أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

السبت، 22 أبريل 2023

الاحتفالي والاحتفالية الشاعر والمشروع (24) / د.عبد الكريم برشيد

مجلة الفنون المسرحية 


الاحتفالي والاحتفالية الشاعر والمشروع (24)

                        فاتحة الكلام


هو عيد آخر بدون الحاجة فاطمة الوالي، امي واختي التي لا تتقن من كل لغات العالم إلا لغة واحدة، والتي هي 
لغة الفرح
والتي هي اجمل وانبل وأصدق كل اللغات الحية في الحياة

في البدء، كنت أنا الاحتفالي الحالم مجرد مشروع وجود في هذا الوجود، وكنت مشروع هوية فكرية وجمالية وأخلاقية أيضا، ولحد الآن مازال هذا الإنسان المشروع قائما، وهكذا سوف يبقى إلى ما شاء الله، وأن يكون مع توالي الأيام والأعوام مجرد مشروع مفتوح على الإضافات التي قد تأتي، أو قد لا تأتي، وسيظل هذا المشروع ناقصا دائما، وسيظل البحث فيه وعنه مستمرا، وهو اليوم، تماما كما كان بالأمس غير مكتمل، ولو أنه اكتمل ما كما نواصل التأمل والتفكير والتدبير والاجتهاد والتجريب، وهو بهذا غير تام غير نهائي، لأنها نهر حالات ونهر أفكار حية ونهر تصورات متجددة ونهر اختيارات مبدئية ثابتة، وتصوروا معي جيدا هذه الصورة، أن يكون ها المشروع الإنساني الفني، يحمل داخله مشروعا فكريا وجماليا وأخلاقيا بحجم التاريخ، وأن يكون هذا المشروع اسمه المشروع الاحتفالي، هو مشروع داخل مشروع داخل مشروع إلة ما لا نهاية   
و( تصوروا..هذا هو مشروع العمر.. لقد كلفني تصوره وتحضيره نصف عمري الذي مضى، وأتوقع أن أحققه في نصف عمري الذي سوف يأتي.. يا ويلي.. ومن قال بأنه سوف يأتي؟)
هكذا نطق ذلك الصوت المسرحي في احتفالية ( مقامات بهلوانية) والذي يمكن أن يشبهني ـ أو أشبهه ـ  وذلك في أشياء كثيرة جدا، والذي قد يكون عمره أطول من عمري، ويكون كلامه أبلغ من كلامي
إنني في هذه الكتابات التأملية الجديدة، والتي جاءت بعد ( بيانات كازابلانكا للاحتفالية المتجددة) ادخل مرحلة أخرى جديدة من عمر مشروعي الوجودي والفكري والجمالي، ولذلك فإنني أجد نفسي اليوم مضطرا لأن أقول الكلمة التالية:  
إن كل ما أكتبه في هذه الأوراق  الطائرة والمعبرة؛ من حالات ومن تأملات ومن تصورات ومن اقتراحات، في مشروعي الفكري والجمالي، الواسع والعريض، هو أساسا فيض روحي وفيض خيالي وفيض عقلي، وقبل هذا وذاك، هو مجرد جزء صغير وبسيط من مشروعي العمري والوجودي والفكري، وهو بالتأكيد ظلال حالاتي ومقاماتي، وهو خطوات أخرى جديدة، تواصل ما عشته وأعيشه، وتكمل ما كتبته ومازلت أكتبه في مسرحياتي، وهي تجسد وتشخصن، بلغات أخرى، ما أودعته في بياناتي وأدبياتي، وما سطرته في تنظيراتي الفكرية، وأيضا، ما خبأته في أسئلتي المشاغبة والمشاكسة من معاني سحرية، وهو نفس ما قالته وتقوله مواقفي المبدئية الثابتة، والتي ذهب خصومها إلى حيث لا أدري وبقيت هي، ومن المؤكد، أن كل كلمة في هذه الكتابة الحية الجديدة، هي إضافة جديدة تغني ما هو كائن وموجود، وتبشر بما هو ممكن ومحتمل الوجود، وهي تشاغب ما هو غريب وعجيب، وتساءل كل ما هو ساكت وغامض ومبهم، وهي كتابة تحاول أن تمشي دائما في الاتجاه المعاكس والمشاكس والممنوع، وهي تعكس بعض الوقائع في الواقع، ولكنها لا تعاكس الحق والحقيقة، ومهمتها هو أن تسافر نحو ما هو بعيد ونحو ما هو غائب ونحو ما هو  مغيب، وأن ترحل نحو ما هو سحري وخفي وغريب وعجيب، وأن تمسك بما هو انسيابي وزئبقي ومنفلت وروحي حركية الأيام والليالي .

                      كتابة غنية في مشروع غني

إن الأصل في هذه الكتابة، هو أنها كتابة شاعر يتأمل شعرية الوجود، وتتأمل شعرية الحياة، وتتأمل شعرية الفنون، وكيفما تحركت هذه الكتابة،، ومهما حلقت وابتعدت، ومهما تعددت وتنوعت أساليب الشطح فيها، فإنها لا يمكن أن تحلق إلا في السماوات الاحتفالية والعيدية، الكائنة والممكنة معا، وهي لا تنطلق، ولا تبتعد، ولا تغيب، إلا من أجل أن تحضر، وأن تعود بعد التحليق إلى هذه الأرض الاحتفالية أيضا، وتعود إلى مناخها وزمنها، وهي لا تتغذى ـ فكريا و جماليا وأخلاقيا ـ إلا بالغذاء الاحتفالي، والذي هو غذاء الحرية والتحرر، وهو غذاء الإنسان والإنسانية، وهو غذاء المدينة والمدنية، وهو غذاء الحياة والحيوية، وهو غذاء الجمال والجمالية، وهي لا ترى هذا العالم، ولا تتمثله، إلا من خلال رؤية عيدية واحتفالية صادقة وناطقة، رؤية مضاءة بكل الأنوار، وملونة بكل الألوان، ومفتوحة عن آخرها؛ وهي رؤية إنسانية وكونية شاملة، فلا هي شرقية فقط، ولا هي غربية بشكل مطلق، هي رؤية تتعدد فيها الألوان، وتتقاطع فيها الأشكال، وتتحاور فيها الأصوات، وتتكامل فيها الأجساد الحية والجامدة معا، وتنطق فيها كل الموجودات بلغة الوجود، وتنطق فيها كل عناصر الطبيعة بلغة الطبيعة الحية.
ولعل أهم ما يميز هذه السماوات الاحتفالية هو أنها عالية وغالية وغنية جدا، ولو لم تكن كذلك، فهل كان ممكنا أن تكون بهذا السحر وبهذه الشعرية وبهذه الغرابة وبهذا الإدهاش وبهذه القدرة على التحدي والتصدي؟ 
أما أرض هذه الاحتفالية ـ المشروع ـ أو أراضيها ـ فإنها لا يمكن أن تكون إلا صلبة وثابتة، وفي فعل ذلك التحليق إلى الأعلى والأسمى يحضر الخيال دائما، وفي هذا الخيال يحضر شيء من الواقع والوقائع، وتحضر أشياء كثيرة جدا من الحقيقة العارية والشفافة..
في هذه الكتابة، لا تهم الاحتفالي المعلومة في ذاتها، تسألون لماذا؟ أقول لكم لماذا لأنه ـ وبكل بساطة ـ يعتبر أن كل معلومة لا تؤسس علما جديدا ليس لها معنى، هذا أولا
وثانيا؟ 
وثانيا، فإنني يعتبر كل فكرة لا تؤسس فكرا لا يعول عليها 
وبحسب الاحتفالي فإن كل مسرحية، كتابة كانت، أو عرضا كاملا مسرحيا أو متكاملا،  لا تبني مسرحا، أو لا تساهم في تفعيل حركة مسرحية واسعة وعريضة، ما هي إلا فعل سطحي وعابر في زمن عابر 
وعليه، فإن ما أطمح إليه عادة، ليس هو أن أكون رجل إعلام، ولكن، أن أكون رجل علم ورجل فكر ورجل فن ورجل ثقافة، وقبل هذا وذاك، أن أكون رجل مواقف مبدئية ثابتة وراسخة ومتجذرة في أرضها وفي تربتها وفي لغتها وفي ثقافتها وفي سياقها التاريخي والجغرافي والحضاري.
إنني أعيش، أنا الاحتفالي الشاعر، ومعي مشروعي الفكري، داخل عالم يزخر بالأحداث، وإذا كان هناك من يكتفي بصور هذه الأحداث وخيالاتها، ويكتفي بالوقائع الواقعية، فإن ما يهمني ـ بالدرجة الأولى ـ هو معنى هذه الأحداث والوقائع، وهو روحها وفلسفتها، وهو محركها وطبيعة حركتها، إنني كائن ثقافي تاريخي.. أعيش في التاريخ الثقافي، وأكتب على ألواحه، وكل كتاباتي تنكتب بوحي من هذا التاريخ، وأحرص دائما على ألا يخدعني مكر هذا التاريخ، وما يهمني أكثر، ليس هو هذا التاريخ، كوقائع وأسماء ومواقع وتواريخ وناسبات، ولكن..روح التاريخ، وعن سر هذا الروح أبحث دائما..

                     المندهش في المشروع المدهش

 في حياة هذه الكتابة الحيوية إذن، تنكتب الحروف والكلمات بشكل عفوي وحيوي، وتتأسس العبارات، وتولد المعاني، وتتشكل عناصر الدهشة أمام غرائبية الأشياء، وأمام عجائبية الصور، وأمام سحر المشاهدات، وتتأسس المماليك الأسطورية والخرافية الجديدة والبعيدة.
وفي هذه الحياة ـ حياتنا دائما، توجد تضاريس وجدانية وفكرية مركبة ودقيقة جدا، وفيها أحوال نفسية متقلبة ومتجددة، وفيها انتصارات وانكسارات، وفيها منعطفات ومنعرجات، وفيها مرتفعات ومنحدرات، وفيها جزر وخلجان، وفيها مدن وأوطان، وفي شعابها ودروبها توجد علامات وإشارات كثيرة، بعضها معروف ومألوف، وأغلبها غامض وملتبس، وبذلك فهي تستعصي على القراءة البرانية، وتستعصي على الرؤية العامة والسطحية.
وشيء مؤكد، بحس المشروع الاحتفالي، فإنه لا وجود لحياة بسرعة واحدة، ولا وجود لعمر لا يرتقي إلى الأعلى، أو إلى الأسفل دائما، ولا وجود لعيش لا يتخلله التوتر والمعاناة، ولا وجود لأجساد حية لا تخترقها الأخطاء والأعطاب والصدمات، وكثيرا ما تغتني حياة الكاتب المبدع بالتعدد والتنوع، وتتطهر نفسه بالقلق والتوتر، وتتجدد أعماره بالاحتراق النفسي والذهني والروحي.
وأعترف، بأم الأمر ليس بالسهولة التي قد يتخيلها بعض المتخيلين، ذلك لأن من يبحث عن حياة حقيقية، بمثل هذا الغنى والامتلاء، وبهذا الاختلاف والتنوع، فإنه لا بد أن يتعب ويشقى.. يشقى ماديا وجسديا بكل تأكيد، ولكنه في المقابل، يمكن أن يرتاح نفسيا وذهنيا وروحيا، وأن يرضى عن نفسه، وأن ترضى عنه نفسه، وذلك عندي.. كما قد يكون عند كثير ممن يحترقون بنار التأمل والكتابة، هو .. أعز ما يطلب، وبهذا يكون كل ما نكتبه من كتابات وكل مت نبدعه من إبداعات هو حقيقية شفافة وصادقة هو.. وهو لدينا أعز ما يكتب، وأعز ما يطلب. وأع ما يمكن أن يصله الواصلون  
وأعتقد أنه لا أحد يمكن أن تفوته الحقيقة البسيطة التالية، وهي أن أعز ما يكتب، لا يمكن أن يكون ـ وبالضرورة ـ هو نفسه أعز ما يقرأ، وذلك لأنه لا وجود لقراءة نموذجية واحدة، ولا وجود لقارئ نمطي واحد، ولا وجود لنظام مدرسي واحد في القراءة، وأعتقد أنه لا يمكن أن نختلف حول الصورة التالية، وهي أن الأجساد والأرواح والأشياء في هذا العالم لا تبحث إلا عما وعمن يشبهها، فكل كتابة تبحث عن قارئها الافتراضي، وكل قارئ يبحث عن كتابته الممكنة، ولا شك أن هذه الكتابة الاحتفالية لها بين الناس أهل وأحباب، ولها أصدقاء ورفاق، ولها أرواح ونفوس تلتقي وإياها عند نقطة ما في دروب المعاني والأفكار.. ولهذه الأرواح والنفوس التي تشبهنا ونشبهها، ينبغي أن نكتب اليوم، تماما مثلما كتبنا بالأمس، وتماما كما سوف نكتب غدا وبعد غد، ويمكن أن نقتنع أيضا، بأن نصف المعاني فقط موجودة في كتابة الكاتب، أما نصفها الثاني، فهو موجود في صدر رفيقنا وشقيقنا القارئ .. القارئ العالم والفاهم والصانع والمبدع..   
إن أعز ما يكتب إذن، في هذا المشروع الاحتفالي الموسع، هي تلك الكتابة الأخرى؛ الغائبة أو المغيبة أو المصادرة أو المقموعة أو الممنوعة أو المقرصنة أو المهربة، وهي الكتابة العالمة بكل تأكيد، والتي لها أرض صلبة تقف عليها، ولها سماء واسعة تصعد إليها، والتي لها أحلام مشروعة تراها بأعين مفتوحة عن آخرها، والتي لها طريق تختاره ويختارها، وتحاول أن تمشي فيه، خطوة بعد خطوة، ابتداء من بدايته إلى ما لا نهاية له، والتي لها غاية جميلة ونبيلة تتجه إليها، والتي لها قناعات واختيارات فكرية ووجودية ثابتة وراسخة، وهي التي لها أفكار مختلفة ومخالفة، وتحاول أن ترقى بهذه الأفكار الواردة والشاردة، وأن تحولها إلى منظومة أفكار، وأن تؤسس بها فكرا جديدا، وأن تكون قادرة على أن تنتج داخلها الأفكار المناقضة والمخالفة لها، وأن تعطي الفرصة لهذه الأفكار لأن تحاور بعضها البعض.  
إنني أعرف، وأعترف، بأن بعض ما يكتبه الاحتفالي غامض ومغلق، وهذا شيء لا يضايقني إطلاقا، لأن للغموض جاذبيته وسحره، وقد يكون السحر هو الغموض، لأنه يخفي روح الأشياء وروح المعني، وأعرف أن البعض الآخر مما يكتبه الاحتفالي قد يكون غير مفيد، أو غير مثير، أو غير ممتع، أو غير صادق، أو غير جريء، أو غير مقنع، وفي عالم هذه الكتابة تلتقي وتتعايش كل المتناقضات، فهناك ما هو شفاف وهناك ما هو كثيف، وهناك حلو الكلام إلى جانب مر الكلام، وهناك كلام النهار، وإلى جواره نجد كلاما  آخر هو كلام الليل .. وهذا الكلام الأخير لا يعول عليه، لأنه في النهاية، لابد أن يمحوه ضوء  النهار..    
إن الأصل في الكتابة أنها لا تطابق الواقع بالضرورة، فهي إما أن تكون أكبر منه أو أصغر منه، وأن تكون فوقه أو تكون تحته، ولعل هذا هو انتبه إلى السورياليون عندما دعوا إلى الارتقاء إلى ما فوق الواقع، وإلى ما وراء الوقائع..
في البدء، كنت أنا الاحتفالي الحالم مجرد مشروع وجود في هذا الوجود، وكنت مشروع هوية فكرية وجمالية وأخلاقية أيضا، ولحد الآن مازال هذا الإنسان المشروع قائما، وهكذا سوف يبقى إلى ما شاء الله، وأن يكون مع توالي الأيام والأعوام مجرد مشروع مفتوح على الإضافات التي قد تأتي، أو قد لا تأتي، وسيظل هذا المشروع ناقصا دائما، وسيظل البحث فيه وعنه مستمرا، وهو اليوم، تماما كما كان بالأمس غير مكتمل، ولو أنه اكتمل ما كما نواصل التأمل والتفكير والتدبير والاجتهاد والتجريب، وهو بهذا غير تام غير نهائي، لأنها نهر حالات ونهر أفكار حية ونهر تصورات متجددة ونهر اختيارات مبدئية ثابتة، وتصوروا معي جيدا هذه الصورة، أن يكون ها المشروع الإنساني الفني، يحمل داخله مشروعا فكريا وجماليا وأخلاقيا بحجم التاريخ، وأن يكون هذا المشروع اسمه المشروع الاحتفالي، هو مشروع داخل مشروع داخل مشروع إلة ما لا نهاية   
و( تصوروا..هذا هو مشروع العمر.. لقد كلفني تصوره وتحضيره نصف عمري الذي مضى، وأتوقع أن أحققه في نصف عمري الذي سوف يأتي.. يا ويلي.. ومن قال بأنه سوف يأتي؟)
هكذا نطق ذلك الصوت المسرحي في احتفالية ( مقامات بهلوانية) والذي يمكن أن يشبهني ـ أو أشبهه ـ  وذلك في أشياء كثيرة جدا، والذي قد يكون عمره أطول من عمري، ويكون كلامه أبلغ من كلامي
إنني في هذه الكتابات التأملية الجديدة، والتي جاءت بعد ( بيانات كازابلانكا للاحتفالية المتجددة) ادخل مرحلة أخرى جديدة من عمر مشروعي الوجودي والفكري والجمالي، ولذلك فإنني أجد نفسي اليوم مضطرا لأن أقول الكلمة التالية:  
إن كل ما أكتبه في هذه الأوراق  الطائرة والمعبرة؛ من حالات ومن تأملات ومن تصورات ومن اقتراحات، في مشروعي الفكري والجمالي، الواسع والعريض، هو أساسا فيض روحي وفيض خيالي وفيض عقلي، وقبل هذا وذاك، هو مجرد جزء صغير وبسيط من مشروعي العمري والوجودي والفكري، وهو بالتأكيد ظلال حالاتي ومقاماتي، وهو خطوات أخرى جديدة، تواصل ما عشته وأعيشه، وتكمل ما كتبته ومازلت أكتبه في مسرحياتي، وهي تجسد وتشخصن، بلغات أخرى، ما أودعته في بياناتي وأدبياتي، وما سطرته في تنظيراتي الفكرية، وأيضا، ما خبأته في أسئلتي المشاغبة والمشاكسة من معاني سحرية، وهو نفس ما قالته وتقوله مواقفي المبدئية الثابتة، والتي ذهب خصومها إلى حيث لا أدري وبقيت هي، ومن المؤكد، أن كل كلمة في هذه الكتابة الحية الجديدة، هي إضافة جديدة تغني ما هو كائن وموجود، وتبشر بما هو ممكن ومحتمل الوجود، وهي تشاغب ما هو غريب وعجيب، وتساءل كل ما هو ساكت وغامض ومبهم، وهي كتابة تحاول أن تمشي دائما في الاتجاه المعاكس والمشاكس والممنوع، وهي تعكس بعض الوقائع في الواقع، ولكنها لا تعاكس الحق والحقيقة، ومهمتها هو أن تسافر نحو ما هو بعيد ونحو ما هو غائب ونحو ما هو  مغيب، وأن ترحل نحو ما هو سحري وخفي وغريب وعجيب، وأن تمسك بما هو انسيابي وزئبقي ومنفلت وروحي حركية الأيام والليالي .

                      كتابة غنية في مشروع غني

إن الأصل في هذه الكتابة، هو أنها كتابة شاعر يتأمل شعرية الوجود، وتتأمل شعرية الحياة، وتتأمل شعرية الفنون، وكيفما تحركت هذه الكتابة،، ومهما حلقت وابتعدت، ومهما تعددت وتنوعت أساليب الشطح فيها، فإنها لا يمكن أن تحلق إلا في السماوات الاحتفالية والعيدية، الكائنة والممكنة معا، وهي لا تنطلق، ولا تبتعد، ولا تغيب، إلا من أجل أن تحضر، وأن تعود بعد التحليق إلى هذه الأرض الاحتفالية أيضا، وتعود إلى مناخها وزمنها، وهي لا تتغذى ـ فكريا و جماليا وأخلاقيا ـ إلا بالغذاء الاحتفالي، والذي هو غذاء الحرية والتحرر، وهو غذاء الإنسان والإنسانية، وهو غذاء المدينة والمدنية، وهو غذاء الحياة والحيوية، وهو غذاء الجمال والجمالية، وهي لا ترى هذا العالم، ولا تتمثله، إلا من خلال رؤية عيدية واحتفالية صادقة وناطقة، رؤية مضاءة بكل الأنوار، وملونة بكل الألوان، ومفتوحة عن آخرها؛ وهي رؤية إنسانية وكونية شاملة، فلا هي شرقية فقط، ولا هي غربية بشكل مطلق، هي رؤية تتعدد فيها الألوان، وتتقاطع فيها الأشكال، وتتحاور فيها الأصوات، وتتكامل فيها الأجساد الحية والجامدة معا، وتنطق فيها كل الموجودات بلغة الوجود، وتنطق فيها كل عناصر الطبيعة بلغة الطبيعة الحية.
ولعل أهم ما يميز هذه السماوات الاحتفالية هو أنها عالية وغالية وغنية جدا، ولو لم تكن كذلك، فهل كان ممكنا أن تكون بهذا السحر وبهذه الشعرية وبهذه الغرابة وبهذا الإدهاش وبهذه القدرة على التحدي والتصدي؟ 
أما أرض هذه الاحتفالية ـ المشروع ـ أو أراضيها ـ فإنها لا يمكن أن تكون إلا صلبة وثابتة، وفي فعل ذلك التحليق إلى الأعلى والأسمى يحضر الخيال دائما، وفي هذا الخيال يحضر شيء من الواقع والوقائع، وتحضر أشياء كثيرة جدا من الحقيقة العارية والشفافة..
في هذه الكتابة، لا تهم الاحتفالي المعلومة في ذاتها، تسألون لماذا؟ أقول لكم لماذا لأنه ـ وبكل بساطة ـ يعتبر أن كل معلومة لا تؤسس علما جديدا ليس لها معنى، هذا أولا
وثانيا؟ 
وثانيا، فإنني يعتبر كل فكرة لا تؤسس فكرا لا يعول عليها 
وبحسب الاحتفالي فإن كل مسرحية، كتابة كانت، أو عرضا كاملا مسرحيا أو متكاملا،  لا تبني مسرحا، أو لا تساهم في تفعيل حركة مسرحية واسعة وعريضة، ما هي إلا فعل سطحي وعابر في زمن عابر 
وعليه، فإن ما أطمح إليه عادة، ليس هو أن أكون رجل إعلام، ولكن، أن أكون رجل علم ورجل فكر ورجل فن ورجل ثقافة، وقبل هذا وذاك، أن أكون رجل مواقف مبدئية ثابتة وراسخة ومتجذرة في أرضها وفي تربتها وفي لغتها وفي ثقافتها وفي سياقها التاريخي والجغرافي والحضاري.
إنني أعيش، أنا الاحتفالي الشاعر، ومعي مشروعي الفكري، داخل عالم يزخر بالأحداث، وإذا كان هناك من يكتفي بصور هذه الأحداث وخيالاتها، ويكتفي بالوقائع الواقعية، فإن ما يهمني ـ بالدرجة الأولى ـ هو معنى هذه الأحداث والوقائع، وهو روحها وفلسفتها، وهو محركها وطبيعة حركتها، إنني كائن ثقافي تاريخي.. أعيش في التاريخ الثقافي، وأكتب على ألواحه، وكل كتاباتي تنكتب بوحي من هذا التاريخ، وأحرص دائما على ألا يخدعني مكر هذا التاريخ، وما يهمني أكثر، ليس هو هذا التاريخ، كوقائع وأسماء ومواقع وتواريخ وناسبات، ولكن..روح التاريخ، وعن سر هذا الروح أبحث دائما..

                     المندهش في المشروع المدهش

 في حياة هذه الكتابة الحيوية إذن، تنكتب الحروف والكلمات بشكل عفوي وحيوي، وتتأسس العبارات، وتولد المعاني، وتتشكل عناصر الدهشة أمام غرائبية الأشياء، وأمام عجائبية الصور، وأمام سحر المشاهدات، وتتأسس المماليك الأسطورية والخرافية الجديدة والبعيدة.
وفي هذه الحياة ـ حياتنا دائما، توجد تضاريس وجدانية وفكرية مركبة ودقيقة جدا، وفيها أحوال نفسية متقلبة ومتجددة، وفيها انتصارات وانكسارات، وفيها منعطفات ومنعرجات، وفيها مرتفعات ومنحدرات، وفيها جزر وخلجان، وفيها مدن وأوطان، وفي شعابها ودروبها توجد علامات وإشارات كثيرة، بعضها معروف ومألوف، وأغلبها غامض وملتبس، وبذلك فهي تستعصي على القراءة البرانية، وتستعصي على الرؤية العامة والسطحية.
وشيء مؤكد، بحس المشروع الاحتفالي، فإنه لا وجود لحياة بسرعة واحدة، ولا وجود لعمر لا يرتقي إلى الأعلى، أو إلى الأسفل دائما، ولا وجود لعيش لا يتخلله التوتر والمعاناة، ولا وجود لأجساد حية لا تخترقها الأخطاء والأعطاب والصدمات، وكثيرا ما تغتني حياة الكاتب المبدع بالتعدد والتنوع، وتتطهر نفسه بالقلق والتوتر، وتتجدد أعماره بالاحتراق النفسي والذهني والروحي.
وأعترف، بأم الأمر ليس بالسهولة التي قد يتخيلها بعض المتخيلين، ذلك لأن من يبحث عن حياة حقيقية، بمثل هذا الغنى والامتلاء، وبهذا الاختلاف والتنوع، فإنه لا بد أن يتعب ويشقى.. يشقى ماديا وجسديا بكل تأكيد، ولكنه في المقابل، يمكن أن يرتاح نفسيا وذهنيا وروحيا، وأن يرضى عن نفسه، وأن ترضى عنه نفسه، وذلك عندي.. كما قد يكون عند كثير ممن يحترقون بنار التأمل والكتابة، هو .. أعز ما يطلب، وبهذا يكون كل ما نكتبه من كتابات وكل مت نبدعه من إبداعات هو حقيقية شفافة وصادقة هو.. وهو لدينا أعز ما يكتب، وأعز ما يطلب. وأع ما يمكن أن يصله الواصلون  
وأعتقد أنه لا أحد يمكن أن تفوته الحقيقة البسيطة التالية، وهي أن أعز ما يكتب، لا يمكن أن يكون ـ وبالضرورة ـ هو نفسه أعز ما يقرأ، وذلك لأنه لا وجود لقراءة نموذجية واحدة، ولا وجود لقارئ نمطي واحد، ولا وجود لنظام مدرسي واحد في القراءة، وأعتقد أنه لا يمكن أن نختلف حول الصورة التالية، وهي أن الأجساد والأرواح والأشياء في هذا العالم لا تبحث إلا عما وعمن يشبهها، فكل كتابة تبحث عن قارئها الافتراضي، وكل قارئ يبحث عن كتابته الممكنة، ولا شك أن هذه الكتابة الاحتفالية لها بين الناس أهل وأحباب، ولها أصدقاء ورفاق، ولها أرواح ونفوس تلتقي وإياها عند نقطة ما في دروب المعاني والأفكار.. ولهذه الأرواح والنفوس التي تشبهنا ونشبهها، ينبغي أن نكتب اليوم، تماما مثلما كتبنا بالأمس، وتماما كما سوف نكتب غدا وبعد غد، ويمكن أن نقتنع أيضا، بأن نصف المعاني فقط موجودة في كتابة الكاتب، أما نصفها الثاني، فهو موجود في صدر رفيقنا وشقيقنا القارئ .. القارئ العالم والفاهم والصانع والمبدع..   
إن أعز ما يكتب إذن، في هذا المشروع الاحتفالي الموسع، هي تلك الكتابة الأخرى؛ الغائبة أو المغيبة أو المصادرة أو المقموعة أو الممنوعة أو المقرصنة أو المهربة، وهي الكتابة العالمة بكل تأكيد، والتي لها أرض صلبة تقف عليها، ولها سماء واسعة تصعد إليها، والتي لها أحلام مشروعة تراها بأعين مفتوحة عن آخرها، والتي لها طريق تختاره ويختارها، وتحاول أن تمشي فيه، خطوة بعد خطوة، ابتداء من بدايته إلى ما لا نهاية له، والتي لها غاية جميلة ونبيلة تتجه إليها، والتي لها قناعات واختيارات فكرية ووجودية ثابتة وراسخة، وهي التي لها أفكار مختلفة ومخالفة، وتحاول أن ترقى بهذه الأفكار الواردة والشاردة، وأن تحولها إلى منظومة أفكار، وأن تؤسس بها فكرا جديدا، وأن تكون قادرة على أن تنتج داخلها الأفكار المناقضة والمخالفة لها، وأن تعطي الفرصة لهذه الأفكار لأن تحاور بعضها البعض.  
إنني أعرف، وأعترف، بأن بعض ما يكتبه الاحتفالي غامض ومغلق، وهذا شيء لا يضايقني إطلاقا، لأن للغموض جاذبيته وسحره، وقد يكون السحر هو الغموض، لأنه يخفي روح الأشياء وروح المعني، وأعرف أن البعض الآخر مما يكتبه الاحتفالي قد يكون غير مفيد، أو غير مثير، أو غير ممتع، أو غير صادق، أو غير جريء، أو غير مقنع، وفي عالم هذه الكتابة تلتقي وتتعايش كل المتناقضات، فهناك ما هو شفاف وهناك ما هو كثيف، وهناك حلو الكلام إلى جانب مر الكلام، وهناك كلام النهار، وإلى جواره نجد كلاما  آخر هو كلام الليل .. وهذا الكلام الأخير لا يعول عليه، لأنه في النهاية، لابد أن يمحوه ضوء  النهار..    
إن الأصل في الكتابة أنها لا تطابق الواقع بالضرورة، فهي إما أن تكون أكبر منه أو أصغر منه، وأن تكون فوقه أو تكون تحته، ولعل هذا هو الذي انتبه إلى السورياليون عندما دعوا إلى الارتقاء بالإبداع إلى ما فوق الواقع، وإلى ما وراء الوقائع..

0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption