفرقة المصرية فأقام لها حفلاً رائعاً بداره، ختمها أجمل ختام إذ قلد جميع أفراد الفرقة المصريين نياشين الافتخار من الدرجة الثالثة «برتبة ضابط»، كما قلد سموه الأستاذ إبراهيم حمودة نيشان الافتخار من الدرجة الثانية «برتبة قائد» ولم تكن المطربة فاطمة علي قد وصلت من مصر، فلم تحضر حفلة سمو الأمير. وقبل أن ترحل الفرقة إلى مصر العزيزة، قامت بتقديم حفلة على مسرح البلدية بمدينة «صفاقس» وهي العاصمة الثانية التونسية ونجحت الحفلة نجاحاً مرموقاً دلّ على مدى تذوق الشعب الشقيق للفن ودقة شعوره وتقديره للفنون. ولم يسعدنا الحظ لتقديم حفلة على مسرح البلدية بتونس إذ كان المسرح مشغولاً بفرق أخرى، ولو أن أملنا كان كبيراً في أن يسعى رجال بلدية تونس الأفاضل في عمل المستحيل في سبيل منحنا المسرح البلدي لتواجه الفرقة الجمهور التونسي قبل عودتها إلى أرض الكنانة. وأخيراً أحب أن أقول إن كل فنان مصري كان في تونس، كان مثلاً حياً لمصر الثائرة، وكان سفيراً صادقاً لمصر الحرة في تونس. هذه رسالتي إليكم .. وتحيتي وتقديري لكل فنان مثّل مصر في هذه الرحلة. وأدى رسالة الفن في أحد بلاد الشرق العربي، وفي تونس الشقيقة»
------------------------------
المصدر: مسرحنا العدد 734
0 التعليقات:
إرسال تعليق