الاستوديو التحليلي : لعرض (بيت أبو عبد الله) للمخرج العراقي أنس عبدالصمد :السينوغرافيا الحية تحقيقات في ديناميكية التكوين البصري :د.جاستن جون بيلي
مجلة الفنون المسرحية
الاستوديو التحليلي : لعرض (بيت أبو عبد الله) للمخرج العراقي: أنس عبدالصمد السينوغرافيا الحية تحقيقات في ديناميكية التكوين البصري :د.جاستن جون بيلي
إعلام الهيئة العربية للمسرح
#الاستوديو_التحليلي_المسرح_العربي
الرؤية – الخطة الإخراجية كالصاعقة التي تتجمع على مدى أيام عديدة كشحنة كهربائية فوق الأرض ، عندما يتشبع الجو بها إلى أقصى حد تتحول الغيوم البيضاء المتفرقة إلى سحب مكفهرة منذرة، ومن الشحنة الكهربائية الكثيفة المتركزة فيها تولد الشرارة الأولى من الصاعقة وعلى أثرها ينهمر المطر على الأرض .
كما تظهر كذلك في الوعي المشبع بالأفكار والأحاسيس ومخزون الذاكرة، كل هذا يتجمع بالتدريج وببطء حتى يصل إلى تلك الدرجة من التوتر الذي يطالب بالتفريغ الحتمي، عندها فإنَّ كل هذا العالم المضغوط والذي لا يزال في حالة من الفوضى بعد، يولد الصاعقة ( الخطة) وتولد بذرة العرض.
(قسطنطين باويتوفسكي)
المكان يمثل قضية جمالية وفلسفية للإنسان بهويته وثقافته، لأنه يفرز هوية الفرد وانتماءه المجتمعي والحضاري، ويربطه بالوجود ومصدر الحياة التي يحيطها ويحتضنها ويخلق صيرورتها، فلا حياة دون مكان فهو المعنى الوجودي للإنسان ومضمونه وهو الحياة وكينونتها، في المكان يدرك الإنسان كينونته وجسده وهو الجسد هو مكان.
(الدكتور قيس عودة قاسم)
المدخل:
العرض المسرحي هو دفق من الرموز والشفرات الجمالية والفكرية التي تحمل في تضاريسها العديد من المفاهيم الثقافية والاجتماعية والنفسية التي تضيء بحيويتها الفضاء المسرحي، وتجعل منه عبر التواصل المباشر بين الجمهور والمؤدين مكاناً للأخذ والعطاء المتبادلين، مكاناً للتواصل الثقافي والفكري، مكان يتمكن فيه الإنسان من عبور العديد من الجسور والحدود المعرفية المختلفة وإتاحة فرصة أكبر للانتماء والتعاون والعطاء كشركاء في عملية انتاج المعنى والدلالة في العرض المسرحي الذي يمثل وحدة فكرية إبداعية وجمالية.فالعرض هو نتيجة إبداعية لما يعرفه نيميروفتش دانتشينكو بالحبة أو لب العرض، والذي يقول في شرحه : إنَّه من الصعب أن نحدد ماهي هذه الحبة ومع ذلك نجد أنَّ لكل عرض صيغة دقيقة تعبر عن الحبة فهي فكرة أو شعور في روح المخرج شعور مسبق بالروح العامة ووجهة العرض ضمن وحدة الفكرة والإحساس ( فن المخرج، بوريس زاخافا- ص14)
سوف أتناول في هذه المداخلة التي أحاول من خلالها تفكيك و قراءة الرموز والصورة البصرية التي عمل المخرج على بنائها وفق رؤية إخراجية لها فلسفتها وثقافتها وموروثها السردي في العرض المسرحي (بيت بو عبدالله) من تأليف وإخراج المسرحي العراقي: أنس عبد الصمد، فقد عمل المخرج على تكوين وتشكيل سردية أفكاره ورؤيته من خلال مفردات التكوين البصري في العرض باستخدام العديد من العناصر البصرية والسمعية وغيرها (إنْ وجد في العرض المباشر أمام الجمهور).
هنالك بعض المفاهيم الأساسية أريد أن أشير إليها هنا في هذا المدخل الأولي وهو أنَّ النص المسرحي يمكن أن يتم إخراجه وبناء سرديته البصرية بعدد غير قليل من الطرق وهذا يعتمد على رؤية المخرج وثقافته وموروثه وتجربته في فهم النص وعناصره ومعانيه، وقدرته وتجربته في صناعة وإعادة إنتاج وبناء الرمز وجمالية الطقس البصري في فضاء العرض المسرحي، هذا الموقف ينطبق أيضاً على قراءات العرض المسرحي وتفكيك معانيه ورموزه باعتبار العرض المسرحي كلاً متكاملاً يحتوي على كل المفردات التي يمكن قراءتها وفق التسلل المنطقي لمجريات الحدث الطقسي والثقافي للصورة البصرية،(Dr. Felix E.Gbenoba, Literary theory and Practical Criticism- P112). فالناقد الذي يحاول قراءة العرض المسرحي في فضاء السرد البصري يتواصل مع الرموز والصور الحية الديناميكية بصورة تختلف عن ناقد لآخر لذا فإنَّ القراءات تختلف باختلاف النقاد والقارئين ذلك لأنَّ العرض في ذاته كلاً واحداً متكاملاً بعناصره المتعددة(جسد، مؤدين، موسيقى ، إضاءة ، لون، تكوينات ضوئية، حركة، مجسمات، أزياء ، صوت، مؤثرات مسموعة وغيرها ) هذه العناصر رغم اختلاف هويتها الأصلية الا أنها، وفي سياق بنية هذا العرض المسرحي تشكل وحدة متكاملة تساهم كل منها في بناء سينوغرافيا السرد الجمالي لرؤية المخرج وقراءاتها تتم في سياق هذه البنية الهكيلية التكاملية لديناميكية العرض، لأنها تمثل صخرة واحدة جاثمة أمام عالم جيولوجيا يحاول أن يفكك مكوناتها لإدراك ماهيتها وكينونتها.
مكونات سينوغرافيا العرض:
الشخوص:
الفتاة: فتاة في مقتبل العمر ترتدي فستاناً وشعرها مجعد يغطي وجهها في كثير من الأحيان ، تتنوع حركتها بين الرقص المنفرد والرقص في مقاومة ومحاورة الجدار المتحرك، في كثير من الأحيان هي شاردة بنظرتها في الجزء الأول من العرض، تعمل في تقطيع الجبنة على الطاولة، وتحاول في بعض الأحيان التعرف على بعض الأشخاص . وهي الشخصية الأولى التي أحست بأنَّ الجدران غير ثابتة متحركة وتضرب حصاراً على أفراد البيت.
رجل الجدار: رجل في نهاية الأربعينيات من العمر، عندما ينفصل الجدار الأول نراه مطبوعاً على الجدار ، يحمل جيتاراً بدون أوتار وحقيبة.
رجل المرحاض الأول : شخص في مقتبل العمر يدخل ويستخدم المرحاض والجريدة، يتم طرده من المرحاض قبل أن ينتهي.. ويخرج من خلف الجدار.
رجل المرحاض الثاني: يدخل ويطرد الرجل الأول الذي استخدم المرحاض، ويجلس على المرحاض ويقرأ الجريدة بعدها يبحث عن طريقه زحفاً في اتجاهات مختلفة ، ويحمل حقيبة وكتباً .
الدكتور: يدخل مع ضوء قوي من الباب، يحاول التعامل مع الغسالة ولكن رأسه ينحبس في الغسالة لبعض الوقت، تتوزع حركته مع الآخرين بين الرقص، والتوتر، وتقطيع الجبنة على الطاولة ومحاولة الأكل ، وبصورة أو أخرى فإنَّ هنالك علاقة بين دخول الطبيب وتضييق الجدران في بيت أبو عبدالله.
الدكتورة: تأتي من ذات باب الدكتور، بعد أن استبدل الطبيب الروب الأبيض وارتدى قميصاً كاكياً.
المجموعة التي ترتدي العباءات السوداء: أشباح ،، أو يمكن القول إنَّها قوى خفيفة ولكنها فاعلة في تغيير المكان وتضاريس الجدران وإعادة بناء المكان ومستوياتها، بحركاتهم هذه يصدرون بعض الأصوات التي تعتبر في بعض الأحيان مؤثرات سمعية في بنية الصورة السردية للعرض، في إحدى لحظات العرض يرقصون رقصاً تعبيرياً عنيفاً وكل منهم يقف وراء أحد أفراد بيت بوعبدالله، ويقودون أفراد بيت أبو عبدالله رغماً عنهم ويجلسونهم على مائدة الطعام.
الأشياء غير الحية:
المرحاض: مكان عام وخاص يستخدمه الإنسان للتخلص من فضلاته التي لم يعد الجسم البشري في حاجة إليها ، ما تبقى من الطعام، وهناك العديد من الحكايات عن المرحاض وعلاقته بالجن والراحة والتفكير الإيجابي، حيث نجد العديد من الأشخاص يأخذون الجريدة معهم إلى المرحاض، والمدخنون أيضاً يستخدمونها كمكان للتدخين في بعض الأوقات ، ويتفق معظم الناس أن أعظم الأفكار تأتي عندما يجلس الإنسان على المرحاض، يتخلص من فضلاته ويستدعي بنات أفكاره ولكن ليس هناك اتفاق مثبت عن سبب هذه الظاهرة، وعلى خشبة المسرح تم عكس بعض استخدامات الحمام كقراءة الجريدة، وهو في العرض غير ثابت حاله كحال الكثير من مفردات السينوغرافيا التي تتحرك باستمرار.
الغسالة: ارتبطت الغسالة بالأشياء المتسخة، الأشياء التي تريد ان تُغسل بالماء والصابون لإزالة الأوساخ التي عليها، ولها دلالاتها ورمزيتها الكثيرة باعتبار حتى الأفكار والسلوكيات الثقافية التي نريد أن نغيرها نعمل بصورة أو أخرى على إزالتها واستبدالها بأفكار جديدة ومختلفة ومناسبة (نظيفة بصورة أو أخرى ) باعتبار عدم الحاجة إلى تلك الأشياء البالية القديمة غير المفيدة (المتسخة) فهي أداء وماكينة نستخدمها للتخلص من الأوساخ التي على ملابسنا، وهي متحركة وغير ثابتة في مكان واحد خلال العرض، كما حاول الطبيب إخراج رأسه الذي علق داخل الغسالة لبعض الوقت، ونجح في إخراجها بعد صراع.
طاولة الطعام والكراسي: طاولة عليها ثلاثة صحون وبجانب كل صحن شوكة وسكينة، وتتوسط الصحون صحن أكبر فيها كمية غير قليلة من الجبن الأبيض ، في بعض الأحيان يجتمع أفراد أسرة أبو عبد الله على الطاولة في محالات منهم للأكل دون جدوى ، فقط تنتهي بهم الحال إلى تقطيع الجبن ،، ولكن في حالات بسيطة ينجح البعض في وضع بعض الجبن في فمهم ومضغها وينتهي بهم الموقف على إخراجها من فمهم لاحقاً . والحال كما لمفردات السينوغرافيا فالكراسي والمنضدة متحركة أيضاً .
ثلاث مخدات: ثلاث مخدات بعد انطباق الجدران مع بعضها البعض، يخرج رجل الجدار ورجل المرحاض الثاني والفتاة من باب في أحد الجدران وكل واحد منهم يحمل معه مخدة واحدة ويجُر وراءه قطعة قماش بيضاء طويلة، لاحقاً يتم وضع المخدتين بالقرب من المرحاض والأخرى توضع على مسافة ثلاثة أو يزيد من الأمتار عن الأخريات.
حزمة قمة قماش مربوطة: هي حزمة قماش تحمله الفتاة معها عندما جلست على الطاولة حيث الجبنة والكراسي الثلاثة، وأخذته معها عندما جلست على الأرض ، وفيها عدد من الأشياء من ضمنها قفازة الملاكمة.
جراب تدريب الملاكمة: هو جراب جلدي كبير مربوط بحبل يتدلى في إحدى لحظات العرض، يتدرب عليها الفتاة أو يصارعها في لحظات صراعها وملاكمتها للهواء وإحدى الجدران.
عنكبوت كبير متسلق علي الجدار: يظهر العنكبوت في خلفية المسرح ،، ومنها تتحرك وتنزل إلى الأسفل وتتوقف قبل أن تصل الأرض ، معلق على حبل منسدل من شبكتها، تتحرك وتثبت من حين إلى آخر ، العنكبوت ضوئي أي مصنوع من الضوء في شكل عنكبوت.
فأر كبير: يظهر الفأر على خلفية المسرح ،ويتلف الفأر في اتجاهات عديدة وهي أيضاً مترددة نوعاً ما في خطواتها.
مجموعة فئران: مجموعة كبيرة من الفئران الضوئية تظهر على الخلفية لونها بيضاء أو رمادية، تقف في بداية الأمر ولكنها فجأة تتحرك وتركض وهي في حالة من الفزع وهي بإعداد كبيرة.
عين واحدة كبيرة على خلفية الخشبة: تظهر العين على خشبة المسرح وتنظر وكأنَّها تراغب المكان، من وقت إلى آخر نلحظ إيقاعها، وهي ترمش، وتراقب الحدث بين أفراد بيت أبو عبدالله وهم في تجمعهم في وسط المسرح في محالات غير مكتملة في التعرف على بعض.
ثلاثة جدران متحركة:
ثلاثة صحون على منضدة يتوسطها كتلة كبيرة من الجبنة البيضاء:
عمود ضوئي معلق في الهواء يتحول من حين لآخر ، وينقسم إلى ثلاثة أعمدة : ظهر العمود في الجهة العليا من سماء المسرح، يتحرك العمود إلى أن يتوسط سماء وسط المسرح وفي طريقها إلى سماء اليسار ينسخ من العمود عمود ضوئي ومن ثم عمود آخر ينسخ من العمود ويصبح هناك ثلاثة أعمدة ضوئية يشكلون حرف اليو الانجليزية (U) لكنها أكثر انفراجاً.
حبل كبير معلق في الهواء: ظهر هذا الحبل على يمين وسط المسرح وهو معلق من سقف المسرح، تم استخدامه عدداً من المرات من أحد الشخصيات للتحليق والطيران،
ديناميكية الصورة البصرية:
بيت أبو عبد الله عرض مسرحي يحمل في عنوانه الانتماء لشخص معين، هوية صاحبه وهو أبو عبد الله، البيت ذلك المكان في النظر إلى العرض الذي يعتمد اعتماداً كاملاً على السردية البصرية الصورة والفعل والحركة والثورية في خلق موسيقى مستوحاة من ارتطام الأشياء وصرخات الشخصيات وأصوات شهيقهم وزفيرهم العديد من التحولات البصرية والصوتية والجمالية، مستويات متعددة من الحركة وأعني هنا العلاقة بين أجساد الممثلين (المؤدين) ومسافتها من الأرض أو عليها يمكن أن نجملها في:
الحركات على مستوى الارتفاع الطبيعي للإنسان من الأرض وهي الحركة الطبيعية على المستوى الطبيعي اعتماداً على الأرجل للتنقل أو الرقص على هذا المستوى ويمكن توزيع هذه الحركات على مستوى العرض في الرقص التعبير التي قامت بها الفتاة وكأنَّها تحاول أن تمسك بالرياح التي تتبخر من بين أناملها حيناً وفي أحيان أخرى تقاوم الجدار وتلاكمه مرتدياً قفازات الملاكمة، كما نلحظ في مواضع أخرى مقاومة الجدار في سيرورته نحو التضييق، وهي تعكس مستوى آخر من حركات جسد المؤدي فالجسد هنا يقاوم بشد ليجد مكاناً للبقاء وممارسة الحياة في فضاء أكثر إتساعاً، وبالرغم من قوة الجدار إلا أنَّ الجسد يرفض الاستسلام مستخدماً الأرض كحليف وقوة خارجية للمساندة فالحركة هنا وفي هذه اللحظات تحقيقاً لثورة، لمستوى آخر من الرفض والمقاومة وتضييق الجدار الذي يحدد مستوى ومساحة ممارسة الحياة التي تبدو أنها أضيق من حلم وتطلعات أفراد أسرة أبو عبد الله.
مستوى آخر من الحركة وهو الحركة على المستوى الأرضي والزحف على أربعة أو الظهر أو البطن والجلوس على الأرض في تجليات أخرى ، استخدم المخرج هذا المستوى من الحركة في عدد من المواقف لمركز وجاذب للشخض المتحرك، فالرجل الخارج من الجدار تحرك في اتجاة الفتاة الجالسة على الأرض متتبعاً طريق الضوء حيث وضع حمولته بجانبها، كما اتجه الرجل المرحاض الأول تجاه المرحاض ويجلس، وجاء الثاني وأقامه وجلس على المرحاض وعندما انتهى من قضاء حاجة بحث زاحفاً على الأرض في ضوء يرسم علامة الضرب على أرضية المسرح، بدأ في تحسس طريقه على أربعة ومن ثم على ظهره زاحفاً، وكان هذا واضحاً في العرض من زاويتين، الفتاة وهي على الأرض تصارع الأرض ، وكأنَّها تحاول أن تخرج منه شيئاً دون جدوى ومن ثم ترقص وهي متكئة على الجدار إلى أن خرج رأسها من نقطة أخرى من على الجدار في ذات اتجاه مواجهة الجمهور ، وهي حالة غريبة من الانفصال بين الرأس والجسد ومازال الجسد والرأس في حالة حياة رغم الانفصال إلى أن عاد الجسد إلى الرأس مرة أخرى ، وكأنَّ المخرج يُريد أن يحدثنا عن الانفصال الممكن في الوجود البشري بين ماهو معنوي وفكري وثقافي وماهو فيزيقي في الإنسان (الجسد).ما قد نريده في مقابل إمكانياتنا على تنفيذ ما نحلم به، حريتنا في التفكير مقابل قدرتنا وخبرتها في العمل على تحقيقه، وعينا بالحرية والمساواة، ورغبتنا في تحقيقه في مقابل حدود ما هو مسموح به في دائرة وجودنا الثقافي والاقتصادي والسياسي، هذا التناقض بين الرغبة والحلم والأمل وحدود الواقع وتحدياته قد يجعل الانفصال الكامل أو الجزئي أو الموقت أمراً ممكناً.
أما على مستوى الحركة الرأسية فإننا نرى في العرض المسرحي (بيت أبو عبد الله) أنها تتمثل في اللحظات التي نرى فيها أجساد المؤدين على ارتفاع فوق مستوى الجدران المتحركة، وهي حركة ناتجة عن ضغط وانحسار الجدران وحركتها تجاه بعضها البعض في محاولة من الأشباح تضييق المكان على أفراد عائلة أبو عبدالله، ووضع بيئة مختلفة، وأكثر ضيقاً عليهم مما يدفع أفراد البيت إلى المقاومة والتحدي، إلى أن يصل بهم الحال بعد الانقلاب الجزئي للجدار إلى أعلى حتى ظهرت رؤوسهم فقط من على الجدار، وباقي الأجساد غير مرئية بل مدفونة بين الجدران الثلاثة. وكأنَّ المخرج يحاول أن يعكس مدى قوة أفراد بيت أبو عبد الله في المقاومة ورغبتهم الكبيرة في التمسك بالحياة عبر ظهور هذه الرؤوس عالية بعد دفن الأجساد تحت أنقاض الجدار المتلاصقة فهي أي رؤوس أفراد عائلة أبو عبد الله ما تزال تنظر إلى الأعلى، وتبحث عن الحياة خارج محيط الجدران السوداء.فالرأس يحمل المخ مركز الإحساس والعقل المدرك للعالم المحيط كما يحمل العينين والسمع والتذوق والقدرة على الكلام فهو النموذج والرمز المهم لحمل آيدولوجية التمرد والثورة. لقد استخدمه المخرج بحرفية عالية جداً في جعله متحرراً رغم محاولات التضييق في سجن الجدران وظلامه على أفراد أسرة أبو عبد الله فإنَّ السيطرة التي ظهرت في تقييد وخنق الجسد لم يصل الرأس الذي هو مركز الوعي والتفكير الثوري – كما في الفرضية السابقة التي اعتمدنا عليه في قراءة الصورة البصرية في التكوين السينوغرافي – هذا إن دل فإنَّه يدل على أن العقل والوعي وفق ما تم سرده في فضاء العرض متحرران وقادران على التحليق، فالقدرة على التحكم في الجسد الفيزيقي للإنسان ولا يمكن في كل الأحوال القضاء على العقل الذي يعتنق الحرية والانعتاق.
في المستوى الأخير وكيفيات استخدام المخرج في الحركة هو مستوى التحليق والدوران في الفضاء بالحبل، في هذا المستوى من الحركة نرى أحد الشخصيات تتعلق بالحبل وتحلق عالياً في شكل دائري فوق بعض الشخوص إلى أن تختفي في الكواليس،
الضوء: بالنظر إلى العرض المسرحي (بيت أبو عبد الله) فإنَّ الضوء إضافة إلى أنه ساعد الجمهور على الرؤية إلا أنَّ المخرج استخدم رؤيته الثورية في خلق أبعاد أكثر عمقاً وجماليةً في بناء وتأسيس الصورة المسرحية.. هذه الرؤية عمقت بصورة كبيرة الأحداث والأفكار والرؤى التكوينية والسردية البصرية، وبالنظر إلى التكوينات الضوئية على خشبة المسرح من خلال مراحل تطور العرض نلحظ الآتي :
في بداية العرض المسرحي نرى الفتاة تجلس على كرسي في إضاءة مركزة فقط عليها خلقت من جلستها في هذا المربع أو المستطيل الضوئي لوحة أو صورة ثلاثية الأبعاد معلقة في غرفة تحيطها الظلام من كل جانب، رغم أنَّها تحركت ونقلت الكرسي إلى مكان آخر إلا أنَّ الصورة انتقلت مما أوحى بسريان وتغيير الزمن والتحول حيث بدأ الجدران في الحركة من خلفها، كما أنَّ الضوء كان مركزاً على المنضدة حيث نرى الكراسي الثلاثة والحصون الثلاثة البيضاء وملاعق الشوك وسكاكين الطعام والجبنة البيضاء في صحن كبير يتوسط المنضدة (فقط نرى الجبنة لا غير نوع واحد من الطعام، هنا تلعب ثقافة المخرج دوراً مهماً في قراءة مستوى الاقتصاد وثقافة الطعام عند أهل البيت في وجود نوع واحد من الطعام على المائدة).
استخدم المخرج إضاءة في أشكال متعددة وأسس عبرها رؤية جمالية لبناء حركة الممثلين على خشبة المسرح نجد من الأشكال الضوئية التي استخدمها المخرج شكل علامة (الضرب) على أرضية المسرح، وقد تحول هذا الشكل لعدد من الأشكال أثرت في الحركة واتجاهها، كما استخدم المخرج الضوء كممر استخدمه الرجال في خط سيرهم إلى المرحاض وإلى حيث تجلس الفتاة على الأرض .
وعندما فُتح الباب وظهر الدكتور من الباب الخلفي على يمين المسرح ظهر من خارج الباب ضوء أبيض قوي عكس مدى وضوح الرؤية خارج نطاق بيت أبو عبد الله، يمكن أن نستخلص من المفارقة في كمية الضوء المرئي من حيث أتى الطبيب مقارنة بالمساحة التي يمتلكها أفراد بيت أبو عبد الله فيما يتعلق بمساحة الرؤية المتاحة.
كانت هناك مقاربة ذكية من المخرج عندما رسم أعمدة الضوء في أعلى المسرح هذه الأعمدة التي انقسمت إلى ثلاثة وشكلت حرف (U) التي خلقت صورة ضوئية موازية لحدود جدران بيت أبو عبد الله والحركة المتوازنة بينها ففي بعض الأحيان عندما تتحرك جدران بيت أبو عبد الله وتضيق المساحة الوجودية لأفراد وسكان البيت نرى الجدران الضوئية تتحرك في ذات الاتجاه أيضاً .
واستطاع المخرج أن يخلق موازياً بصرياً على الجدران الافتراضية أي تلك الجدران الضوئية (كائنات، فئران وعنكبوت في وجود عين كبيرة تراغب الحدث) ونحن نعلم تماماً فضاء الحركة التي يسكن فيها الفئران في الغالب تكون في المجاري والأماكن المظلمة والتي تكون في وضعها الطبيعي في أسفل البيوت في المجاري والحفر، ولكن المخرج جعل بيت أبو عبد الله في الأسفل والفئران والعنكبوت الذي ينزل بشبكته من الأعلى إلى حيث بيت أبو عبد الله في الأسفل وكأنَّه يريد أن يحدثنا عن حال بيت أبو عبد الله هذا البيت السجن الذي يتحرك ويتصرف فيه أفراده بغرابة نوعاً ما.
عموما على مدار العرض لم نلحظ وجود إضاءة كاملة، لقد توزعت الإضاءة على خشبة المسرح في أشكال مختلفة على الأرض أو إضاءة خافتة أو مركزة على النقطة المستهدفة التي يريد المخرج أن يراها الجمهور، استطاع المخرج توظيف الضوء والظلام والظل في تعميق بعض الأحاسيس والمشاعر والأفكار، وفي أحيانٍ كثيرة عمقت الوجود الثلاثي الأبعاد للأشكال والأجساد البشرية بصورة أكثر ديناميكية.
الموسيقى : لم يعتمد المخرج في رؤيته على الموسيقى التقليدية في العرض، بل اعتمد على موسيقى وإيقاع الحياة الأصوات وأعني بذلك ، أنفاس المؤدين، اصطدام الأشياء مع بعضها البعض، أصوات إيقاع الأرجل في الأرض ، وضع الأشياء من الأرض جرها، صرير عجلات الجدار على الأرض ، صوت قطع الخشب بالمنشار، صراصير الليل والقوارض، شفط مياه المرحاض، صوت الآلة الطابعة ، طلقات نارية وبعض الموسيقى من آلة وترية وبيانو في بعض المواقف، كما نلحظ في نهاية العرض صوت الغناء البشري بدون موسيقى .
الأداء : المخرج في قصديته ورؤيته في تصميم الأداء الحركي للشخصيات اعتمد عمداً على تكوين الصور الميكانيكية للحركة حيث توزعت الحركة العامة ما بين:
الرقص التعبيري.
الرقص الميكانيكي الآلي .
من ثم الأداء الذي نرى فيه الشخصيات تتحرك بصورة أشبه بالحركة الطبيعية للإنسان في حياته اليومية ولكن يغلب على بعضها الغموض والتردد والخوف كما نرى في بعضها المقاومة والصراع والاعتماد على الأرض كقوة داعمة للثبات، وهي سمة أساسية يمكننا أن نلحظها موزعة بصور متفاوتة في الكثير من تفاصيل العرض.
وفي نهايات العرض نسمع ضرباً لبعض الأعيرة النارية بعد الرقص التعبيري الذي قام به الأشباح، ويسقط على أثرها الفتاة وبعض أفراد بيت أبو عبد الله، ولكنهم سرعان ما يبعثون إلى الحياة مرة أخرى ، المقاومة مستمرة والتحدي مازال سلوكاً تتوارثه الأجيال وموت الثائر يولد مليون ثائر ويُبعثُ من رماد الموت كالعنقاء.
في بعض لحظات العرض وقف أفراد بيت أبو عبد الله مع بعضهم البعض في دائرة صغيرة ينظرون إلى بعضهم بصورة غريبة وبدأ كل واحد في مد يده محاولة منه للتعرف / الترويح عن /ملاطفة الآخر تنتهي هذه المحاولة بحركة أقرب إلى كونه حركة شنق وتعليق من اليدين بعده يتحركون بأمشاطهم، وكأنَّ هناك قوة تجذبهم إلى الأعلى و بعدها يستقرون على الأرض ويبدأون ذات الحركة والمحاولة مرة أخرى (التعرف، الملاطفة، الترويح) ذات الحركة يقوم بها الأشباح الملثمون بالأسود في الأزمنة الأخيرة في العرض.
ما يمكن أن يلحظه المشاهد هي النظرة الفارغة أو بالأصح هي النظرة الشاردة الباحثة في عيون أفراد بيت بوعبدالله،، كلهم ينظرون إلى شيء ما، شيء خلف الأشياء والشخصيات المتواجدة على خشبة المسرح، حتى وإنْ كانوا من ضمن أفراد البيت أو خارجها، ينظرون إلى الأشياء والأشخاص ولكن ينتابك الإحساس بأنَّهم لا ينظرون إلى الجسد الفيزيقي المتواجد أمامهم فقط، بل يسعون في بحثهم البصري إلى شيء آخر أكثر عمقاً وأكثر قدرة على إشباعهم وردهم إلى التوازن الذي ينشدون.
خلاصة المداخلة:
عندما ينتهي أي عرض مسرحي، ولكنك تريد للأحداث أن تستمر تريد للمَشاهد أن تتواصل لأنَّها بدأت في خلق جسور من التواصل مع الجمهور حواراً بصرياً يفيض بالرموز والإشارات والأحداث ، المثيرة والمستنفدة.. تساؤلات وجودية قد تطرح فيما تطرح بعضاً من الواقع الذي يتقاطع مع واقعك الاجتماعي والثقافي والسياسي والأمني .
تنسدل الستارة وتُطفأ الأنوار وما تزال الأسئلة تتقاذف إلى ذهنك حول الأحداث ، الشخوص، الأفعال ، الأصوات والرموز والإشارات، والفلسفة والجمالية التي ساهمت في تكوين سردية العرض التي تتقاطع مع ما في وعيك وذاتك من تجارب وأحداث وشخوص وانفعالات عامة أو خاصة.
استطاع المخرج أنس عبدالصمد وطاقم العمل المسرحي بناء سردية مسرحية متماسكة، فالعرض المسرحي (بيت أبو عبد الله) هو سؤال مستمر عن بحث الإنسان عما يريده وصراعه مع الحياة الاجتماعية وصراع أفكارها وسياساتها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق