أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الأربعاء، 26 نوفمبر 2025

من الرماد إلى السماء : سحر المنصة العائمة فى بريجنز Bregenz (الجزء الأول )

مجلة الفنون المسرحية 


من الرماد إلى السماء : سحر المنصة العائمة فى بريجنز Bregenz  (الجزء الأول  )

د.راندا طه

   تحت أمواج بحيرة كونستانس Lake Constance  الهادئة، تتراقص أسرار الجبال الألبية مع همسات الرياح، يقوم مهرجان بريجنز العائم للفنون المسرحية كفينيق ينهض من رماد الحرب، محولاً سطح الماء إلى لوحة حية تجمع بين هشاشة الخشب وقوة الطبيعة، لتصبح الـمنصة العائمة ليست مجرد منصة بل رمزاً للصمود الإنساني الذي يتحدى العواصف ليروي قصصاً تتجاوز الزمن، مما يجعل كل عرض حدثاً كونياً يجذب العالم إلى حضن النمسا الساحر. 

  في أعقاب رماد الحرب العالمية الثانية، حين كانت أوروبا تلهث لاستعادة نبضها الثقافي، أشرقت في عام 1946 م شرارة عبقرية على ضفاف بحيرة كونستانس، عندما أقيم أول عرض لمهرجان بريجنز للفنون المسرحية ، في ذلك الوقت، لم تكن مدينة بريجنز (وهي عاصمة ولاية فورآرلبرغ Vorarlberg، الولاية الاتحادية الواقعة في أقصى غرب النمسا) تمتلك مسرحاً واحداً، لكنها كانت تتميز بساحلٍ جميل على ضفاف بحيرة كونستانس، وقد قُدِّم العرض الافتتاحي، أوبرا موزارت "باستيان وباستيانه Bastien and Bastienne"، على بارجتين راسيتين – إحداهما كانت بمثابة خشبة المسرح، والأخرى حملت الأوركسترا  ، وهيكل خشبي بسيط لأوبرا "باستيان وباستيان" لموزارت Mozart  ، مما أسس لمنصة كرمز للنهوض الروحي الذي يتحدى العواصف الطبيعية والإنسانية على حد سواء  .

   يمتد التصميم على مساحة تقارب 20 متراً طولاً و10 أمتار عرضاً، مبنياً من خشب الصنوبر المعالج لمقاومة الرطوبة باستخدام حبال ومسامير حديدية بسيطة،  رسخت القوارب بسلاسل حديدية إلى قاع البحيرة بعمق 2 أمتار لمواجهة التيارات، مع إضاءة أساسية تعتمد على مصابيح كيروسين يدوية لإلقاء ظلال درامية تتفاعل مع انعكاسات القمر على الماء، بينما شكّلت البحيرة الخلابة خلفيةً طبيعية للمشهد، مما ولد توتراً بصرياً يجمع بين هشاشة الخشب والقوة الشعرية للطبيعة، وأبرز كيف تحولت الضرورة الهندسية إلى فن يتجاوز حدود المسرح التقليدي ليصبح حدثاً كونياً يعكس صمود الإنسانية. 

  بفضل الموقع الاستثنائي، والعرض المميز، والموسيقى التي قدّمتها أوركسترا فيينا السيمفونية، حقق مهرجان بريجنز نجاحاً فورياً بين عشّاق الأوبرا حول العالم ، ما بدأ كمهرجانٍ يمتد لعشرة أيام ويقدّم أوبرا واحدة، أصبح اليوم احتفالاً فنياً ضخمًا يمتد لشهرين في يوليو وأغسطس، ويضم مئات الفعاليات المختلفة شكل (1)     .
  
   مع اقتراب الخمسينيات، أحدث مصمم المسرح والتر فون هوسلين Walter von Hohenstein ثورة معمارية في عام 1955 م ، عندما أعاد تصميم المنصة لتدمج الخلفية الطبيعية لجبال الألب كعنصر سردي أساسي، محولاً الهيكل المؤقت إلى منصة دائمة مدعومة بـ119 عموداً من الخشب والصلب مدفونة عمقاً يصل إلى 6 أمتار في قاع البحيرة، مما سمح ببناء مناظر تتجاوز 30 متراً في الارتفاع وتحمل وزن 335 طن  .
  بُنيت المساحة الإجمالية للمنصة من خرسانة مسلحة مقاومة للماء مغطاة بطبقة من الخشب المعالج بالبوليسترين للعزل الحراري،  قامت الجرافات بزرع الأعمدة ثم تركيب الإطارات الفولاذية بمسامير هيدروليكية، مع إضاءة تعتمد على 50 مصباحاً مثبتاً على الأعمدة لإنشاء تأثيرات ظلالية تندمج مع غروب الشمس، وأدى هذا التطور، الذي زاد سعة الجمهور إلى نحو 7000 متفرج، إلى جعل الـمنصة العائمة أكبر مسرح عائم في العالم، معتمداً على مواد مرنة مثل الخرسانة المسلحة لمواجهة تقلبات الرياح والفيضانات، وأدى إلى تكامل التصميم مع الدورة الطبيعية للبحيرة، حين يصبح كل عنصر هيكلي جزءاً من الرواية الدرامية، محولاً التحديات البيئية إلى مصادر إلهام تعكس عمق الابتكار النمساوي في دمج الجماليات بالدقة التقنية. 

   بلغ التصميم ذروة التحول في السبعينيات والثمانينيات، مع إضافة أساس صلب وسقف واقٍ من العواصف في عام 1980 م ، عند بناء دار المهرجان في بريجنز Festspielhaus Bregenz ، مما مكن من إنتاج أوبرا "الناى السحريDie Zauberflöte " لموزارت في  1986م،للمخرج  جيروم سافارى Jérôme Savary، والمصمم المنظر مايكل ليبوا Michel Lebois ، أصبحت المنصة مقاومة للشتاء من خلال تقنيات الترسيخ المتقدمة التي تسمح بإعادة البناء كل عامين على مدى 215 يوماً، بما في ذلك تفكيك كامل لإعادة التدوير.
  تكون المنظر في "الناى السحري"  من ثلاثة عناصر نحتية فولاذية عملاقة بارتفاع 27 متراً وطول 15 متراً لكل واحدة وعرض 5 أمتار، مبنية من صفائح فولاذ مقاوم للصدأ مغطاة بطبقة طلاء مقاوم للأشعة فوق البنفسجية، البناء تم باستخدام رافعات عائمة لتركيب الهياكل على الأساس الخرساني ثم ربطها بكابلات هيدروليكية للحركة الديناميكية، مع إضاءة تعتمد على 120 مصباحاً هالوجينياً مثبتاً على الأعمدة لإنشاء ألوان متدرجة تتفاعل مع الضباب الاصطناعي، مما أدى إلى إحساس بالحركة الدائمة يعكس جوهر المسرح كفضاء حيوي، ويبرز كيف تحولت المنصة من هيكل عرضي إلى نظام بيئي متكامل يتحدى الزمن، مما ساهم في جذب 160,000 زائر سنوياً بحلول التسعينيات، محولاً بحيرة كونستانس إلى مسرح عالمي يجمع بين التراث والحداثة.  شكل ( 2)  
 
   أما في العقدين الأخيرين، فقد شهدت المنصة تطوراً هائلاً مع إنتاج "ريجوليتو" في 2019 م، أوبرا ريجوليتو، وهي تراجيديا من ثلاث فصول لجوزيبي فيردي تحكي قصة مهرّج مشوّه يحاول حماية ابنته من دوق فاسق ، يختلف عن كل المنصات السابقة المبهرة، إذ إن كل جزء تقريباً من هذه المنصة يتحرك ، يقول مخرج ومصمم المسرح فيليب شتولتسل Philipp Stölzl: " كان التحدي الحقيقي هو ابتكار شيء لم يُرَ هنا من قبل، مررنا بعملية طويلة؛ ألغينا فكرتنا الأولى وبدأنا من الصفر من جديد، وفي النهاية توصّلنا إلى تصميم يتيح الكثير من الحركة والتحوّل - وهو نهج جديد تماماً على مهرجان بريجنز، إذ كانت معظم العروض السابقة ثابتة إلى حدٍّ كبير، أقرب إلى المنحوتات.  

   صمم فيليب ستولزل رأس مهرج عملاق يبلغ 14 متراً ارتفاعاً و12 متراً عرضاً و8 أمتار عمقاً، مدعوماً بيدين هيدروليكيتين و إحداهما تمسك ببالون ،جميع أجزاء المنظر تتحرك باستثناء اليد الحاملة للبالون، ولتحمّل الوزن الهائل للرأس (قرابة 40 طناً وحده، ويصل إلى 150 طناً مع الآليات التي تحركه)، بُنيت المنصة على 119 عموداً من الخشب والفولاذ مغروسة بعمق نحو 20 قدماً في قاع البحيرة ،اليد اليسرى، التي تعمل بنظام هيدروليكي دوّار، تتحرك مثل اليد البشرية وتفتح حتى ارتفاع نحو 37 قدماً، أما طوق المهرج المحيط بعنقه فيبدو وكأنه يتحرك بفعل الرياح ، تتوزع مكبّرات الصوت داخل المنظر نفسه ، خمسة داخل الرأس واثنان في إصبع السبابة لليد اليمنى. 
   بُنى المنظر من مزيج من الخشب المعالج والفولاذ المقاوم للصدأ مغطى بقماش عالي الدقة للطباعة، بُنى على منصة دوارة قطرها 2.8 أمتار تدور 114 درجة باستخدام محركات هيدروليكية، مع إضاءة RGBW من ILS توفر إضاءة 360 درجة بـ200 مصباح LED لتأثيرات ليلية درامية تتفاعل مع حركة الرأس، ويعتمد على تقنيات خاصة للتصميم الهيكلي الدقيق،تم تصميم جميع مكونات المنصة لتحمّل رياح تتجاوز سرعتها 75 ميلاً في الساعة، ثم تُغطى بطبقات من الجص والطلاء المقاوم للماء لتصمد لعام كامل، مع صيانة دورية منتظمة.
  يستغرق بناء المنصة الواحدة نحو عام كامل بعد سنتين أو ثلاث من التخطيط، وتبلغ تكلفتها نحو 8 ملايين يورو ، مما يعكس كيف أصبحت المنصة منصة للرواية البصرية الضخمة، يندمج الرمز الدرامي مع التقنية ليخلق تجربة حسية تتجاوز الشاشة، محولاً كل عرض إلى حدث يجذب 270,000 زائر في عام  2018 م وحده،. شكل (3-4)  

   في حضرة الجبال الشاهدة والأمواج الراوية، يظل مسرح بريجنز العائم شهادة خالدة على قدرة الإنسان على نسج الخيال مع الواقع، حين تتحول المنصة من هيكل هش إلى قصيدة حية تتردد صداها عبر العصور، مدعوة كل زائر إلى أن يصبح جزءاً من هذا السحر الأبدي الذي يجمع بين السماء والأرض في رقصة لا تنتهي، محولاً كل غروب شمس إلى بداية قصة جديدة في تاريخ الفنون العالمي.
1-
https://www.theartsdesk.com/opera/theartsdesk-bregenz-floating-opera-festival?utm_source

2-
   https://lakeconstanceopera.solari.com/wp-contnt/uploads/2020/02/Lake-Constance-Hang-Brochure-2020.pdf?utm_source
3- 
   https://en.wikipedia.org/wiki/Begenz?utm_source
4-
 https://talktomeaboutaustria.wordpress.com/2013/08/17/what-a-skeleton-and-a-floating-stage-have-in-common/
5-
https://www.ethercat.org/download/documents/SEEBUEHNE_BREGENZ.pdf?utm_source

6-https://www.festspielhausbregenz.com/en/your-visit/festspielbuehne-bregenz/?utm_source

7-
  https://bregenzerfestspiele.com/en/node/865?utm_source
8-ف
   https://www.smithsonianmag.com/travel/theres-massive-jester-floating-austrias-lake-constance-180972309/?utm_source

9-   https://www.smithsonianmag.com/travel/theres-massive-jester-floating-austrias-lake-constance-180972309/?utm_source 


0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption