سلفيو المسرح؟ / غنام غنام
مجلة الفنون المسرحية
سلفيو المسرح؟!
نعم سلفيون وينتجون على مقاسهم سلفية مسرحية عميقة، وإن كنتَ تستطيع تمييز السلفي العقائدي أو المذهبي بسهولة، فإن الأمر في المسرح بعكس ذلك تماماً، إذ غالباً ما يتسلح سلفيو المسرح بمرجعيات معرفية ومنهجية تعتبر قاسمًا مشتركًا بين جميع المسرحيين، لكنهم يحيطون تلك المعارف والمناهج بسياج يحرم الاستئناف عليها، والويل والثبور لمن يتجرأ فيقول إن هناك ما يخالفها أو يعدلها أو حتى يناقش صحتها ودقتها، فكأنما تلك المناهج والمعارف لا يأتيها الباطل من أي اتجاه، لا تطبيقي ولا تاريخي ولا فلسفي ولا فسيولوجي أو سيكولوجي.
ويتناسى السلفيون أن أصحاب المناهج التي يتمترسون حولها - وهي مناهج مهمة بكل تأكيد، قد جاءت نتيجة الاستئناف على مناهج سابقة، ففي الديالكتيك تحمل الفكرة نقيضها في رحمها.
وتثيرني اليقينية الراسخة التي يغلفون بها فتاويهم، خاصة عندما يقولون إن ما أتى به (فلان) مخالف، ليس مخالفاً للنظرية فقط فهذه أمرها سهل، بل مخالف للتطبيق الذي قدمه المنظر والمخرج الفلاني (والذي عاش قبل مئات السنين) ولا توجد وثيقة مصورة واحدة عن تطبيقاته العملية، سوى ما جاء في آراء معاصريه، تلك الآراء التي يرددها السلفيون كما لو كانوا شهود عيان على صحتها، إنها ثقافة (العنعنة) وهي موضع شك ومساءلة.
نعم (الشك والمساءلة)، حيث أنني قد وضعت المسألة في قياس عرف بأنه (ديني) فمفردة السلفية تحيل قارئها للسلفية الدينية، فيمكنني أن أضع الشك والمساءلة بنفس القياس، وقد عبر الدكتور خضر عباس عن (المساءلة بين الشك المذهبي والشك المنهجي) في مدونة خاصة به، وجاء فيها:
"هناك فرق بين مذهبية الشك أو الشك المذهبي، وبين منهجية الشك أو الشك المنهجي، فالأول يستخدم في التربية الحزبية التعصبية التي لا ترى إلا نفسهاصاحبة الحق المطلق الذي لا شك تجاهه، والأخر هو الشر المطلق، وهو مدار الشك، وكل ما يصدر عنه خاطئ، لا يجوز تقبله.
أما الشك المنهجي، أو منهجية الشك، فهو حق مكفول للإنسان من قبل الله، لا يجوز الحجر عليه، ولا يعتبر صاحبه خارجا على نواميس الحق والكون". وخذ مثلاً النبي إبراهيم عليه السلام:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي* البقرة 260
فالشك أول السؤال، وقد ذهب ديكارت إلى حد القول (أنا أشك، إذن أنا موجود) وعليه فلا حقيقة ثابتة مثل الشك ذاته. كما عبر عن ذلك الفيلسوف الأردني فايز محمود في مقالته ديكارت والشك المنهجي 2008 "فأنا أستطيع ان أشك في أي شيء، ما عدا وجود الشك ذاته".
وإذا كان من السهل تحديد الأماكن التي يركز فيها السلفيون المذهبيون نشاطهم، فإنك وبنفس السهولة تستطيع أن تحدد مراكز نشاط السلفيين المسرحيين، فهم عادة يفضلون التمركز في المعاهد والأكاديميات والكليات، تلك التي يفترض أن تكون معملاً للتغيير، ورغم أنهم يواجهون نماذج من الأساتذة المجددين، إلا أنهم ببساطة يستطيعون ممارسة تحريم الاجتهاد على المتعلمين، الذين يجدون أنفسهم مضطرين لترديد (مقولات السلف المسرحي الصالح) كي يضمنوا النجاح والتخرج. وهناك فقط.
جميعنا يمكن أن يستحضر نماذج من تلك الجماعات السلفية، من صحابة آرسطو، وحواريي مايرهولد، ومفسري بريخت، وفي الوقت نفسه يمكن أن نستحضر أسماء أساتذة جعلوا من عملهم حالة من الديالكتيك المسرحي (الجدلية المسرحية)، والديالكتيك المسرحي يفضي إلى ديالكتيك تاريخي مسرحي،
واتساءل، لماذا لم تقم المؤسسات الأكاديمية المسرحية بتفعيل البحث كي تعيد كتابة التاريخ المسرحي، وتعيد الاعتبار لدور مثلث الحضارات (الرافدين وسوريا والنيل) في نشأة المسرح والدراما؟ هذه المراكز (الأكاديمية) كبيوت للبحث، لماذا لا تدرس التاريخ والآثار والمكتشفات، وركنت إلى اعتبار كل تلك المظاهر التعبيرية لكونها غير مسرحية وفي أحسن الأحوال ما قبل مسرحية؟
لماذا تعترف إيطاليا في عام 2001 بعام (أبولو دورو دمشق روما) وأن أبولو دورو كبير بنائي روما هو دمشقي وهو من صمم (الكولوسيوم)، وباحثونا لا يعترفون؟ لماذا لا تدرس معاهدنا الفنية كم من الأباطرة من ليبيا وسوريا ولبنان والجزائر حكموا روما؟ وكيف يحكمونها إذا لم يكونوا قد أسسوها؟ ومن منهم جاء بأبولو من دمشق؟ وما علاقة هذا الامبراطور بدمشق ونابلس؟ ولماذا لا يدرس الباحثون المسرحيون خارطة انتشار (المدرج/ المسرح المعروف بالروماني)؟ ولماذا لا يدرسون نظرية انزياح مركز الحضارة وضرورات سياسة التوسع والسيطرة البحرية في البحر الأبيض المتوسط؟ ولماذا لا يبجثون في أصل نشوء الإغريق ومن بنى أتيكا وأثينا وما علاقة الفينيقيين بطروادة والأوديسا؟
السلفية المسرحية هي ألا يقوم المسرحي الباحث والمدرس بإيجاد الروابط الخاصة بالمسرح وفنون الأداء مع ما تتوفر عليه الميثولوجيا والحفريات الآثارية والأنثروبولوجيا والإثنولوجيا، هي ألا يقوم بربطها بعلوم اللغة واللسانيات والفلسفات، ألا يدرس ثقافة المجتمعات التي استوطنت وطنه وكانت مؤسسة للحضارة الإنسانية، ألا يدرس تاريخ العمارة وتطوره وعلاقة عمارتنا بعمارة العالم.
إن مركزية الصورة النمطية لمجتمعاتنا وشعوبنا، كمجتمعات بدوية (رُحَلْ) غير منتجة للدراما تتناقض مع واقعها الذي أهل شعوبها لتكون أول من يكتب وأول من يخترع اللون وأول من يبحر، وأول من ينشئ مستوطنة زراعية، وأول من يضع قانوناً مدنياً وأول من ينظم السجل المدني (الديموكراس).
وختاماً، على منوال جملة للكاتب العراقي عباس الحربي (ليس هناك عبودية، بل هناك عبيد) أقول ليس هناك سلفية مسرحية، بل هناك سلفيو مسرح.
0 التعليقات:
إرسال تعليق