الذاكرة المسرحيه تسير نحو خط الهامش / *زهير العروم
مجلة الفنون المسرحيةالذاكرة المسرحيه تسير نحو خط الهامش
"لقد وصلنا إلى درجة الحمولة القصوى، صار الطريق نحو تحقيق الفكر مسدودا...
فعمل العقل هذا الذي يتطلب استيعابا بطيئا وحميما قد تمت إعاقته... صارت
التفاهة غالبة" آلان دونو " .
إننا نتساءل عن الدور الذي تقوم به الثقافة داخل دائرة المجتمعات وكذلك دور المثقف
وبالخصوص نحن المسرحيين بوصفنا من هؤلاء المتمردين الذين يعيشون هذا
التشتت الثقافي. فهل أننا فعلا أمام ثقافة تدفع نحو تحقيق رهانات جذرية تتعلق
بالممارسة الفنية بصفة عامة، أم أننا نخطو على نهج ماضٍ تحكمه نخبة قد تمعشت في
أسوارها وفي ميولاتها الهامشية؟ وهل يظنّ أهل الاختصاص أن دورهم يقتصر على كثرة
الإنتاج فقط أم لا بدّ من التفكير وتجاوز حدود الانغلاق الجمالي؟
ولذا ينبغي علينا الاعتراف بأننا أمام مجزرة تاريخية تقودها الأفكار السياسية لتدفع
الذات المسرحية إلى الانتحار مرة أخرى، فإذا أردنا أن نحلق في سماء الخلق الفني فعلينا
الاعتراف أولا بأننا نجترّ ضمن أفق جمالي مناقضٍ للواقع. كما علينا المغامرة في أحضان
الجماليات والانفتاح على العلوم الأخرى لعلنا نتجاوز الحدود المغلقة ونصل إلى أثار
فنية "مريعة " تتجاوز أفق طنطنة الجميل، فنحن اليوم في حاجة إلى شئ ما أعمق
وأكثر إثارة يولد الاحتجاج الفني فمنذ قرن من الزمن لم يعد الجميل الرهان الأساسي
للفنون، إنما صار شيئا ما يتعلق بالرائع فلابد على الفعل الفني أن يبرز فزعته
الإبداعية ويثور على منطق الرضا الكلي بالأشياء، فالرائع والجليل والعظيم والسامي
كلها عبارات تفوق لفظ الجميل. ولكن ما يعمّم هذا الرأي هم بعض المتزلفين
الذين يحاولون التقليص من قيمة العمل الفني والحدّ من قضاياه العميقة مما يجعل
الأفكار سطحية تندثر من يوم ولادتها وبالتالي تخلق ما يسمّى "الجهل المزدوج"
حسب تعريف أفلاطون حين "نتوهم أننا نفهم في حين أننا لا نفهم " .
وعليه فإن أغلبنا يعتقد بأننا تجاوزنا خطى المعرفة وأننا أصبحنا نجرد الأشياء
من مسمّياتها وبالتالي وقعنا في المحظور في "سفسطة الملموس في غير مكانه " ، فما
أصبح شائعا دون ريبة هو الأسلوب القصصي أو الحكائي وهذا يخصّ رجال الدين حسب
آلان دونو Alain Deneault" فالشروع في "التفكير اليوم أصبح محدودا يحكمه الجهل
الجديد كما وصفه "تومادو كونانك" ، Thomas de koninck والنتيجة واضحة
هي الفراغ لا غير. فراغ يعيشه المسرحي على دائرة الهامش ويتخبط في ماضيه الذي لم
يعشه ويرى أنه زمن جميل وهذا خطأ، «فلا شي أكثر تضادا إلا الدونكيشوتية الماضوية
فالقول بأن الأيام القديمة أفضل من هذه الأيام ليس حكمة.
إن الماضي الذي يعتقد البعض أنه كان زمنا جميلا ٬ ليس جميلا إلاّ أنه لم يكن زمنك »
فمسرحة الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي اليوم تستوجب رؤى بديلة للفعل
المسرحي في أحضان الجماليات المعاصرة، ولعل هيمنة الفراغ هي التي تدفع الفنان
فتولّد الشك من خلال قلة إدراك في كيفية الخروج منه ليصطدم في الأخير بجهل جديد
على ذاكرته ويصبح كأنه شخصية درامية قد كتبت منذ زمن غابر.
فالفراغ هنا ليس بمثابة الانتظار الفكري الوجودي حسب عبارة "ستراغون " في
مسرحية «في انتظار غودو En attendant " Godot بل هو نزاع تساؤل على رهاناته
ومصيره أو حول العجز الذي يفرضه النظام السلطوي على مثقفيه، ليستنجد بالسماء
وفي الأخير يجد نفسه يحاكي شبحا مثله مثل هاملت الشكسبيري ليقول «يا جحافل
السماء أيتها الأرض ماذا بعد هل أضيف جهنم » أو عن مكنونه الذاتي ليدخل في
مرحلة الريبة والشك ويصبح «عطيل » زمانه ويصيح «أنا لست أنا .»
وعليه فإن النتيجة الحاصلة هي نفور الفنان واضمحلال الذاكرة المسرحية وتعمق الأزمة
في ظلّ هذا العجز الثقافي ٬ وحسب اعتقادنا ليس العجز وحده مسؤولا بل كذلك تقلّص
دور المسرحي ونسيانه أن المسرح يجعلنا نفكر وأنه فعل جماعي بالأساس ٬ فما نلاحظه
هو عودة «النرجسية الفردية » التي يولّدها الفراغ على حدّ قول «جيل ليبوفتسكي »
Gilles Lipovetsky لتشكل أنماطا وحشودا من العارفين دون معرفة وتتسارع أصواتهم
لتأخذ صدى داخل زاوية الفعل المسرحي، وبالتالي يندلع الصراع وتقع المأساة فالكل
يحارب السلطة ويتهمها بالعجز والكل في نزاع داخلي بلا حلول منطقية فالمحسوبية
والصداقة وتقاسم الأدوار وتبادل الغنيمة هو المنطق العملي وبعد ذلك تندلع الحرب
ويكون رهان الفعل المسرحي المتضرر الأساسي في هذه الوضعية.
وبناءً على ذلك لا نستغرب من تردي الذائقة المسرحية ولا نتساءل عن الجودة
فقد أصبحت تُقاس بالبضاعة أو السلعة حسب الطلب، يشدّد الفيلسوف " تيودور
أدورنو Adorno Theodor W" في كتابه النظرية الاستطيقية على سقوط الفن في حقل البضاعة بل على سقوط كلّ ميدان الثقافة في شكل من البضاعة المطلقة مما
يجعل الفنّ يفقد حقه في الوجود في حضارة "صنمية البضاعة ".
يرى البعض أن هذا التشبيه مجرد تعبير مجازي وتهويل للواقع الفني كما أنه ليس
إلا تعقيدا للأزمة التي يعيشها المسرحي في تونس اليوم ولكن في حقيقة الأمر الواقع
أتعس من هذا بكثير، فربما البضاعة أو السلعة تجد مستهلكيها في الوقت اللازم
ويمكن أن يستبدلها المنتج ببضاعة مشابهة حسب الترويج وحسب متطلبات العصر
ولكن عندما تغيب فرص النجاح في كيفية استقطاب المستهلك يقع في المحظور
ويتلاشى المشروع بأكمله، وها نحن الآن بصدد الخروج عن الطّريق فالأزمة الحقيقية
قد حلّت وصارت إعادة هيكلتها شيئا من المستحيل لأننا نعتبر أن الفن المسرحي فعل
يتجدّد كذلك ٬ ويطرح الأسئلة ويستشرف إن لزم الأمر ما هو آت ليجعل من المتلقي
إنسانا واعيا ومسؤولا كفرد داخل المجتمع .
فإذا غابت هذه الفكرة يصبح دور المسرحي مقتصرا على الإنتاج لا على القيمة أو الجودة
وبالتالي تتقلص فاعليته من شيء حتمي وضروري إلى منتوج يمكن الاستغناء عنه، فإذا تخيلنا يوم تغلق فيه أبواب المسارح وتصبح أسطورة أو نصا معلقا في الذاكرة. فحينها إما نقاوم أو نندثر وإما نحتج أو ننظم إلى التيار وفي كلا الحالتين يبقى السؤال المطروح ما هي حلول تجاوز الأزمة؟ وهل حان وقت
التفكير في أفق جمالي بديل؟
أهم المراجع:
1) تومادو كونانك، الجهل الجديد ومشكلة الثقافة، ترجمة، منصور القاضي، مجد
المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، بيروت، 2004 .
2)آلان دونو، نظام التفاهة، ترجمة، مشاعل عبد العزيز الهاجري، دار سؤال
للنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2020 .
3)جيل ليبوفتسكي، عصر الفراغ الفر دانية المعاصرة وتحولات ما بعد الحداثة،
ترجمة، حافظ ادوخرا مركز نماء للبحوث والدراسات، الطبعة الأولى، بيروت،2018 .
4) وليام شكسبير، الماسي الكبرى، عربها وقدمها، جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة
العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، بيروت، 2000 .
5) أم الزين بن شيخه المسكيني، الفن يخرج عن طوره أو مفهوم الرائع في الجماليات
المعاصرة من كانط إلى دريدا، جداول للنشروالتوزيع، الطبعة الأولى، بيروت، 2011 .
6) أم الزين بن شيخه المسكيني، الفن والسياسة، طوني نيغري أنموذجا، مؤمنون
بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2017 .
*باحث دكتوراه في العلوم الثقافية
0 التعليقات:
إرسال تعليق