أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الجمعة، 27 يناير 2023

مسرحية الرجل الذي باع الشمس سيميولوجيا

مجلة الفنون المسرحية



مسرحية الرجل الذي باع الشمس سيميولوجيا

عبيد لبروزيين:

  السيميولوجيا عملية تفكيك وتركيب لنظم اشتغال العلامات، واستكشاف للبنيات العميقة التي تختفي خلف البنيات الظاهرة والسطحية، فهي تسعى للبحث عن المدلولات المتعددة للدال، وهو ما يجعلها تبحث عن لا نهائية الخطابات أو المعاني من خلال مساءلة الدوال وكشف المضمر والغائب. وهكذا نحت السيميائيات المعاصرة إلى تحديد موضوعها الأدبي والفرجوي، فاهتمت، في الأول، بدراسة القصة والرواية وكل الأجناس الأدبية، وفي الثاني بالمسرح، وأصبحت بذلك تعنى بالرموز والأيقونات والإشارات على اختلافها، والمنهج السيميائي لا يعنى بالدوال فقط، بل بتتبع المدلولات أيضا، أي بتحليل المعنى الدلالي المنبثق من العلامة، بطريقة منظمة قائمة على علاقات مختلفة ومتعددة.
السيميائيات بهذا المعنى هي علم الدلالة، ترتبط بعلامات أخرى تكوّن سياقا معينا، يتآلف ومرجعيات العلامة، سواء كان ضمنيا أم ظاهريا، وهو الفكرة المركزية لإنتاج معنى جديد من خلال دلالة صورية. وسنسعى من خلال العلاقة بين الدال والمدلول، والمرجع، وتآلف المرجعيات العلاماتية، وأنساق دلالتها ومحاور تمفصلها أن نبين شعرية العرض المسرحي "أركاز إزنزن تافوكت" أو (الرجل الذي باع الشمس) معتمدين في هذا الصدد طروحات كير إيلام في سيمياء المسرح.
    وهنا لابد من معرفة سلسلة من الضوابط الاجتماعية والثقافية، وكلها تكون عادة ضمنية ومستترة في العمل المسرحي، لذلك اقترح كير إيلام شبكة من العلاقات بين الكودات الفرعية المسرحية والكودات الثقافية والكودات الفرعية الدرامية من خلال اثني عشر نسقا، وهي: الأنساق النسقية، والأنساق اللسانية، والأنساق البينصية الأصلية، والأنساق النصية البنائية، والأنساق الصورية التمثيلية، والأنساق المعرفية، والأنساق الجمالية، والأنساق المنطقية، والأنساق السلوكية الأخلاقية، والأنساق الإيديولوجية، والأنساق النفسية، والأنساق التاريخية.  
         تجعل سميأة العرض المسرحي الأشياء والرموز والعلامات تختلف على الرّكح، وتكون بؤرة مدلولات يصعب حصرها، علامات تكتسب خصائص جديدة تفتقدها في الحياة اليومية العادية، فـ"قد لا يكون هناك اختلاف بين طاولة ما تستخدم في التمثيل المسرحي ومثيلتها التي يستخدمها الناس كأثاث  لوجبة الطعام من حيث المادة أو شكل الانبناء، وبالرغم من ذلك فالطاولة قد تحولت على نحو ما: لقد اكتسبت كما هو الحال، مجموعة خواص". وهكذا تتحدد العلامة في المسرح من خلال المرجعين الاجتماعي والدرامي، وبذلك فإن نص العرض يفك كوداته من خلال الأنساق التي أشرنا إليها آنفا في علاقتها بالكودات المشتركة.
الأنساق اللسانية: شعرية الملفوظ الحواري
شعرية اللغة الدرامية
    تتساوق اللغة الدرامية مع الفعل الدرامي والحركة، من خلال الحرص على توظيف المعجم الأمازيغي، إذ كانت تصبو لخلق الفعل الفرجوي القائم على التناغم بين الملفوظ الحواري وحركات الجسد أثناء تحاور الشخصيتين مع بعضهما البعض، وهي شعرية قائمة على الصراع بين عالم مثاليّ تمثله شخصية (المختطِف)، والعالم الواقعي وتمثله (المختطَفة) إنها مسرحية تراجيكوميدية، تظهر الأبعاد النفسية والإيديولوجية للصراع بين الخير والشر والتخبطات التي يعيشها الإنسان المعاصر. ومنه، يمكن أن نقسم هذه اللغة إلى قسمين:
لغة الشخصية المختطِفة/الحضور: تحيل اللغة الدرامية في مسرحية "أركاز إزنزن تافوكت" إلى مرجعين، المتخيل الدرامي والواقعي، ويمنحان الشخصية سمات اجتماعية وثقافية ونفسية، فهي تعبر عن الإنسان المقهور والمظلوم الذي ينحدر من الطبقات الاجتماعية الدنيا، وتكشف عما تعرض له في حياته من قهر واضطهاد اجتماعي، جعله يختار العزلة، لغة درامية تنم عن تكوين المختطف العلمي "نَكِّينْ غِيرِي الدكتوراه كْـالفلسفة" (أنا حاصل على شهادة الدوكتوراه في الفلسفة) استمالة للمتلقي، وفعل يبرر سادية خفية، ورغبة في إنشاء عالم مواز جاء نتيجة تنكر المجتمع له، إنها لغة تعكس موقفا من الواقع الذي تسوده المحسوبية والزبونية والرشوة. لقد كشفت اللغة الدرامية عن المعاناة النفسية لشخصية مثقفة، وأوحت إلى المثقف المضطرب في العالم العربي اليوم، والذي يحمل أفكارا انتقامية تجاه المجتمع الذي يعيش فيه، انفصام وانهزام.
لغة الشخصية المختطَفَة/الغياب: وظفت الشخصية المختطفة لغة درامية تعكس كينونتها، فهي أيقونة للخوف والاحتيال والكره، ونظرا لكون سلطة الذكورة التي يمثلها المختطف تحاصرها وتكبلها، فقد كانت تعتمد الدهاء للتخلص منه في كل مرة. كما تبين اللغة الدرامية سمات الشخصية الاجتماعية والثقافية والنفسية أيضا، فمن خلال ملفوظها يتبين أنها ميسورة الحال، ذات مستوى تعليمي متواضع، بينما كشفت اللغة الدرامية في نهاية المسرحية عن اضطرابها النفسي، فهي هاربة من مستشفى الأمراض العقلية لقتل زوجها الذي سرق مالها.
  كانت اللغة الدرامية على لسان الشخصيتين متشابهة ومتقاربة، ومكتنزة بالدلالات السيميائية في الإحالة على الغائب، وإضمارها للانفعالات والأهواء من قبيل الكره والانتقام والسادية. وبالرغم من أن المختطِف شخصية مثقفة إلا أنه استعمل لغة حالمة ومضطربة أيضا، علاوة على العناصر الأخرى التي تكشفها مثل الديكور والإكسسوارات والبيانو والعزف الجميل والكتب المبعثرة في غرفته، أو التي كانت تزين مكتبته.
الأنساق النسقية: شعرية المكان المسرحي
المكان المرجعي l’espace révérenciel
       المكان المرجعي صورة أولية لمؤثثات الركح في تصور المؤلفة فوزية بندادا، والذي عرض على خشبة المسرح من خلال رؤية المخرج، فكان فضاء البيت/الكوخ فضاء للحب والكراهية، والانتقام والتعذيب المتواصل، والتداعيات والسجن بالنسبة للشخصية المختطَفة، مكان مغلق تلتقي فيه مجموعة من العناصر التي تكثف العلامة المسرحية البصرية، وهو ما جعله يعكس موضوع المسرحية ويجسد الانطواء وعدم القدرة على الاندماج في المجتمع لأسباب متعددة.
      توضح الصورة أسفله شعرية المكان المرجعي، بيت مهترئ يأوي أفكار رجل رفض أن يكون جزء من مجتمع مريض، يضمر كل أشكال الفساد، كانت المسرحية تعري الواقع وتناقضاته، لكن دون فعل يحول لتغييره، بل كان البيت/الكوخ سجنا، وأفكار التنصل واليأس قيود تكبل كل فعل لولادة جديدة.
     قسم المخرج المكان المرجعي إلى ثلاثة فضاءات عن طريق حزمات الضوء، الأولى بنفسجية مسلطة على المختطف مع آلة البيانو، الانتصار المؤجل على الذات الحالمة، والثانية إضاءة زرقاء مسلطة على المختطفة، والتي تحيل على الشك والخوف والقلق والمجهول، والثالثة بيضاء مسلطة على المكتبة، الخلاص والأمان والنجاة، والصورة التالية تبين ذلك:


صورة تظهر المكان المرجعي في المسرحية

وهنا تتفاعل ألوان الإضاءة والمكان المرجعي، لخلق جزر على خشبة المسرح، علامات ذات حمولة جمالية، عوالم مصغرة لسلسلة من الانفعالات المضمرة والمعلنة، الانتشاء والهدوء والخوف والجزع، والرغبة في التعلم...
 المكان الركحي l’espace scénique
          لقد كان المكان الركحي فضاء للّعب الحر، والتداعيات التي تعكس البنية النفسية المضطربة للشخصيات، هذا المكان النعيم والملجأ بالنسبة للشخصية المختطِفة، والسجن والبؤس للشخصية المختطَفة. وبهذا المعنى، يكون الفضاء الركحيّ مكانا تتحرك فيه الشخصيات لتعبر عن مواقفها تجاه الحياة والكون، مكان الجنون واللذة والبؤس، تتناغم فيه أجساد الممثلين مع الركح المسرحي حتى صارا جزء منه، أحيانا يتحول إلى صالة للرقص، أو زنزانة للتعذيب...إلخ، أحداث تصاحبها الموسيقى لخلق التناغم والانسجام بين مكونات الفضاء الركحي، لاسيما في بعض اللوحات التعبيرية. وهكذا كان المكان الركحي فضاء للعب، يملؤه الممثل بالحركة والإيماءة والرقص، ليجعل منه حاملا لعلامات مختلفة، تنتظم وفق رؤيا المخرج وتصوره الإخراجي للعرض المسرحي.
        ونمثل للمكان الركحي بالصورتين التاليتين من المسرحية:



صورة تظهر تعذيب الشخصية المختطَفة

المكان المفترض: خارج-الخشبة hors-scène 
           تظهر أهمية المكان خارج-الخشبة في كونه يرمز لفضاء المجهول، والمضمر والخفيّ في العرض المسرحي، فراغات وبياضات يملؤها المتلقي، ويضم هذا المكان صراع الشخصية المختطَفة مع رجل مجهول جاء إلى منزله يدعوه أن يخرج لرؤية العالم، والانفتاح على قضايا المجتمع، حوار مع صوت جهوريّ مجهول، يرمز للمجتمع، والطبيعة الإنسانية التي تكره العزلة والانطواء، علاوة على خروجه بالعصا إلى أحد السكارى المزعجين، عراك في منطقة الغياب، خارج-الخشبة، يوحي بالحدث الذي دار خارج الخشبة من طرد وشجار وصراع رمزي بين العزلة والائتلاف، إنها ثنائيات ضدية تسهم في نمو الصراع المسرحي. يكتنز المكان خارج-الخشبة بالدلالات والرموز المضمرة، منطقة الغياب والفراغ، فهو يستدعي مخيلة المتلقي لملء بياضات العرض المسرحي، إنها شعرية المتخيل الدرامي، والتي تجعل المتلقي يبني صورة ذهنية لمعالم عالم غير مرئيّ يقع خارج-الخشبة، به يكتمل العمل المسرحي. 
        وخلاصة القول، إن للمكان دورا جماليا يمتح من واقع البسطاء لينتهي إليه، فالمكان الركحي جسد هذا العالم الذي انزوى إليه المختطِف مع مختطَفته، ليشكل عالما يحمل أكثر من دلالة، فهو العالم الموازي للعالم الحقيقي، المنفى الاختياري والاجباري معا، والمأوى من ضنك العيش وجبروت السلطة والقيود، وتفشي مظاهر الفساد في المجتمع، فكانت العلاقة بين الشخصيتين والمكان، حسب الحرية والإدارة، اختيارية/اضطرارية.
     لقد أصبح المكان في مسرحية "الرجل الذي باع الشمس" ذا حمولة شعرية وجمالية، أكثر منه فضاء للعب الدرامي، ولكن بخصائص جديدة تعكس التفاعل الثقافي مع ثقافات أخرى، مكان يعرف انزياحا وظيفيا، من خلال الرقص والتمثيل وحركات الجسد، إنه عالم صغير حافل بالرموز والدلالات، ويصبح بهذا المعنى معطى لقراءات متعددة ومختلفة. 
الممثل العلامة
        يستوجب الحديث عن الممثلين في العرض المسرحي، الانفتاح على دور الشخصيات في النص الدرامي، لرصد مدى فاعليتها في بناء الحدث، هذه العوالم الإنسانية التي قامت فيها فوزية بندادا بنحت معالمها المضطربة والقلقة، والتي تحتكم إلى علاقات مختلفة فيما بينها لنسج بناء الحدث، وتشكيل عناصر العملية المسرحية وفق تطور المتواليات المسرحية.
    تآلفت هذه الشخصيات الورقية في العرض المسرحي، مع الممثل سعيد ضريف وأسماء السروي، وأخذت من خصائصهما النفسية والفسيولوجية، لإعادة تشكيل الشخصية على خشبة المسرح، فالحركات البيولوجية والمسرحية أو الممسرحة هي مؤشرات ثقافية في علم الكينزياء، وهو ما يمنح هذا العرض التجريبي خصائص شعرية تظهر خصائص ثقافية وإيديولوجية وجمالية وفنية. 
        تتداخل عوالم الشخصيتين في مسرحية "الرجل الذي باع الشمس"، بين ما هو خارجي (المظهر، الشكل وهندام، تسريحة الشعر...)، وما هو داخلي (العوالم النفسية، الكره، الحب...)، فتتكون الخصائص المميزة لكل شخصية على حدة، لتجعل منها علامة ترتبط بصيرورة تدليلية.        
الأنساق النصية البنائية: شعرية الإخراج
       لقد كانت رؤية إخراجية تبنتها فرقة "نون للمسرح" في شخص مخرجها كريم لفحل الشرقاوي (الأسلوب التجريبي)، الذي استطاع إظهار العوالم الداخلية للشخصيتين المضطربتين في إدارة الممثل، وتحريكه على خشبة المسرح، وخلق معادلات موضوعية لنمو الحدث بالتركيز على ما هو بصري من قبيل استعمال الشريط الذي يجسد صوت رجال الشرطة الذين اكتشفوا مكان احتجاز المختطَفة، وهي حيلة انطلت عليها، والتركيز على اللوحات التعبيرية والرقص، وتوظيف الجسد الاحتفالي، وحركات عضلات الوجه والجسد، للتعبير عن المواقف المسرحية المختلفة. 


صورة تظهر تعذيب المختطِفة

    لقد أبدع المخرج في إظهار سادية المختطف والمختطَفة معا، في جو من اللعب الجسدي السريالي والحركي والاحتفالي، إضافة إلى استعماله لعربة الأطفال لتجسد الاضطرابات النفسية التي تعيش فيها الشخصيتين، ليظهر التجريب في الإخراج على مستوى إدارة الممثل المتمثلة في علاقة الممثل بالممثل والممثل بالديكور، وهكذا يصبح العرض المسرحي كتلة انزياحية/غير مألوفة تؤسس لجماليات ترتكز على المشاهد والمعاين على خشبة المسرح.
شعرية الفعل الجسدي
    يعد الجسد في الدراسات المسرحية الحديثة بؤرة لتقاطعات سيميائية متعددة، ومركزا لعلامات مختلفة الدوال، إذ "تقوم أجساد الممثلين وأصواتهم بدور المرسلين في الدرجة الأولى، بالإضافة إلى خصائصها المجازية بالمجاورة (كالملابس واللوازم الأخرى)، ثم سائر عناصر المجموعة التقنية كالمصابيح الكهربائية والآلات الموسيقية وآلات التسجيل الصوتية وآلات عرض الأفلام، وغيرها". 
    وهكذا أصبح المخرج "يجري اختيار الإشارة المرسلة وترتيبها بواسطة هذه الأجسام ـ حركات وأصوات ونبضات كهربائية ـ تركيبا وفقا لنطاق واسع من العلامات ـ أنساق الإشارة التي تنتقل عبر عدد من القنوات المادية الصالحة للاتصال البشري، ومن موجات الضوء والصوت إلى وسائط الروائح واللمس (بالنسبة إلى "الاحتكاك" في العروض   الحديثة، يصبح الشم واللمس شرطين هامين من عملية تلقي النص كله)".
    إن الفعل الجسدي السريالي والعراكي والاحتفالي يحددان دور الجسد في بناء شعرية العرض المسرحي "أركاز إزنزن تافوكت"، حيث اتسمت بجعل جسد الممثل كما سبقت الإشارة مركزا لعلامات مختلفة تتناغم مع الملفوظ الحواري ومكونات السينوغرافيا، وأحيانا يخلق الجسد لغته الدالة على مشاعر إنسانية ما كانت اللغة الدرامية لتستطيع التعبير عنها. ونمثل لذلك بالصورة التالية:

vlcsnap-2013-12-29-22h21m44s247.png
        لكن استعمال لغة الجسد ليس استعمالا اعتباطيا، بل لغة جمالية تخلق شعرية الجسد وتجعل منه فضاء لقراءات متعددة، هذه القراءات التي لا تصبو إلى تقعيد لغة الجسد وإنما لإظهار جماليته وقدرته على التعبير، وهو ما ينعكس في العناصر التالية:
الفعل الجسدي السريالي: يتمثل الفعل الجسدي السريالي في مسرحية "أركاز إزنزن تافوكت" في مجموعة من المواقف، خصوصا بعض الحالات النفسية المتأزمة التي حاولت الشخصية المختطَفة التعبير عنها. ففي غمرة فقدان الدواء، خرج الجسد عن السيطرة أو هكذا أوحت الممثلة لجسدها، فصرخ وتمرغ على خشبة المسرح حتى وصل إلى حالة من الهستيريا والهذيان، لكن الدافع على هذا الفعل كان الماضي الذي يلاحقها كظلها، فالزوج زج بها في المستشفى واستولى على ثروتها وآثر عليها زوجة أخرى، تمرغت على الخشبة ودارت حول نفسها وهي تصرخ وتتألم وتعبث بجسدها الذي أصبح سرياليا، جذبة للتخلص من اليومي، والتخلص من كل القيود، والدخول في عالم من الأحلام لتخرج منه بقولها "ريخ أدوخ غرسبيطار" "أريد أن أذهب إلى المستشفى".
الفعل الجسدي العراكي: لقد غلب الفعل الجسدي العراكي في مسرحية "أركاز إزنزن تافوكت" نظرا لطبيعة الموضوع "الاختطاف" وبنية الشخصيات التي تعاني من اضطرابات نفسية، لذلك كان الفعل الجسدي العراكي حاضرا بقوة في هذه المسرحية، مجسدا بذلك تلاحم الجسد مع الفكرة المسرحية لبناء الحدث. العراك لمنع خروج المختطفة، أو الاستمتاع بآلامها، هكذا عبر الجسد العراكي عن أبرز عنصر في المسرحية وهو الصراع.
الفعل الجسدي الاحتفالي: كان الفعل الجسدي الاحتفالي متمثلا في الجو الشعائري، حيث قامت الشخصية المختطِفة بوضع إزار أبيض كالكفن على جسم الشخصية المختطَفة، فوضع لها نظارة وشعرا مستعارا، ورسم عليها عينين وحاجبين من جسد الشخصية، هذا الفعل الجسدي المصحوب بموسيقى شعائرية أضفى على المسرحية بعدا جماليا وشعريا، بالإضافة إلى احتفاء الشخصية المختطِفة بالدمية، ودورانه حول الشخصية المختطفة والرقص بالسكين على أنغام الطبول.
الأنساق النسقية: شعرية السينوغرافيا
         إن السينوغرافيا هي الفضاء الحيوي الذي ينمو فيه الحدث الدرامي ليؤسس شعرية المكان النصي على خشبة المسرح، فهي "الفن والعلم الذي ينظم الركح والفضاء المسرحي، لا بل هي أيضا الديكور نفسه. وهي تقنية تقوم على رسم وصباغة وتشكيل اللوحة الخلفية اعتمادا على المنظرية"1 ومن خلال هذا التعريف يمكن أن نتحدث عن مجموعة من العناصر التي تندرج ضمن السينوغرافيا:
شعرية الديكور:
       يقوم الديكور بدور كبير في تشييد معنى العروض المسرحية، إذ "إن مسرح اليوم الذي يسعى إلى الاعتماد على التعبير الجسدي واللغة البصرية وبناء الصورة المرئية واختزال اللغة الكلامية، يعطي العناصر البصرية من ديكور وأزياء وإضاءة بما تحمله من قيم تشكيلية مكان الصدارة في عروضه" لذلك نجد المخرج كريم لفحل قد أولى أهمية كبيرة للديكور في علاقته باللعب وخلق الفعل المسرحي في مسرحية "أركاز إزنزن تافوكت". و"الديكور المسرحي يحمل أهمية خاصة من الناحيتين الوظيفية والجمالية، فهو المشير مباشرة إلى المكان، والمترجم للحالة النفسية التي يجري عليها الموقف والحدث، وينسحب ذلك على جميع الأشكال المسرحية سواء كانت عروضا للمأساة أم الملهاة أم الرقص"، وتتجلى أهمية الديكور في المسرحية من خلال العناصر التالية:
الديكور الثابت: يتكون الديكور الثابت من جدار يوحي بتآكل المنزل/الكوخ الذي جلب إليه المختطِف السيدة المختطَفة، وقد نعت من قبل الصوت الخارجي بأنه كوخ يتوجب عليه أن يخرج منه، هذا الجدار الذي يحتوي على ساعة حائطية وصورتين معلقتين ومنفذين يخترقان الجدار وبيانو.
الديكور المتحرك: مكتبة يتم توظيفها توظيفا مزدوجا في العرض المسرحي، حيث حولتها الشخصية المختطِفة إلى قبر، وهو ما جعله يخلق فضاء آخر للعب لكسر رتابة الأحداث التي كانت مرتكزة حول الشخصيتين.
شعرية الديكور: تتجلى جمالية الديكور في كونه الفضاء الذي يحتضن الأحداث والشخصيات، إذ لا يمكن الحديث عن شعرية الديكور بمنء عن علاقته بالعناصر الأخرى، إذ يجسد خصائص تتناغم مع اظطراب الشخصيتين، فهو مهترئ، به فجوتان يخرجان عبرهما إلى العالم الذي فرا منه. فهو إذن مكان/عالم مواز للعالم الحقيقي، فهو مثالي يحفظ القيم الإنسانية التي تدافع عنها الشخصيتين. شعرية الإضاءة
      تحتل الإضاءة في العروض المسرحية الحديثة مكانة بارزة، لا تقل أهمية عن العناصر المسرحية الأخرى التي تسهم في بناء العرض المسرحي، فهي ليست تزيينية فقط، بل تخلق المعاني الدلالية والجمالية، لذلك فهي تقوم بوظائف عدة، فـ"الوظيفة الأولى للضوء هي إظهار الممثلين فإذا لم يستطع المتفرجون رؤية الممثلين، وجوها وأجساما اعتراهم وقت عصيب بعد نهاية العمل التمثيلي للمسرحية وقد يجدون مشقة في سماع الألفاظ التي ينطقها الممثلون إذ يعتمد كل من السمع والرؤية على الآخر إلى حد كبير. إذن فوضع الرؤية ذو أهمية أولى. وأول شيء يجب على مصمم المنظر أن يراعيه عند تصميم الإضاءة اللازمة لإخراج أي مسرحية هو الإضاءة". 
     وعموما، يمكن أن نقسم الإضاءة في مسرحية "أركاز إزنزن تافوكت" إلى الإضاءة المنتجة للمعاني، والشارحة للأحداث، وخلق الجو المناسب لنمو الحدث. فمنذ بداية العرض المسرحي، يتبين الدور الكبير للإضاءة في العرض المسرحي، وقبل الانتقال إلى جماليات الإضاءة فقد جاء توظيفها كالتالي:
المشهد الأول: إضاءة بنفسجية على الشخصية المختطِفة وهو يعزف البيانو، وأخرى زرقاء على الشخصية المختطَفة وهي مسترسلة في تداعياتها، وإضاءة بيضاء تتوسطهما، ثم بعد ذلك إضاءة بيضاء على عموم الخشبة بحيث يصبح فضاء الخشبة فضاء مشتركا، وتنتقل الإضاءة لتعكس مواقف سادية من تعذيب المختطِف للمختطَفة، وهو ما جعل الإضاءة تعكس هذا الصراع من خلال أمواج من الإضاءة المختلفة الألوان، لينتقل بعدها إلى إضاءة حمراء مفتوحة ترافقها طقوس تقوم بها الشخصية، تظهر الاضطراب الذي تعيشه، ثم إضاءة زرقاء تظهر المختل يقوم برقصة شعائرية بسكين، وإضاءة حمراء مفتوحة حين يضع المختل كفنا على الشخصية المختطفة.
المشهد الثاني: إظلام وبقعة ضوء على الخشبة تتسع تدريجيا لتشمل كل الخشبة، وقد جاء المشهد الثاني مقتصدا في اعتماده على خلق المعنى بواسطة تقنيات الإضاءة، باستثناء بعض الفترات التي تم فيها التبئيرعلى المختطِف إضاءة بيضاء لتظهر تخبطه والعدمية التي يعيشها، إضافة إلى إضاءة زرقاء تظهر تدخل الصوت الخارجي التي تعكس حيرة المتلقي من مصدر الصوت وصاحبه، ثم تبئير على المختطَفة/المختلة لتظهر معاناتها النفسية التي جعلتها تشعر بالحقد على العالم الخارجي.

اهم المصادر 
--------------
- كير إيلام، سيمياء المسرح والدراما، م س، ص: 15. 
- كير إيلام، سيمياء المسرح والدراما، م س، ص61. 
-  نفسه، ص 61. 
-  كارل النزويرث، الإخراج المسرحي، ترجمة أمين سلامة، مكتبة الأنجلو المصرية، أكتوبر 1980، ص: 335. 



0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption