الحلقة العاشرة من سلسلة إقرأ كتب الهيئة
مجلة الفنون المسرحيةالحلقة العاشرة من سلسلة إقرأ كتب الهيئة
د.محمد المديوني ود.أبو الحسن سلام ود.عادل الأحمر
ضيوف سلسلة “إقرأ كتب الهيئة”
لمناقشة كتاب “حلقة موؤودة.. في تاريخ المسرح العربي”
قدمت الهيئة العربية للمسرح يوم الأحد 24 أكتوبر 2021م الحلقة العاشرة من سلسلتها الشهرية “إقرأ كتب الهيئة” ضمن برنامج عين على المسرح، الحلقة نقلت الكترونيا عبر (برنامج زوم) مباشرة على منصات الهيئة الإلكترونية وعلى صفحات التواصل الاجتماعي.
وشارك في هذه الحلقة ثلاثة باحثين مسرحيين لمناقشة كتاب “حلقة موؤودة.. في تاريخ المسرح العربي”، وهم مؤلف الكتاب الباحث المسرحي د.محمد المديوني والباحثان المصري د.أبو الحسن سلام والتونسي د.عادل الأحمر، وأدار الحلقة أ.عبد الجبار خمران مسؤول الإعلام والتواصل في الهيئة العربية للمسرح.
والكتاب مدار نقاش الحلقة من إصدارات الهيئة العربية للمسرح ضمن سلسلة دراسات تحت رقم (27) العام 2015م. والذي نشر طيلة شهر أكتوبر 2021م على الموقع الإلكتروني الرسمي للهيئة (بصيغة PDF).
بعد أن رحب مدير الحلقة أ.عبد الجبار خمران بالحضور وبلغهم شكر وتحية الأستاذ الأمين العام للهيئة العربية للمسرح ود.يوسف العايدابي وكافة العاملين في الهيئة العربية للمسرح، أوضح أن د.عادل الأحمر تعذر عليه المشاركة في الحلقة نظرا لظرف طارئ حال دونه والمشاركة، وقد بعث بمداخلته مكتوبة والتي سيقرؤها عبد الجبار خمران أثناء الحلقة.
عبد الجبار خمران:
مرحبا بكل الزملاء والأصدقاء المرحيين وكل المتتبعين في هذه الحلقة الجديدة من سلسلة إقرأ كتب الهيئة، وهذه الحلقة ستكون في ضيافة د.محمد المديوني ود.أبو الحسن سلام وكان من المقرر أن يكون معنا د.عادل الأحمر إلا أنه تعذر عليه الحضور بسبب ظروف خاصة ومداخلته معنا وسأقرؤها عليكم بعد مداخالتي كل من الباحثين المديوني وأبو الحسن… والحلقة ستناقش كتاب “”حلقة موؤودة.. في تاريخ المسرح العربي” تاليد د.محمد المديوني، وهو من إصدارات الهيئة العربية للمسرح ضمن سلسلة دراسات (رقم 27) العام 2015م. ونشر الكتاب على موقع الهيئة الإلكتروني بصيغة PDF طيلة شهر كامل لمن يرغب في قراءة الكتاب والإطلاع على محتواه…
سيتناول المتدخلون في هذه الحلقة بالنقاش والتحليل موضوع كتاب “حلقة موؤودة.. في تاريخ المسرح العربي”، والذي يحقق فيه المؤلف ويدرس مقال “فن التمثيل” لصاحبه نجيب حبيقة (1869 – 1906). مقال
لم يحظ باهتمام المعنيين بالمسرح العربي وبتاريخه – بحسب المؤلف – منذ وجد طريقه إلى القراء في مجلة المشرق عام 1899م.
وقد طرحنا العديد من الأسئلة التي يعالجها الكتاب في الإعلان المصاحب لنشره على الموقع الإلكتروني للهيئة العربية للمسرح وتتلخص أهم أسئلة الباحث هذه، في:
- لماذا لا يُذكر مقال “فن التمثيل” وصاحبه نجيب حبيقة، في كتب المعنيين بالتأريخ للمسرح العربي، إلا فيما ندر؟ ولماذا تجاهله الباحثون في مجالات المصطلح المسرحي في اللغة العربية تجاهلا تاما؟
- هل يعني هذا الإهمال وهذا التجاهل، بالضرورة، أن ما أنجز نجيب حبيقة في مقاله هذا وفي امتداداته لم يكن ذا أثر في الخطاب المسرحي العربي في عهد مؤلفه وفي العهود اللاحقة؟
وهل يعني، بالضرورة، الجزم بأن لا صدى للمصطلحات الفنية والنقدية التي نحت في مقاله المذكور في خطاب اللاحقين؟
- هل يعني تجاهل مقال “فن الممثل” من قبل هؤلاء المؤرخين أن لا أثر يذكر للمقاربات المنهجية التي قام عليها هذا المقال في كيفية تمثل النخبة العربية لهذا الفن وأن لا صدى لذلك فيما أصبح اللاحقون يتوسلون به من آليات لتحليل الأعمال المسرحية؟
كل هذه الأسئلة وغيرها ستكون محور نقاش هذه الحلقة، وسنطرح مع المتدخلين الثلاثة مؤشرات الحضور والغياب لمقال “فن التمثيل” وصاحبه في الخطاب النقدي والتاريخي للمسرح العربي.
بعد تقديمه لسيرة مختصر للدكتور محمد المديوني طرح عليه مدير اللقاء السؤال التالي:
دعنا نبدأ من البداية: في 1899م صدر مقال “فن التمثيل” لنجيب حبيقة (1869م – 1906م)، وفي 1992م كان إعدادك لدرس أنجزته لطلبتك وسميته بـ “الحدث المسرحي في الثقافة العربية”. وكان من الضروري منهجيا – كما ترى، وهو كذلك – دعوة الطلبة إلى العودة إلى مراجع أضحت لا غنى عنها، وصار الباحثون والمهتمون بالمسرح العربي وتاريخه ملزمين، منذ الخمسينات من القرن الماضي بالرجوع إليها. وتخص بالذكر كتاب “المسرحية في الأدب العربي الحديث 1847-1914” لمحمد يوسف نجم وكتاب “دراسات في المسرح والسينما عند العرب” ليعقوب لاندو..
وفي سياق عودتك إلى ما اعتمده الباحثات الثبتان من مراجع اكتشفت مقال نجيب حبيقة “فن التمثيل” هنا بدأت مغامرتك البحثية التي يتضمنها هذا الكتاب.. وهنا كانت صدمتك! أخبرنا:
لماذا كتاب “حلقة موؤودة.. في تاريخ المسرح العربي” وما قصته؟
د.محمد المديوني: أهلا وسهلا بك، أشكرك وأشكر الهيئة العربية للمسرح على تنظيم مثل هذه اللقاءات حول الكتب. فالكتب تحتاج إلى امتدادت لها لتجد معناها وتجد صداها وتجد موقعها من مسار الإجتهادات في المجال الفكري عامة والمسرحي خاصة.
في الواقع هذا الكتاب دعاني إليه كما ذكّرت بما قلته بخصوص الدواعي المباشرة لكتابة هذا الكتاب، وقد كان ضروريا أن يُكتب، لأنني وقفت على حلقة ليست مفقودة بل “موؤودة” والوأدُ هو الفقد الواعي أو الإفقاد الواعي. لماذا؟ لننطلق من المقال: مقال (فن التمثيل) لنجيب حبيقة صدر 1899م في مجلة المشرق للجامعة الياسوعية وهي جامعة معروفة والمجلة معروفة ولها دورها في التثقيف بالمفهوم العميق للكلمة، إذ نجد فيها مجالات متعددة، والمقال المذكور صدر في ست حلقات. عندما قرأت هذه الحلقات صدمت صدمة معرفية غاية في الأهمية. لأن ما وجدته في هذا المقال يدل على أن نجيب حبيقة مستوعب استيعابا تاما للنظرية الأرسطية وللمقاربات التي اجتهد شراح كتاب “فن الشعر” لتنزيلها سواء باعتبارها قواعد أو باعتبارها مردجعية فكرية عليها يجد المسرح ما يمكن أن يعطيه معناه، ولكن خاصة لتدقيق كيفية إنجاز ما يمكن ان تحققه المسرحية عامة والتراجيدية بشكل خاص.
إذا نجيب حبيقة مستوعب لكل ذلك استيعابا غريبا، بل أكثر من ذلك، حيث صاغ ما أورده في مقاله بعربية سليمة وتكاد تقول معها ان أرسطو كتب ما كتب في (فن الشعر) باللغة العربية، مما يبين سيطرة حبيقة على هذه المادة. إذا نحن أمام حدث معرفي هام، يتمثل في أننا انتقلنا من مرحلة الحث على المسرح باعتباره يدعو إلى الحداثة واستنهاض الهمم وغير ذلك… على ما قاله مارون النقاش ونيقولا النقاش وسليم النقاش ومن بعدهم..
يطرح نجيب حبيقة في مقاله (فن التمثيل)، وهنا المنطلق، أنه يقتنع – بعد أن قيم واقع الممارسة على مستوى الكتابة المسرحية العربية – أنها غاية في الضعف والهجان، والسبب في ذلك عدم استيعاب ما تقوم عليه الكتابة المسرحية، أو بالتعبير المعاصر والحديث وخاصة في المعنى الفرنسي (la dramaturgie / الدراماتورجيا) أي فن تأليف المسرح. وفي المقال استعمل حبيقة عبارة “يقترح عمدة” وعمدة كتعبير مستعمل في النقد (عمدة في صناعة الشعر) لابن رشيق مثلا. وهذه “العمدة” يقترح فيها التعريفات: لماذا المسرح؟ … ويسوق ما ورد في النظرية الأرسطية بأسلوب غاية في الدقة. وهو يعلن عن مشروع، ولا يقتصر على الدعوة فحسب، بل يساهم في تحقيق ذلك المشروع.
وترجمة فن الشعر للغة العربية الحديثة – ومعلوم ما قيل في الترجمات القديمة / والناس لم يكونوا عالمين بالمسرح وحيث كانت المرجعية ليست المرجعية المناسبة – كانت في 1950 أو 1951 فترجمة حبيقة سبقت هذا التاريخ بنصف قرن، وخاصة ان حبيقة أشار محدودية الترجمة العربية القديمة لـ (فن الشعر) ووقف في مقاله “فن التمثيل” على أسباب ذلك القصور في الوصول إلى ما أرده أرسطو. نحن إذا هنا أمام “حلقة مهمة”. لأن هناك دعوة للمسرح ومعها دعوة لاستيعاب ما يقوم عليه المسرح وما تقوم عليه التراجيديا بشكل خاص. وهذا الأمر غير طبيعي، لأنه عندما يتكلم المؤرخون عن المسرح العربي يقفزون على فترة وهي الحلقة التي نتحدث عنها: كيف مرّ المسرح العربي إلى مرحلة معينة.. مثلا كيف نشأ توفيق الحكيم؟ من أين أتى؟ إذا هناك محطات تكاد تكون غائبة. ومقال حبيقة يعطينا فكرة عن المحطات التي أدت على ما أدت إليه.
جعلني ذلك أطرح على نفسي ثلاثة أسئلة:
1 – لماذا غاب هذا النص؟
2- هل غياب هذا النص يعني غيابا لحضوره على مستوى استيعاب الإنسان العربي للمسرح وخاصة لمفهوم الكتابة المسرحية؟
3 – هل هذا النص يمكن أن يصل إلى الناس الآن؟
الإجابة على السؤال الأول كانت، وهو أمر كذلك، يحيلنا على مسألة جوهرية، هي التعامل النقدي مع المنجزات والإجتهادات. فوقفت على حالة غريبة، وهي أن السبب في غياب هذا النص وغياب ذكره هي “جناية”. جناية قام بها كل من د.يوسف نجم (عن قصد أو عن غير قصد!) وجاكوب لاندو! لماذا؟ لأن المسألة في أهمية ما كتبا وفي الموقع الذي احتله كلاهما بالنسبة للأبحاث الجامعية. فهل هناك كتاب تكلم عن المسرح العربي دون أن يذكر “المسرحية في الأدب العربي الحديث 1847-1914” ليوسف نجم؟! لا وجود لهذا الكتاب، وهل هناك كتاب في الغرب تطرق للمسرح العربي لم يحل على كتاب “دراسات في المسرح والسينما عند العرب…” لجاكوب لاندو؟! خاصة وأن هذا الكتاب الأخير أخذ هالة كبيرة ذلك أنه صدر في خمس جامعات في نفس الوقت، وقدم له كَيب وما أدراك ما كَيب بالنسبة للمستشرقين الأنغلوسكسونيين فالقيمة التي اكتسبها الكتابين جعلت مسؤولية كاتبيهما كبيرة جدا. لأنهما “موها” معرفيا، وما يدل على ذلك هو أن محمد يوسف نجم أفرد لمقال حبيقة في كتابه سطرين ونصف فقط، ووصف حبيقة بشاب كتب عددا من المقالات اسمها “فن التمثيل” والحال ان الأمر يتعلق بمقال واحد في ست حلقات. كما ان نجم لم يشر إلى ما ورد في هذا النص، واحالاته كانت خاطئة.
يعقوب لاندو إحالته على المقال كانت دقيقة – لكن الأمر الأدهى والأمر – أنه أخذ عبارة “فن التمثيل” على انها “فن أداء الممثل”! أو la formation d’acteur / تكوين الممثل. لان عنوان المقال “فن الممثل” فقد ذهب في ظن يعقوب لاندو أن النص يتحدث عن فن الممثل في حين أن المقال يتكلم – كما قلنا عن – (الدراماتورجيا) أي التأليف المسرحي.
وبهذا تكون ما يشبه ضبابا كثيفا حول هذا النص مما حال دون الباحثين من تناوله بالدراسة ويعودون إليه، وليس لهم في ذلك عذر. ونحن كلنا “مذنبون”، إذ أنه من الضروري أن نقوم بعمل نقدي لما ينجزه حنى كبار الباحثين.
أما بخصوص السؤال الثاني حول غياب استيعاب للنص ووجود أثر له، أقول أن مجلة الشرق كانت مقروءة جدا من طرف الطلاب …الى غير ذلك، والأكثر من هذا أنني وجدت أثرا نصيا لمقالات نجيب حبيقة في كتابات إدوارد حنين، الذي يعتبره مؤرخو النقد المسرحي عند العرب أنه أول ناقد أكاديمي، باعتبار أنه أنجز عددا من المقالات جمعها ونشرها في كتاب “شوقي على المسرح”.. نقطة الانطلاق هي مقدمات نجيب حبيقة والتي أشار إليها إدوارد حنين، الناحية الثانية: المنهج الذي اتبعه والمصطلحات التي اعتمدها.. فمثلا من
المصطلحات… ومما هو لافت للإنتباه مثلا (وهو عجيب) أن نجيب حبيقة مثلا، يتكلم عما يسميه “التنسيق الداخلي” و”التنسيق الخارجي” وهو ما يقابل تقريبا ما ذهب إليه “جاك شيرير / Jacques Scherer” في كتابه “La dramaturgie Classique en france / الدراماتورجيا الكلاسيكية في فرنسا” والذي يتكلم فيه عن ” structure interne” و ” structure externe” إذا التفات حبيقة إلى “البنية الداخلية والبنية الخارجية” على مستوى كبير من الأهمية، وهذه المفاهيم اعتمدها إدوارد حنين، ثم ضمن نصوص وشهادات وذكرها في الإحالة (مجلة المشرق) ولم يذكر اسم نجيب حبيقة! ومن هنا الفقد الذي يتحول إلى وأد.
الآن، ما هو أثر غياب نص نجيب حبيقة عن النقاد؟
هناك على الأقل ثلاث أطروحات يجب إعادة صياغتها:
أطروحة شهيرة جدا لعطية أبو النجا وهو باحث مصري وكتب كتابا بعنوان ” Recherche sur les termes de théâtre et leur traduction en arabe modern / بحث في المفاهيم المسرحية وترجمتها إلى العربية المعاصرة”: عندما أهمل أبو النجا إدراج نص نجيب حبيقة (فن التمثيل) في كتابه، سقط من معجم المصطلحات عدد كبير جدا منها، وهنا أحصيتها في كتابي موضوع النقاش، وبينت أن في هذا طبعا، تقصير ولا تعطي فكرة حقيقية وشاملة.
من ناحية ثالثة، هو أن في كتاب “حلقة موؤودة.. في تاريخ المسرح العربي” تحقيق… – فالكتاب يقوم على قسمين: قسم: بحث ودراسة والقسم الآخر وهو تحقيق.. لماذا أقول تحقيق؟ وللأستاذ أبو الحسن سلام ما يقول في مفهوم التحقيق والغاية منه – هذا التحقيق تمثل في أن نجيب حبيقة يقول بأنه سيعول على “أئمة” هذا الفن، يقصد بذلك المتخصصين والباحثين أمثال شليغل، جوته… وباحثيه تعرف من؟ – كبار الباحثين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وضمن نصوصا في مقالته من كتبهم. لكنه لم ير داعيا لتحديد الإحالات، وهذا دعاني إلى تحديد تلك الإحالات، وهي إحالات كثيرة. وتأكدت من أن إحالاته صحيحة وضبطنها في كتابي ضبطا. وقد تتصورون الوقت الذي تطلب مني ذلك.
والآن، نص مقال نجيب حبيقة في هذا الكتاب تجدون فيه إحالات دقيقة لكل الشواهد، الناحية الأخرى هي أنني أعدت صياغة بعد المفردات – دون أن أمس معاني النص – فمثلا كلمة (مرسح) أصبحت (مسرح) وهو أمر عادي جدا… هناك بعد التعبيرات أعيدت صياغتها لتصبح مقروءة ومتماشية مع لغة العصر…
النتيجة التي وصلت إليها، وهذا الكتاب يدعو إليها، هي إعادة النظر في تاريخ الأفكار – وليس التأخير للأحداث – كيف دخلت فكرة المسرح؟؛ وفكرة التأليف المسرحي؟ ما وراء.. ما في أذهان المفكرين وفي أفكار الثقافة العربية… وهي دعوة لزملائي الباحثين ولطلبتي… لكي يعيدوا النظر في كل ذلك ولا يسكت على هذه الحلقة الموءودة التي لابد وأن تعود للحياة (نقاش، تحليلا وجدلا…) ولعل هذه الحصة تسهم بعض الشيء في هذا النقاش…
عبد الجبار خمران: شكرا لمداخلتك القيمة د.محمد المديوني، الكتابة رصين في منهجيته واستثناء في موضوعه.. عنوانه فقط يدعو إلى التساؤل والقلق والحيرة الفكرية.. وذكر الحيرة تأخذني إلى د.أبو الحسن سلام الذي مزج الحيرة والقلق في مقال مهم كتبه عن الكتاب.. أهلا بك د.أبو الحسن سلام
د.أبو الحسن سلام: أهلا بك أستاذ عبد الجبار ود.المديوني وكل الأصدقاء الأعزاء وأشكركم جدا وأشكر الهيئة العربية للمسرح على هذه المبادرة القيمة في دفق دماء الفكر والإبداع المسرحي الذي ينتجه الباحثون والمبدعون العرب…
عبد الجبار خمران: أهلا بك أستاذنا العزيز وأبلغكم تحية الأستاذ الأمين العام للهيئة العربية للمسرح ود.يوسف العايدابي وكل زملائي هنا في الهيئة العربية للمسرح بالشارقة يشكرونكم على تلبية الدعوة وعلى حضوركم الوازن في هذه الحلقة… (بعدد تقديم موجز من سيرة د.أو الحسن سلام) طرح مدير عليه اللقاء سؤالا:
– في حديثك عن كتاب د.محمد المديون موضوع نقاشنا ربطت اسمه بحيرة المحقق التراثي في المسرح، فأين تتجلى الحيرة في هذه الدراسة؟ وما أهمية وتحقيق مقال (فن التمثيل) الذي يعد أول عرض في تاريخ المسرح الحديث لنظرية أرسطو “فن الشعر”؟
د.أبو الحسن سلام: المديوني وحيرة المحقق التراثي في المسرح
– شكرا جزيلا الأستاذ عبد الجبار.. أبدأ كلمتي بشعار أضعه في بداية الكلام عن (البحث المسرحي) فأقول دائما “إن بعض الظن علم” و”إن بعض الظن فن” وهاتان المقولتان تتمثلان في المبدع الباحث الأستاذ د.محمد المديوني. لذلك بدأت على التأكيد بأنه مالك لعقيدة “إن بعض الظن علم” ولـعقيدة “إن بعض الظن الفن”.
الكتاب بحث في مرجعيات التأسيس النظري الرافضة لفكرة المسرح في ثقافتنا العربية المبكرة (منذ عام 1899). ويتعرض لجهود التأسيس الأولى لفن الكتابة المسرحية في جهود نجيب حبيقة التي عنوانها (فن التمثيل).
في بحث المديوني عن تراتبية الكتابة النظرية في مسرحنا منذ بدايتها ومن خلال بحثه الدؤوب وقع في حيرة شديدة. والحيرة آفة البحث، وآفة الفن. ففي محاولته لجمع المادة التي سيأسس عليها: العودة إلى المرجعية التي بدأت بها الكتابة تأريخا لدخول هذا الفن العظيم “المسرح” في ثقافتنا العربية. من أجل ان يعلم طلابه كما تفضل هو وشرح – وكما تفضلتَ وأثنيت على شرحه – لكنه في الحقيقة وفي حيرته تلك، لم ينطلق فقط من المكتبات ولكنه يلجأ – لأنه باحث دؤوب – للإتصال بكل من يتوسم بأن لديه شيء من هذه المراجع. فأذكر أنه اتصل بي في تلك الفترة التي كان قد شرع فيها بكتابة هذا البحث، ليسأل عن دراسة كتبها د.محمد خلف الله أحمد وهو أحد الأساتذة الأول عميد جامعة الأدب كلية الإسكندرية. وفي الحقيقة، بذلت مجهودا للبحث عن
تلك الدراسة لكن تقلب الإداريين وتقلب العمداء وتغيير معمار المباني.. تلغى مكتبة؛ تباع بعض الكتب التي يُظن ان لا قيمة لها! فبحثت ولم اعثر على هذا العدد من كلية الآداب في سنوات نشأتها الأولى، فاعتذرت للمديوني ولكنه لم ييأس وواصل حيرته والتي أوصلته إلى عدد من الكتابات لعدد من المؤرخين منهم د.محمد يوسف نجم وكتابه المشهور، فلم يعثر على شيء في هذا الكتاب الذي يُظن انه وسع كل شيء عن المسرح العربي. لم يجد – كما ذكر – إلا سطرا او شيء أقل من السطر…
وهنا تساءل: كيف لهذا الحَبر المسرحي الذي اشتهر في المجال المسرحي وتاريخه أن يهمل ذلك، أو غَفل عليه ما يعرف بالنقطة العمياء، وهنا مناط حيرة المديوني.
النقطة العمياء في تحقيق مقام الريادة المسرحية العربية
و”النقطة العمياء” أخذتها من نظام المرور.. حيث من جهة مرآة سائق السيارة هناك مسافة معينة لا تعكس المرآة تلك السيارات المتواجدة في هذه المسافة / التي يسميها أهل المرور “النقطة العمياء”. فقلت أن النقطة العمياء موجودة فيما يكتب من إبداعات وفيما يكتب من أبحاث. حيث يمكن لباحث أو مؤرخ أو ناقد أن يكتب في قضية ما وبالمصادفة يعرض – في أثناء تقديمه لما هو بصدده – عرضا سطحيا ويمر عليها مرور الكرام. فإذا بباحث آخر أريب يلتقط هذه النقطة البحثية العمياء التي أهملت عن قصد أو عن دون قصد، فيصاب بالدهشة، يندهش من غفلة الكاتب أو المبدع فيكون كمن عثر على جوهرة ثمينة فيشتغل عليها. والاندهاش يدفع لدراسة مناطق الدهشة، فإذا بالمديوني يخلص من حيرتِه ودهشته، ويساءل الموجود، ولمساءلة الموجود يجب أن نصفه ثم نحلله ثم نقوم ما استنتجه غيرنا ممن سبقونا في التعرض لهذا الموضوع، ثم بعد ذلك يقدم الباحث الإستنتاج.
فماذا استنتج المديوني؟
استنتج عددا من التساؤلات، منها أنه افترض – والافتراض أساس في العلم والبحث والفن – أن يكون بعض المؤرخين المحدثين لتاريخنا المسرحي قد غفلوا سهوا عن نص حبيقة وبعضهم تغافله عن قصد وسوء نية وأظن أن المديوني – وأنا معه – توصل إلى أن مجرد هذه الفقرة عن حبيقة التي لا تكمل سطرا في موسوعة د.محمد يوسف نجم، تظهر أن في الأمر قصدية الإهمال لما كتب حبيقة.
من ناحية أخرى، عندما نظر المديوني في كتاب جاكوب لاندو “المسرحية في الأدب العربي الحديث 1847-1914” لم يجد إلا إشارات خفيفة لنص نجيب حبيقة، وربما فقرات بسيطة جدا لا تفيد فيما يخص قيمة ما كتب حبيقة. فهو مجرد عرض مبسط لا أكثر، هنا أيضا “نقطة عمياء”.
إذا نقطة عمياء عن قصدية عند د.محمد يوسف نجم ونقطة عمياء نتيجة إهمال أو تبسيط أو عدم تدقيق في قيمة ما كتبه حبيقة ووزنه بميزانه عند جاكوب لاندو.
ثم نظر المديوني في مرجعية أخرى وهي كتاب “إدوارد حنين” فوجده يقتبس من نص حبيقة (فن التمثيل) فقرات ذات قيمة دون أن ينسبها إلى صاحبها، وهذا ليس من الأمانة العلمية. لقد وضع د.المديوني يده على إجابات حقيقية تكشف عن سببية “النقطة العمياء” سواء عن قصد أو عن سوء نية أو حتى سرقة.. لأنه عندما نأخذ من غيرنا دون أن ننسبه لصاحبه فهذه سرقة. وهذا يذكرني بشخصية عطيل عندما تكلم عن شخص سرق محفظة نقود “إنك إذا سرقت محفظة نقودي فقد سرقت شيئا كان لي ثم صار لك، لكن إذا سرقت سمعتي فقد سرقت ما لا ينفعك ويلحق بي الضرر” فهنا ألحق الباحثون الثلاث الضرر الذين كتبوا في تاريخ المسرح العربي ونشأتِه سرقوا مكانة الرجل العلمية، فنجيب حبيقة أول من ترجم لنا ترجمة معاصرة كتاب أرسطو “فن الشعر” وهو بذلك بادر وسبق الباحث عبد الرحمن بدوي.
وأتساءل: من 1899 إلى غاية الخمسينيات من القرن الماضي حيث ترجم عبد الرحمن بدوي كتاب أرسطو، ألم يكن لدينا مؤرخين وكتاب؟ الجواب نعم، كان لدينا كتاب. وفي ظني أن هذا البحث القيم لنجيب حبيقة (فن التمثيل) كان موؤودا من قبل اكتشاف د.المديوني له. أي اننا لم ننتبه إلا بعد تحقيق المديوني في الموضوع… فمثلا نتحدث عن مفهوم “التغريب” انه متواجد في مسرحنا العربي.. لكننا لم ننتبه إلى هذا المفهوم إلا بعد أن نُظر له، أي بعد أن تحولت إلى نظرية بدأ ذكرها (كتأسيس) وليس قبل ذلك.
فمثلا متى بن يونس يترجم الممثل بالمنافق (من السريانية إلى العربية) والتمثيل بالجهاد.. إذا هو وأد بشكل ما فن المسرح منذ القدم، شخصيا أظن أن ما فعله المديوني في بحثه هذا، شيء جديد وأصيل مبتكر… يمتنع على غير العالم المدقق والباحث الفنان وهو اجتمعت فيه الصفتين.
تحقيق مقام الريادة
في التحقيق، يذكر علميا ومنهجيا: أنه لتحقيق مصنف أو موضوع من التراث لابد من العودة إلى الثقافة السائدة في العصر الذي كتب فيه هذا المصنف أيا كان جنسه، أدبا أو علما أو تاريخا أو غيره. ثم يعود الباحث إلى اللغة التي كتب بها هذا المصنف داخل منظومة مجمل اللغة التي كتب بها الكاتب هذا المصنف موضع التحقيق، شرط أن يكون هناك لبس في نسبة المصنف إلى صاحبه. لكننا بخصوص نص (فن التمثيل) فنسبته إلى نجيب حبيقة ظاهرة وثابتة، إذا أين مناط التحقيق؟ مناط التحقيق في المرجعيات الأخرى عرضت لتاريخ المسرح العربي، منذ نشأته… والتحقيق في أسباب إهمال نص حبيقة وأسباب “سوء نية” عدم الاهتمام به وأسباب الاخذ عنه دون ذكره أو بالأحرى “سرقته”… هنا مناط التحقيق.
في الأخير أقول أن كتاب “حلقة موؤودة في تاريخ المسرح العربي” يشكل قيمة كبيرة في مجال البحث الأكاديمي. وهو درس حقيقي لطلاب الدراسات العليا في فنون المسرح عامة…
هذا قولي، وأشكر لكم إتاحة هذه الفرصة الطيبة للمشاركة معكم..
عبد الجبار خمران: شكرا لك د.أبو الحسن سلام على مداخلتك القيم حول الكتاب موضوع نقاش هذه الحلقة وإذا ما كان هناك من “سارق” لأمانة علمية فهناك “قاض” باحث يتعقب ويرصد ليعيد الأمور إلى نصابها
الفكرية، وكما قلت أستاذ أبو الحسن الكتاب فعلا درس للطلبة لا من حيث المضمون ولا من ناحية المنهجية الاستقصاء… شكرا لك.
د.عادل الأحمر بعث للبرنامج بمداخلته وقد تعذر عليه الحضور معنا لظروف خاصة كما أشرت وفيما يلي
نص مداخلة الأستاذ عادل الأحمر
تحياتي لك أستاذ عبد الجبار ولكل العاملات والعاملين بالهيئة العربية للمسرح…وكل التقدير لما تنجزه الهيئة من أعمال جليلة تسهم بها في النهوض بالمسرح في الوطن العربي… ومن ضمنها هذه المبادرة الطيبة التي تخدم المسرح والكتاب معا… تحياتي كذلك لرفيقي في هذه الحلقة: الدكتور أبو الحسن سلام المحترم، والدكتور محمد المديوني، الصديق العزيز وزميل الدراسة الجامعية في أواخر ستينات القرن الماضي…
لقد استمعنا منذ حين إلى الدكتور محمد المديوني يقدم كتابه من زاوية المؤلف… أما من ناحيتي فسأتناول الكتاب من زاوية القارئ غير الأكاديمي، والمتلقي غير المختص في الفن الرابع، ولكنه من هواة هذا الفن (من الهوى وليس من الهواية)، وهو كذلك من أنصار الكتاب في عصر يحتاج فيه الكتاب إلى مناصرين ومدافعين. فقد دأبت على عرض الكتب الجديدة في الصحافة التونسية، من باب الترغيب في مطالعتها والحث على اقتنائها، وهذا ما أنا فاعله اليوم مع متابعي هذه الحلقة بالنسبة إلى كتاب الدكتور محمد المديوني.
لنبدأ من البداية … من المعلوم أن العلاقة الجسدية للقارئ بأي كتاب، تبدأ، نظرا ولمسا، بغلافه… ومن الغلاف أيضا والعنوان الذي يحمله، يكون أول تفاعل، فكرا وحسّا، مع الكتاب، وتكون أول الانطباعات بموضوع والتمثلات، إذا لم يكن لنا سابق علم بالكتاب. فكم من عنوان أثار فينا وحده حب الاطلاع، ودعانا بإلحاح إلى مطالعة كتاب…
وهذا هو شأن كتاب الدكتور محمد المديوني، “حلقة موؤودة في تاريخ المسرح العربي”: فالعنوان يوحي بوجود لغز تختفي وراءه جريمة، ويا لها من جريمة! بما أن الأمر يتعلق بوأد، أي بقتل… ثم إن صورة ذلك الرجل الغامض القادم من عصر آخر، أو هكذا بدا لي، والذي لا نجد ذكرا لاسمه على الغلاف، يزيد القارئ تشويقا للغوص في أسرار هذه القضية.
وعند الغوص فعلا في الكتاب، نجد أنفسنا إزاء قصتين في قصة، وذلك رغم الطابع العلمي والأكاديمي للكتاب.
- أولا: قصة الوثيقة الموؤودة، أو لغز المقال المنسي، وقد رواها لكم الدكتور محمد المديوني منذ حين.
- ثانيا: قصة الدكتور محمد المديوني مع هذه الوثيقة، هي قصة بدأت عام 1992 حين لقائه بنجيب حبيقة ومقاله ”فن التمثيل” على قائمة بيبليوغرافية في إطار الإعداد لدرس جامعي، وانتهت بطباعة هذا الكتاب سنة 2016، على يدي الهيئة العربية للمسرح.
وبين البداية والنهاية مراحل عدة يسردها المؤلف، بين بحث في مكتبات تونس عن صحيفة ”المشرق” المتضمنة نص “فن التمثيل”، واطلاع على النص مباشرة في مكتبة الآباء البيض بتونس، وإجراء بحث معمق عن مواقف مؤرخي المسرح العربي من هذا النص، قبل القيام بتحقيقه وإعداده للطباعة ضمن كناب.
ونقف قليلا عند بحث د.محمد المديوني في مواقف مؤرخي المسرح العربي من مقال “فن التمثيل”، وهو بحث رأيته، كقارئ، في صورة تحقيق قضائي ينظر القاضي المكلف به في تهم تتراوح بين الوأد في أقصى الحالات (وهو وأد مجازي كما بينه المؤلف) وبين الجهل والتجاهل والإهمال والإغفال والذهول والتمويه المعرفي (وكلها عبارات استعملها الدكتور المديوني في كتابه). ويضاف إلى كل هذه التهم الاعتداء على حق الملكية الفكرية.وهذه نماذج من التهم التي حقق فيها الدكتور المديوني:
* إدوار حنين (كاتب لبناني: 1914- 1992): اقتبس في مقال له (عن شوقي ومسرحه الشعري) بنفس مجلة ” المشرق” عام 1934 شواهد من مقال حبيقة دون ذكر اسم الرجل وعنوان مقاله، واكتفى بذكر مجلة ” المشرق” في هوامش الإحالة.
* محمد يوسف نجم (المختص المعروف في تاريخ المسرح العربي): لم يشر في كتابه ” المسرحية في الأدب العربي الحديث 1847-1914 ” إلا مرة واحدة، وبصورة عرضية وموجزة، إلى نص حبيقة، ولم يطلع على مقال ” فن التمثيل”، واعتبره مجموعة مقالات، وأخطأ في إيراد أرقام الصفحات التي تضمنت المقال في مجلة “المشرق”
* جاكوب لانداو (ـJacob LANDAU) صاحب كتاب ” دراسات في المسرح والسينما العربيين 1950: تخصيص نجيب حبيقة بستة أسطر لا أكثر، وعدم اطلاع لانداو، هو الآخر، على مقال ” فن التمثيل”. وحجة ” المديوني القاضي والمؤلف معا” على ذلك هو أن ” لانداو” فهم عبارة ” فن التمثيل” على أنها ” فن الممثل” لا غير، بينما حبيقة يعني بعنوان مقاله “فن المسرح ” بكل مكوناته.
* هذا، ويشترك نجم ولانداو في مسؤولية جسيمة تجاه نجيب حبيقة، بسبب دورهما المؤثر حتى في من تلاهم من الباحثين وتوجيههم، دون قصد، توجيها أسقط من الاعتبار مقال نجيب حبيقة. وهذا التأثير ناتج عن شهرتهما ومكانتهما الأكاديمية.
* جوزيف خويري (باحث لبناني، صاحب كتاب ” المسرح في لبنان 1847-1960″): الاكتفاء بذكر مقال حبيقة في الملحق الببليوغرافي لكتابه، وعدم الإشارة الى محتوى هذا المقال في متن كتابه بأي شكل من الأشكال.
* عطية أبو النجا (صاحب أطروحة نوقشت في السوربون عام 1966 حول “مصطلحات المسرح وترجمتها الى العربية العصرية “): إهمال المصطلحات التي زخر بها مقال حبيقة، والحال أنها في صلب أطروحته، وقفزه إلى كتاب جاؤوا بعد حبيقة نسب إليهم أبو النجا السبق في ترجمة عدد من المصطلحات، كان قد سبق إليها حبيقة منذ عام 1899.
* نبيل أبو مراد (باحث لبناني صاحب دكتوراه عن ” المسرح اللبناني في القرن العشرين” نشرت سنة 2002): هذه حالة غريبة حقا: فالموضوع لا يتعلق بجهل أو تجاهل أو إغفال أو إهمال لمقال نجيب حبيقة، بل يعاب عليه التعالي على نجيب. حبيقة و”الاستخفاف” به و” الضحك” من عمله، بعد الاستشهاد بنصه أكثر من مرة، وذلك في حالة من تهاوي الأخلاقيات الأكاديمية وغياب السلوك العلمي القويم.
وفي قصة الدكتور المديوني مع ”فن التمثيل”، تخلل السرد، كما في الروايات المنسوبة إلى ضمير المتكلم، وصف لتفاعل الراوي مع الأحداث:
ففي البدء كانت المفاجأة: المفاجأة بنص خرج فيه صاحبه ”عما درج عليه معاصروه من المثقفين العرب فيما كانوا يكتبون حول المسرح، وعالج موضوعا في هذا الفن لم ينتبه إليه قبله”.
وبعد المفاجأة يأتي الاستغراب: فقد د.المديوني “مشدوها” أمام هذه المفارقة العجيبة بين أهمية نص مثل ” فن التمثيل” وبين موقف مؤرخي المسرح العربي منه، بين جهل وتجاهل وقلة اكتراث…
ومع الاستغراب، يصاب الراوي بـ ” صدمتين مدهشتين ” (وفق تعبيره):
- الأولى سلبية ، وتتمثل في تقصير أكبر الباحثين في تاريخ المسرح العربي ( وفي مقدمهم محمد يوسف نجم وجاكوب لانداو) إزاء هذا المقال، بل وعدم الاطلاع عليه أصلا، فما بالك بتثمين مكانته ضمن تاريخ المسرح العربي.
- أما الصدمة الثانية فإيجابية، وهي “أقرب ما تكون إلى الصدمة المعرفية”، حسب تعبير المؤلف نفسه، وتجلت في” طبيعة هذا المقال بنية ومضمونا وشواغل “
وتترك الصدمة مكانها إلى الحيرة الفكرية، وقد ترجمها د.لمديوني إلى أسئلة: ” هل كان هذا النص سابقا لأوانه؟ هل كان ما ورد فيه عصيا على قرائه المعاصرين له، نظرا لافتقارهم المحتمل للأدوات التي تسمح لهم باستيعابه والتفاعل معه؟”… لكن ” ما الذي يمكن أن يبرر ذهول اللاحقين عندما تمكنوا من هذه الأدوات المعرفية؟”.
ونفتح هنا قوسا حول فن السؤال عند د.المديوني… فمثل هذا التساؤل يتكرر عدة مرات في الكتاب، وهو تساؤل يقع بين مقتضيين:
– منهجية البحث العلمي، حيث السؤال هو الباعث على كل بحث ومحركه في أثناء العمل البحثي، يتجدد كلما تقدم الباحث في عمله واكتشافاته
– شد القارئ وتشويقه وشحذ ذهنه لانتظار الجواب، وربما لإعمال الرأي من أجل تصور أجوبة، وهي طريقة بيداغوجية لا تزال حية منذ أن ابتدعها سقراط.
… الآن وقد اطلعنا على قصة الوثيقة الموؤودة وقصة مؤلفها، نغادر عالم الرواية، وندخل عالم مضامين الكتاب، لنبقى، كما فعل د.المديوني، مع التساؤل والسؤال بشأن بعض الإشكاليات التي طرحت في الكتاب، ومن بينها:
… ثنائية الحضور والغياب لنص “فن التمثيل” وصاحبه في الدراسات المهتمة بالمسرح العربي: هل كان هذا النص غائبا تمام الغياب حقا عن الدراسات المسرحية؟ لنقل إنه كان الغائب الحاضر أو الحاضر الغائب: فهو في أدنى الحالات موجود في قائمة بيبليوغرافية، لكن مضمونه غائب أو مغيب (محمد يوسف نجم وجاكوب لانداو وجوزيف خويري مثالا). وهو، في حالات أخرى، مستحضر بكثير من التفصيل قي متن النص، لكن اسم صاحبه مغيب (إدوارحنين مثالا).
… ثنائية العمد والتلقائية في التعامل مع “فن التمثيل”: بتتبع ما استعمله د.المديوني من عبارات بشأن مواقف الباحثين من نص “فن التمثيل”، نجدها تتراوح بين الفعل القصدي أو الموحي بالعمد مع سابق الإضمار والترصد (الوأد، الإهمال، التغييب، التجاهل، التعامل النفعي والانتهازي، الضحك والاستخفاف…) وبين الموقف غير المقصود (الجهل، الذهول، عدم الانتباه، سوء الفهم…). لكن كأننا بالمديوني يميل إلى الجانب الأول من هذه الثنائية في أغلب الحالات التي تناولها، ويرى في الحالة القصوى، وهي الوأد، بمعناه المجازي طبعا، ما يشبه “السعي الإرادي لتغييب عنصر حي بصورة واعية أو غير واعية”. لكن هل كان ركن العمد، مع سابق الإضمار والترصد، متوفرا في جريمة الوأد؟ وهل كانت لمن اتهم بالوأد مصلحة من تلك الجريمة؟ وإن كان ذلك كذلك، فما هي تلك المصلحة؟ أطرح هذه الأسئلة وأترك الجواب لمن أراد مطالعة كتاب د.محمد المديوني.
… ومن المحتوى ننتقل إلى الشكل، ونعني الشكل الذي أصبح عليه نص “فن التمثيل”، بعد أن حققه الدكتور محمد المديوني، كما تحقق مخطوطة تقريبا، لكن مع تدخلات على النص الأصلي لنجيب حبيقة، كانت كالآتي:
1 – تدخل على مستوى البنية، ويتمثل في جعل نص حبيقة مكتملا أو “مسترسلا” أو موحدا، بعد أن كان منقسما في الأصل إلى حلقات. كما أضاف المديوني بعض العناوين الفرعية، لكن مع ” احترام كل اختيارات حبيقة في مجال الإخراج المطبعي للنص”.
2 – تدخل معجمي على متن النص تمثل بالخصوص في تعويض كلمة “مرسح”، التي كانت مستعملة زمن حبيقة، بكلمة ” مسرح” التي أصبحت متداولة بعد ذلك في اللغة العربية.
3 – تدخل شكلي يتعلق بالتنقيط: (la ponctuation)، وذلك تفاديا للمبالغة في استعمال النقاط دون موجب في النص الأصلي.
4 – تدخل على مستوى هوامش المقال، وخاصة منها الإحالات. وهنا يبرز العمل الجبار الذي قام به محمد المديوني في تحقيق نص “فن التمثيل” و”الجهود المضنية” – وفق تعبيره – التي بذلها من أجل “تعقب” إحالات حبيقة وتدقيق عناوين الكتب والآثار التي اقتبس منها شواهده، والتحقيق من تواريخ نشرها وأمكنتها، بل
والبحث – وهذا الأصعب – عن عناوين الآثار التي سكت عنها صاحب المقال. وكان هذا العمل بمثابة “عمل النملة ” كما يقول الفرنسيون، (un travail de fourmi) للتعبير عن دقة الأمر والصبر والتأني فيه، لبلوغ النتيجة النهائية.
وبتكامل هذه التدخلات أصبح نص “فن التمثيل” غير النص الذي نشره نجيب حبيقة عام 1899 في مجلة “المشرق”، وذلك من حيث وضوح البنية، وسهولة الانقرائية (lisibilité)، واكتسابه الدقة العلمية التي كانت تعوز النص الأصلي. كما أن “نص المديوني” غير نص “فن التمثيل” الذي نشره، في شكله الخام عام 1994، الباحث السوري محمد كمال الخطيب.
ماذا يمكن أن يبقى في ذهن القارئ بعد قراءة هذا الكتاب؟
*على مستوى التأريخ للمسرح العربي”:
أولا: إعادة الحياة إلى وثيقة تاريخية في مسارات المسرح العربي، ولا سيما في مرحلة التأسيس عموما، وطور التأسيس النظري والمصطلحي على وجه الخصوص، وبالتالي سد “فجوة غائرة” في تاريخ المسرح العربي، وفق تعبير د.المديوني.
ثانيا: إعادة الاعتبار لصاحب الوثيقة، نجيب حبيقة، وتمكينه – اعتباريا – من استرجاع ريادة على مستوى التنظير للمسرح العربي وتعريب المصطلح المسرحي، أسندت، عن جهل أو تجاهل، إلى باحثين ومسرحيين آخرين، وبالتالي رفع مظلمة تاريخية عن هذا الرجل.
* أما على مستوى منهجية البحث التاريخي في موضوع نشأة المسرح العربي وتطوره، فقد كشف د.محمد المديوني في كتابه جملة من “الأخطاء المهنية” التي سقط فيها عدد من الباحثين في المسرح العربي وتاريخه، ومنها عدم الرجوع إلى الوثائق الأصلية في مضانها، والاعتماد على اتباع “السلف شبه المقدس” في بعض مقولاته، دون تدقيق أو تمحيص، وهو ما جعل أخطاء محمد يوسف نجم وجاكوب لانداو بخصوص حبيقة تمر من جيل إلى جيل، دون أن يتم التفطن إليها، هذا إلى جانب الخروج أحيانا عن أخلاقيات البحث العلمي، كما فعل
والأن، ماذا يمكن أن يبقى للقارئ من صور عن مؤلف الكتاب؟
هي أربع صور بالنسبة إلى شخصيا كقارئ:
أولا: صورة قاضي التحقيق الذي يبحث عن حل لغز الحلقة الموؤودة، متتبعا بإلقاء السؤال وتوجيه التهم وتقديم الأدلة والبراهين إلى كل من تحوم حوله شبهات بخصوص هذا الوأد أو ما شابهه من تغييب وتجاهل.
ثانيا: صورة المحقق مرة أخرى، لكن في مجال آخر، هو مجال تحقيق المخطوطات، حيث وفق الدكتور محمد المديوني في نقل “فن التمثيل” من حال إلى حال، بما بذله من جهود سبق أن أشرنا إليها.
ثالثا: صورة المناصر المعجب دون حدود بنجيب حبيقة، والمتحمس لرفع مظلمة تاريخية عنه، إذ يقول الدكتور محمد المديوني في مواقع عدة من الكتاب: “نجيب حبيقة حالة نادرة، إن لم تكن فريدة من نوعها في تاريخ المسرح العربي” ( ص 27 من الكتاب)، و”قد خرج في نصه هذا عما درج عليه معاصروه من المثقفين العرب” ( ص 28) ، و”كان في مقاله الأستاذ المقتدر ، تماما كما كان في حياته ” ( ص 94) ، وهو “نموذج المثقف العربي المتفاعل، من خلال مصفاة اللسان الفرنسي، تفاعلا معرفيا مع ما أنجز في الثقافة الأوروبية بأسرها ” ( ص 103) ، وقد ” توفرت في نصه كل سمات الريادة”، ليشكل “نقلة نوعية هامة في تمثل النخبة العربية لفن المسرح، تكاد ترتقي إلى ما يمكن اعتباره قطيعة معرفية في مسارات المسرح واستنباته في الثقافة العربية” (ص 9).
رابعا وأخيرا: صورة المنقب عن الآثار الذي عثر على قطعة أثرية غمرها تراب النسيان، وكانت تنقص صرح المسرح العربي، فأعادها إلى ذلك الصرح، بعد نفض الغبار عنها وترميمها، ليكتمل البناء ويستقيم، وتعود الموؤودة إلى الحياة.
مع الشكر لكم على حسن الاستماع.
ثم تدخل لإغناء النقاش حول كتاب “حلقة موؤودة.. في تاريخ المسرح العربي” الأستاذ تحسين يقين من فلسطين والأستاذ الحسام محي الدين من لبنان…
وعقب المتدخلين د.محمد المديوني ود.أبو الحسن سلام…
ليختم مدير اللقاء عبد الجبار خمران اللقاء بشكر المتدخلين وإبلاغهم شكر السيد الأمين العام للهيئة العربية للمسرح ود.يوسف العايدابي… وليضرب موعدا للجميع لمناقشة كتاب “مخرجات المسرح المصري (1990 – 2010) دراسة سيميوطيقية تأليف د.هادية عبد الفتاح أحمد… إلى ذلك الحين أحييكم عبد الجبار خمران من شارقة سلطان الثقافة وإلى اللقاء.
0 التعليقات:
إرسال تعليق