المخرج المسرحي برونو جعارة : المسرح يحكمني بالشّغف ، ولا تهمني اللغة
المخرج المسرحي برونو جعارة : المسرح يحكمني بالشّغف ، ولا تهمني اللغة
برونو جعارة مخرج مسرحي لبناني معروف ، راكم سنين طويلة من الخبرة تعامل خلالها مع مختلف أنواع النصوص المسرحية ومارس أنماط مختلفة من توجهات الاخراج في إدارة الممثلين والاحتياجات الجسدية والتوجيه الفني ، إلى تدريس المسرح في عشرات المراكز التربوية والمدارس الخاصة بين لبنان والخارج ، كما يحمل في جعبته مهارات احترافية في الانتاج والتصميم والإشراف للتلفزيون والإذاعة . حائز على دبلوم الدراسات العليا في الفن الدرامي DES تمثيل وإخراج من المعهد الوطني للفنون الجميلة في لبنان عام 1989 ، وأخرج حتى الآن أكثر من 20 عرضا في معظم الأشكال المسرحية : العبث ، مسرح الطفل ، الكوميديا ، الذهني النفسي ، وباللّغتَين العربية والفرنسية ، منها لمسرح الفودفيل : عمتي نجيبة ( 1995 ) نادر مش قادر ( 1996 ) هريبة يا أوادم ( 1997 ) يسعدن ويبعدن ( 1999 ) بوينغ بوينغ ( 2000 ) غط الحمَام ، طار الحمَام (2000 ) أنيس وموريس ( 2008 ) . وأخرج للكوميديا أيضا : حماتك بتحبّك ( 2023 – 2024 ع) رايحين جايين (2023) . ولمسرح الطفل : الحركة بَركة ( 1990 ) كلمة السر ( 1991 ) كفّك بكفي ( 1992 ) سندريلا ( 1995 ) سيرين وعلاء الدين ( 2013 ) وبالفرنسية Le traîneau du pėre Noêl (2022 ) تلقى جعارة عدة جوائز وشهادات تقدير في غير مهرجان دولي ، وحضر كمُخرج وضيف في مهرجان أفينيون الدولي دورتَي 1994 و 1996 ، كما اختيرت بعض مسرحياته لتمثيل لبنان ومنها " الضربة القاضية الثانية " نص روبرت توماس في الدورة التاسعة لمهرجان ليون للمسرح مارس آذار عام 1998 ، وهو عمل مستشاراً فنياً ومصمّماً لبرامج تلفزيونية وإذاعية كثيرة خلال أعوام 2001 و 2009 ، وفي عام 2001 أخرج أوبريت " كتاب المسيرة " عن تاريخ وتطور التعليم في السعودية كحفل افتتاحي لمشاريع " المملكة " العائدة للأمير الوليد بن طلال ( مستشفى ، مدارس .. ) . كما أسس فرقة فرنكوفونية عام 1995 تحـت اسم " les sans – sous " التي قدمت 5 مسرحيات بالفرنسية في فرنسا .
حاورناه فيما يلي
* حدثنا عن اللحظة المسرحية الأولى في حياتك ؟
أذكر جيدا أنني منذ المرحلة المتوسطة كنت أتشارك ورفاقي الطلاب تقديم مسرحيات تعليمية مدرسية ، أما العرض الذي لا يزال يحفر في ذاكرتي فهو الذي لعبت فيه دور والد جبران خليل جبران في الصف الثالث متوسط ( البروفيه ) ، بمواجهة صالة من ألف كرسي جعلتني أتهيّب هذا الموقف وفي الوقت نفسه وجدته امتحاناً لي أعتقد أنني نجحت فيه ، وبعد العرض أخذتْ مني مدام " وردة " مذيعة " صوت لبنان " الشهيرة مقابلة صغيرة تتعلق بشخصيتي التي أؤديها . كان هذا هو الاحتكاك الأوّل لي بالخشبة بالمعنى الجدي بالنسبة لي ، في لحظات لا أنساها وأتذكرها جيدا ، فكان سبب انطلاقتي مسرحياً مع ما رتّب عليّ ذلك من مسؤولية في شقّ طريقي الفني نحو الأفضل .
* لكنك وعلى الرغم من سعيك الدائم إلى التجدّد وكسب المهارات بقيتَ مُخرجاً وابتعدتَ من التمثيل للمسرح . لماذا ؟
ليست المسألة تحبيذ التمثيل من عدمه . الذي وجدته مع الوقت أنّ التمثيل وظيفة واحدة منفردة تحُدّ من طموحاتي عمّا أسميه امتيازات المسرح كفنّ مركّب من طابع اجتماعي وفني له بُعد فكري متعلق مباشرة بالواقع ، قاعدته الاخراج الذي شكّل فعل تحدٍّ كبير بالنسبة لي ؛ فالمُخرِج هو البداية وهو النهاية ، وعندما تمارس الاخراج فإن هناك مواجهة ومغامرة كبيرة ، لأنك بذلك تمارس كل الوظائف وتتحمل مسؤوليتها .
أنت لا تكتب مناخك وشخصيتك فقط ، بل ترسم كل الأدوار لأنك المسؤول عن كل ممثّل الذي هو دور وشخصية على الخشبة ، كما أنّ قراءتك للنص ومسرحته على الخشبة بالديكور ، الموسيقى ، الاضاءة ، السينوغرافيا ، بالأداء وتركيبة الشخصيات ، ثم تطويع العرض حسب ذوق الجمهور أو الموقف ، هذه كلها أعتبرها تحدّياً عظيماً وأنا قبلتُ به ، وهذا بالنسبة لي أكثر عمقاً وأوسع فهماً لفن المسرح من دوري كممثل فحسب ، ولا يعني كلامي التقليل من شأن الممثل . أحببت هذا الأمر ولا زلت أحبه ، أن أُخرِج يعني أن أخلق وأبتكر إنجازاً من الألف إلى الياء ، مع إيماني بأنني ، في كل عرض ، إمّا أن أتلقّى أوّل وردة ، وإمّا أن أتلقى أوّل حبّة طماطم ! أضِف إلى ذلك أنني تلميذ معهد الفنون في الجامعة اللبنانية لأربع سنوات متأثراً بإدارة كبار الأساتذة المُخرجين : شكيب خوري ، أنطوان ملتقى ، لطيفة ملتقى ، موريس معلوف ، ناجي معلوف ، كميل سلامة وغيرهم من روّاد مميّزين مسرحيا .
* حسناً ،غير التمثيل أنت لم تكتب للمسرح . أين ينتهي دور الكاتب ويبدأ دورك كمخرج ؟
بعد عشرين عاماً من التعامل مع الكتّاب المسرحيين ، أقول أنّ ما يبدو ويُقال عنه صراع بين الكاتب والمخرج إنما هو اختلاف إيجابي ، وهو أبدي . الكاتب يكتب على الورق ، يحسّ ويبدع ويخلق كلمته على الورق ، لكنّ المشوار طويل جداً بين الورق وبين الخشبة . الجسر بين النص وبين التجسيد في خلْق الدّور للمُمثل ، هو المُخرِج . أنا هاوٍ وعاشق للتنوع في العروض المسرحية لأنني أعتبر المخرج كالقارىء ، غير مقيّد بنوع أو شكل معين من الكتب ، ولا بقراءة واحدة في تعاطيه مع النصوص ، ولذلك فعندما أحبّ نصاً مسرحياً فأنا أخوض به التجربة كاملة ، أنقله الى الخشبة بالشكل المناسب مهما كانت فكرته ولغته . هنا تتولد لدي كمُخرج كتابة ثانية ، رؤية ثانية ، مفهوم آخر مختلف ليس هدفا في حد ذاته وإنما هو وسيلة للتأثير بالمتفرج ، ولكن من المفترض أنّ النواة الأساسية للنص يجب أن تحترم . أعطِ فكرة لعشرة رسّامين وستجد أن كلّا منهم يصورها بالشكل الذي يراه الأفضل والأحسن على الاطلاق ، وكذلك سلّم عملاً مسرحياً لعشرة مُخرِجين سيشتغل كل منهم العمل بطريقته الخاصة . بالنسبة لي ، بين الكتابة والاخراج لا شيء اسمه حسابات ، ولا حساسيات قاتلة ومنفّرة ، الآفاق واسعة جدا . شكسبير لا يموت ، أداموف لا يموت ، يونيسكو ، راسين ، موليير ، هؤلاء لا يموتون ، فلو لُعبَت مسرحياتهم مرة واحدة برؤية واحدة لانتهوا وانتهى مسرحهم ، لكن النصوص الكلاسيكية ، أو حتى الحديثة ، يتم إخراجها مئات المرات عالميا ، برؤى وأنماط ونظرات مختلفة وهنا تكمن لذّة النصّ المسرحي الذي يمكن لكل واحد منا أن يراه وفق تصوره وأفكاره التي يحب إبرازها في العرض ، ومن الزاوية التي ينظر من خلالها للتفاعل مع النص . في النهاية ، وبعد تسلّم المخرج للنص نصبح في عالم آخر ، عالم الخشبة حيث الكلمة سيتم تجسيدها ممزوجة بعناصر المسرح الأخرى .
* لماذا اتجهت إلى المسرح الفرنكوفوني ؟ أليس في ذلك حساسية ما في بلد مركّب ثقافياً كلبنان ؟ وهل يعني ذلك أنّ المُخرج اللبناني استنفد رصيده من قصص تاريخنا وحاضرنا ؟
أعتقد أن النص الذي يحبه المخرج يشتغله على الخشبة ، مهما كانت لغته ، إضافة إلى الشغف . لست مختصّاً باللغة العربية ولا الفرنسية ولا الانكليزية وغيرها ، وأيّ حساسية بين لغة عربية أو فرنسية أوغيرها غير موجودة بقاموسي . نحن بكل مدارسنا في لبنان نتعلم عدّة لغات ، والتمكّن من اللّغة ، تعدّدها ، عنصر قوّة بالنسبة لنا كي نطير إلى كافة بلدان العالم وفي حوزتنا حقيبة ثقافية مميزة ، والمسرح اليوم هو كلمة حرّة لا تتحدد بلغة ولا مساحة ولا زمان ولا مكان . أنا مُخرِج شغوف بالنص مهما كان مصدره أو قصته ، قدمت نصوصاً فرنسية بسبب الشغف والحب لهذه النصوص بلغتها الأم التي هي وسيلة الكاتب الأفضل للتعبيرعن جوانيته من خلالها ، والتي قد يُخسرها الاقتباس الكثير من أصالتها وعناصر تأثيرها ، مع الاشارة إلى أن الموضوعات هي نفسها إنسانياً وحضارياً كما أرى وإن اختلفت خصوصية البيئة والمجتمع . الذي يحكمني هو الشّغف ، ولا تهمني اللغة ، وأن يصير العمل إلى المسرح . وبالمناسبة ، ومن خبرتي في مسرح الطفل ، أؤكد أنّ الاعتماد على لغة ثانية من فرنسية وغيرها هي تحدٍّ جيد ومطلوب مسرحياً لا سيما للطّفل وهو على الخشبة : أمام أصدقائه ، أهله ، الجمهور حيث يقوي شخصيته وينميها . نحن بلد عربي وفرنسي وانكليزي ويمكننا الاستفادة من هذا التنوع .
* يمكنني القول أن هذا ملخّص الهوية الثقافية التي تراها مناسبة للمسرح اللبناني ؟
هي هويتنا نحن . نحن بلد منفتح على كل العالم . منفتح على كل الثقافات والمعتقدات والأديان ، نحن فسيفساء متسعة لا تنتهي ، تحمل الغنى والتنوع الحضاري شرقاً وغربا . هناك من يرى العمق العربي ملعبه الفكري ، وآخر تأثر بالفرنسيين ولا يزال ، وثالث بالثقافة الأميركية ، وهناك الجامعات ( الأميركية ، اليسوعية ، العربية ، اللبنانية ، الأرمنية ....) التي لم توسّع جمهور المنافسة في الاقبال على تحصيل العلم فحسب ، بل حكَمَتْ أجيال بكاملها ثقافيا ، لأننا في بلد صغير جغرافيا وسكانياً ومن السهولة بمكان التأثير في ناسه وهذا انسحب على المسرح بطبيعة الحال . ويبقى أنّ المسرح هو مرآة هذا البلد وهذا المجتمع ونحن فخورون بهكذا مجتمع لأنه غير منغلق . لا أفهم فنّاً متقوقعاً على نفسه فهذا أمر يُفسد المسرح ويلغيه مع الوقت .
* ما الذي قدمه المسرح للجمهور اللبناني برأيك ؟
الجمهور اللبناني محظوظ جدا . منذ مرحلة الستينيات الذهبية إلى السبعينيات وحتى في عزّ الحرب الأهلية ، قدّم رواد المسرح مختلف الأشكال المسرحية ، هي باقات ورد من كلّ الألوان للمتفرج : الكلاسيكي ، العبثي ، الكوميدي ، الاجتماعي ، السياسي ، الطفل ، الفرنكوفوني . الجمهور المحلي عرضت أمامه كل أنماط المسرح وموضوعاته ، ومسؤوليته في النهاية أن يعرف ما يختار من تلك الورود ، ألوانها ، روائحها ، وأن يحافظ على هذا المسرح العظيم الذي ابتكره الكبار في تاريخنا الثقافي . وإذا ما تعمقنا قليلاً فإننا نجد أنّ المسرح نجح في وضع المتفرّج من ضمن اللعبة الفرجوية ، فكان يترقب ويندهش ويحاول الكشف لا سيما أن انطلاق مسرحنا كان من مدارس عديدة فيها الذهني والاجتماعي والمضحك ، بأبعاد سياسية أو اجتماعية أو فلسفية وميتافيزيقية ، وكلها وجدت جمهوراً كبيراً خاصاً بكل منها . تغيّر المشهد اليوم ، ولكن يبقى أن مسرحنا شكّل مُنجزاً أيقونياً رائداً وأمثولة لقول الحقائق بالمباشر أو غير المباشر في فترات الخضّات السياسية أو الاجتماعية وحتى الأمنية ، وهذا ما أرى أنه مستمر وإن اختلفت الأساليب في الحوار والتقنيات .
* جميل ، ولكن للمسرح المحلي تحدياته اليوم ؟
كثيرة جدا . ولنبدأ من الصالات . اليوم كل المسارح الكبيرة مقفلة . أعني المسارح الضخمة ذات الـ 600 أو 700 كرسي ، لكن لماذا ؟ لأن الاعمال المسرحية لا تجذب في كل ليلة ما يملأ هذا العدد . كما أن معظم الصالات لا تصلح لتقديم عمل مسرحي ضخم . ولا تندهش إذا قلت لك أيضاً لأننا في صراع مع " النارجيلة " . نعم . تصوّر أن هذه الآفة المنتشرة بشكل جنوني في مجتمعنا هي أهم بالنسبة للفتيان والشباب من المسرح ، طبعاً هو مثال رمزي فاقع لما نعانيه معطوفاً على آفات أخرى ، وهذا يعيدنا إلى المدارس الوطنية . أنا ألوم المدارس ؛ فعندما تهتم المدارس باصطحاب الولد منذ صغره إلى المعارض ، والمتاحف ، والمسارح ، ومحترفات الرسم ، ونوادي الموسيقى والشعر وغيرها ، فإنه يعتاد هذه الحركة الثقافية عنصراً مؤثراً في نموّ شخصيته على غير مستوى . أمر آخر هو غياب الدعم الحكومي عن المسرح وهذا في لبنان فقط ، وأنت تعلم مثلاً أنّ سنوات 2020 - 2022 كانت خانقة شديدة القسوة في ظل تدهور الاقتصاد والأمن وجائحة كورونا ، ومن هنا أتفهم بعض المسرحيين الذين يتنازلون لصالح تقديم أعمال لا أقول تجارية ولكن غير مُقنِعة لأجل العيش بكرامة ، كما أنه ليس هناك دعم جدّي كافي من مؤسسات خاصة . المسرحي يدعم نفسه بنفسه ، والمسرح قائم على المبادرة الفردية بالتواصل والاتفاق وتجميع بعض الفنانين لتقديم العروض . هناك مليونا شخص في بيروت وضواحيها لديهم 7 أو 8 مسارح ، بعضها موسمي وغير ناشط ، وهذا قليل جداً ومؤسف . هل هذا صحيّ ؟! كلا . أما خارج العاصمة شمالاً وجنوباً فلا أتذكّر أنّ هناك مسارح فاتحة تعمل إلا بعدد أصابع اليد الواحدة وأنت أدرى بنشاطها الذي لا يتجاوز العرضَين أو ثلاثة على امتداد سنة كاملة . تصوّر أن الداون تاون وسط المدينة ليس فيه مسرح . المشكلة ليست فكرية ولا تقنية ، المُشاهد هو الأساس ، لكنه للأسف يتعود على أنماط أخرى غير ثقافية وهذه بحاجة إلى مواجهة وعلاج وإعادة تقييم جديد مع ما قلته آنفاً عن ضرورة دعم الدولة .
* ... وتحديات المسرح العربي ؟
الحريّة . كي يستطيع المسرحي العربي التّعبير عمّا يريد قوله حقا ، ما ينقصنا عربياً اليوم الحرية ثم الحرية ثم الحرية . كل مشكلات الوطن العربي تحتاج إلى الحرية كي نستطيع التحدث عنها ، في المسرح وغيره ، هذا أمر أساسي لا يمكن الاستغناء عنه . المسرح بلا حرية هو ميت مع الأسف . عدا ذلك فالمسرح يتقدم المشهد الثقافي بثقة وسرعة وإبداع لا سيما خليجيا .
* لأن تركيبة الجمهور وتنوعه وذوقه في اختيار العروض تتغير بين جيل وآخر ، ألا تعتقد أن لكل جيل لغة اخراجية خاصة به ؟
مع الأسف نحن نعيش في زمن لا صبر فيه . الجيل الجديد لا يصبر . هذا الجيل يعيش عالم السكرولينغ Scrolling على الشاشات الذكية ، لا يمكنه التلبث على مشاهدة أو قراءة نص ، مادة ، فكرة ، لأكثر من 10 ثوانٍ ليتنقل إلى أُخرى وقد تملكه الضجر . إنه جيل مُستهلِك ، سريع وهامشي للأسف ، بلا لون ولا طعم ولا رائحة ولا أية خصوصية ولا أيّ عمق . وفي ذلك انعكاس حتماً على الثقافة والفنون والمسرح طبعا . المُخرج يعاني مع هذا الجيل / الجمهور الذي يريد أنْ يحصل على كلّ شيء بسرعة ، أن يكون المسرح تسلويا ، مادة مسطّحة فارغة من مضمون جيّد مفيد . عندما تقرأ كتاباً فإنه يأخذ منك يومين أو ثلاثة مثلا ، ولكن من يمسك الكتاب اليوم ؟ تجوّل في الحافلات ، المقاهي ، الحدائق ، وغيرها ، لا أحد يقرأ . أقول ذلك لأن الكتاب يحمل رمزية التعلم والصبر والتركيز والاجتهاد ، والعلاقة به تكاد تنقطع ، وفي ذلك معاناة تنسحب على المُخرج الجاد الذي يعاني من هكذا جمهور يريد مسرح أيّ شيء . من هنا نلاحظ وللأسف أن اتجاهات بعض مُخرجي " أبو الفنون " تسعى لإرضاء الجمهور انطلاقاً مما تعوده وتماهى فيه من طرائق التعامل السطحي مع السوشيال ميديا ، ودائماً في ظلّ الثورة الرقمية والشاشات الذكية التي يمكن أن تشكل خطراً على دور المسرح الاجتماعي والسياسي والثقافي . المتفرج العادي ، طفلاً ومراهقاً ورجلا ، مُحاط يومياً بـ 7 أو 8 شاشات ذكية من التلفزيون إلى البلاي ستايشن واللّوح الرقمي والهاتف الخلوي وغيرها ، هذه كلها مما يصطدم بها ويتفاعل مع واحدة منها على الأقل يوميا ، هي كافية ليصبح لديه نمط جديد مُغاير للحياة العادية الطبيعية ، نمط من العزلة والتقوقع ومحدودية التفكير وحاجز عن التطور يمنعه ويغنيه عن الجلوس والتواصل مع الآخر في البيت نفسه ربما ، فكيف بالذهاب إلى المسرح ؟ نحن أمام مشكلة إرجاع الجمهور إلى أصالته وفطرة التفكير السليم التي أحدُ وجوهها الانفتاح على أهمية المسرح فكرياً وجماليا . الجمهور لا يأتي لمشاهدة العرض فحسب ، بل هو يلتقي ويتفاعل مع جمهور آخر من توجهات ورؤى ثقافية ومذاهب وملل وتقاليد اجتماعية مختلفة ، وهذا التفاعل أمر مهم جداً لأنّ فيه حتماً تغيير وتطوير في سلوك التصورات الاخراجية التي تناسبه ، بعيداً من المجتمع الاستهلاكي الذي يجعل من الجيل الحالي طبلاً فارغاً للأسف .
* اشتعلت معركة مسرحية سابقة تميزت برؤيويتها الريادية ، بطلاها اللدودان منير أبو دبس وأنطوان ملتقى وكلاهما مُخرِج ، فقال الأول أن المسرح هو المخرج ، أما الثاني فاعتبر المسرح هو الممثل . برأيك كيف كان يجب أن تنتهي هذه المعركة ؟
ليت كل معاركنا في لبنان كهذه المعركة . لأن هذه معركة ثقافية ، حضارية ، معركة من أجل تقديم أفضل ما يمكن تقديمه للجمهور . المسرح مُخرِج وممثّل . هذه ثنائية أبدية . ولا زال المسرحيون والنقّاد منقسمون بين أهمية المخرج وأهمية الممثل مع العلم أن قسماً من الجمهور المريد للمسرح لا يهتم كثيراً لهكذا إشكاليات إنما بجودة العمل وجمالياته . ولكن دعني أنطلق من النص ، حسب النص . طريقة اشتغال النص في العرض هو ما ينطلق منه المخرج لاختيارالممثل وكيفية إعداده لبطولته ، وهو ما يحدد نسبة طغيان وتأثير كلّ من المخرج والممثل على العرض ، في اتصال مباشر بالشخصي بينهما لا يمكن تصوره إلا إيجابيا ، وإلا لا مسرح ولا عروض ، وذلك كله لا يأتي إلا تحت سقف التعاون الذي لا بد منه لقطف ثمار النجاح ، هذه هي الصورة الصحيحة عن العرض ، حيث أسمح لنفسي أن أقول أن امتداد النقاش حول وظيفة مخرج - ممثل وبأشكاله الحادة أحياناً هو أمر مبالغ فيه بلغ حدّ الثرثرة والأمثلة لا تنتهي ، وهأنذا كمخرج لا أنكر أنّ الواجهة للممثل الجيد ، لكنّ شغفي بالاخراج لا يعني إنكاري لقيمة الممثل كواجهة أو كصورة تحدد وتخلق الانطباع الأول إيجاباً أو سلباً لدى المتفرج . والمهم بتقديري أن نقدّم أفضل وأجمل ما لدينا ، ويبقى الاختلاف في وجهات النظر لصالح الخشبة والمسرح .
* نلاحظ أن الاخراج المسرحي في لبنان تحول إلى وظيفة يستسهل كثيرون خوضها من ضمن توجه واحد يتعاون فيه المخرج مع الجميع ، وهذا واقع يطمس مبدأ التعددية والتميز في الاخراج ، بل يكاد يخفي خصوصية دور المخرج ، وقد يشي بانعدام رؤية اخراجية في الأصل ، تحدد معنى العرض وأدواته وأسلوب العمل . ما رأيك في ذلك ؟
مع الأسف دور المخرج يذوب في بعض الأعمال المسرحية التي برأيي ليست مسرحية كما يجب وبالمعنى الحقيقي . هذه أعمال فردية ، تجارب لا تؤدي إلى نتائج جيدة وسليمة ، إذ أنها تفتح الباب أيضاً على مشكلة موازية في الخطورة هي الاتيان بأشخاص ليسوا خريجي معاهد فنية وإن كان لديهم حبّ التمثيل . نعم بعضهم مواهب ، لكنها غير مصقولة ولا متدربة بشكل جيد حيث يجب أن يخضع الممثل لمحترفات وتدريب لتنمية موهبته . الاخراج وقع في هذا الفخ ، لأن المخرج ليس موهبة فقط ، ومع الأسف كثيرون تسللوا الى الاخراج من الانتاج أو التمثيل أو السينوغرافيا بالصدفة أو على سبيل التجربة ، لا كفاءات علمية لديهم كما لا مسؤولية تطالهم فيما لو قدموا عروضاً غير جيدة ، ونحن نلاحظ تزايد ظاهرة المخرج /الممثل/ المؤلف في شخص واحد وهذا لا أظنه صحيا . أنا مُخرج منذ أول يوم احتراف في حياتي ولا أزال ، وعلى كل حال فالعرض يفضح قيمة وإمكانات الاخراج حتى بالنسبة للمتفرج العادي الذي قد لا يدرك طبيعة العناصر التي تصنع مسرحية ، لكنه يميز جودة العمل المسرحي من عدمها ، بالحدس والشعور وعمق الانطباع بنجاح العرض من عدمه ، مترجماً ذلك عند خروجه من الصالة في حركاته وأقواله ، مُعجَباً أو ممتعضا . المُخرج مسؤول ، ومسؤوليته كبيرة في توجيه كافة العناصر المشهدية ، وهو قائد العرض المسرحي بهذا المعنى ، الذي يوصل سفينته لبر الأمان وإلا فإنها تضيع في مهب الرياح .
* وأين التطور التكنولوجي السينوغرافي والموسيقي والتشكيلي في كل ذلك ؟ الذكاء الاصطناعي مثلا . ألا تحتاج كل ذلك في العرض ؟
المسرح هو المسرح ، اليوم وقبل 2000 عام وبعد 2000 عام . الخشبة ظلّت خشبة ، والممثل هو الممثل ، وكل العناصر المشهدية صامدة لأن الفن الأصيل يبقى ويبقى ويفترض بالتكنولوجيا أن تكون في خدمته ، والأمر المفيد هو مدى إخضاعها ليستفيد منها ، لا أن تتحول إلى وسيلة لإلهاء الجمهور عن الجيد والأصيل . التقنيات لم تكن يوماً ولن تكون محل المُخرج أو الممثل أو الخشبة أو النص ، والذكاء الاصطناعي يمكن أن يُستثمر في بعض القطاعات والمهن والوظائف ، لكن ليس كلها . نعم ، مع التكنولوجيا الرقمية وبعدها أصبح المسرحيون في موقف صعب ، لكننا في المسرح نتناول ونتكلم عن قضية ، عن إنسان ، عن خشبة تقدّم قضايا اجتماعية ، خشبة تخاطب مجتمعات مختلفة وجماهير متعددة مختلفة تتبدل بين ليلة عرض وأخرى . وهذه كلها لا تقوم ولا تنهض بها التكنولوجيا .
* أنت مجبول بالفن : مسرح ، تلفزيون ، تدريب ... ما هو سر الابداع الفني برأيك ؟
الشغف . أن أحب عملي ، ألّا تشعر أنك تغدو إلى العمل بشكل روتيني وكأيّ موظف . أنا أذهب إلى المسرح وكأنني على موعد مع حبيبتي التي أخبرها بكل شيء ، تفتح لي قلبها وأفتح لها قلبي ، والمحرك الأساسي للمبدع هو أنه يريد ويشتغل لأجل فكرته التي على المسرح ، أن يقتنع حتى حدود الايمان بأن المسرح فكرة مثيرة ، لغة روح وجسد ، وطموح إنساني ، ومنجز منفتح على التعامل مع أجناس التعبير الأخرى التي توصل رسالة الانسانية بطرق مختلفة . وهنا أقول وأسأل ، إذا ألغينا الفنون : الشعر ، الرسم ، النحت ، المسرح ، السينما ، القصائد ، تخيّل للحظات أن كل هذه غير موجودة في حياتنا ، كيف نعيش؟ ما مصيرنا ؟ هذا هو سر الابداع بكل بساطة وبعيداً من فلسفة الاجابة ووضعها في غير نصابها الواقعي .
* المسرح في لبنان مسرح العاصمة بامتياز . لماذا برأيك ؟ أليس ذلك ظلم للمدن الأخرى وللأرياف ؟
لامستَ الجرح بالمباشر . نعم لا مسارح خارج بيروت . الحركة خجولة . هنا أعود لالقاء اللوم على تراجع الدور الثقافي للمدارس بعدم توجيه أو تأطير مناخات ثقافية للفنون وتعريفها نظريا وعضويا للتلامذة ، ومنها المسرح طبعا . الرسم ، النحت ، السينما ، نشاطات المعارض ، الموسيقى ... كل هذه النشاطات لا يعرفها النشء ولا الفتى الذي يقضي سنوات طويلة من عمره ومنذ الصغر بعيداً منها ، لا يراها ولا يمارسها ، وإذن فهي لن تكون مثار اهتمامه لاحقا . أركز هنا على الأرياف ودعني أقول معظم المدارس باستثناء قلة قليلة ، هذا عطفا على الحالة الاقتصادية الاقتصادي والنكسات المتتالية من حروب وأزمات . البلد لا يرتاح ودائما لديه مشاكل ، وهذه كلها تضغط في اتجاه أولويات أخرى للدولة بعيدة من المسرح والثقافة عامة ، نعارضها نعم ولكننا أيضاً محرجون فلا يمكننا رفضها كبناء مستشفى أو مدرسة أو دار أيتام ... الخ والدولة ماهرة كما تعلم في ابتكار الأسباب والذرائع لتقديم شأن على آخر في سلّم أولوياتها كلما أرادت التهرب من الثقافة ، وفي ذلك حيرة وواقع مرير وصعب بالنسبة للمسرح والمسرحيين .
* ما جديدك المسرحي القادم ؟
لدي ثلاثة أعمال : كوميدي ، اجتماعي إنساني يعالج وضعية المرأة ضد الذكورية ، وثالث عبثي يتناول الموت بعد الحياة ، لكنني آمل أن أجد مسرحاً كبيراً لعرضها .
0 التعليقات:
إرسال تعليق