أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الأحد، 9 أبريل 2017

السيميائية في الدرس النقدي المعاصر عند رولان بارت

مجلة الفنون المسرحية

السيميائية في الدرس النقدي المعاصر عند رولان بارت 

 د . مراد عبد الرحمن مبروك

فاتحة الدراسة

“المفهوم”

1- مفتتح :

لسنا بصدد تتبع جذور السيميوطيقا في الآداب الأوروبية والعربية القديمة ، ” بداية من الرواقيين Stoics في القرن الثالث قبل الميلاد وحديثهم عن العلامة بجانبيها الدال Signifiant والمدلور Signifie مروراً بالمدرسة الشكلية تحت قيادة الفيلسوف أينيسيديموس Anesesid- emus في القرن الأول قبل الميلاد الذي استقي صيغة البحثية من تحليل العلامات وورود تصنيف العلامات عند الناقد البلاغي شيشرون Cicero في القرن الأول قبل الميلاد ، ومحاولات كل من الفليسوف الطبيب سيكتوس أمبريكوس Sextus Empiricus في تصنيف العلامات المستترة ، والطبيب جالينوس Golen في التمييز بين العلامات العامة والخاصة ، في القرن الثاني الميلادي . وكذلك محاولات المفكر الجزائري القديس أوجستين (354 – 430 ) في تعريفه العلامة ضمن أبحاثة في التأويل ونهاية بمحاولات جوتفرد لايبنتز – Gottfried Leib –niz (1646 – 1716) في كشف دور العلامات في المنهج العلمي ” . [1]

ولكننا بصدد تناول مفهوم السيميائية في الدرس النقدي المعاصر عند بعض النقاد . فقد تعددت المفاهيم والتغييرات حول المصطلح نفسه ، فهناك بعض النقاد يطلقون عليه “السيميوطيقا” Semiotica خاصة كتاب الإنجليزية الذين ” يفضلون استخدام جون لوك لها ( 1632- 1704 ) أول الأمر عن طريق استعارتها مباشرة من اليونانية Semiotike ، كما أن دراسي الأدب الإنجليزي يألفون قوله في دراسته الشهيرة عن “طبيعة الفهم” أنها تعني مذهب العلامات Doct of Signs ، الذي يعرفه بأنه النشاط الذي يختص بالبحث في طبيعة العلامات التي يستخدمها الذهن للوصول إلي فهم الأشياء أو في توصيل معارفه إلي الآخرين . [2]

والبعض الآخر يطلقون عليه السيميولوجيا Semiology خاصة كتَاب الفرنسية ، فإذا كان تشارلز ساندرز بيرس رائداً للسيميوطيقا الإنجليزية فإن سوسير يعد رائداً للسيميلوجيا الفرنسية ؛ ومن هنا شاع المصطلحات في الدراسات النقدية ، وحاول البعض أن يفوق بين المصطلحين ، فهناك من يري أن “السيميولوجيا تعني بدراسة نظام محدد من أنظمة التوصيل ، من خلال علاماته وإشارته ودراسة الدلالات والمعاني أينما وجدت ، وعلي الخصوص في النظام اللغوي ، أما السيميوطيقا فتهتم بدراسة الاتصال والدلالة عبر أنظمة العلامات في علوم مختلفة ، وفي تطبيقاتها وممارستها الخيالية ، فهي تتخصص في الاتصال الآلي ، والاتصال الحيواني ، وتصل إلي أكثر أنظمة الاتصال الإنساني تعقيداً وتركيباً ؛ لغة الأساطير ، واللغة الشعرية مثلاً ، مستعملة في هذه المجالات المختلفة علوم اللغويات ، والأنثروبولوجيا ، والمنطق والفلسفة والألسنية “[3] .

وهناك من يري تطابقاً بين المصطلحين ويستخدمها بمفهوم واحد استناداً إلي القرار الذي اتخذته الجمعية العالمية للسيميوطيقا Semiotica التي انعقدت في فبراير عام 1969 بباريس وقررت تبني استخدام مصطلح السيميوطيقا ، وتأسيس الرابطة الدولية للدراسات السيميوطيقية [4] .

* * *

وعلي الرغم من أن السيمائية انحضرت في أغلب الأحيان في مفهومين هما السيميوطيقا والسيمولوجيا في الدراسات الإنجليزية والفرنسية ، إلا أنها تشعبت وتعددت واختلفت تسمياتها في الدراسات النقدية العربية .

فهناك عدد كبير من الدراسين العرب [5] يستخدمون مصطلح “سيمياء” ومنهم : الدكتور محمد مفتاح ، وسامي سويدان والدكتور عبد المالك مرتاض ، عبد العالي بوطيب والدكتور رضوان ظاظا ، والدكتور جوزيف ميشال شرم ، وحسن بحراوي ، جمال شحيد ، ومحمد حمود وعبد النبي اصطيف ، ومحمد عزام والدكتور عادل فاخوري ، حنوزن مبارك ، والدكتور رئيف كرم ، وأنطوان أبو زيد وغيرهم .

وفريق اخر [6] يستخدم مصطلح “علم العلامات ” أو ” العلامية ” أو ” الدلائلية ” ومنهم: مجدي وهبة ، والدكتور زكريا إبراهيم والدكتور عز الدين إسماعيل ، والدكتور عبد السلام المسدي والدكتور عبد الكريم حسن ، وشكري المبحوث ، وسمير المرزوقي وغيرهم .

وفريق ثالث يستخدم مصطلح ” السيميولوجيا” ومنهم [7] الدكتور صلاح فضل ، والدكتور سعيد حسن بحيرى ، وحياة جاسم محمد الدكتور حميد لحمداني ، والدكتور أنطون طعمة ، والدكتور لطيف زيتوني وغيرهم .

وفريق رابع يستخدم مصطلح ” السيميوطيقا ” ومنهم [8] : الدكتور محمد عناني والدكتور عبد المنعم تليمة ، والدكتورة أمينة رشيد وكاطع الحلفي ، والدكتور عبد الحميد إبراهيم شيحة ، ومحمد الماكري ؛ وفريق خامس يستخدم المصطلحات الثلاثة في آن واحد دون تفضيل مصطلح علي آخر ومنهم [9] : الدكتورة سيزا قاسم ، والدكتور سامي حنا ، والدكتورة فريال غزوال ، والدكتور حامد أبو زيد وفرق عديدة أخري في ساحتنا النقدية العربية تستخدم تارة علم الدلالات ، وأخري علم الإشارة وثالثة علم الأدلة ، وعلم الدلائل وغيرها .

وكل هذه التسميات لها ما يبررها من الناحيتين الفنية والموضوعية واختيار مصطلح “سيميائية” لا يعني تفضيل مصطلح علي اخر ولكن نظراً لأن معظم الدراسات النقدية العربية المعاصرة استخدمت مصطلح “سيمياء” استناداً إلي كلمة “السيما” أى العلامة . وهي تعبير قريب من مفهومي السيميولوجيا أو السيميوطيقا فضلاً عن تطلعنا إلي توحيد المصطلح في نقدنا العربي ، وإذا كان الدرس النقدي الإنجليزي يفضل مصطلح “السيميوطيقا” والدرس النقدي الفرنسي يفضل مصطلح “السيميولوجيا” فمن الممكن في درسنا النقدي العربي استخدام مصطلح “السيميائية” وترسيخه لوجود عشرات الدرسات النقدية العربية التي استخدمت هذا المصطلح في درسنا النقدي العربي المعاصر.

وما يعنينا في هذا الموضع هو محاولة توحيد مصطلحاتنا لنقدية وتحديد معاييرها ومفاهيميها ، حتى لا تتداخل أبعادها في وعي المتلقي للنص النقدي العربي ، لا سيما أن هذا العلم أصبح راسخاً في الدرسين النقدي والثقافي ، ففي الدرس الأوروبي صدرت دوريات متخصصة تحمل اسمه مثل دورية الجعية الدولية للدراسات السيميوطيقية Semiotica ودورية Semiosis اللمانية ، وVersus الإيطالية Degres البلجيكية , فضلاً عن مئات الدراسات التي تنتشر فر دوريات علم اللغة ، واللسانيات ، والأسلوبية ، وعلم الجمال ، والنقد الأدبي . وفي نقدنا العربي توجد عشرات الدراسات السيميائية التي صدرت عن دور النشر العربية ، ومنها ما هو منشور في الدوريات النقدية المختصصة ، يضاف لذلك ظهور دورية نقدية تحمل اسم علامات في النقد تصدر عن النادي الأدبي بجدة ، غير أننا لا ندري إذا كانت هذه التسمية تم اختيارها لترسيخ “علم السيمياء” أم أنها مجرد تسمية غير قصدية الدورية في معظمها بالدراسات السيميائية يجعلنا نرجح الرأي الأول القصدى .

ولعل تعدد الدراسات حول هذا الاتجاه النقدي بجعلنا أكثر حرصاً علي توحيد مصطلحة وتحديد مفاهيمه في الخطاب النقدي المعاصر .

(2)

وفي الدرس النقدي الأوروبي تعددت الدراسات السيميوطيقية والسيميولوجية منذ أوائل القرن العشرين ، وقد تضمنت ببليوجرافيا علم الدلالة ( 1965 – 1978) [10] (Semantics. 1987 -1965 ) العديد من الدراسات السيميائية . وكذلك الأمر بالنسبة للدراسات العربية خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة . وهذا لكم من الدراسات العديدة انعكس بدوره علي مفهوم السيميائية ومن ثم لزم التخصيص والاقتصار علي بعض النقاد الذين اهتموا بمفهوم السيميائية علي سبيل المثال وليس الحصر . ومنهم الفيلسوف الأمريكي تشارلز ساندرزبيرس C.S.Peies (1839-1914) واللغوي السويسري فردينادي سوسير Ferdinand de Saussure ( 1857- 1914) ، والناقد الفرنسي رولان بارت R.Barthes (1915- 1980) .

***

2- أتشارلز ساندرزبيرس C.S.Peirs : دعا بيرس علي الوظيفة المنطقية لها . وعرف “العلامة بأنها تمثيل Representaion لشئ ما بحيث يكون قادراً علي توصيل بعض جوانبه أو طاقاته إلي شخص ماء [11].

وهنا يتضح أن تشارلز بيرس عني بالمستوي الأنطولوجي للسيميوطيقا (السيميائية) أي بتحديد ماهية العلامة ودرس مقوماتها وطبيعة علاقاتها بالموجودات الأخرى التي تشبهها . وعلي الرغم من موسوعية بيرس حيث كان رياضياً وفلكياً وكيميائياً ، إلا أنه كان شديد الاهتمام باللغة والأدب لا سيما الدراسات السيميوطيقية ، حيث قسم العلامة إلي أيقونة Icon ومؤشر Index ، ورمز Symbol وذلك علي النحو التالي :

I – الأيقونة Icon :

وهي عند بيرس “علامة تحيل إلي الشئ الذي تشير إليه بفضل تمتلكها ، خاصة بها وحدها . فقد يكون أي شئ أيقونه لأي شئ اخر سواء كان هذا الشئ صفة أو كائناً فرداً أو قانوناً بمجرد أن تشبه الأيقونة هذا الشئ وتستخدم علامة له ” [12] .

أي أن الأيقونة تشبه الشئ الذي تشير إليه وتشترك معه في صفة . أو يكون بينها وبين المشار إليها عامل مشترك يربط بينهما مثل الرابط بين أصل الشئ وصورته أو الإنسان وظله أو القرين وما يقترب به .

ويختلف أمبرتو إيكو مع تشالزبيرس في مفهومه للعلامات الأيقونية علي أن الرابط بينهما هو مجرد التشابه ، لأن هذه النظرية نظرة مباشرة وعلاقة الأيقونية Icon بالشئ ى تقف عند حد التشابه فحسب بل تتجاوز ذلك إلي إدراكها بالحواس . ويعرض إيكو لمفهوم بيرس حول العلامة فيقول “عمد بيرس في العام 1897 (2-228 ) الى التخصيص ايضاحاً ( أى تخصيص مفهوم العلامة الأيقونية ) : ” إن علامة أو ماثولاً هو شىء يحل بدلا من امرئ أو شئ ضمن علاقة ما ، أو تحت عنوان ما ، وهو معد كى يخاطب أحداً أى يخلق في ذهن هذا الشخص علامة متعادلة أو علامة ربما كانت أكثر اتساعاً ، وهذه العلامة هي التى ينشئها ( لدى الملتقى ) أدعوها تعبير العلامة الأولى . تلك العلاقة تحمل بديلا عن شئ ، أى عن موضوعها الخاص ، والحال أن هذه العلامة إنماتحل بديلاً عن هذا الموضوع دون أن تمثله في علائقه كلها ، بل تؤثر الرجوع الي فكرة دعوتها أحياناً .[13]

ان امبرتو إيكو يتجاوز العلاقة المادية التى تربط بين الشئ وقرينه أو بين الأيقونة وما تقترن به الى علاقة ذهنية تقوم على الفكر والثقافة ، لأن التشابه لا يقوم على القرينة المادية بل تسبقها القرائن الثقافية والفكرية . أى أن التشابه بينهما يكون ناتجاً من ممارسات وعلاقات ثقافية بينهما ولذلك يقول ايكو ” لا شئ يحملنا على الاعتقاد بان بيرس كان يعنى بالموضوع شيئا ملموساً معطى ( وهذا ما يدعى في علم الدلالة المخصوص يأوغدن وريتشاردز ) لا بسبب أن بيرس ظل يثبت أنه يستحيل تحديد أشياء ملموسة عبر اللغة بل ، لأن ذلك يتم لعبارات بعينها .. ومن جهة أخرى فإن الفكرة هي شئ وان لم تتخذ لها نمط احدى الهذيات “[14]

وهكذا نجد ـم إيكو يوسع دلالة الربط بين الأيقونة وما تقترن به ولا تقف عند الملموس فحسب بل تتجاوزه الى الأفكار ، لأن الفكرة غالباً ما تسبق المادة ويميز بيرس بين ثلاثة أنواع من الأيقونات : الصورة والرسم البيانى والاستعارة وكلها تنطوى على جوانب تشابه بينها وبين المشار إليه .[15]

وعلى الرغم من فضل السبق لبيرس في الاشارة الي أقسام العلامة ، إلا أم بعض الدارسين السيميوطيقين قد أختلفوا معه حول ماهيتها وجوانبها لاسيما السيموطيقيين السوفيت ومنهم على سبيل المثال يورى لوتمان الذي رأى ” أن العلامة الأيقونية لا تقف عند حد التشابه بل تمتد الى أبعاد ثقافية أخرى فيرى أنه على طول التاريخ البشرى ، ومهما أوغلنا في الماضى لا نجد إلا نوعين من العلامات مستقلين ومتماثلين ثقافياً . هذان النوعان هما الكلمة والصورة لكل منهما تاريخها ولكن يبدو أن وجود كل من النظامين أمر ضرورى لتطور الثقافة ” [16]

أى ان الأيقون لا يمكن أن تتمثل في نظام واحد كلا النظامين كما يرى بيرس بل لابد للنظامين معاً حتى تتحق العلامة الأيقونية بمفهومها الشمولى .

ونحن نرى مع الدارسين السيموطيقيين ضرورة توسيع الأفق الدلالى للعلامة الأيقونية حتى تتناسب مع مستويات التأويل والتعدد الدلالى والتفجير اللغوى الذي طرأ على النصوص الابداعية المعاصرة . هذا لا يتعارض مع مفهوم العلامة بل يؤدى الى تعدد أبعادها فالقضبان علامة مباشرة للقطار والعكس صحيح ومن الممكن أن يكون القطار علامة إيحائية على بعد دلالى آخر كاستمرارية الحياة وديمومتها وجريانها الأبدى

II – المؤشر ” Index ”

وهو على حد قول بيرس ” على تحيل الى الشئ الذي تشير إليه بفضل وقوع هذا الشئ عليها في الواقع “[17]

والمؤشرات بهذا المفهوم عند بيرس هى علامات طبيعية أيضاً مثل نزول قطرات المياه من السماء مؤشر لسقوط الأمطار وسكب الدموع من العينين مؤشر للحزن أوالبكاء ، والضحك مؤشر للسعادة أو الفرح أو البهجة ، أو على حد رؤية بيرس[18]نفسه أن العلامة هي علاقة مجاورة بين الاشارة والشئ المشار غليه مثل ارتفاع الحرارة مؤشر للمرض ، والغيوم مؤشر للمطر والدخان مؤشر للنار .

على أن هذا المفهوم لا يكتمل إلا بتضافر العلامات الطبيعية والعرفية معاً ، ولا نبالغ حين نقول : ” أن العلامات العرفية تشكل ملحما بارزاً في المؤشر لأن بيرس قد أدرج بين المؤشرات بعض العلامات اللغوية – وهى أسماء الإشارة والظرف والضمائر – فكيف يمكن اعتبار مثل هذه العلامات – هي علامات عرفية محض – ضمن العلامات الطبيعية ؟”[19]

ولذلك يقول : ” إن أسماء الإشارة ( هذا ) و ( ذلك ) مؤشرات ، لأنها تتطلب مع المستمع أن يركز انتباهه ، وأن يستخدم قوة ملاحظته ، وأن يؤسس علاقة حقيقية بينه وبين الشئ الذي تحيل إليه الأسماء ، وتكمن فاعلية أسماء الإشارة في أنها تحفز المستمع إلى هذا السلوك وإن فشلت في هذا فلا يفهم معناها ، وإن قامت أسماء الإشارة وبهذه الوظيفة فإنها تصبح في جزاء ذلك مؤشرات “[20]

ومن ثم يتضح أن المؤشرات لا يمكن أن تقوم عل العلامات الطبيعية فحسب بل تتضافر معها العلامات العرفية لأن أسماء الإشارة والأسماء الموصولة تعد علامات عرفية وليست طبيعية .

ومن ثم يتضح أن بيرس قد حاول أن يشمل جميع المؤشرات اللغوية والمادية في نظام سيموطيقى واحد ، وقد يرجع هذا الى رؤيته الفلسفية الشمولية للإشارة ؛ لأنه يعتقد أن مختلف جوانب النشاط الانسانى تخضع للدراسة السيميوطيقية .

وهذه الشولية ربما هى التى أوجدت التعميم اللانهائى في دراسته للمؤشرات وعدم دراسته لها انظمة وأنساق علمية ولغوية دقيقة . وحصرها في العلامات الطبيعية دون العرفية حتى أنه حصر ستة وستين نمطا فرعيا من العلامات ” ويبدو أن بيرس كان حريصا على التميز بين المؤشرات الطبيعية التى أطلق عليها تسمية المؤشرات فقط Indexes ، فالبرغم من أن النوعين يشتركان في الوظيفة ، فانهما يختلفان من حيث الماهية ، فالنوع الأول ينتمى الى فصيلة الموجودات الطبيعية ( الدخان – السبابة – خطوة البحار ) بينما تنتمى الثانية الى فصيلة العلامات العرفية التى يبدعها الانسان “[21]. على حين أن بيرس ربط ماهية المؤشر بالعلامات الطبيعية .

III- الرمز : ” Symbol ”

والرمز عند بيرس هو ” علامة تحيل الي الشئ الذي تشير إليه بفضل قانون – غالبا ما – يعتمد على التداعى بين افكاره عامة ويحدد ترجمة الرمز بالرجوع الى هذا الشئ [22]. والعلامة في هذه الحالة تكون عرفية محضة ، لأن الرمز يربط بين الدال والمدلول الايحائى ، والمدلول الايحائى يكون علامة عرفية أكثر منها طبيعية . ومثال ذلك الميزان الذي يرمز للعدل .

* * *

2- ب فرد يناند دي سوسير –Ferdi

Nand de Saussure

ثم جاءت محاولات عالم اللغة السويسري فرديناند دي سوسير Ferdinand de Saus sure (1857- 1914) ليعني بالمستوي البرجماتي للسيميولبوجيا Semlologg أي بفاعلية العلامة وتوظيفها في الحياة العملية وفي عمليات الاتصال ونقل المعلومات . وذلك من خلال دعوته إلي علم السيميولوجيا فيقول : ” اللغة هي نظام من العلامات الذي يعبرّ عن الأفكار ، ولذلك فهي مشابهة لنظام الكتابة الأبجدية للصم ، للطقوس والمذاهب الرمزية ، لصيغ المجاملة ، للإشارات العسكرية ،.. إلخ ، ولكنها أهم من كل هذه الأنظمة لقد أصبح ممكنا تصور ذلك العلم الذي يدرس حياة العلامات داخل المجتمع ولا بد أن يكون جزءاً من علم النفس الاجتماعي وبالتالي من علم النفس العام ، وسوف أسمية Semiology علم العلامات ( في اليونانية – semeion “علامة” ) ، وعلم العلامات سوف يبين ما الذي يشكل العلامات ، والقوانين التي تحكمها ولأن العلم لم يظهر للوجود ، فلا أحد يستطيع القول بماذا سيكون ولكن له حق الوجود .. وعلم اللغة هو جزء فقط من العلم العام لعلم العلامات ، وإن القوانين المكتشفة بواسطة علم العلامات (السيميولوجيا) سوف تكون ملائمة لعلم اللغة “[23].

ومن هنا يتضح أن سوسير يري أن علم اللغة جزء من علم العلامات (السيميائية) وأنها تعني بالتعبير عن الأفكار المختلفة واستطاع أن يطور هذا العلم بنقله من الدرسات الفلسفية إلي الدراسات اللغوية لا سيما علم اللغة . فإذا كان تشارلز ساندرزبيرس عنى بماهية العلامة من حيث درس مقوماتها وطبيعتها وارتباطها بالموجودات الأخرى التي تشبهها فإن سوسير عني بالعلاقة بين العلامة وعلم اللغة ، وبفاعلية العلامة وتوظيفها في الدراسات اللغوية ويري أن ” الخصائص التي تميز السيميولوجية عن جميع المؤسسات الأخرى تظهر بوضوح في اللغة .. وأن مشكلة اللغة سيميولوجية بشكل رئيس ، وأن كل التطورات استمدت أهميتها من تلك الحقيقة المهمة ، وإذا كنا سنكتشف الطبيعة الحقيقية للغة فعلينا أن نعرف الجوانب المشتركة بينها وبين جميع الأنظمة السيميولوجية “[24].

وتتمثل العلامة Sign عند سوسير في الدال Signifiant والمدلول Signified ، وتقوم علي أساسين : الأول : الطبيعة الاعتباطية Orbitrary بين الدال والمدلول أي أن العلامة اللغوية عنده اعتباطية ، والثاني : الطبيعة الطولية للدال أو الطبيعة الخطية للدال ، ذلك ” أن الدال يمثل امتداداً زمنياً وهذا الامتداد محدد ببعد واحد هو الخط الزمني أي أن سوسير يقدم النموذج التزامني Synchronic الذي يري اللغة في علاقاتها بالثقافة ونشاطاتها في لحظة زمنية واحدة بديلاً للنموذج التعاقبي Diachronic الذي فضله دراسو اللغة “[25] .

وقد ” أصبح هذا التصور واضحاً عندما تمثلت بالكتابة ، والخط الخاص للعلامات الكتابية حل محل التتابع في الزمن “[26] . وبمعني اخر يمكن القول إنه ” إذا كانت الدوال (ج.دال) المرئية ( مثل الإشارات النوتية وغيرها ) لا تخلو من تعقيد لأنها تحدث علي مستويات مختلفة ، فإن الدوال السمعية – علي العكس – لا تتوفر إلا في منحني واحد هو الخط الزمني : فعناصرها توجد متتالية أي تكون سلسة , وحتى تتضح لنا مباشرة الخاصية الخطية للدوال السمعية يكفي أن نمثل عناصرها كتابه أن نعوض التتابع الصوتي ضمن إطار الزمن بالخط المادي للعلامات الكتابية “[27] .

كما تتسم العلاقة دي سوسير أيضاً بأنها لا تبادلية حيناً وتبادلية في الحين الاخر فمن حيث كونها لا تبادليه يتضح من خلال عدم المقدرة علي تغيير العلامة أو الدوال الذي اختارته اللغة ، لأن اللغة ميراث جماعي – لو جاز لنا استخدام هذا التعبير – وهذه الجماعة لا يمكن أن الجماعة مرتبطة باللغة كما هي عليه . والحقيقة أن كل المجتمعات الإنسانية لا تعرف ولم تعرف أبداً اللغة ، بل لم تعرفها من قبل إلا بمثابة نتاج موروث عن الأجيال السابقة ينبغي أن يؤخذ علي ما هو عليه “[28] .

ومن ثم تصبح العلامة لا تبادلية ، لأن الذات الفردية أو حتى الجماعية لا تستطيع تغييرها أو استبدالها لأنها ميراث لمراحل سابقة ، وأن اللغة الأم التي استقرت رموزها الكتابية وعلاماتها في وعي الأجيال المتتابعة لا يمكن استبدالها أو إدخال تغيير عليها . أما من حيث كون العلامة تبادليه فإنه في بعض التغييرات الصوتية التي تحدث في الدال أو المعنوية التي تحدث في المدلول .

وهكذا نستطيع القول إن فرديناند دي سوسير استطاع أن يطور مفهوم ” السيميولوجيا” وينقله من الإطار الفلسفي عند بيرس إلي الإطار اللغوي . وبذلك أصبح المفهوم قريباً من الدرس النقدي عند السيميائيين . لذلك نعني بمحورين أساسين :

الأول : سيمسائية الخطاب النقدي عند رولان بارت .

الثاني : سيتميائية الخطاب النقدي العربي .

(2- ج)

سيميائية الخطاب النقدي عند رولان بارت R-Barthes

جاءت محاولات رولان بارت R-Barthes

( 1915-1980) لتواصل الجهود الفلفسية للسيميائية التي بدأها تشارلز ساندرز بيرس والجهود اللغوية التي بدأها دي سوسير فقد استطاع أن مفهوم السيميائية من خلال تجاوزه البعدين الفلسفي واللغوي للسيميائية إلي البعد النقدي لها فيري بارت أن “السيميولوجيا” (السيميائية) هي علم الدلائل ؛ استمدت مفاهيمها الإجرائية من اللسانيات , إلا أن اللسانيات ذاتها شأنها شأن الاقتصادي تقريباً في طريقها إلي الانفجار بفعل التمزق الذي ينخرها .. فاللسان المجتمعي ذاته علي حد تعبير بينفست Benve – niste وخلاصة القول فإن صرح اللسانيات أصبح يتفكك اليوم من شدة الشبع أو من شدة الجوع مداً أو جزراً , وهذا التقويض للسانيات هو ما أدعوه من جهتي “سيميولوجيا ” [29].

إن بارت ينظر إلي السيميائية علي أنها جزء من اللسانيات لأن اللسان عنده يشمل كل الأبنية الاجتماعية ونتيجة التفكك الذي أصاب كل اللسانيات فقد نجم عنه ظهور علم السيميولوجيا (السيمياء) . وهذا الرأي يخالف فيه دي سوسير لأن سوسير يري أن اللغة جزء السيميولوحيا وليس العكس . أي أن سوسير عمل توسيع دائرة السياميائية بحيث تكون الأنظمة اللغوية جزء منها بينما بارت لجأ إلي العكس حيث قسَّم المجال للسانيات بحيث تشمل كل الأنظمة للسانيات بحيث تشمل كل الأنظمة الاجتماعية وتأتي السيميائية جزء من هذا النظام الكلي .

والنقد السيميائي يعتبر الدب نظاماص للعلامات يستند إلي أنظمة اللغة , لأن اللغة هي الوعاء الذي يحوي الرموز الأدبية والمعايير النقدية , ومن ثم يعد النقد السيميولوجي نظاماً من أنظمة العلامات وهذا ما حاول بارت أن يبرزه . فربط بين اللغة والخطاب ربطاً مباشراً فيقول ” أعتقد أن اللغة من وجهة النظر التي ننظر من خلالها نحن الان لا تنفصل عن الخطاب .. والشئ اللغوي لا يمكن أن يقوم عند حدود الجملة ولا أن ينحصر فيها , فليست الفونيمات والكلمات والعلاقات الصرفية هي التي تخضع وحدها لنظام حرية مضبوطة ما دمنا لا نستطيع التركيب بينها كيفها اتفق , إن الخطاب في مجموعة هو الذي يخضع بشبكة من القواعد والإكراهات والضغوط التي تكون كثيفة ضبابية علي المستوي البلاغي ، دقيقة حادة علي المستوي النحوي , فبين اللسان والخطاب مد وجزر[30] .

وإذا كان بارت يربط بين اللسان والخطاب فإن الخطاب النقدي السيميائي يعد جزءاً من اللسان عنده . هذا الجزء يقوم بتطهير اللسانيات وتنقية الخطاب فيقول : ” السيميولوجيا هي ذلك العمل الذي يصفي اتللسان , ويطهر اللسانيات , وينقي الخطاب مما يعلق به , أي من الرغبات والمخاوف والإغراءات والعواطف والاحتجاجات والاعتذارات والاعتداءات والنغمات وكل ما تنطوي عليه اللغة الحية “[31] .

ثم تطوّر مفهوم بارت للسيميائية منذ عام 1954م تقريباً عندما ربط علم السيمياء بالنقد الاجتماعي وجمع بين أعمال حديثة إلي تغيير الصورة النقدية للفاعل الاجمتاعي والذات الناطقة ومن ناحية أخري تبين أنه يتعدد منابر المعارضة فإن السلطة ذاتها كمقوله خطاب ، كانت تتشتت وتنشر كماء ينسان في كل مكان .. وانتان الهيئات السياسية نوع من التهييج المعنوي , وحتى عندما كانت المطالبات ترتفع باسم المتعة فإنها كانت تتخذ لهجة تهديد “[32] . وانعكس هذا التحلل والتشتت والتوسع في المفهوم السيميائي علي الخطاب النقدي .

وعلي الرغم من أن بارت توغل في دراسة أنماط السيميائية فعني بالدعاية والإعلان والاحتفالات والسينما والجرائم والإذاعة والمسرح والسيارات والأدب والتلفزة والأطعمة والمصارعة وغيرها ، وعدها نماذج أسطورية وفك رموزها في كتابة أساطير Myghologies 1957 نقول علي الرغم من ذلك إلا أننا سوف نقصر دراستنا علي الوانب السيميائية المقتربة بالخطاب النقدي اقتراناً مباشراً ومنها :

1- الالية الفلسفية والمفهوم النقدي .

2- اللغة ومفهوم النص “السلطة اللغوية والنصية ” .

3- لذة النص ومستويات التلقي والكتابة .

* * *

2-1 الالية الفلسفية والمفهوم النقدي :

2-1 الرؤية الفلسفية :

لعنا لا نبالغ حين نقول إن رولان بارت R.Barghes تأثر إلي حد كبير بالوجودية السارترية ، وتركت في نفسه أثراً عميقاً حيث تؤمن الوجودية الفرد الإنساني في التغير المستمر والهرب من قبضة الماضي أو من أي تشديد نهائي يفرضه الاخرون , “فالوجود يسبق الجوهر حسب الصيغة السارترية المشهورة إذ ليس يتوقع منا أن نتحول إلي جوهر إلا عندما نموت فعلاً ولذا فإن بارت , شأنه شأن سارتر يضع سيولة الوجود فوضتاه مقابل تصلب الموت الذي يري أن الجوهرية تمثله ، ذلك أنه يري – كما يري سارتر – أن الجوهرة هي الأيديولجية التي تغذي البرجوازية ذلك العدو التقليدي الأكبر المفكرين الفرنسيين . إن الجواهر والموازين تشبه علامات الأبراج في الكون البرجوازي ، هذا ما كتبه في خاتمة أتشد كتبه عداءّ للبرجوازية وهو كتاب أساطير – My theologies (1957) ” [33] .

إن سارتر يحاول أن يربط بين الإنسان والواقع والتناهي فإذا كان الواقع إنسانياً فلا بد أن يكون متناهياً ، ومن ثم فالمرء عنده يكون متناهياً أيضاً ، إنها نزعة تجنح إلي تحليل الذات تحليلاً متناهياً حتى وإن كان خالداً لأنه جعل نفسه متناهياً من خلال اختياره أن يكون إنسانياً ، وأن يكون المرء متناهياً يعني في الحقيقة أن يكون ذاته وأن يحدث نفسه بما هو عليه وأن يوجد نفسه نحو ممكن في ظل استبعاد إمكانيات أخري وهكذا فإن حدث التحرر ذاته هو افتراض وخلق للتناهي “[34].

وهذه الاراء الفلسفية لسارتر حول الموت توضح نمط فلسفته تجاه الذات الإنسانية ، من حيث اعتماده علي التحليل المتناهي لها . وهذه الرؤية قد تأثر بها رولان بل وأصناف إليها أبعاداً أخري تؤدي إلي مزيد من تحلل الذات تحللاً لا نهائياً .

وقد تكون طبيعة الواقع الحياتي الذي عاشه كل منهما جعله يتوافق مع هذه الأفكار الوجودية فقد عاش سارتر في ظل الموت وقتاً يعتد به وخاصة كعضو من المقاومة للنازي وهذا القرب من الموت هو علي وجه الدقة ما ترك أثره علي فكر سارتر “[35].

فنظر إلي الذات نظرة وجودية تقوم علي الفناء والتناهي ولذلك يقول : ” في كل لحظة كنا نعيش المعني الكامل لهذه العبارة الصغيرة العادية – الإنسان فان – وكان الخيار الذي قام به كل منا وجهاً لوجه مع الموت يمكن التعبير عنه دائما بهذه الكلمات – الموت أفضل من …- وعلي هذا النحور طرحت مسأله الحرية الأساسية وجلبنا إلي حافة أعمق معرفة يمكن أن يحصلها الإنسان عن نفسه ، ذلك أن سر الإنسان ليس عقيدة أوديب أو عقيدة الدونية التي يعانيها : إنه حد حريته الخاصة “[36] .

إي أن هذه الحوادث التي عاشها في صفوف المقاومة الفرنسية وجعلته علي حافة الموت في كل لحظة جعلته ينظر إلي الذات نظرة تحررية إنه يريد الحرية والخلاص من القيود التي كان يعيشها بما قيود الموت تحاصره في كل حين .

والخلاص من هذه القيود يتمثل في توقه إلي حرية الذات ، التي عبّر عنها من خلال التحليل النفسي الوجودي ، ويتضح هذا في دراستة لبودلير وجان جينيه وفلوبير فقد ” استخدم علم النفس التحليلي الوجودي في دراسة هذه الشخصيات وأشار في كتابة الوجود والعدم إلي أنه يريد أن يتوسع بالنقد الأدبي حتى يستخدم التحليل النفسي الوجودي الذي يقرر فيه الشخص حريته “[37] .

وقد انعكست اراؤه الفلسفية حول الحرية علي ارائه النقدية التي تعتمد علي التحليل النفسي الوجودي وعلي حرية الذات في النص الأدبي وتحللها إلي ذوات لا متناهية ، وهذا بدوره يتناسب مع الحرية اللامتناهية التي ينادي بها في فلسفته ؛ لأنها تحاول أن تخرج الذات من حريتها ، ولكن يبدو أنها لم تستطيع تحقيق ذلك لأن فكره سارتر في الحرية غير المتناهية والمساوية لذاتها علي الدوام لا تمكننا أن نخرج من الحيرة التي تضعنا فيها إلا بابتدائتا من بعض المعايير التي لا يبدو أن الفلسفة الوجودية ذاتها قد أعطتها “[38].

ويبدو أن النزوع إلي الحرية والتحلي النفسي الوجودي عند سارتر يرجع إلي رؤيته الفلسفية الوجودية التي تحاول التخلص من السلطة المركزية حتى كانت هذه السلطة ممثله في المطلق ، ” فالإنسان عند سارتر مهجور ومنعزل ؛ لأنه ليس هناك مطلق ويترتب علي هذا شعور بالقلق والحصر النفسي , لذلك يقول ” ينشأ القلق عندما يري نفسه مقطوعاً عن ماهيته بواسطة العدم أو مفصولاً عن المستقبل بواسطة حريته نفسها “[39].

وهذه الحيرة والقلق نجم عنهما الشعور بالعدمية والتطلع للحرية ، لذلك نجد الذات في النص تتوق للحرية اللامتناهية وتحاول تحطيم كل الحواجز السلطوية المركزية ؛ لأنها تمثل قيداً علي حرية الذات لذلك يقرب القلق بالحرية , “فالقلق عنده هو كيفية وجود الحرية بالنسبة لذاتها [40]. ولذلك الذات عنده للحرية والتمرد علي كل مفاهيم تقليدية وتتجاوز كل سلطة تحول دون ذلك .

وقد عاش رولان بارت Roland Barthes واقعاً قريباً من الواقع الذي عايشة سارتر – Sartre , فقد أصيب بمرض السل في أواخر العشرينات وأوائل من عمره , وأصبح قريباً من حافة الموت مثلما كان سارتر قريباً من حافته أيضاً . وقد أدي هذا إلي كراهية بارت R. Barthes للفلسفة الجوهرية ؛ لأنها فلسفة من الفلسفات الحتمية ” التي تؤمن بأن في كل فرد إنسانيّ جوهراً ما لا يتغير بفرض علينا التصرف أثناء مسيرتنا الحياتية ضمن حدود يمكن التنبؤ بها علي نحو ما . وقد ترجع هذه الكراهية إلي حالته المرضية التي مرّ بها بين عامي ( 1942-1947) حيث أصيب بداء السل وقضي هذه الفترة في المصحات للعلاج وتركت أثراُ في نفسه جعلته يذهب أكثر مما ذهب إليه سارتر في مقته للجوهرية ” فسارتر يقر بوجود قدر من التكامل أو الوحدة في الشخص الإنساني, أما بارت فيؤمن بفلسفة التحلل التي تنحل فيها الوحدة المفترضة في أي فرد إلي تعددية بحيث يصبح كل منا كثيرة لا وحدة . إن بارت لا يؤمن بالوحدة ولا حتى بالله الواحد بل يدعم كل ما هو متعدد أو منقطع , لذا فإن السيرة عنده نوع أدبي كريه ؛ لأنها تمثل وحدة مزيفة لموضوعها “[41] .

ونجد أثر هذه الفلسفة في تحليلاته لبعض النصوص الأدبية وفي ارائه النقدية , ونفق علي سبيل التمثيل عند نص أدبي واحد لتوضيح أثر حالته المرضية علي ارائة الفلسفية من ناحية ونصوصه الأدبية من ناحية ثانية وارائة النقدية من ناحية ثالثة . يقول : ” منذ أيام أعدت قراءه رواية توماس مان Thomas Mann ” الجبل *****ي ” يستعرض هذا الكتاب مرضاً عانيت منه مدة طويلة هو مرض السل . عن طريق هذه القراءة كنت أحتفظ في وعي ثلاث فترات عن هذا المرض . فترة الحادثة التي تدور قبل حرب 1914, وفترة مرضي أنا حوالي 1942 ، ثم الفترة الحالية التي لم يعد فيها لهذا المرض أثر بعد أن قضت عليه الأدوية الكيماوية , تلك الصورة التي كان فيما مضي , والحال أن السل الذي عرفته لا يختلف إلا قليلاً عن السل الذي تتحدث عنه رواية الجبل *****ي , كانت الفترتان تمتزجان وتبتعدان عن حالتي الراهنة نفس المسافة الزمنية تبينت لحظتها باندهاش (والبداهات وحدها هي القادرة علي أت تبعث علي الدهشة ) إن جسمي يمتد في التاريخ .. إذا أردت أن أحيا علي إذن أن أنسي أن جسمي ينتمي إلي التاريخ وأغرق في الوهم “[42] .

أي أن النقد هو معني ثان للعمل الأدبي يرتبط بالمعني الأول عن طريق العلامات, أو بمعني اخر المعني الثاني يكون علامة علي المعني الأول أو العكس . خاصة أن بارت يري أن العهلاقة التي تحكم النقد بالعمل الأدبي هي بمثابة علاقة المعني بالشكل , فالنقد عنده هو المعني والعمل الأدبي هو الشكل ومن ثم يكون النقد معني ثانياً للعمل الأدبي وعلامة له “فالناقد حين يضيف كلامه إلي كلام المؤلف ى “يشوه” الموضوع حتى يمكن له أن يعبّر به عن ذاته , ولا يسعي أن يجعله محمول شخصه بل بعيد صياغته مرة أخري , معتبراً إياه علامة منفصلة ومتنوعة شئ علامة الأعمال الأدبية ذاتها [43]. م . أي أن النقد حتى لو كان ذاتياً فهو قراءة ثانية للعمل وإضافة له تعكس الموروث الثقافي للناقد وتتقصي الموضوع الأدبي خاصة إذا كانت الذاتية منظمة ومثقفة وتقوم علي مزج الذاتي بالموضوعي مزجاً مقتناً . وحينئذ تكون هذه الإضافة النقدية هي علامة العمل الأدبي ذاته. “فالنقد عنده ليس العلم وليس بمعارضة الموضوع بالذات بل بما له من صفات “[44].

ومن ثم لا يري النقد الأدبي تقويماً للعمل الأدبي بل قراءة ثانية له وإضافة معاني إليها فيقول “لا غرابة في أن يضاعف الناقد المعاني , فيضفي علي سطح الكلام كلاماً ثانياً , أي ترابطاً منطقياً للعلامات “[45].

أي أن النقد هو معني ثان للعمل الأدبي يرتبط بالمعني الأول عن طريق العلامات , أو بمعني اخر المعني الثاني يكون علامة علي المعني الأول أو العكس . خاصة أن بارت يرى أن العلاقة التي تحكم النقد بالعمل الأدبي هي بمثابة علاقة المعني بالشكل , فالنقد عنده هو المعني والعمل الأدبي هو شكل ومن ثم يكون النقد معني ثانياً للعمل الأدبي وعلامة له ” فالناقد حين يضيف كلامة إلي كلام المؤلف لا “يشوه” الموضوع حتى يمكن له أن يعبّر به عن ذاته , ولا يسعى أن يجعله محمود شخصية بل بعيد صياغته مرة أخرى معتبراً إياه علامة منفصله ومتنوعه هي علامة الأعمال الأدبية ذاتها [46]م .

أي أن النقد حتى لو كان ذاتياً فهو قراءة ثانية للعمل وإضافة له تعكس الموروث الثقافي للناقد وتتقصي الموضوع الأدبي خاصة إذا كانت الذاتية منظمة ومثقفة ونقوم علي مزج الذاتي بالموضوعي مزجاً متقنا . وحينئذ تكون هذه الإضافة النقدية هي علامة العمل الأدبي ذاته . “فالنقد عنده ليس العلم وليس بمعارضة الموضوع بالذات بل بما له من صفات “[47].

ولذلك يقول : ” إن النقد هو قراءة عميقة جانبية إذ يكشف في العمل الأدبي أمراً معقولاً , وهو بذلك يكشف عن تأويل ويسهم فيه غير أن ما يظهره هذا النقد لا يمكن أن يكون مدلولاً (إذ لا يزال يتراجع هذا المدلول حتى يصل إلي فراغ الذات ) بل سلاسل من الرموز ومشابهات في العلاقات “فالمعني” الذي يهبه النقد للعمل الأدبي ليس في النهاية إلا ازاهاراً جديداً للرموز التي تصنع هذا العمل ” [48].

أي أن النقد في حالة تجدد دائم للمعني الذي يطرحه النص الأدبي من ناحية وثقافية النقاد من ناحية ثانية , ولا يتوقع هذا المعني حول المدلول بالمفهوم السويسري , بل يظل في حالة تجدد حتى يصل إلي تلاشي المعني الذاتي ويتولد منه معاني أخري متجددة تطرحها الرموز الأولية للعمل الأدبي ولذلك يقول : ” المعني لا يحدد حقيقة أخيرة للصورة بل صورة جديدة تكون معلقة , وليس النقد ترجمة بل ثورة , وهو لا يدعي تقصي عمق العمل الأدبي , لأن العمق هو الذات نفسها أي غياب وكل مجاز هو علاقة دونما عمق إنه بمثابة المدلول البعيد الذي تسعي الدعوي الرمزية إلي تعيينه خلال إسرافها ولا يسع النقد إلا أن يتابع مجازات العمل الأدبي دون أن يختصرها ؛ ومن العقيم أن نرد العمل الأدبي إلي الواضح المحض , كما يبدو أقل عبثاً أن يفترض بعضهم في العمل الأدبي سر كبيراً حالما يكشفه الناقد لن يجد شيئاً الناقد لن يجد شيئاً يضيفه إليه ، ومهما قيل عن العمل الأدبي يظل كما اللحظة الأولي نتاج الكلام والذات والغياب “[49].

وهكذا يتضح أن بارت يميل في مفهومه للنقد إلي كونه معني وهذا المعني يظل في حالة تجدد , ومنه تتناسل الصور وتنسلخ من بعضها البعض , ولا يوجد معني مركزي أو رمز جوهري يكتشف في العمل الأدبي فحسب , بل إن العمل الأدبي يظل نتاج العملية الإبداعية والذات المبدعة والناقدة في اللحظة الانية والمستقبلية . ولذلك يتمرد علي مفهوم البطولة الملحمية ويري أن “البطل يعيش في عالم من العلامات , وهو معني بها, وهذه العلامات ليست ثانية , فضلاً عن عدم تأكيد هذه العلامات , فهو يضيف إلي غموضها من خلال توظيف العلامة ذاتها حقائق مختلفة , وعندما يعطي البطل الثقة لدلالة ما, شئ ما يحدث هنا . ويلتقي بالبطل في الاضطراب والإحباط , كذلك فإن العالم يبدو للبطل محاطاً بألوان من الحبل [50] . أي أن البطولة الثانية عند مفهوم واحد ووظيفة واحدة تحدث نوعاً من الاضراب ولكن لابد للذات في النص من أن تعدد أبعادها ودلالاتها ومن ثم علاماتها . لأن العلامة عند بارت في حالة تجدد وتغير وتحول مستمر وهذا ما يعطي البعد النقدي نوعاً من الحيوية الخلاقة . لأبه يتجاوز بذلك المعاني المركزية للبطل أو للنقد.

وهذا المفهوم يتوافق مع الفلسفة الوجودية التي انطلق منها حيث مليها إلي تحلل المعني وعدم مركزيته وتناسله الدائم , ولذلك يلجأ إلي وحدات النص وتحليلها من خلال اقتران المجاوز بالعلامة فكل منجاز في النص يشكل علامة والنقد هذه المجازات المكونة للعلامات دون أن يختزلها بل يتركها في حالة تجدد وتناسخ وتكاثر مستمر .

* * *

وهذه الفلسفة الوجودية التي أفرزت هذا المفهوم النقدي لدي بارت لم تتوافق والنقد التقليدي الذي كان سانداً في فرنسا انذاك . واتضح هذا في بعض ارائة النقدية ومنها :

- اعتراضه علي الفلسفة الحتمية التي مان تؤمن بها أنصار الأكاديمي الذين وضعوا “في أذهانهم نموذجاً للشخصية الإنسانية جعلت مكشفات التحليل النفسي نموذجاً بالياً ، وقد كانت تلك السذاجة وتلك الحتمية ضارتين – فيما يقول بارت – عندما كان النقاد يلجأون إلي تفسير المعطيات النصية بالرجوع إلي حياة المؤلف ، وهو أسلوب غير مقصور علي النقاد الفرنسيين . ولم يختلف بعد من أي بلد من البلدان “[51]

وعله اعتراض بارت علي هذا التصور أن المبدأ الحتمي الناقد مجموعة قوالب نقدية جاهزة مثل حياة المؤلف وسيرته ، وهذه القوالب تؤدي إلي مركزية المعني التي تذكره بدورها بالفلسفة الحتمية التي يرفضها بارت .

معارضته للنقاد الأكاديميين الذين ” لا يرون إلا معني واحداً في النصوص التي يتناولها ، وذلك المعني هو عادة حرفي جداً . وهذا المعني الحرفي يعتبرونه بعد ذلك هو معني النص وأن أي بحث عن معان مكملة أو بديلة مضيعة للوقت ، وإنهم اناس ضيقو الأفق ، متسلطو المزاج يتوهمون أنهم علميون بينما هم متعنتون في ارائهم بشكل لا يغتفر ، فقد انغلقت أذهانهم أمام لطائف اللغة Ambiguities ، وإلي إمكان تعايش معان مختلفة ضمن مجموعة الكلمات ذاتها “[52] .

إن المعني الأحادي عند بارت مرفوض : لأنه معني حتمي – لو جاز لنا استخدام هذا التغبير – أي أن الناقد التقليدي لا يري في النص إلا معني مفرداً لا يتغير ولا يفسح المجال لمعان أخري قد يطرحها الني . وهذه الأحادية لا تتناسب وفلسفة التحلل التي يتحلل فيها النص إلي معان ووحدات متعددة والتي تتوافق وفلسفة بارت النقدية ولذلك يقول : ” إن العمل الأدبي لا يحيطه أو يسميه أو يحميه أو يوجهه أي موقف ، وليس فيه حياة عملية تقول لنا أي المعاني نعطيه ، ومعما استرسل العمل وفصل فيه شيئاً فإن أشبه بإيجار النبوءات الدلفية (نسبية إلي معبد دلفاي ) وتنسجم كلماته مع نظام أولي للرموز (النبوءات لم تستطرد) ولكنه مع ذلك يتقبل تفسيرات متعددة ؛ لأن تلك الكلمات قيلت خارج أي موقف باستثناء موقف الغموض نفسه “[53].

فالنقد عنده لابد أن يميل إلي تفسيرات ومعان متعددة ولا يجب أن ينحصر في مواقف أحادية مثل حياة المؤلف وغيرها . ولذلك ” يرفض النقد المعياري Normative مهما كان شكله ويري أنه كلما كثرت المعاني التي يضمها النص كان ذلك أفضل وأنه يجب ألا يعطي أي من هذه المعاني أفضلية علي المعاني الأخرى وإن المعني الذي يتخلل النص ليس هو ذلك الكشف النهائي الذي لا نحصل عليه إلا إذا أنهينا قراءة ذلك النص”[54].

أخذ بارت علي النقاد التقليديين أيضاً عدم تصريحهم بأيديولوجيتهم النقدية ” أي أنهم فشلوا بالمصطلح السارتري في تبني القيم التي طبقوها عندما أطلقوا أحكامهم علي عمل أدبي ما، وقد كان أحد الأمور التي شدد عليها الوجودية أن علي أتباعها يتحملوا مسؤولية قيمهم بأن يكونوا صرحين بشأنها . وأي تصرف مخالف ذلك هو من قبيل الخداع . غير أن أيديولوجية الفلسفة الوضعية التي سحبها بارت متفشية في الحياة الأكاديمية ظلت أيديولوجية غير مصرح بها مما كان الوضعيين من إبهام الناس بأن قيمهم كليه شاملة ، لا يأيتها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها , وأنها ليست قيم طبقة من الطبقات في مجتمع من المجتمعات في وقت من أوقات التاريخ . لقد كان خداعهم كاملاً [55].

وقد هاجم بارت هذه التعمية التي حاول النقاد التقليديون أن يضللوا المجتمع بها ، من حيث كونهم يعشون حالة من التناقص بين الرؤية والأداة أو بين أفكارهم الحقيقية غير الواضحة التي لا تلتزم موقفاً فكرياُ معنياً أو أيديولوجية معرفة وبين كتابتهم النقدية التي يزعمون فيها تبنيهم فلسفة شاملة ، في حين أن بارت رأي أن المزية الفكرية التي يعتزون بها وهي فكرة الوضوح ويرون أنها تطبق علي المجتمع الفرنسي إنها في حقيقة الأمر تنطبق علي اللغة الفرنسية المستعملة في البلاط ، أي أنها مميزة لجماعة أو لطبقة بعينها وليس كل الطبقات . يقول :” إن الوضوح مزية محلية وسياسية ، إنها صفة بلاغة وليست صفة عامة من صفات اللغة ، صفة ممكنة في كل الأزمنة والأمكنة , والواضح باختصار فعال حيث كانت البلاغة فعاله يوماً ما : في المحاكم وربما في المحافل الانتخابية وهو من صفات اللغة توجه نحو تشكيل الاراء , أي أنه بتغبير بارت الحاسم لغة طبقة “[56].

إن هذه اللغة هي لغة الطبقة العليا الحاكمة في المجتمع ولذلك يقول :” الاصطلاح التعبيري الذي أسميناه – الوضوح الفرنسي – هو سياسية بشكل خاص ، ولدت ساعة تمنت طبقات المجتمع العليا أن تحول قراءة كتابتها إلي كلام عالمي , وهي تسعي جاهدة إلي إقناع الكل بأن منطق اللغة الفرنسية هو المنطق الأمثل … غير أن تلك الأسطورة تخطاها العلم عبر الألسنية الحديثة , فاللغة الفرنسية ليست أقل ولا أكثر “منطقية” من أيه لغة أخري ونعرف جيداً ما أحدثته المؤسسات الكلاسيكية من تشويهات في لغتنا “[57].

وهكذا استطاع بارت أن يكشف تناقص النقاد التقليديين بين أيديولوجيتهم وكتاباتهم النقدية وتعميتهم للواقع الاجتماعي في تبني رؤية تتوافق مع شريحة معّينة في المجتمع الفرنسي هي شريحة البلاط الفرنسي ولا تتوافق مع بقية الشرائح الأخرى . وتبلورت هذه الرؤية في فكرة الوضع La Clarte . فضلاً عن أن الوضوح يتوافق والمعني الأحادي أو المركزي وهذا ما يمقته بارت ؛ لأن هذه الأحادية تذكرّه بالفلسفة الحتمية التي يمقتها .

فضلاً عن رفضه لكل ما هو طبيعي ؛ لأن ” كل ما هو طبيعي يؤخذ علي أنه مفروض من قبل قوة غير القوة الإنسانية والنفوذ النهائي يحدث عندما يخدع سكان بلد من البلدان من قبل الطبقة الحاكمة ليسلمّوا بأن التراتيب الاجتماعية التي بموجبها ليست نتاجاً إنسانياً بل من عمل الله أو الطبيعة .. أي أن صوت الطبيعي صوت يحابي الوضع القائم،[58].

ومن ثم فإن خروجه علي النقد التقليدي له ما يبرره فلسفياً واجتماعياً حيث تساير متغيرات الواقع الحياتى في فرنسا؛ لأن التقليدية تساير الواقع الطبيعي الذي يميل إلي السكونية والرتابة , وهذه السكونيّة تتوافق وقداسة السلطة ورتابتها في الواقع ؛ لأنها تريد أن يظل الواقع ساكناً كما هو دون أن يكدر صفو حياتها تغيير أو تبديل . ولذلك رفض بارت هذا الواقع النقدي التقليدي الذي يتوافق ورتابه الواضع الطبيعي في الواقع المعيش للطبقة السلطوية ، علي أننا ندرك أن منطلق بارت ليست النزعة الثورة فهو لم يكن ثورياً بالمعني المفهوم لهذه الكلمة ولكن الرغبة في التجديد وشعوره بالمتعة في فضح التعمية السائدة زكشف جوانبها وأبعادها , هو ما دفعة لذلك فضلاً عن شعوره بالمتعة أيضاً عندما يكتشف جوانب التناقض السائدة بين الاراء المختلفة . أي أننا نستطيع القول إن الشعور بالمتعة دافعا قوياً وراء هذه المفاهيم النقدية لبارت , وكانت الفلسفة الوجودية ومقته للجوهرية دافعاً أيضاً لإفراز الشعور بالمتعة نتيجة إتاحها الاختيارات المتعددة إلي هذا التناسخ والتناسل والتعدد اللانهائي للمعني . وكانت السيميائية هي الوعاء الذي صب فيه مفهومة النقدي . من حيث ربطة المعاني المتعددة بالعلامات التي يطرحها النص .

2-2- اللغة ومفهوم النص :” السلطة اللغوية والنصية “:

2-2-أ- السلطة اللغوية :

ينظر رولان بارت إلي اللغة علي أنها خطاب السلطة “وأن السلطة جرثومة عالقة بجهاز يخترق المجتمع ، ويرتبط بتاريخ البشرية في مجموعة ,وليس بالتاريخ السياسي وحده ,هذا الشئ الذي ترتسم فيه السلطة ومنذ الأزل هو اللغة أو بتعبير أدق : اللسان , فاللغة سلطة تشريعية واللسان قانونها [59].

أي أن اللغة عند بارت علامة علي السلطة المرتسمة في وعي البشرية منذ القدم , ولا تستطيع البشرية الفكاك من هذا الأسر اللغوي . بل ولا يمكن عن تراكيبها المألوفة من حيث سياق الجملة وتذكيرها وتأنيثها وإفرادها وجمعها وأنواع ضمائرها وغيرها من أنظمة اللغة ومثل هذه الأنظمة اللغوية يرها بارت نوعاً من القيود والقهر التي تسيطر علي الإنسان وتجعله أسيراً لهذه السلطة ولذلك يقول :” إنَّ اللغة بطبيعة بنيتها تنطوي علي علاقة استلاب قاهرة . ليس النطق أو الخطاب بالأخرى تبليغاً كما يقول عادة إنه إخضاع؛ فاللغة توجية وإخضاع معمّمان “[60] .

إن اللغة عنده نوع من الخضوع والقهر للذات الإنسانية وأنها لا تقف عند مجرد الخطاب البشري “بل تمارس سلطة أبدية للإنسان لا يستطيع التخلص منها وتوجهه إلي حيث تشير أنظمتها وسياقها . فيقول :” إن اللغة ما أن ينطق بها حتى وإن ظلت مجرد همهمة فهي تصبح في خدمة سلطة بعينها إذ لا بد أن ترتسم منها خانتان ، نفوذ القول الجازم , وتبعية التكرار والاجترار , فمن ناحية اللغة جزم وتقرير , وما النفي والشك والمكان وتعليق الحكم إلا حالات تستلزم عوامل خاصة سرعان ما تدخل هي ذاتها في عمليّات اللغوي … وما أحاول بفضله استرحاماً التخفيف من سلتطها التقريرية القاهرة , ومن ناحية أخرى فإن الدلائل والعلامات التي تتكون منها اللغة لا توجد إلا بقدر ما يعتبر بها ، أي بقدر ما تتكرر وتتردّد , فالدليل تبعي مقلد , وفي كل دليل يرقد تموذج متحجر.. وما أن أصُغ عبارة من عندي تلتقي عني الخانتان المذكورتان وأكون في ذلك الوقت سيداً ومسوداً : إذ أنني لا أكتفي بأن ألوك ما قيل وأردده مرتكناً بارتياح إلي عبودية الدلائل , بل إنني أوؤكد وأثبت وأفند ما أردده “[61] .

وهكذا نجد بارت يجعل من اللغة سلطة تسيطر علي الإنسان وتجعله خاضعاً للمعني الدلالي الجازم من ناحية وتبعية التكرار من ناحية ثانية ويحاول التطلع لإمكانية التخفف من هذه القيود السلطوية للغة , التي تجعله أسيراً لمفهوم محدد للكلمة أو الجملة أو الصورة أو العلامة اللغوية عامة ولا يستطيع الخروج عن مفهوم هذه العلامة أو الدليل اللغوي , وعندما يحاول ذلك من خلال صياغة لجملة أو عبارة معينة فيصبح حينئذ قائداً ومقوداً في ان واحد قائداً ؛ لأنه يحاول صياغة ما يريد قوله ومقوداً ؛ لأنه يخضع لأنظمة اللغة وسياقاتها ونسقها .

ونظن أن محاولات التمرد هذه علي سلطة اللغة جاءت مواكبة للفلسفة الوجودية لبارت وتعبيراً عن رفضة للفلسفة الحتمية , إذ أن سلطة اللغة وقيودها وخضوعه لها تذكره بخضوعه للموت علي أنه قدر حتمي لا ستطيع الفكاك منه خاصة أن حالاته المرضية التي مر بها جعلته يتطلع للتخلص من القدرة . وكانت الفلسفة الوجودية أقرب الرؤى إلي نفسه لتجاوز هذه القيود , فيحاول التمرد علي كل ما يقيد حرية الإنسان لأن الإنسان خلق حر وعليه أن يختار ويتحمل تبعية الاختيار . واللغة بالنسبة له قيد وخضوع لسلطتها , ولا بد به من البحث عن مخرج من هذا الأسر . يقول :” في اللغة إذن خضوع وسلطة يمترجان بلا هوادة, فإذا لم تكن الحرية مجرد القدرة علي الانفلاق من قهر السلطة , فإنها علي الخصوص عدم إخضاع أي كان . فلا مكان للحرية إلا خارج اللغة , بيد أن اللغة البشرية من سوء الحظ لا خارج لها . إنها انغلاق ولا محيد لنا عنها إلا عن طريق المستحيل …. ولكن لا يتبقي لنا إلا مراوغة اللغة وخيانتها هذه الملائمة , وهذا التلافي والهروب , وهذه الخديعة العجيبة التي تسمح بإدراك اللغة خارج سلطتها في عظمة ثورة دائمة للغة , هذا ما أطلق عليه أدباً [62].

ومن ثم نستطيع القول إن نظرة بارت للغة انطلقت من نظرته الفلسفية للواقع والوجود واللغة , وإنه يتطلع للحرية الفكرية في شتئ جوانب الحياة ولا يريد شيئاً يحد من انطلاقه حتى لو كان هذا الشئ هو اللغة التي يستخدمها في الخطاب .

ولذلك حاول أن يجد طريقة للخروج من سلطة اللغة إلا أنه لم يستطيع اتباع طريقة الوحدة الصوفية التي أشار إليها “كبير كغادر – Kierkegaard وحددها بفداء إبراهيم كفعل لا مثيل له خال من إي كلام حتى لو كان كلاماُ باطنياً يقوم ضد شمولية اللغة وتبعيتها . ولا اتباع طريقة الإنسان الأعلي عند نيشته “[63] . ولكنه رأي أن الخروج علي سلطة اللغة يتمثل في مراوغتها والهروب من أحاديتها وإدراك أبعادها ومعانيها التفخيرية وهذا لا يتحقق إلا من خلال الخروج علي الأعمال التقليدية والتطلع للغة النص المراوغ – لو جاز لنا استخدام هذا التعبير – لأن النص يقوم علي اللغة وحتى يتحقق له الخروج علي سلطة اللغة الأحادية فلا بد له من الانفتاح علي اللغة الانفجارية المراوغة وهذا لا يتحقق إلا من خلال النص الذي يحمل مفاهيم مستحدثة تغاير العمل الأدبي من ناحية وقتل أبوه هذا النص من ماحية ثانية ثم الدخول به إلي مرحلة اللذة والمتعة . أي أن بارت خرج من سلطة اللغة ليقع في سلطة النص بأبعاده المتعددة ومفاهيمه المتباينة .

3-2-ب- مفهوم النص ومقوماته :

لقد كثرت الدراسات التي عنيت بمفهوم النص في البنيوية والسيميولوجية , وفي الخطاب النقدي المعاصر [64], غير أننا سوف نقتصر علي مفهوم رولان بارت للنص من خلال دراساته ومقالاته النقدية المختلفة لا سيما المرحلة التي تطور فيها مفهومة للسيميولوجيا , وانفتحت علي العديد من العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلمية , وتجاوز فكرة سلطة اللغة إلي سلطة النص , فرأي أن سلطة النص علامة علي انعدام سلطة اللغة يقول : ” إذا كانت السيميولوجيا التي أتحدث عنها قد عادت إلي النص ؛ فلأن النصّ قد بدا لها خلال مجموع أشكال الهيمنة . هو العلامة علي انعدام السلطة ، فالنص يحمل في طياته قوة الانفلات اللانهائي من الكلام الاتباعي , حتى ولو أراد هذا الكلام أن يعيد بناء ذاته في حضنه , إن النص لا يفتأ يرمي بك بعيداً , إنه يلقي خارجاً نحو مكان لا موقع له , نحو اللامكان .. إن النص يخلع شيئاً فشيئاً وبكيفية مؤقتة دواء العمومية والأخلاقية واللااختلاف الذي يثقل كاهل خطابنا الجماعي , وهكذا تتضافر جهود الأدب والسيميولوجيا ليكمل أحدهما نقص الاخر”[65].

ومن هن يتضح أمن مرحلة العناية بالنص جاءت بعد مرحلة العناية بالغة , أو بمعني اخر يمكن القول إن المرحلة السيميولوجية الأولي عني فيها بارت بسلطة اللغة , والمرحلة الثانية انتقل من سلطة اللغة إلي سلطة النص , خاص بعد أن اتسع نطاق السيميولوجيا عنده وأصبحت تشمل الموضوعات السياسية والاجتماعية والإذاعية والدعائيّة والسينمائية وغيرها , وتأتي هذه المرحلة امتداداً للمرحةل الأولي من ناحية ورؤية الفلسفية من ناحية ثانية لا سيما فلسفة سارتر الوجودية . فالتحلل والتعدد الذي انعكس علي مفهومة للنقد الأدبي نجده انعكس أيضاً علي مفهومه للنص . فالنص وفق مفهوم بارت تحمل في طياته عوامل الخروج والانفلات من الكلمات والجمال والمعاني التقليدية , بل إنه لا يتقوقع حول مكان طبيعي . وموقع مألوف بل يمتد إلي اللا موقع واللا مكان , لأنه نص يميل إلي التعدد اللانهائي .

وفي مقال بارت من العمل إلي النص “حدد بعض المقاربات للعمل والنص , وعلي الرغم من الدراسات العربية العديدة التي أشارت إليها إلا أننا نقتصر فقط علي توضيح بعض المقاربات النصية عنده ؛ حتى تعيننا في تواضيح مفهوم بارت للنص ومنها [66]:

1- إن النص حقل منهجي يبرهن عليه ويتحدث عنه وفق بعض القواعد أو ضد بعض القواعد ويتم تناوله من خلال اللغة ولا يوجد إلا داخل الخطاب ولا يتوقف بل هو في حركة دائبة .

2- لا ينحصر النص الجيد , ولا يؤخذ من خلال تقطيع بسيط للأجناس , بل يتشكل من خلال مقدرته علي خلخلة التصنيفات القديمة ، فالنص هو ما يوجد علي حدود قواعد القول من معقولية وقابلية للقراءة , ويحاول أن يضع نفسه وراء حدود الرأي السائد فهو دوماً بدعة وخروج عن حدود الاراء السائدة .

3- إن النص يكرس التراجع اللانهائي للمدلول , وبهذا يكون تمددياً ومجاله هو الدال , ولا ينبغي تصور الدال علي أنه الجزء الأول من المعني وحامله المادي , بل يجب يتصور بأنه هو الذي يأتي بعد حين , وأن لا نهائية الدال لا تحيل إلي ما يعجز اللسان عن التعبير عنه (أي إلي مدلول لا يمكن أن تجد التعبير عنه) وإنما إلي فكرة اللعب , فالتوليد الدائم للدال الذي مجاله النص لا يتم وفق النمو العضوي أو حسب طريق تأويلي وإنما وفق حركة تسلسلية للتداخل والتغير , فالمنطق الذي يتحكم في النص ليس إفهامياً (أي يحدد مقصد النص) لكنة كنائي , فالتداعي والتجاوز والإحالة هي نوع من الإفصاح عن الطاقة الرمزية .

4- النص تعددي . لا يعني هذا فحسب إنه ينطوي علي معان عدّة وإنما يحقق تعدد المعني ذاته , إنه تعدد لا يؤول إلي أيه وحدة , وإنما هو مجاز وانتقال بناء علي ذلك فلا يمكن أن يخضع لتأويل – وحتى لو كان حراً – وإنما لتفجير وتشتيت , ذلك أن تعددية النص لا تعود لالتباس محتوياته وإنما لما يمكن أن نطلق عليه التعدد المتناغم للدلائل التي يتكون منها .

5- النص يقرأ من غير أن يسند إلي أب , فقيام التناص يلغي التراث ويقضي عليه . ولا يعني هذا أن المؤلف لا يمكن أن يعود للظهور في نصه , لكنّه لو عاد فإنما في صورة “مدعوّ” فإن كان كاتب رواية فإنه يظر فيها كشخصية من شخصياتها , بيد أن ظهوره لا يتمتع بأي امتياز , إنه يصبح كائناً من ورق إن صح التعبير .

6- النص ينقذ العمل من الاستهلاك وينظر إليه كلعب وعمل وإنتاج وممارسة , وهذا يعني أن النص يتطلب منا محاولة قهر المسافة التي تفصل الكتابة عن القراءة , لا بالزيادة من إسقاط القارئ علي العمل وإنما بضمهما معاً في الممارسة الدالة نفسها , فالقراءة بمعني الاستهلاك تعني ألا يلعب القارئ لعبة النص – ويقصد بها محاولة القارئ استعادة النص لحسابة- ولكن لكي لا يرتد عملة إي مجرد محاكاة سلبية منفعلة باطنية فإنه يمثل النص تمثيلاً مسرحياً , ولفظ اللعب له معني الدلالة الموسيقية بالإضافة إلي معناه المسرحي . وكما أن الموسيقي المعاصرة قد زعرعت اليوم دور العازف الذي يطلب منه أن يكون مشاركاً للمؤلف في مقطوعته التي يعمل علي إكمالها أكثر مما يعمل علي التعبير عنها , فإن النص يكاد يشبه مقطوعة من هذا النوع ، إنه يتطلب من القارئ مساهمة فعاله وهذا تحول كبير .

7- إن النص مشدود إلي المتعة “اللذة” التي لا تنفصم , وإن يكن يحقق شفافية العلاقات الاجتماعية فعلي الأقل شفافية العلاقات اللغوية , فهو الفضاء الذي لا تتغلب فيه لغة علي أخري وتروج فيه اللغات وتدور”.

ومن خلال هذه الأسس التي وضها بارت لمفهوم النص لنا أن النص عنده لا يخرج عن الرؤية الفلسفية الوجودية التي ارتضاها لنفسه فنجد أن الأسس السبعة التي وضعها بارت لتوضيح مفهوم النص ومدي مفارقته عن مفهوم العمل لا تخرج عن هذه الرؤية الفلسفية . فالنص عنده يتسم بالاتي :

- الحركة الذاتية التي تجعله بتوافق حيناً مع بعض القواعد الفنية أو التركيبية ويتعارض معها في الحين الاخر , وكأنّ حركة النص تتشكل من خلال المد والجزر بين المعاني ونقيضها أو القواعد التركيبية وضدها . ويتأتي هذا نتيجة تحلل النص إلي جزئيات وهذا التحلل يتوافق والرؤية الفلسفية التي نهجها .

وعلي الرغم من أن هذا التناقض يشكل لبنة أساسية في تشكيل النص عد بارت إلا أن هذا التناقض يبدو أنه انتقل إلي الأسس التي وضعها لنفسة حول النص , فعلي حين أنه يري أن “النص حقل منهجي”[67] , فيري في موضوع اخر أن المنهج وهم , فيقول كل منهج وهم”[68].

ويبدوا أن بارت مثلما يشعر بالمتعة من خلال تناقض النص يشعر بالمتعة أيضاً من خلال تناقض الرؤي لأنه يحاول أن يحطم كل معايير نقدية كلاسيكية تقوم علي أسس منهجية معينة , أي أنه ضد المنهجية التقليدية . غير أننا نري أن اللامنهجية التي حاول بارت أن يكرسها في مفاهيمه النقدية هي في حد ذاتها منهج . خاصة إذا طبقها الناقد علي كل مفاهيمه النقدية , وهذا ما حاول بارت أن يفعله في مفهومة للنقد أو للنص . فالنص عنده يتجاوز التراكيب المألوفة ولا يوجد إلا داخل الخطاب وهو في حركية لا نهائية . وإذا كانت هذه اللامنهجية تنطلق من رؤيته الفلسفية الوجودية فهي منهج .

لا يقف النص عند بارت عند حدود الأدب الجيد الذي يعتمد علي الجناس البسيطة المباشرة ولكنه يتجاوز ذلك إلي مستويات التمرد علي الأشكال الكلاسكية القديمة ويتجاوز المفاهيم السائدة . وهذا ما يجعل النص في حالة من التجدد المستمر , وحينئذ لاتقف علامات النص عند رؤية بعينها بل تتجاوز ذلك إلي رؤى عديدة .

إن هذا المفهوم يقترب من مفهوم روبرت شولز الذي يرى أن “النص في مقابل العمل شئ مفتوح وغير كامل ,وغير مكتف , وليست هذه خاصية لصيغة بأية قطعة كتابية بل مجرد طريقة في التعامل مع هذه القطعة الكنابية أو أية مجموعة أخري من الإشارات , ويمكن للكلمات نفسها أن تعد نصاً أو عملاً , وكنص ينبغي فهم القطعة الكتابية بوصفها نتاجاً لشخص أو أشخاص عند نقطة معينة من التاريخ الإنساني ,وفي صورة معينة من الخطاب تستمد معانية من الإيماءات التأويلية لأفراد الذين يستعلمون الشفرات النحوية والدلالية والثقافية لهم . النص دائماً يردد صدي نصوص أخري”[69].

وهكذا نجد أن النص وفق مفهومي بارت وشولز في حالة من التجدد المستمر.

ارتباط النص عند بارت بالدال والمدلول , فالمدلول لا يقف عند معني بعينه لكنه يمتد إلي ما لا نهاية فيصبح النص متمدداً ومتحللاً إلي جزئيات دقيقة , ويتشكل هذا التمدد اللانهائي – لو جاز استخدام هذا التعبير – من الدال , الذي لا يقف عند المعني الأول بل يشكل معاني عديدة من خلال المد والجزر وفق الحركة المتداخلة وحالات التغير التي تسيطر علي النص عن طريق التداعيات النفسية والشعورية والتداعي الحر للمعاني والتجاوز الدلالي والإحالة الصوتية والتركيبية والسياقية . وهذا بدوره يؤدي إلأي تعدد العلامات النصية .

يضاف إلي ذلك أن بارت تأثر بسويسر في ثنائية الدال والمدلول القضية في علم السيمياء ، وير “أن العلامة وحدة ذات وجهين دال, ومدلول , أو شكل ومادة فالشكل هو ما تحاول اللسانيات وصفة , بينما تعني المادة بالعالم اللالغوي “[70] . وحاول في ضوء هذه الثنائية أن يطرح مفهومه للنص معتمداً علي فلسفته الوجودية من حيث التحلل والتجزئ اللانهائي للدال والمدلول من ناحية , وعلي تأثره بثنائية سوسير في العلامة من ناحية أخري .

ولعل تحليله لقصة سارازين Sarrasine ليزاك Balzac , ويوضح إلي أي مدي اعتمد بارت علي التجرئ الدقيق لجزئيات النص من خلال تحليله للجمل المتتابعة وربطها بالشفرات النصية التي تمثلت عنده في خمس شفرات هي شفرة الفراسة , والشفرة التأويلية والشفرة الثقافية والشفرة الايحائية والشفرة الرمزية .

ويبدأ تطبيقه علي بداية قصة سارازين التي تبدأ بقول الراوي :”كنت غارقاً في واحد من تلك الأحلام العميقة التي تستولي علي الجميع حتى علي من يحبون الهو في أكثر الاحتفالات صخبا وضجيجاً وكانت ساعة الإليزية بوربون قد أعلنت لتوها عن منتصف الليل” [71] .

بعدها يبدأ بارت في تحليل فقرات القصة وجملها وتحويلها الى وحدات قرائية صغرى وفقاً لأنماط الشفرات النصية التي توصل إليها . وهذا التحليل والتجزئ الديقيق لجزئيات النص عنده يتوافق ورؤيته الفلسفية والنقدية للنص الأدبى .

وفى قراءة أصلية لأقصوصة Sarrasine Balzac يقترح Barthes منهجاً يحتمى بمفهوم ” التعدد الدلالى ليخضع النص لنظرات نقدية متعددة “[72]

ويتناسب النص المتعدد – لو جاز لنا استخدام هذا التعبير – مع التحلل والتجزىء الذي نهجه بارت ، فالنص عنده لا يقف عند تعدد المعانى المتتابعة في النص بل يتجاوزها الى التعدد الناتج عن النص الكلى أو بمعنى أخر لا يقف التعدد عند جزئيات النص بل يتعداها الى كليات النص وهذا يتضح من خلال التفجير الدلالى للنص ، لأن هذا التفجير يؤدى الى تفجير المعنى وتناثره ومن ثم إلي تعدده . وحينئذ تعدد العلامات في النص , وتناسب هذه التعددية مع دلائل النص ومعانية ؛ ويبدو أن هذه الرؤية التحليلية عند بارت امتدت لتشمل منظوره البلاغي لأسلوب فيري أن “الأسلوبية تعني بدراسة أنماط التعبير التي لا تبارح مستوي الكلام Parole فيما تعني البلاغة بدراسة الشفرات التي تعمل علي مستوي اللغة Langue [73] فهذه الرؤية التحليلية والتجزيئية للنص انعكست علي مستويات اللسانية والأسلوبية والبلاغية ؛ بحيث أصبح نصاً يميل إلي التعدد .

2-2-ج- النص وغياب الأبوة :

يعتمد النص علي غياب الأبوة خاصة في عملية التناص ، حيث يحدث تفاعل بين نصوص عصرية وأخري تراثية التوحد والاستخراج بينهما يفقد النص التراثي أبوته . وحينئذ تعدد معاني النص وتفجر دلالاته نتيجة تحلل النص إلي عناصر تراثية وواقعية ومن هذا التناقص أو التكامل بين الموروثين الماضي والحاضر يحدث التوليد المستمر للمعاني ومن ثم تعدد العلامات في النص .

علي أن غياب الأبوة لا يقف عند التناص فحسب ، بل يمتد إلي المؤلف نفسه ,وكان بارت يري أن وجود المؤلف يحد من انطلاق النص وتمدده وتحلله اللانهائي , وحتى يتحقق للنص التعدد الدلالي لابد أن يتخلص من أبوته الداخلية التناصية وأبوته الخارجية التأليفية”.

واللسانيان قد مكنت عملية تقويض المؤلف من أداة تحليلية ثمنية , وذلك عندما بينت أن عملية القول وإصدار العبارات عملية فارغة في مجموعها وأنها يمكن أن تؤدي دورها علي أكمل وجه , دون أن تكون هناك ضرورة لإسنادها لأشخاص المتحدثين , فمن الناحية اللسانية ليس المؤلف إلا ذلك الذي يكتب , مثلما أن الأنا ليس إلا ذلك الذي يقول أنا ؛ إن اللغة تعرف الفاعل , ولا شأن لها بالشخص”[74].

وهكذا نجد أن بارت ستند إلي اللسانيات ليقوض دور المؤلف في النص ؛ لأنه يري أن وجود المؤلف يحول دون تحقيق لا نهائية المعني ويجل النص متحجّراً عند أفكار المؤلف وأبعاده الدلالية التي يريد طرحها وهو يريد أن يجعل النص ممتداً ومتعدداً ومتحللاً إلي حد التفجير ولا يقف عند المعني اللاهوتي للمؤلف لذلك يقول: “نعمل الان أن النص لا ينشأ عن رصيف كلمات تولد معني وحيداً , معني لاهوتياً إذا صح التعبير (هو- رسالة- المؤلف الاله) ؛ وإنما هو فضاء متعدد الأبعاد تتمازج فيه كتابات متعددة وتتعارض ,من غير أن يكون فيها ما هو أكثر من غيره أصالة النص نسيج من الاقتباسات تنحدر من منابع ثقافة متعددة . إن الكاتب لا يمكنه إلا أن يقلد فعلاً هو دوماً متقدم عليه دون أن يكون ذلك الفعل أصيلا علي الإطلاق”[75] .

إنا المؤلف عند بارت ما هو إلا ناسخ لأفكار ومفردات وصور وكلمات يحدث بينها تمازجاً ولا يبتكر شيئاً أصيلاً ؛ ستند إلي محاكاة هذه المفردات في الكتابة ونقلها من المعجم اللغوي إلي الكتابة . فالحياة عند بارت” لا تعمل إلا علي محاكاة الكتاب, والكتاب ذاته ليس سوي نسيج من العلامات . إنها محاكاة ضائعة لا تنفك ترجع القهقوى وعندما يبتعد المؤلف ويحتجب فإن الزعم بالتنقيب عن أسرار النص يغدو أمراً غير ذي جدوى , وذلك أن نسبة النص إلي مؤلف , معناها إيقاف النص وحصره وإعطاؤه مدلولاً نهائياً , إنها إغلاق الكتابة”[76] .

وهنا يتضح لنا أن سبب تقويض دور المؤلف أو حجب أبوة النص عند بارت يرجع إلي عدة أمور منها : المعني حول السر الدفين الذي يقصده المؤلف ومن ثم يتم إيقاف المعني عند بعد أحادي معين .

غير أن الدافع لذلك يرجع إلي مقت بارت للمركزية النصية- لو جاز لنا استخدام هذا التعبير – لأن هذه المركزية تذكره تذكرة بالأحادية الحتمية التي لا فكاك منها وهو يريد أن يحرر النص من ربقة المؤلف، حتى يصبح النص حراً طليقاً . خاصة أنه ربط بين مركزية المؤلف في النص ومركزية الإله وحتميته , فكلاهما عند بارت يؤدي إلي المعني الأحادي ، فالمعني في النص يدور حول المؤلف ويقف عند مراده ويكون قريباً من أحادية المعني اللاهوتي ، وهو بدوره يرفض هذه الأحادية الحتمية وعندما يرفض بارت المؤلف يصبح أمامة متسع من التأويل والتحليل والتحلل النص أي يتخلص من القيود التي تحاصره في النص حتى لو كانت قيود المؤلف ذاته .

يضاف إلي ذلك أن سيطرة المؤلف علي النص تتوافق وسيطرة الناقد التقليدي الذي يحاول من خلال تحليل النص أن يجد ضالته الضائعة في النص , ومجرد حصوله علي هذه الضالة يشعر بأنه وجد كلمة السر . وبذلك يتوقف معني النص هذا السر المكتشف من قبل الناقد . وكأن النص حصر في معني أحادي ومثل هذه الحادية يرفضها بارت ؛لأنه يريد للنص الانطلاق والتحرر والخروج علي قيود المؤلف والناقد وحتمية تفسيرهما يقول :” إن النقد يأخذ علي عاتقه الكشف عن المؤلف (أو حوامله من مجتمع وتاريخ ونفس وحرية) من وراء العمل الأدبي . بالعثور علي المؤلف يكون النص قد وجد تفسيره والناقد ضالته , فلا غرابة إذن أن تكون سيادة المؤلف من الناحية التاريخية هي سيادة الناقد , كما لا غرابة أن يصبح النقد اليوم موضوع خلخلة مثل المؤلف , ذلك أن الكتابة المتعددة ليس فيها تنقيب عن الأسرار”[77] .

وهكذا نجد أن بارت يحاول التخلص من المؤلف بغية فض مغاليق النص وتعدد أبعاده وعدم الارتكاز علي معني أحادي , بل إنه تريد أن يكون النص حراً طليقاً لا تحده قيود المؤلف أو مقتضيات النقد المعياري , إنه لا يريد أي سلطة تستحوذ علي النص سواء اللغة أو سلطة المؤلف أو سلطة الناقد , وهو بذلك خرج من سلطة اللغة ليقع في سلطة النص , طناً منه أن النص المخادع والمموه والعجيب والمراوغ يتيح له حرية التخلص من السلطة المركزية الحتمية للنص . ومن ثم أخذ يجرد النص من كل معوقاته حتى تتكشف له لذة النص ومتعته . وكلما تعددت رؤي النص وأبعاده تعددت تبعاً لذلك علاماته . وعلي الرغم من دعوة بارت لموت المؤلف . إلا أن ذلك لة ينحقق حتى في كتابات بارت نفسه , لأن بارت المؤلف لي يستطيع أن يخفي فلسفته الوجودية في معظم نصوصه النقدية التي طرحها . وبدت هذه الرؤية الفلسفية ظاهرة للعيان في معظم معاييره النقدية ، ومنها مفهومة للنقد واللغة والنص والمؤلف واللذة والمتعة والتلقي والكتابة وغيرها .
هواش

[1] للمزيد حول التطور السيمائي في الاداب القديمة أنظر :د . فريال جبوري غرول, بحث “علم العلامات مدخل استهلالي “ضمن كتاب “أنظمو العلامات في اللغة والدب والثقافة مدخل إلي السيميو طبقا “ص14-36 .

[2] انظر :د محمد عنائي ؛ المصطلحات الأدبية الحديثة , الشركة المصرية العالمية للنشر , لونجمان ،القاهرة 1996م, ص 153-154.

[3] محمد عزام ، النقد والدلالة منشورات وزارة الثقافة السورية , دمشق 1996, ص9 .

[4] أنظر :د جابر عصفور في ترجمته لكتاب “النظرية الأدبية المعاصرة “لرامان دار الفكر للدرسات والنشر, القاهرة 1990.

[5] للمزيد انظر:

-د. محمد مفتاح في سيمياء الشعر القديم دراسة نظرية وتطبيقية ، دار الثقافة – الدار البيضاء 1982.

- سامي سويدان ؛مقاربة سيمائية قصصية , اللص والكلاب لنجيب محفوظ, الفكر العربي المعاصر , بيروت ,ع 18-19, مارس 1982, ص 216-226 .

-د. عبد الله مرتاض ؛ التحليل للخطاب الشعري ، علامات النادي الأدبي الثقافي بجدة جزء(5) مج (2), سبنمر 1992, ص 143.

- عبد العالي بوطيب ؛ جريماس والسيمائيات السردية , علامات جزء(22) , مجلد(6) , دسمبر 1996, ص 91.

-د. رضوان ظاظا ؛ في ترجمته لكتاب “مدخل إلي مناهج النقد الأدبي “لمجموعة من المؤلفين , عالم المعرفة, ع(221) , مايو 1997، ص219.

-د. جوزيف دليل الدراسات الأسلوبية, الموسسة الجامعية لنشر, ط (2) , بيروت 1987, ص 161.

-حسن بحراوى بنية الشكل الروائي , الفضاء , الزمن , الشخصية , المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء 1990, ص 25.

- جمال شحيد ؛ العربي والسيميائية , المعرفة , ع (177) , دمشق 1976, ص 38-44.

- محمد حمود ؛ في ترجمته لبحث “السيميائية” والتمدين لألان روب جربيه , الفكر العربي ,ع(29) س(4) , بيروت , نوفمبر 1982.

- عبد النبي اصطيف؛ لهجات جديدة البنيوية والسيميائيات الموقف الدبي , دمشق ، ع(100) , أغسطي 1979, ص 139 .

- محمد عزام ؛ النقد والدلالة ، نحو تحليل سيمائي للأدب , وزارة الثقافة السورية , دمشق ,1996.

- عادل فاخوري ؛ حول إشكالية السيميولوجيا (السيمياء) عالم الفكر , الكويت , مج 24ع 3 , مارس , ص 179.

- حنون مبارك , درس في السيميائيات ، دار توبقال, ط(1), الدار البيشاء 1987.

- د. رئيف كرم؛ السيمياء والتجريب المسرحي , عالم الفكر , المجلس الوطني للثقافة , الكويت , مج 24ع3 , مارس 1996, ص 235.

- أنطوان أبوزيد ؛ في ترجمته لكتاب “بيير جيرو عن السيمياء”, بيروت , عويدات , 1984.

[6] للمزيد أنظر:

- مجدي وهبة , كامل المهندس ؛ معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب مكتبة لبنان 1984, ص42,ص 257.

- زكريا إبراهيم البنية , مكتبة مصر د. ت , ص 49 .

- د . عز الدين إسماعيل ؛ في ترجمة لكتاب “نظرية التلقي” لربرت هولب، النادي الثقافي بجده , ط(1) , 1994, ص 372.

- د. عبد السلام المسدي الأسلوبية والأسلوب , نحول بديل ألسني في نقد الأدب , الدار العربية للكتاب , ليبيا , تونس , 1977.

- د. عبد الكريم حسن؛ عبد القادر ربيعة والتشويه من الداخل في ضوء العلاماتية البنيوية , عالم الفكر , الكويت ، مج 21, ع 3, مارس 1993, ص 77.

- شكري المخوت , ورجاء سلامة ؛ ترجمة الشعرية لتزفيطان طودوروف , دار توبقال للنشر , الدار البييضاء , ط (2) , 1990, ص 91.

- سمير المرزوقي ,جميل شاكر؛ مدخل لنظرية القصة , الشئون الثقافية , بغداد , 1986, ص 107- 231 .

[7] للمزيد أنظر :

- د. صلاح فضل ؛ نظرية البنائية في النقد الأدبي , مؤسسة مختار للنشر , القاهرة , 1992, ص 413, 445.

- د. سعيد حسن بحيري ؛ علم لغة النص , المفاهيم والاتجاهات ، الشرطة المصرية العالمية للنشر – لونجمان ، القاهرة ,1977, ص16.

- حياة جاسم محمد ؛ في ترجمتها لكتاب نظريات السرد الحديثة لوالاس مارتن , المجلس الأعلي للثقافة , القاهرة , 1998 ، ص 60.

- د. حميد لحمداني ؛ في ترجمته لكتاب مارسيلو اسكال ” الاتجاهات السيميولوجية المعاصرة” دار أفريقا الشرق ، 1989 .

- د. أنطون طعمة ؛ السيميولوجية والأدب , مقاربة سيميولوجية تطبيقية للقصة الحديثة المعاصرة , عالم الفكر المجلس الوطني للثقافة الكويت ، مج24, 3 , مارس 1996 , ص 207.

- د. لطيف زيتوني ؛ السيميولوجيا وأدب الرحلات , عالم الفكر الكويت , مج 24, ع 3 ؛ مارس 1996 , ص 251.

[8] للمزيد انظر :

- د. محمد عنائي؛ المصطلحات الأدبية الحديثة الشركة المصرية العالمية للنشر – لونجعان , القاهرة 1996 , ص 153.

- د عبد المنعم تلمية ؛ في ترجمة دراسة “حول الالية السيموطيقية للثقافة “ليوري وبريس أوسبنكي ضمن كتاب أنظمة العلامات , دار الياس العصرية , القاهرة , 1986, ص 295.

- د. أمينة رشيد ؛ السيميوطيقا في الوعي المعرفي المعاصر ضمن كتاب أنظمة العلامات , مرجع سابق , ص 47.

- كاطع الحلفي ؛ في ترجمته لدراسة “اللغة البشرية وأنظمة سيميوطيقية أخري ” لنعوم تشومكسي ضمن المرجع السابق ، ص 195.

- د. عبد الحميد إبراهيم شيحة ؛ الاتجاه السيميوطيقي في قراءة النص المسريح , علامات , جزء 34.

- محمد الماكرى ؛ الشكل والخطاب , المركز الثقافي العربي , الدار البيضاء , 1991, ص 53.

[9] للمزيد أنظر :

- د. سيزا قاسم ؛ السيميوطيقا حول بعض المفاهيم والأبعاد ضمن المرجع السابق , ص 17 , وبحث القارئ والنص من السيميوطيقا إلي الهيرمينوطبقا , عالم الفكر , مج 23, ع 4-4, يونيو 1995, ص 251.

- د. سامي حنا , وكريم حسام الدين ,د نجيب جريس؛ معجم اللسانيات الحديثة , مكتبة لبنان , 1997, ص 128.

- د. فريال غزول ؛ علم العلامات “السيميوطيقا” مدخل استهلالي ضمن كتاب “أنظمة العلامات” مرجع سابق , ص9, ترجمة بحث “سيميوطيقا الشعر , دلالة القصيدة لمايكل رفاتير “, نفسه , ص 231.

- د. نصر أبو زيد ؛ العلامات في التراث , دراسة استكشافية , نفسه ص73, وترجمته لبحث “سيميوطيقا السينما ليوري لوتمان”, نفسه , ص 265.

[10] أنظر : – W. Terrence Gordon, Semantics ibliograbhy (1965- 1978) The3 Sdarecriw . press, Inc. Metuchen, N,J.,& London,1980.

[11] دز محمد عناني مصدر سابق , ص 155.

[12] أنظر : د . سيزا قاسم بحث السيميوطيقا : حول بعض المفاهيم والأبعاد ضمن كتاب مدخل إلي السيميوطيقا , دارا لياس سنة 1986 , ص 31.

[13] أنظر : أمرتو إيكو : القارئ في الحكاية ؛ التعاضد التأويلي في النصوص الحكائية . ترجمة أنطوان أبو زيد , المركز الثقافي , بيروت 1996 , ص 32.

[14] أنظر : نفسه , ص 32- 33.

[15] د . سيزا قاسم , بحث سابق , ص 32.

[16] يوري لوتمان , بحث “سيميوطيقا السينما , ترجمة د . نصر أبو زيد ضمن كتاب مدخل إلي السيميوطيقا ” سابق , ص 269.

[17] أنظر : سيزا قاسم , بحث سابق , ص 33.

[18] أنظر : نفسه , ص 33.

[19] د . سيزا قاسم “سابق, ص 34.

[20] أنظر المرجع السايق , ص 34.

[21] د . سيزا قاسم , بحث سابق , ص 34.

[22] أنظر : سيزا قاسم ، بحث سابق , ص 34

[23] ف . دي سوسير ؛ فصول في علم اللغة العام . ترجمة د . أحمد نعيم الكراعين ، دار المعرفة الجامعية الإسكندرية , 1985, ص 40. وللمزيد حول علم العلامات عند دي سرسير ؛ أنظر : رامان سلدن : النظرية الأدبية المعاصرة ، ترجمة د . جابر عصفور , دار الفكر للدراسات والنشر القاهرة 1990 , ص 92- 95 .

[24] ف . دي سويسر نفسة , ص 42.

[25] ديبفد بشبندر , نظرية الأدب المعاصرة , ترجمة عبد المقصود عبد الكريم , الهيئة المصرية العامة للكتاب , 1996, ص 53.

[26] سوسير ، مرجع سابق , ص 129.

[27] سوسير فصول من دروس في علم اللغة العام , ترجمه د . عبد الرحمن أيوب , ضم كتاب ” مدخل إلي السيميوطيقا, مرجع سابق ، ص 156.

[28] سوسير , بحث سابق ، ص 157.

[29] رولان بارت : درس السيميولوجيا , ترجمة عبد السلام بن عبد العالي , دار توبقال للنشر , الدار البييضاء , ط(2) , 1986، ص 20-21 .

[30] نفسة , ص 22.

[31] نفسه , ص 23.

[32] أنظر : جون ستروك ؛ بحث رولان بارت ” ضمن كتاب البتيوية وما بعدها من ليفي شتروس إلي ديريدا , المجلس الوطني للثقافة , الكويت فبراير , 1996 , ص 76.

[33] جاك شورون ؛ الموت في الفكر تلغربي ؛ ترجمة كامل يوسف حيبن , المجلس الوطني للثقافي , الكويت فبراير , 1996 , ص 76.

[34] جاك شورون ؛ الموت في الفكر الغربي ؛ ترجمة كامل يوسف حسين , المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب , الكويت , عالم المعرفة , أبريل 1984, ص 263- 264.

[35] نفسه ص 256.

[36] نفسه ص 256.

[37] انظر أمير اسكندر بحث النقد ونظرية الأديب السارترية ضمن كتاب سارتر مفكراً وإنساناً دار الكتاب العربي للطباعة والنشر القاهرة د , ت , ص221

[38] انظر أمير اسكندر بحث سابق ص 226

[39] انظر د . مراد وهبة بحث ” سارتر بين الوجوديين ” ضمن كتاب سارتر مفكر وإنساناً مرجع ص 49 – 50 وانظر .

[40]نفسه ص 51 ..

[41]. جون ستروك بحث سابق ص 77.

[42] رولان بارت : النقد السيميولوجيا ، مرجع سابق ص 28 – 29

[43] رولان بارت : النقد البنيوى للحكاية ترجمة أنطوان أبوزيد منشورات عويدات ، بيروت ط ( 1 ) 1988 ص 28 .

[44] جون ستروك :بحث سابق ص 78 .

[45] رولان بارت : النقد البنيوى للحكاية ص 74.

[46] نفسه ص 80 .

[47] نفسه ص 79 .

[48] نفسه ص 81 .

[49] نفسه ص 81 .

[50] R . Barthes S.z, SurRacine , Editions du . Seuil 1963 p 57

[51] جون ستروك : بحث سابق ص 83 .

[52] نفسه ص 82 .

[53] انظر ترجمة د . محمد عصفور لدراسة ” النقد والحقيقة ” Critique et Verite ” لبارت ضمن بحث جون ستروك عن رولان بارت في كتاب ” البنيوية وما بعدها من ليفي شتراوس إلى درايد ” ص 82 .

[54] انظر جون ستروك بحث سابق ص 87 .

[55] نفسه ص 83 – 84 .

[56] نفسه ص 85 .

[57] رولان بارت : النقد البنيوي للحكاية ص 41 .

[58] جون ستروك بحث سابق ص 87 .

[59] رولان بارت : درس السيميولوجيا مرجع سابق ص 21.

[60] نفسه ص 12 .

[61] نفسه ص 13 .

[62] نفسه ص 14 .

[63] انظر نفسه ص 13 – 14 .

[64] انظر علي سبيل المثال وليس الحصر دراسات :

- دكتور صلاح فضل في ” بلاغة الخطاب وعلم النص ” المجلس الوطنى للثقافة ، الكوبت 1992 .

- د. سعد مصلوح : في النص الأدبي دراسة أسلوبية إحصائية النادى الأدبي الثقافي بجدة 1991 .

- جيرار جينيت مدخل إلى النص الجامع ترجمة عبد العزيز شبيل المشوع القومي الترجمة المجلس الأعلي للثقافة القاهرة 1999 م .

- دكتور محمد مفتاح : دينامية النص المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء 1987.

- عبد الفتاح كليطو : تعريف النص الدني مجلة كلية الاداب الرباط ع 5 – 6 ص 117 – 124 .

- د . عبد الملك مرتاض : حول دراسة النص الأدبي الأقلام بغدادس س 17 ع 7 -8 يوليو 1982 ، في نظرية النص الأدبي الموقف الدبي اتحاد الكتاب العرب دمشق س 17 ع 201 ، كانون الثاني 1988 ص 47 وغيرهم .

[65] رولان بارت درس السيميولوجيا مرجع سابق ص 23.

[66] للمزيد حول معرفة ” مقاربات العمل والنص ” انظر رولان بارت درس السيميولوجيا مرجع سابق ص 60 – 67 .

انظر رولان بارت مقال من العمل إلى النص ضمن الأعمال الكاملة لبارت ج ( 5 ) ترجمة د . منذر عياشى ، ص 78 – 95 مركز الإنماء الحضاري حلب سوريا 1999 م .

[67]رولان بارت : السيميوجيا ، مرجع سابق ص 60 .

[68] نفسه ص 27 .

[69] روبرت شولز : لسيمياء والتأويل : ترجمة سعيد الغانمي المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ط ( 1 ) 1994 م ص 40 – 41 .

[70] محمد عزام : مرجع سابق ص 47.

[71] Rbarthes, Sz , Biackwell, Oxford UK & Combidge USA, 1974 P 22.

[72] برنار فاليط : النص الروائي تقنيات ومناهج ترجمة رشيد بنحرو المجلس الأعلي للثقافة القاهرة 1999 ص 152 .

[73] رولان بارت : بحث الدب بلاغة ” ضمن كتاب اللغة والخطاب الدبي لمجموعة من المؤلفين ، ترجمة سعيد الغانمي ، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء 1993 م ص 56 .

[74] رولان بارت : درس السيميولوجيا مرجع سابق ص 84 .

[75] نفسه ص 85 .

[76] نفسه ص 86 .

[77] نفسه ص 86.

رجاء بن عمار مدرسة في المسرح التونسي

مجلة الفنون المسرحية

رجاء بن عمار مدرسة في المسرح التونسي


فقد المسرح التونسي الحديث برحيل رجاء بن عمار واحداً من نجومه الكبار الذين ساهموا مساهمة فاعلة في صياغة خطابه الدراميّ الجديد، وابتكروا طرائق أدائه الحديثة، وأسسوا، بصبر وأناة وجمالية لا عهد للمسرح التونسي، وربّما العربيّ، بها من قبل.
قدمت إلى المسرح مزوّدة بثقافة جامعية رافداها الأدبان العربيّ والفرنسيّ إذ انتسبت رجاء، بعد حصولها على البكالوريا، إلى مدرسة المعلمين العليا التونسية التي كانت نسخة من نظيرتها الفرنسية في جودة البرامج وتميز الطلاب.
لا شكّ في أنّ رجاء بن عمّار قد شغفت بالمسرح منذ طفولتها وأنّ دراستها الجامعية لم تفعل سوى تأجيج هذا الشغف ولهذا أقدمت على الانخراط في بعض الفرق المسرحية الجامعية ذات النبرة المتمردة. منذ البداية امتزج المسرح لديها بمعاني الرفض، الرفض في أوسع معانيه، رفض الواقع / رفض الفن السائد / رفض النصوص المتهافتة / رفض أساليب الفرجة القديمة... فالمسرح، في نظرها، فنّ ناقد، لا يفتأ يهجم على العالم بالأسئلة تلو الأسئلة.
بهذا الفهم للمسرح تشبثت رجاء بن عمار على امتداد حياتها وإن تنوّعت طرائق الرفض وأساليب التمرّد.
قدمت رجاء بن عمار أعمالاً كثيرة نذكر منها على سبيل المثال: «ساكن في حيّ السيدة»، «بيّاع الهوى»، «فاوست»، «الباب إلى الجحيم».
جنحت رجاء بن عمار، في معظم أعمالها الأخيرة، إلى التجريب أسلوباً في الإخراج والكتابة والتمثيل، والتجريب، بالنسبة إلى هذه الفنانة الكبيرة بحث مستمرّ عن آفاق تعبيرية وجمالية. لا شيء، في نظرها، قد استتبّ ولا شيء استقرّ، كل شيء إلى تغيّر وتحوّل مستمرّين. لهذا وجب على المسرح أن يبحث باستمرار عن لغات بصرية جديدة، أن يختبر وسائل جديدة في الكتابة الإخراجية. ويتجلّى هذا التجريب أقوى ما يتجلّى في مسرحيتها الشهيرة «نافذة على ...» التي هي نافذة يطلّ من خلالها المشاهد على اللحظة الراهنة بكل ماتنطوي من حروب وأوجاع وصراعات. هذه المسرحيّة هي مسرحية الجسد في المقام الأوّل، الجسد بوصفه اللوح الذي تكتب عليه الثقافة أحلامها وقيمها. والمسرح في نظر هذه الممثلة هو في المقام الأول مجال الجسد يملأ الخشبة بحضوره القويّ. وهذا ما قاد رجاء بن عمّار إلى الاهتمام بالكوريغرافيا بوصفها شكلاً راقياً من أشكال الرقص المسرحي وعلمته للكثير من المهتمين بالمسرح والرقص.
كل هذا جعل من مسرح رجاء بن عمار مسرحاً مثقفاً يستدعي التأمل والمشاركة الواعية...أي يستدعي المساهمة في تأسيس رموزه ودلالاته. هذا المسرح يستخدم أكثر من لغة : لغة الكلام / لغة الصور/ لغة الموسيقى/ لغة الرقص / ...هذه اللغات تتمازج داخل المسرحية الواحدة لتحول العمل الفني إلى عيد من أعياد العين والسمع والخيال.
رحلت رجاء بن عمار تاركة وراءها إرثاً مسرحياً مهماً ومدرسة فنية ستبقى تلهم الكثير من رجال المسرح في تونس. هذه المدرسة التي تمكنت من استيعاب تيارات فنية كثيرة وجعلتها، تعيش، على اختلافها، في مسرح رجاء في كنف العافية.

-----------------------------------------------

المصدر : محمد الغزي - الحياة 

اتفاقيات في ختام مهرجان شرم الشيخ لمسرح الشباب لتبادل العروض المسرحية الفائزة بين الدول

مجلة الفنون المسرحية


اتفاقيات في ختام مهرجان شرم الشيخ لمسرح الشباب لتبادل العروض المسرحية الفائزة بين الدول

علا احمد حلمي 

تنافست اكثر من ١٨ دولة فنيا من خلال تقديم عروضها المسرحية  مابين عربية واجنبية من خلال  فاعليات 
الدورة  الثانية لتظاهرة مهرجان  شرم الشيخ  الدولي  لمسرح الشباب    حيث ترأست الفنانة المصرية  سميحة ايوب  
رئيسا شرفيا للمهرجان  والمخرج مازن الغرباوي  مديرا للمهرجان  
واسدل الستار علي دورة الراحل المبدع الفنان كرم مطاوع  
وقد تقابل مسئولوا  ١٢ مهرجانا مسرحيا  من الامارات وتونس والعراق ورومانيا والسودان  وسلطنة عمان  وروسيا والكويت والسعودية ولبنان والاردن  والمانيا  حيث تم توقيع بروتوكوللت  تعاون مع  مازن الغرباوي مدير المهرجان لتبادل  عرض المسرحيات الفائزة  في المهرجانات التالية  بهدف الترويج للعروض المتميزة  من خلال قطاع الانتاج  الثقافي بوزارة الثقافة  التي تساهم وتدعم كل المهرجانات  الفنية والمسرحية التي تقام في مختلف  محافظات مصر  وكذلك الفرق التي تشارك  بعروضها وابداعاتها  خارج مصر حيث تحرص الوزارة علي نشر الثقافة والفنون المصرية  في مختلف  دول العالم 
وعلى مدار تسعة أيام، احتضنت مدينة شرم الشيخ الساحلية المصرية أعمالاً شبابية في مجال المسرح، تباينت بين الكوميديا والتراجيديا ومسرح الشاطئ ومسرح العرائس، في إطار الدورة الثانية لمهرجان المسرح الشبابي الذي تنظمه جمعية نادي المسرح المصري، برعاية وزارات الثقافة والسياحة والشباب، علماً أن هذه الدورة حملت اسم المخرج المسرحي الراحل كرم مطاوع تكريماً لمسيرته في إثراء المسرح.
كانت تونس ضيف شرف المهرجان وقدمت عرضين من أصل 15 عرضاً مسرحياً من مصر، العراق، عُمان، الأردن، البحرين، كندا، فرنسا، إيطاليا، كوريا الجنوبية، ألمانيا. فيما مُثلت دول أخرى عبر أكاديميي المسرح ورؤساء المهرجانات الذين شاركوا في ندوة حول «التحديات التي تواجه المهرجانات المسرحية في الوطن العربي سعياً نحو التكامل والدعم المتبادل». وأدار الندوة رئيس مهرجان الكويت الدولي للمسرح الدكتور فهد الهاجري بمشاركة مدير مسرح قرطاج في تونس الأسعد الجاموسي، ومدير مهرجان الشارقة الإماراتي أحمد أبو رحيمة، والناقد السوداني عصام أبو القاسم وآخرين.
شاركت في المهرجان فرق مسرحية طالبية من جامعات القاهرة، عين شمس، جنوب الوادي، جنوب سيناء، شمال سيناء، انخرط أفرادها في ورش للإخراج المسرحي، مسرح الشارع، السينوغرافيا، التمثيل، مسرح العرائس.
وأقيمت ضمن المهرجان حفلة تأبين لأستاذ الدراما في أكاديمية الفنون المسرحية الدكتور عبد المعطي شعراوي الذي رحل خلال فترة إقامة المهرجان، وهو تخصص في دراسة عالم الأساطير، سواء في جامعة حلوان أو عين شمس، وأكاديمية الفنون المسرحية التي ظل يدرّس فيها حتى أيامه الأخيرة.
وجاءت الجوائز  لفعاليات الدورة الثانية لمهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي  كالتالي، جائزة أحسن إضاءة طارق كوفان عن عرض "النوخذة" سلطنة عمان، وأحسن ملابس، أنا ديلوريوس عن عرض "فدريكو بين الأسنان" أسبانيا، وأحسن ديكور هشام السويلم عن عرض"النوخذة" سلطنة عمان، وأحسن موسيقى هانى عبد الناصر عن عرض "الإنسان الطيب" مـصـر، أحسن كوريوجرافيا لعرض "الفراشة" كوريا الجنوبية، وأحسن ممثلة دور ثاني صوفيا موسى عن عرض "الشقف" تونس، وأحسن ممثلة دور أول ربيعة تليلى عن عرض "ميديا" تونس وفرنسا، أحسن ممثل دور ثان سيرجي جيلوف عن عرض "الحب فى كوب ماء"، روسيا.
وعن أحسن ممثل دور أول هشام صالح عن عرض "النوخذة" سلطنة عمان، أحسن نص مسرحي مجدي بومطر، كندا، وسيرين قنون، تونس، عن عرض "الشقف"، وأحسن مخرج سعيد سليمان عن عرض "الإنسان الطيب" مـصـر، وأخيرا جائزة أحسن عرض "المزرعة" إيطاليا.













المخرج كاظم نصار يوظّف العبث مسرحيا.."سينما" عرض ينتمي للكوميديـا السوداء

عرض ‘‘الراعي والعصا السحرية‘‘ على مسرح المدرج الروماني

مجلة الفنون المسرحية

عرض ‘‘الراعي والعصا السحرية‘‘ على مسرح المدرج الروماني

عرضت مسرحية "الراعي والعصا السحرية" يوم أول من أمس خلال افتتاح مهرجان "أمنا عمان" الذي تنظمه امانة عمان الكبرى في المدرج الروماني وسط البلد.
واستهدفت مسرحية "الراعي والعصا السحرية" للمخرج أمين غانم، فئة الاطفال، حيث انتهجت أسلوب مسرح الحكواتي في تقديم العمل عبر تبادل الممثلين لأدوارهم من خلال لعبة درامية محكمة وحوار بسيط ليصل للمتلقي.
وعبر 40 دقيقة، حاول أبطال المسرحية أمين غانم وتغريد محمد واحمد المومني وموسى نجيب، مخاطبة الأطفال من طلاب المدارس، وبدأت مشاهد المسرحية بتقديم مجموعة الممثلين لأغنية تبين أهمية الخير والفرق بينه وبين الشر لتزرع المحبة والصدق في قلوب الأطفال.
وتحكي المسرحية قصة الراعي وزوجته وتعرضهما للاحتيال من قبل شخصين وكيفية مواجهتهم لظروف الحياة الصعبة واستغلال الناس وهم يحملون القلب الطيب والمشاعر الصادقة.
ووسط انسجام الاطفال بطريقة عرض الممثلين بدأت الابتسامة تعلو وجوه الاطفال ووصلت لهم فكرة العمل بان الخير دائما يعلو على الشر مهما كانت قوته.
يقول مخرج العمل غانم "إن مسرحية الراعي والعصا السحرية تركز على الخير الذي يغطي بنوره الظلام؛ وعلى المحبة والسلام والدفء وكل ما يطمح إليه الإنسان من قيم ينتقع بها الاطفال، وكيف ينتصر الخير على الشر.
ويضيف غانم "أن المسرح مرآة الحياة، ولا يمكن فصله عن الواقع لأنه يؤثر ويتأثر بما يجري حولنا، ومن هنا تأتي أهميته بث القيم التربوية والتعليمية وتوعية الأطفال إزاء ما يحدث حولهم بأسلوب مناسب، لأن الأطفال لديهم مقدرات عالية على التحليل ولديهم أيضاً مخيّلة عميقة".
وعرضت المسرحية على خشبة المسرح والذي امتلأ بالحضور من طلبة المدارس وذويهم الذين كان عدد كبير منهم يشاهدون للمرة الأولى عرضا مسرحيا حيا.

-----------------------------------------------------
المصدر :   معتصم الرقاد - الغد 




بذور الدراما الرافدينية في عصور ما قبل التاريخ

مجلة الفنون المسرحية

بذور الدراما الرافدينية في عصور ما قبل التاريخ 

خزعل الماجدي


   تزخر عصور ما قبل التاريخ بالكثير من الآثار واللقى التي تبدو لنا مثل مرايا متماسكة في صندوق واحد يمكن النظر إليها ، عبر زوايا متعددة ، بحيث تعطينا في كل مرة منظراً مختلفاً  وصوراً معادة التأويل وفق طريقة النظر إليها.
    وتشكل آثار وادي الرافدين منذ العصر الحجري الحديث (النيوليت) وحتى مطلع العصور التاريخية أكثر الآثار خصباً وتنوعاً في الشرق الأدنى القديم. وإذا كان البحث في الفنون المادية والمظاهر الدينية لهذه الفترة يسيراً بعض الشيء، إلا أنه يبدو مستحيلاً فيما يخص الأشكال الدرامية وجذورها هناك. ولا سبيل إلى إدراك ذلك سوى ما يمكن أن نؤوله ونعزز به تلك الشذرات الموحية هنا وهناك.
    إن الفترة الممتدة من الألف التاسع إلى الألف الرابع قبل الميلاد في العراق القديم ليست بالفترة البسيطة فهي تعادل الفترة بين ظهور سومر حتى يومنا هذا.. وهي بلا شك تحتوي على الكثير من جذور وشعيرات الحضارات العراقية القديمة، ولذلك تحرينا فيها بدقة وأمسكنا ببعض ما يمكن أن نسميه التقدمات أو الجذور الأولى للأشكال الدرامية الرافدينية.
وإذا كانت سومر تحمل بذور الحضارات التاريخية في العراق القديم والعالم القديم بأكمله فأن الثقافات أو الحضارات الزراعية والمعدنية التسع(1) التي تسبق سومر حملت، هي الأخرى، بذور الحضارة السومرية. ولولا ذلك التراتب والنقلات الحضارية المتتابعة في هذه الحضارات التسع لم تظهر نواميس الحضارة السومرية التي كانت قاعدة العصور التاريخية بأكملها.
    لقد حاولنا الاستفادة في هذا البحث من طرائق المنهج الجدلي بمعناه العام في البحث عن الجذور الدرامية الأولى في عصور ما قبل التاريخ. فقد رأينا أن العصر الحجري الحديث (النيوليتNeolithe) بثقافاته الأربع، يحتوى على بواكير مادة الأشكال الدرامية الأولى بشكلها البسيط والمرتبط بالأرض، وخصوبة التربة، والقرية الزراعية، والمرأة، والإلهة الأم والتي سادت في القسم الشمالي من العراق واعتبرنا ذلك بمثابة الأطروحة (Thesis)، ولكننا عندما انتقلنا إلى العصر الحجري المعدني (الكالكوليت Chalcolithe) بثقافاته الخمس ( مضيفين له مرحلة العصر الشبيه بالكتابي أو الشبيه بالتاريخي)(2)، وجدنا أن وظيفة الأشكال الدرامية السابقة (النيوليتية) تنقلب أو تنعكس تماماً وترتبط بأفكار جديدة، تتمحور حول استعمال المعادن، وخصوبة الماء، وظهور المدينة والمعبد، وسيطرة الرجل، وبدء الانقلاب الذكوري في الدين. وكان المسرح الواسع لكل هذه التحولات جنوب العراق (وليس شماله كما في حضارات النيوليت) وبسبب هذه المتضادات الحضارية اعتبرنا ذلك بمثابة الأطروحة المضادة (Anithesis)، وهكذا نشأت من الصراع أو الجدل بين العصرين وحضاراتهما المتضادة حركة واسعة وقوية ومركبة، شكلت المادة الثقافية للعصور التاريخية في العراق القديم والتي بدأت بسومر، واعتبرنا ذلك بمثابة التركيب (Synthesis).
    ونرى أن حركة الجدل هذه لا تشمل الجذور الدرامية فقط بل تكاد تنطبق على مجمل أنشطة ومظاهر الحضارات العراقية ما قبل التاريخية ثم التاريخية. فقد نبتت في الثقافة النيوليتية العناصر الأولى، ثم ظهرت في الثقافة الكالوليتية مضاداتها، ومن صراعهما ظهرت عناصر الثقافة السومرية التي هي برأينا نتاج صراع وجدل طويل بين الثقافات والحضارات النيوليتية والكالكوليتية بكل ما حفلتا به من تضاد وتنازع.

العصر الحجري القديم (الباليوليت)
الأصول العميقة للعمل والدين والفن
    لا تسعفنا الآثار المستخرجة في وادي الرافدين والدالة على العصر الحجري القديم (الباليوليتPaleolithe) بمشهد دقيق وواضح يشير إلى أي مظهر من المظاهر الدرامية، ولكننا وقياساً على طرق البحث الاستنتاجية نرى أن هذا العصر حفل بظهور البذور الأولى للعمل والدين والفن.
    ففي العراق القديم ظهر العصر الحجري القديم الأدنى وأدواته الحجرية الكبيرة الأشولية في (بردة بلكا) في جمجمال، أما في العصر الحجري القديم الأوسط فقد ظهرت جماعات من البشر سكنت الكهوف في العراق، وفي كهف شانيدر ظهرت في أعمق طبقاته وهي الطبقة الموستيرية ثلاثة هياكل عظمية لإنسان النياندرتال (3) الذي كان يستعمل الأدوات المتوسطة الحجم، أما الإنسان العاقل فقد ظهرت ثقافته المنتمية للعصر الحجري القديم الأعلى والتي تسمى في العراق بـ(الثقافة البرادوستية)، أما العصر الحجري الوسيط (الميزوليت) فقد ظهرت ثقافة الإنسان العاقل في العراق في كهف زرزي (الثقافة الزرزية) حيث بدأ يستعمل الأدوات الحجرية الدقيقة.
    وكان الإنسان في كل هذه العصور قد تطور بطيئاً في أعماله وثقافاته. ولا شك أنه من خلال استعمال الأدوات الحجرية للصيد تعلم العمل، ومن خلال دفن الأموات عرف ملامح الدين الأولى، ومن خلال الرسم على الصخور وأحجار الكهوف عرف الفن. وهكذا اكتملت الدوافع الأساسية لتشكل الحضارة القديمة ما قبل التاريخية.
    إن أهازيج وترانيم العمل اليومي واكتمال حنجرة الإنسان وقدرتها على التصويت والكلام والغناء وظهور أول أشكال الموسيقى البدائية المنفذة بالصوت البشري والأغصان اليابسة والعظام وجلود الحيوانات.. كانت تحصيلاً طبيعياً لعلاقة إنسان الباليوليت مع الطبيعة ومع ظهور العمل والدين والفن بأشكالها البدائية.
    هناك من يرى مثلاً أن الموسيقى البدائية الناشئة عن غناء وإنشاد الإنسان يمكن أن تنتظم وفق طريقتين، اعتماداً على سلوكه ودرجة أنفعاله النفسي أمام أجوائه وظروفه الصعبة، حيث تعمد الطريقة الأولى على "ترتيل بسيط لبعض العبارات، تاركاً للكلمات المجال لتكون مركز الاهتمام الوحيد بغية إيصال المعنى المطلوب فهو إذن أسلوبٌ لحني تولد من موسيقى تتابع مقاطع كلماته، أو أنه وليد الكلمة ويصطلح عليه بـ( لوغوجينك Logogenic) . وقد ارتبط هذا الأسلوب اللحنى مع حالات استقراره النفسي وهدوئه وراحته وإطمئنانه.(4)
أما الطريقة الثانية فتتكون مع حالات ذعره وخوفه وهياجه وتوتره حيث تنطلق العبارات والكلمات والمقاطع منه متلاحقة بعنف بالغ القوة على شكل أنطلاقات عنيفة حيث تقل أهمية المعاني وتزداد أهمية التعبيرات الصوتية ويسمى هذا الأسلوب بـ(الأسلوب العاطفي أوالمرضي Pathogenic). وقد نشأ بين هذين النوعين الأسلوب اللحنى أو المثير (Melogenic) الذي استقل عن أسلوب الكلمة الأول وأسلوب العاطفة الثاني واعتمد على اللحن(5).
    وتصلح هذه التقسيمات لأي عصر حجري متواتر في مراحله، لأنها تعتمد على كلام الإنسان وأصواته وصراخه ورقصه وحركاته. ويمكن بالإضافة على ذلك استنتاج أن الإنسان في هذا العصر وفق عقيدته الدينية المرتبطة بالحيوان تأثر بالحيوان واعتبره تجلياً من تجليات (المقدس). وهكذا كان تقليد حركات الحيوان بمثابة شكل من أشكال التقديس والعبادة. وكذلك كانت طقوس صيد الحيوان وذبحه ودفنه واستخدام بعض أعضائه مثل القرون والجماجم والجلد والصوف والشعر كأزياء تنكرية كمحاكاة له، وقد كان ينبوعاً ثراً للعقائد اللاحقة.
    وفي هذه المرحلة التي ساد فيها السحر ورافقاها صيد الحيوان وتقديسه في الوقت نفسه، يمكننا أن نؤكد ظهور المكياج الأول وتخطيط وجه وجسم الإنسان، وخصوصاً عند زعيم القوم أو الشامان(6) الذي كان الكاهن والساحر والزعيم بغية تميزه عن غيره وزيادة في هيبة الطقوس السحرية والدينية ومن ضمنها الرقص وتقليد حركات الحيوانات، لقد كانت هذه العناصر التي تغرق في هيولي دينية وروحية بدائية هي التي اعطت البذور الأولى للطقوس الدينية ذات الطابع الدرامي والتي ظهرت واضحة في العصور اللاحقة.

العصر الحجري الحديث (النيوليت)
أشكال الدراما الأولى
    بعد أكتشاف الزراعة وتدجين الحيوان واستقرار الإنسان ونشوء القرى والتجمعات الفلاحية حصل تحول نوعي في الطقوس والممارسات الدينية النيوليتية، فقد شدّها جميعاً إلى مركز واحد جوهر أساسي هو الإخصاب وظهور الإلهة الأم الممثلة لخصب الأرض.
وظهرت من خلال الممارسات الزراعية والدينية مجموعة من الطقوس التي يمكن عدّها بمثابة الأشكال الدرامية الأولى رغم أنها تحمل رسالة ثقافية عامة وهذه الطقوس هي:
1.   عبادة الإلهة الأم: طقوس التشبيه والمحاكاة
    أفرزت الزراعة ديانة الخصب النيوليتية التي كانت تستند بالأساس إلى عبادة الإلهة الأم، فحينما كان الرجل منشغلاً بصيد الطرائد وجمع القوت كانت المرأة الملازمة لأبنائها تقضي وقتها في جمع الحبوب ثم توصلت إلى تكثيره عن طريق دفن الحبوب في الأرض من أجل خزنه في بداية الأمر، لكنها فوجئت أن هذه الحبوب أنتجت نباتات تحمل أضعاف تلك الحبوب وهكذا تهيأ للمرأة القيام بأعظم اكتشاف في التاريخ وهو اكتشاف الزراعة. وقد قام الإنسان والرجل بصفة خاصة بربط عملية التكاثر عن طريق الزراعة بالمرأة فقط لأنه كان يعتقد أن قدرتها الخاصة بالولادة هي التي تجعلها مؤهلة للزراعة. ولم يكن الرجل آنذاك يعرف دوره في حمل المرأة، إذ من أين له معرفة ذلك طالما أن انتفاخ بطن المرأة وظهور بوادر الحمل ثم الولادة يأتي بعد شهور من الاتصال الجنسي بالمرأة..!!

  
الإلهة الأم في حضارة حسونة

    هكذا أصبحت القداسة تحيط بالمرأة، وكان لا بد من تصور قوة خصبة في الكون على شكل أنثى. ولأن الإنسان طابق بين المرأة والأرض، فلذلك نراه حصر القوة الإخصابية في الكون بالدمى الطينية المصنوعة على شكل امرأة وبالطبع كان شكل هذه الدمى على صورة المرأة البدينة المعافاة الخصيبة الحامل التي هي رديفة الأرض الخصبة المثمرة.
    هكذا ارتفعت الأم إلى مرتبة الألوهية وأصبحت الإلهة الأم لاحقاً تبدو وكأنها سبب إخصاب الأرض في العقيدة الدينية.

    إن الإنسان العراقي القديم قام أولاً بتشبيه الأرض بالمرأة البدينة ذات الأعضاء الجنسية الكبيرة كإلهة كبرى، بدلاً من الحيوان المقدس الذي سيطر على العبادة في العصر الحجري القديم. ثم قام الإنسان بعد ذلك بمحاكاة هذه الإلهة فأصبحت المرأة زعيمة القوم وكانت صفاتها بالضرورة القوة والخصب والصحة لأنها تناظر الإلهة الأم، وظهرت طقوس العبادة التي تحاكيها أيضاً.
    إن فعلي التشبيه والمحاكاة يحملان جوهر الدراما.. ونرى كذلك أن عبادة الإلهة الأم جرى في العصر النيوليتي في العراء وكانت الأرض التي يريد الإنسان زراعتها مسرحاً لها بالدرجة الأساس ولذلك كانت تماثيلها المخروطية الشكل ذات النهاية المدببة السفلى تُنبّت في الأرض أثناء عمليات الزراعة، أما التماثيل الهرمية الشكل ذات النهاية اسفلى المسطحة فكانت توجد في القرى والبيوت تبركاً بالإلهة الأم، وكانت هذه العبادة تشتمل على طقوس مختلفة تختلط معها الكثير من العناصر الدرامية والفنية والغنائية.

2.   المصارعة كطقس ديني درامي
    لم تكن المصارعة في العصور ما قبل التاريخية نشاطاً رياضياً بل ارتبطت جذورها البعيدة بالحياة الدينية.
    إن المرأة التي تزعمت النشاط الإجتماعي والسياسي والديني في الثقافات النيوليتية الشمالية في وادي الرافدين كانت تختار زوجها أو ضجيعها عن طريق إجراء منافسة قوى بين الرجال الأشداء ليكون الزوج جديراً بالمرأة الزعيمة.
    وكانت مسابقات المصارعة بين الرجال تجري كل عام قبل طقس الزواج المقدس الديني، حيث يتم زواج المرأة الزعيمة باعتبارها ممثلة للإلهة الأم من الرجل القوي المنتصر في المصارعة، وبزواجها هذا يُشار إلى إخصاب الطبيعة.
    إنه لمما يلفت الانتباه أن مشاهد المصارعة في الأعمال النحتية والتشكيلية تظهر في العصر السومري القديم (حوالي 2500-2235 ق.م) ثم تزول في العصور اللاحقة وهذا يدل على أن طقس المصارعة كان يمتد بجذوره إلى فترة قديمة أبعد من هذا التاريخ بكثير.
ويرى الدكتور (فوزي رشيد) أن المصارعة كانت جزءاً من طقوس استنزال المطر في شمال العراق حيث "توحي لنا بأن رياضة المصارعة في العراق كانت تمثل في أغلب الظن الأختبار الذي يختار من خلاله الكاهن الذي يأخذ على عاتقه مهمة استنزال المطر والذي يكون كذلك عريّساً في الزواج المقدس."(7)
    إن صفات الشباب والحيوية والسمنة هي التي تجمع بين العريس والمصارع وتشير إلى ما تمتاز به الإلهة الأم البدينة المخصبة، ولأن الزواج المقدس كان يحصل في ربيع كل عام لذلك كان سرعان ما يفشل الكاهن المصارع العريّس في الاختبارات القادمة لظهور رجل أقوى يليق بالكاهنة العليا الممثلة للإلهة الأم.
   

    ويذكرنا هذا الأمر بفكرة (الغصن الذهبي) في عبادة (ديانا) في نيمي حيث يتمكن الشخص الذي يكسر هذا الغصن من شجرة محرمة من منازلة الكاهن فإذا استطاع قتله فإنه سيحصل على لقب (ملك الغابة). وكانت ديانا تقوم بدور الإلهة الأم في هذه الشعيرة.(8)
    ويرى (فرويد) أن جذور هذا الطقس تكمن في تقاليد القردة العليا التي نزح منها الإنسان حيث القرد الأقوى الأعظم هو الذي يسيطر على إناث مجموعته حتى يتهيأ له قرد أقوى منه يقوم بقتله ويحتل مكانه.(9)
    إن هذه الجذور البعيدة توضح بما لا يقبل الشك أن طقس المصارعة يقوم على أساس ديني غذائي جنسي قبل أن يكون رياضة وأنه كان ،ذات يوم، شكلاً درامياً بما يحتويه من صراع ونظّارة ومشاهدين يشاهدونه وروح ديني يعطيه عمقاً طقسياً، وهذه ،من وجهة نظرنا ،تشكل جوهر الدراما وأحدى جذورها الأهم في العراق القديم.
    إن مشاهدة المصارعة الحرة التي نتعرف عليها بكثافة في العصر الروماني مترافقة مع الأعياد والاحتفالات الشعبية تمتد بجذورها إلى عصور قديمة جداً وربما إلى العصر النيوليتي الشمالي الذي يمكن أن يكون تقليداً تطورت صيغته عبر العصور، وتنوعت أساليبه وأغراضه كلما تقدمنا في التاريخ حتى تحول إلى مجرد رياضة حرة فقدت جذورها الدينية وتحولت إلى ممارسات دنيوية تدخل في إطار الألعاب الرياضية القديمة.
3.   استنزال المطر (الاستسقاء): الرقص الديني
    كشفت لنا الثقافة النيوليتية الشمالية وخصوصاً في سامراء في حدود الألف الخامس قبل الميلاد عن مجموعة من الآثار الدالة على ظهور طقس استنزال المطر (الاستسقاء). لعلّ أهمها ذلك الطبق الخزفي الذي تظهر عليه أربع نساء متقابلات تتطاير شعورهن من اليسار إلى اليمين (باتجاه عقرب الساعة) وهنّ في مظهر عار يؤدين رقصة واضحة أساسها نثر الشعور باتجاه الشرق (أنظر الشكل في بداية الفصل والشكل 3)، ويشكل مظهر النسوة وشعورهن ما يشبه الصليب المعقوف أو رمز السواستيكا الذي هو رمز الخصب الأنثوي الذي تمثله المرأة في نهاية عصر النيوليت ويجسد هنا علاقة المرأة بالخصب توسلاً بالمطر الذي هو أساس الزراعة في منطقة مثل منطقة سامراء التي تقع جنوب الخط المطري في وادي الرافدين.
وقد انتشر هذا الرمز انتشاراً واسعاً في العالم القديم انطلاقاً من وادي الرافدين حيث نجده وقد ترسخ في الحضارات الآرية ليدل على الخصب حتى جاءت النازية فاعتبرته رمز التفوق الآري وصار مع ممارساتها العنصري رمزاً للخراب والدمار.
  
الإلهة الأم السمكة ورمز الصليب المعقوف (سواستيكا ) الدال على الخصب الانثوي/ سامراء 6000ق.م

    إن النساء العاريات الأربع محاطات بثمان عقارب تسير وراء بعضها من اليسار إلى اليمين. وهذا ما يعزز علاقة المرأة بالإلهة الأم التي كان بعض رموزها العقرب والأفعى، فقد كانت الأفعى نموذجاً للتكامل الأنثوي عندما تضع ذيلها في فمها وتشكل الأوربورس الأول الذي خرج منه الكون، أما العقرب فقد كانت طريقة تفقيس البيوض التي في جسدها عن طريق شق العقارب الصغيرة لظهرها، نموذجاً فريداً للإلهة الأم التي كان أبناؤها يفترسونها بعد الولادة مضحية بحياتها. وكذلك رمزَ الإنسان الرافديني للإلهة الأم بالسمكة التي تظهر في الأواني الخزفية بدلاً من العقرب. وربما شكلت الجداء رمز السواستيكا بقرونها.
    إن هذه الآثار كلها تدل على أن ترميزة الاستسقاء هي السواستيكا أو الصليب المعقوف التي كانت منتشرة في ثقافة سامراء، وذلك لأن إنسان الحجري الحديث عندما هبط قليلاً جنوب مواقعه الأولى في (ملفعات) و(جرمو) و(الصوان) اكتشف أن الماء يعوزه في الزراعة وكان المطر هو المصدر الأول للمياه لأنه لم يكن قد عرف بعد السيطرة على مياه الأنهار والاستفادة منها في الزراعة.
    ولكن سامراء كانت جنوب خط الأمطار ولذلك تتذبذب فيها موجات المطر دون نظام معين ومن الأفضل القيام بطقوس سحرية لإسقاط هذه الأمطار، وتكاد رقصة نثر الشعور هذه أن تكون مثالاً جيداً لتطبيق قانون السحر الأول الذي هو القانون التشابهي حيث العلل المتشابهة تعطي نتائج متشابهة، فالنساء الأربع اللائي ينثرن شعورهن يقمن بتحريك الهواء والغبار في هذا الجزء من العالم (حيث يجري الطقس) مما يؤدي وفق القانون السحري إلى تحريك هواء العالم كله. وهو ما يجلب الغيوم ويجعلها تمطر خصوصاً أن المرأة هي التي تؤدي هذا، والغيوم والأمطار والمرأة كلها عناصر خصب.
    إن طقس الاستسقاء السحري هذا هو طقس درامي في جوهره لأنه يقوم على صراع  الخصوبة (المرأة وشعرها) مع الجفاف وتذبذب نزول المطر، ثم أن فيه عمقاً دينياً واضحاً، ولا شك أنه كان يجري تحت رعاية الكهنة (أو الكاهنات) والناس الذين يشكلون النظارة والذين يترقبون الطقس ويعيشون فيه.
    إن ما يؤكد هذه الحقيقة العثور على قطعتين خزفيتين أخريتين من سامراء أيضاً تشمل كل واحدة أربع راقصات متشابكات الأيدي يؤدين رقصة تكاد تشبه الدبكة العربية المعروفة، رجّح أغلب الباحثين أنها رقصة استسقاء أيضاً.
    ويذهب الدكتور (فوزي رشيد) إلى أن طقس الاستسقاء هذا هو جذر أعياد الأكيتو السومرية والبابلية ويدلل على ذلك من خلال العلامات المسمارية التي كُتبت بها كلمة (أكيتو) والتي تدل على تفسيرها على الاستسقاء حيث "أن أقدم صيغة لكلمة أكيتو جاءتنا بحدود 2400 ق.م على شكل (آ- كي- تي)، العلامة (آ) تعني الماء ومجازاً المطر و(كي) تعني الأرض و(تي) فعل بمعنى يقرّب، فيكون بذلك معنى الكلمة كاملاً (تقريب الماء إلى الأرض أي الاستسقاء"(10)
    إن طقس الاستسقاء الذي عرفنا أصله لم يبق على حاله في العصور اللاحقة وبعد أن أصبح الري في جنوب العراق عماد الزراعة، فهو لوحده أصبح ممارسة فنية تقليدية فقدت جذورها السحرية والدينية في حين ظهر طقس الأكيتو بشكل مركّب ومختلف تماماً، وهكذا ظل من بقايا ذكرى الاستسقاء النيوليتي ذلك الرقص الذي تمارسه النسوة أو الرجال ونلاحظ اليوم أن رقصات النساء ناثرات الشعور في فنون الريف العراقي ورقصات النساء والرجال المتلازمين الأيدي في فنون الريف والبادية العراقية هي بقايا ذلك الطقس السحري والديني القديم.

4.   الزواج المقدس: الاحتفال الدرامي الأول
    الزواج المقدس هو الطقس والعيد الأكبر في الديانة النيوليثية الشمالية حيث تقع المرأة الكاهنة في مركزه وهي تمثل الإلهة الأم استمراراً وتكريساً للدور العظيم الذي اكتسبته المرأة بعد الزراعة حيث مثّلت قوة خصب الأرض. ورغم أننا لا نملك الكثير من الآثار والوثائق التي تشرح لنا طبيعة هذا الزواج إلا أننا يمكن أن نستنتج أن زعامة المرأة للمجتمع الزراعي فرضت ظهور طقوس تأتي مع بداية كل سنة ربيعية يتم فيها زواج الزعيمة الممثلة بالكاهنة العليا من الزوج الذي اختارته من طقس المصارعة ليكون ترميزاً لإخصاب الأرض باعتبارها أنثى الأرض ورمزاً لها.
    وتشير لنا تقاليد الزواج المقدس السومرية إلى الكثير من الجذور القديمة له فهو زواجٌ إلهي بالدرجة الأولى ثم زواج ملكي يقوم به الملك والملكة وتقوم الكاهنة العليا بدور الزوجة الإلهة، ويمكننا الاستنتاج أن الكاهن الأعلى هو الذي كان يقوم بدور الزوج ولكنه لا يقوم بدور الإله بل هو القوي الساحر المؤثر الذي يجيد ممارسة الطقوس الدينية والذي يجب أن يدافع عن موقعه هذا مع بداية كل سنة بالمنافسة مع الرجال الجدد الذين يحاولون جمع صفاته وغالباً ما يتم هذا عن طريق المنافسة بالمبارزة والمصارعة وغيرها.....
    إن هذا الطقس كان يجرى وسط الزرع مع بداية الربيع وكان الناس يشاركون به، وكانت الملكة تقوم بدور تمثيلي درامي عن الإلهة الأم، وكان الكاهن يقوم بدور تمثيلي درامي على أنه قرينها.. فهو طقسٌ يشاهده نظّارة وله عمق ديني وفيه صراع وانتصار الخصوبة على أيام الشتاء القاسية.. إنه ترميز لصراع الفصول الذي كان ينتج أدباً وفناً وديناً شفاهياً متداولاً كما يقول بذلك الناقد (نوثروب فراي).

العصر الحجري المعدني (الكالكوليت)
انقلاب وظيفة الطقوس
    نرجّح أن الرجل، في العصر الحجري المعدني، قام بدور جديد وبثورة تشبه الثورة الزراعية في أهميتها وهي اكتشافه للمعادن، وقد ظلّ طيلة العصر الحجري الحديث تابعاً لهيمنة المرأة.
بعد أن أصبح (الصيد والرعي) وظيفة تقاليدية للرجل تقع على هامش الزراعة كان لا بد له من القيام بدور جديد خصوصاً بعد أن بدأ يتعرف على دوره الحقيقي في الإنجاب وبالتالي دور المطر في الزراعة (ولا شك أنه طابق بين وظيفة المني والمطر).. وهكذا وجد الرجل القوي ضالته في حجارة المعادن الخام التي قام بتطويعها واستخلاص المعادن منها، فالثورة الكالكوليتية ثورة رجولية نتج عنها فيما بعد مفردات دينية جديدة كثيرة، فقد حلت المدينة محل القرية وظهر المعبد مركزاً للمدينة وظهرت الحرف والعمارة والتجارة وتميزت الحياة الاجتماعية وازداد الدين تركيباً وبدأت العقيدة الدينية تزحزح دور المرأة المركزي فظهر الإله الأب والإله الإبن بجوار الإلهة الأم "وأصبح أب السماء في أهمية الربة الأم الأرض، وغالباً ما أصبح الناس يتصورون المطر في كثير من معتقداتهم على أنه المني الخصب لأب السماء ويرى العلماء أن سبب هذه التغيرات يرجع على أن الرجال قد اقتلعوا الأساس الاقتصادي لمكانة المرأة، فلم يقتصر الأمر على جعل الفلاحة عمل الرجال بل تمّ أيضاً حرمان النساء من دورهن في الحرف الأخرى فقد اخترع رجال المدن مثلاً عجلة كانت وسيلة أكثر فاعلية لصناعة القدور وأصبحوا في أكثر الحالات تقريباً صنّاع أدوات الحرف،،(11)
    وهكذا بدأ المشهد بالتغير تماماً وكأن اكتشاف المعادن كان مفتاحاً لقلب المشهد وتغيير رموزه وأصبح الأساس الاجتماعي الجديد مغايراً لما كان عليه في النيوليت فإذا كانت الأم مركز الأسرة فالرجل الآن مركز الأسرة وتوسّع مفهوم الأسرة اجتماعياً لتتكون أسرة جماعية هي القبيلة أو الجماعة المنحدرة من أب واحد وهكذا حل مفهوم القبيلة محل الأسرة (دون أن يلغيه) وأصبح الرجل زعيم القبيلة بالإضافة إلى كونه ربّ الأسرة الأول.
    إن الانقلاب الذكوري الذي أحدثه عصر الكالكوليت بكل ثقافاته (حلف، أريدو، العبيد، الوركاء،جمدت نصر) كان متواتراً سريعاً وسبب انقلاباً لكل مفاهيم العصر النيوليتي الشمالي، ولنتأمل ما حصل من انقلاب في وظائف الطقوس الدينية الدرامية التي أتينا على ذكرها في العصر النيوليتي:
1.   تغير مركز الإلهة الأم ولم يعد الوحيد في مقامه الديني بل شاركها الإله الأب والإله الإبن (الإله الذكر) وظهرت تماثيل الثور والثور الوحشي وذكور الماعز والأغنام، ففي ثقافة العبيد ظهر الإله الذكر يحمل عموداً صغيراً وظهرت الإلهة الأم وهي تحمل إبنها، كما أن شكل الإلهة الأم بدأ يميل إلى النحافة وبدأت المبالغات في رسم ونحت الأعضاء الجنسية تقل بل أن أجسام الذكور والإناث لم تعد تختلف إلا قليلاً، ومع اقتراب العصور التاريخية أصبح الإله الذكر في المركز وتعددت حوله آلهة كثيرة من الذكور والإثاث وأصبح لكل إله وظيفة محددة، ولم تعد الإلهة الأم تحتفظ بكل الوظائف، وهذا يعني أن مجال التمثيل والمحاكاة أتسع.. وأصبحت الطبيعة تتمثل بعدد كبير من الآلهة وازداد عدد كهان الآلهة.
           
                           
    إن محاكاة الآلهة أصبحت أكثر حضوراً من خلال الشعائر  الدينية والمنحوتات والأشكال الفنية والطقوس الدرامية، ولعلّ الخيال الرافديني الكالكوليتي ابتكر آنذاك أساطير خاصة حملت جوهر صراع واضح لكل إله ممثلاً بما يرمز إليه. ويمكن أن تكون هذه الفترة حاسمة في بلورة صيغة ما من صيغ الأسطورة الرافدينية الأم حول دور المرأة الذي يهمِّش الأم ويرفّع دور البنت أو العذارء وهو ما نلمحه لاحقاً في أسطورة (إنانا) وهبوطها على العالم السفلي.. ولعل هذه الأسطورة كانت تستعاد درامياً سنوياً بوقائع مشحونة بالعنف والحب معاً مع قدوم الربيع أو رأس السنة أو في احتفالات كهنية خاصة.
2.   عندما تغير مركز الإلهة الأم لم يعد هناك من ضرورة لإقامة سباقات مصارعة لاختيار الرجل القوي الذي يشارك الإلهة الأم أو الأنثى، بل لعلّ ا لذكر القوي كان يفرض نفسه بقوة من خلال مشاركته المرأة الحكم والمركزية، حتى اكتمل الانقلاب الذكوري بأن أصبح الرجل هو الملك الوحيد وكانت زوجته هي الملكة التي تتمتع بامتيازاته هو قبل كل شيء.. وبذلك فقدت المصارعة جذرها الديني وتحولت إلى رياضة عادية تقام في الاحتفالات أو الأعياد أولا لا تقام، أي أن هذا الطقس تحوّل من طقس ديني إلى ممارسة دنيوية وبذلك أكتسب صفة أخرى واندرج ضمن نشاطات الأعياد والأفراح والرياضة.
3.   إما طقس الاستسقاء الذي كان يجري لاستنزال المطر فقد فقد، هو الآخر، مبرره وأصبح الاعتماد، في الزراعة، على الري لا على المطر، ولذلك نجد أن الصيغة اللاحقة لكلمة (أكيتي) أي استنزال المطر تحولت واستقرت علامة الـ(أ) من علامة تدل على المطر على علامة تدل على الجهد والعمل والساعد. حيث أصبح العمل وشق القنوات وبناء السدود هو الأساس في الثقافات الكالكوليتية الجنوبية، وبذلك فقد الاستسقاء بعده الديني الروحي والعملي وتحولت مظاهره الرقصية على عمل فني أصبح يؤديه الناس الذين كانوا يقيمون على تخوم المدن والذين يمتازون بالترحال وهم الغجر والبدو، وتشير رقصات نثر الشعور والدبكات التي كانت أساس طقس الاستسقاء إلى رقصات ما زالت حتى يومنا هذا يمارسها الغجر والبدو، على التوالي، دون أن يعلموا هم ومن حولهم أن هذه الرقصات ذات جذور دينية غارقة في القدم.
4.   لا شك أن طقوس الزواج المقدس في هذه المرحلة شهدت تغيرات كثيرة فيما يخص مركز الكاهنة التي تمثل الإلهة الأم، ومركز الملك الذي أصبح يمثل الإله الأب، فقد مال هذا الطقس إلى الجانب السياسي أكثر من ميله إلى جذره الديني القديم. إلا أن هذا التحول لم يُحسم تماماً إلا مع مجيء الأكديين.
    ونرجح أيضاً أن طقوس تتويج الملك والزواج المقدس كانت ذكورية فقد أصبح الأمر معكوساً، وكان يتم اختيار الملكة عن طريق الكهانة فقد كانت عملية انخراط النساء في الرتب الدينية وتدرجهن فيه هو الذي يعطي لواحدة منهن وهي (الكاهنة العليا) الحق في الاقتران الموسمي بالملك.. وهكذا حلّت، في طقوس الزواج المقدس، الكهانة الدينية محل المصارعة بالنسبة للرجل اختباراً لاختيار قرينة الملك.
    ونرجّح أيضاً أن عقيدة نزول الإله الذكر إلى العالم السفلي وحلول الجدب ظهرت في هذه المرحلة لتشكل طقساً ذكرياً آخر وهو طقس الحزن الجماعي الذي يبدأ بعد موت الإله ونزوله إلى العالم الأسفل وهو ما ستشير إليه بوضوح المثولوجيا السومرية لاحقاً.
    إننا إجمالاً نودّ القول أن الطقوس الدينية الدرامية أصبحت في العصر الكالكوليتي تميل إلى أن تكون طقوساً دنيوية درامية.. ومن هذه الطقوس الدينية الدرامية ستنشأ الأشكال الدرامية في العصور التاريخية فقد أصبح الجذر الديني المتماسك بعيداً ضعيفاً واصبح بالامكان استعمال الطقوس المنحدرة من ذلك الماضي البعيد في اتجاهات أخرى. والمهم أن خلخلةً حصلت في وظائف ثم في أشكال الطقوس الدينية القديمة وسيتيح هذا الجدل الفرصة لنشوء أشكال درامية جديدة.


العصور التاريخية
الأعياد كدراما احتفالية كبرى
    يمكننا القول أن المرحلة التاريخية التي ابتدأت مع الكتابة شهدت في وادي الرافدين ظهور نمط درامي مركّب (ديني ودنيوي) في الوقت نفسه وهو: العيد. أما المسرح بالمفهوم المتعارف عليه فلم يظهر إلاّ مع الأغريق.
    وهكذا نرى أن الأعياد كانت حاضنة كبرى للدراما المسرحية التي تفتحت زهورها لاحقاً مع مجيء الأغريق، أما الشرق، قبل القرن السادس قبل الميلاد، فلم يشهد إلاّ ظهور الأعياد التي كانت تتضمن شحنات ولمحات درامية أدت فيما بعد إلى تفجّر فن المسرح.
    ظهرت الأعياد مع العصور التاريخية وكانت "كلمة عيد في اللغة السومرية هي Ezzen وتعني الفرصة والاحتفال الذي لا يتبط بوقت محدد من أوقات السنة، أما كلمة عيد في اللغة الأكدية فهي Isinnu ولها صيغة أخرى Issinnu وتعني كلمة Isinnu العيد الدوري الموقوت وقد استعمل الأكديون لفظة Um sinnu والتي تعني يوم العيد"(12)



    ونحن نرى أن كلمة (سنة) العربية مشتقة من الجذر السومري القديم (إيزن) أو (إيسن) لأن العيد كان مرتبطاً برأس السنة وهكذا يكون عيد رأس السنة أهم الأعياد قاطبة في وادي الرافدين.
    إن الأعياد تعد أهم شكل درامي في الحضارات السومرية والبابلية والآشورية، ونرى أنها لم تتطور إلى الشكل المسرحي المألوف الذي نراه في اليونان.. أي أن المسرح بالمفهوم المتعارف عليه لم يظهر مطلقاً في وادي الرافدين (ولا حتى في وادي النيل).. بل كانت هناك نشاطات درامية احتفالية تشكِّل الأعياد شكلها الأوسع والأكمل.
    أن الأعياد وخصوصاً عيد (الأكيتو) هي الدراما الجماعية العفوية الكبرى التي كان الجميع يمارسها ويشاهدها في الوقت نفسه، وكان يقوم بأدوارها الرئيسية عدد كبير من رجال الدين والكهنة الكبار والملك والملكة، وكانت ذات وجهين: وجه ديني طقسي روحي يذكّر بالجذور النيوليتية لها، ووجه دنيوي فني مادي يذكّر ابلجذور الكالكوليتية لها. ومن دمج هذين المظهرين ظهرت الأعياد التاريخية الرافدينية باعتبارها البؤرة التي تجمع جميع أشكال الدراما الرافدينية ولكنها ظلت أسيرة شكلها الجمعي وأعرافها الخاصة بها، ولم تفرز على حدةٍ ما يمكن أن نسميه بجرأة بـ(المسرح العراقي القديم).

    إن عيد الأكيتو في جوهره مناسبة مثولوجية تطبيقية لاستعادة أساطير نشوء الكون والآلهة والإنسان وكانت الطقوس التي تجري فيه طقوس تأمل في الخليقة الأولى من جهة وطقوس عمل لإحراق وإلغاء الذنوب والخطايا من جهة أخرى وبما أن العام الجديد هو إعادة تعيين للنشكونية، فإنه يقتضي استعادة الزمن لبدايته أي بعث الزمن البدئي، الزمن النقي.. ذلك الذي كان يوجد في فترة الخلق ولهذا السبب، وبمناسبة العام الجديد، تجري التطهيرات لطرد الذنوب والشياطين أو ببساطة كبش المحرقة.(13)
    إن المسرح الشرقي القديم (العراقي والمصري والشامي) لم يكن مسرحاً بالمعنى الدقيق للكلمة لأنه لم يكن دنيوياً بل كان دينياً تتفاعل فيه الأساطير والطقوس لأداء دور ديني محدد. بل أن الطقوس نفسها كانت وسيلة لاستعادة الأساطير النشكونية الأولى وليس العكس. في حين أن الطقس في المسرح الدنيوي هو أحد أهم أهداف المسرح.
    أن أسطورة الخليقة البابلية (إينوما إليش) كانت تستعاد درامياً وكانت الطقوس هي العمل الحقيقي في الأعياد. أما الأسطورة فغاية يراد منها التذكير بدليل أنها تُتلى عندما تُمثل أحداثها "وفي الواقع إن المعركة بين تيامت ومردوخ كان يوحى لها بصراع بين مجموعتين من الممثلين، صراع احتفالي يوجد أيضاً لدى الحيثيين، ودائماً في نطاق سيناريو مأساوي للعام الجديد، لدى المصريين وفي رأس شمرا.. إلخ وكانت المعركة بين مجموعتين من المحتلين تكرر المرور من العماء إلى الكون وكانت تحيّن النشكونية. فالحادث الأسطوري يصبح حاضراً..(14).
    أن أية طقوس دينية أو أساطير أو شعائر أو أحداث صراع كبرى تصلح لأن تكون مادة درامية تمثل على حدة، ولكن ذلك لم يحصل بل بقيت كل هذه الأشياء لصيقةً بمشيمتها الدينية بشكل خاص ولم تنفصل كأجنّة مسرحية خاصة، وقد ظلّ حال التراث الدرامي الديني الاحتفالي في الشرق كله في هذا الإطار ومثال ذلك مصر والهند والصين وبلاد الشام ولم يحصل مثل هذا التطور النوعيّ إلاّ في القرن الخامس قبل الميلاد في اليونان عندما انفصلت الاحتفالات الدرامية عن الطقوس الدينية وتحولت إلى فن قائم بذاته هو: المسرح. ولنتذكر معاً أن مثل هذه الأعياد في اليونان كانت هي المادة الي أنفصل منها المسرح وظهرت لاحقاً منه تقاليد التمثيل والكتابة والإخراج الخاصة بالمسرح، ألم تكن أعياد الاحتفال بديونزيوس هي البذرة التي ظهرت منها شجرة المسرح الأغريقي، ومن هو (ديونيزيوس)؟ أليس هو ذاته (دموزي) السومري أو (تموز) البابلي أو (أدونيس) السوري أو (أوزيريس) المصري!! بل أن الكوميديا تحديداً كانت تقابل أعياد الفرح وزواج تموز من عشتار أيام الحصاد والربيع، وأن التراجيديا تحديداً كانت تقابل مآتم الحزن الجماعي على موت تموز وذهابه إلى العالم الأسفل أيام البذار والخريف وهو ما يحتاج إلى وقفة طويلة وبحث مفصل.
* * *
    لو راقبنا إجمالاً تطور النواة الدينية الدرامية منذ بداية العصر النيوليتي لوجدنا أن هذه النواة تتمثل منذ الألف الثامن ق.م في عبادة الإلهة الأم حيث عناصر الدراما في التشبيه والمحاكاة موجودة ضمناً في هذه العبادة، وكلما اقتربنا من نهاية هذا العصر وتحديداً في الألف السادس قبل الميلاد في سامراء نجد أن هذه العبادة تزداد كثافة وطقسية ويمثلها بالدرجة الأساس طقوس الزواج المقدس الذي ترافقت معه وشحنته طقوس أخرى ذات طبيعة درامية كالمصارعة والاستسقاء لتكون النواة الدينية الدرامية لنهايات العصر النيوليتي.
    وما أن حلّ عصر الكالكوليت حتى انقلبت العبادة والأفكار والعادات وحصل انقلاب مماثل في وظائف الطقوس الدينية فكان أن أنعكس ذلك واضحاً على الأشكال الدرامية النازحة من عصر النيوليت، وقد ظهر ذلك بشكل واسع مع قدوم العصور التاريخية حيث انفصل طقس المصارعة وتحول إلى رياضة بسبب فقدان مبرره الديني وانفصل كذلك طقس الاستسقاء لنفس السبب وتحوّل إلى نمط من الرقص الغجري والبدوي. (أنظر الشكل التخطيطي).



    أما عيد الأكيتو فقد أصبح الاحتفالية الدرامية الكبرى حيث هضم في داخله جميع الأشكال الدرامية السابقة في وحدة وسياق لا نظير لهما. ولم يمنع هذا من ظهور متدرج لأنماط من الدراما الطقسية البسيطة متمثلة في إعادة تشخيص نزول إنانا للعالم الأسفل.
أما على مستوى النصوص فنلمح فكرة الدراما المعبَّر عنها بالصراع في الملاحم والأساطير من ناحية وفي فنيين حواريين أدبيين (لا مسرحيين) من ناحية أخرى وهما (أدب البلبال) وهو أدب المحاورات بين أثنين أو الديالوج و(أدب الأدمندوكا) وهو أدب المناظرات والمفاخرات بين متقابلين. وقد ظهرت نصوص عديدة من كليهما في الأدب السومري والبابلي، ولم تُمثل هذه النصوص أو تنتج أدباً مسرحياً بل ظلت أدباً حوارياَ محضاً.

الهوامش والمراجع
(1)   الحضارات التسع في وادي الرافدين هي حضارات العصر الحجري الحديث الخمس (جرمو، الصوان، حسونة ، سامراء) والتي استغرقت (8000-4900) ق.م أي ما يقرب ثلاثة آلاف سنة، وحضارات العصر الحجري النحاسي (الكالكوليت)ومعهاالعصر الشبيه بالتاريخي الخمس(حلف، أريدو، العبيد، الوركاء، جمدت نصر) والتي استغرقت (4900-2900) ق.م أي الفا سنة. وتقع كل هذه الحضارات التسع في نهاية عصور ما قبل التاريخ.
(2)   العصر الشبيه بالكتابي أو الشبيه بالتاريخي (البرتولتريت) يمتد لحوالي 200 سنة (3100-2900) ق.م ويشمل مرحلتين هما (الوركاء الثانية، جمدت نصر) وهو مرحلة انتقالية بين عصور ما قبل التاريخ والعصور التاريخية بسبب ظهور أول أشكال الكتابة الصورية.
(3)   انظر الرويشدي، سعدي: الكهوف في الشرق الأدنى. مجلة سومر/ المجلد 25ج1،ج2، 1969. مديرية الآثار العامة-بغداد.ص260
(4)   فريد، طارق حسون: تاريخ الفنون الموسيقية. جامعة بغداد. بيت الحكمة. بغداد 1990 ص36.
(5)   فريد، طارق حسون: المرجع السابق. ص38.
(6)   شامان (shaman) هو اصطلاح كان يطلق في الأصل، بين قبائل سيبيريا الرحل، على كل ما كان يزاول تطبيب المرضى، ثم انتشر فصار يطلق على التطبيب في كافة مجتمعات القط الشمالي ثم أصبح دالاً على الطبيب الساحر.
(7)   رشيد، فوزي: من هم السومريون. مجلة آفاق عربية. السنة السادسة العدد (12) آب 1981 ص86.
(8)   انظر فيزر، سيرجيمس: الغصن الذهبي (دراسة في السحر والدين) ج1 ترجمة د.أحمد أبو زيد. الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر. القاهرة 1971. ص73.
(9)   انظر فروي، سيغموند: الطوطم والتابو. ترجمة جورج طرابيشي. دار الطليعة للنشر. بيروت 1982
(10)           رشيد، فوزي: من هم السومريون. مجلة آفاق عربية. السنة السادسة العدد  (12) آب 1981 ص85.
(11)           رايلي، كافين: الغرب والعالم. سلسلة عالم المعرفة الكويتية رقم (90) ص 61-62.
(12)           النعيمي، راجحة خضر: أعياد رأس السنة البابلية. مجلة سومر ج1 المجلد 46، 1989-1990 ص112.
(13)           إلياد، مرسيا: المقدس والمدنس. ترجمة عبد الهادي عباس المحامي، دار دمشق للطباعة والنشر والتوزيع ط1 1988 ص63.
(14)           المرجع السابق .


المسرح التسجيلي في مصر: توثيق الحادثة الواقعية ومسرحتها

مجلة الفنون المسرحية

المسرح التسجيلي في مصر: توثيق الحادثة الواقعية ومسرحتها


د. حسن عطية 

مما لا ريب فيه أننا سنلتقي اليوم بكم وافر من الدراسات الجادة حول تاريخ ونظريات المسرح التسجيلي وتجليات افكاره وتقنياته بفضاء المسرح خلال نصف القرن الفائت من الزمان، تأكيداً على الجذور، وتفتيشاً عن التجاوزات، وقد فضلت في مداخلتي هنا ان اقف عند حضور المسرح التسجيلي او الوثائقي في مرأة المسرح العربي بمصر، متوقفاً عند ابرز من كتب وترجم وتحاور حول رؤيته وأعماله، ومتمهلا عند نموذجه في كتابة نص مسرحي مصري، يوثق فيه ما حدث من اهانة للعقل الانساني وللضمير البشري في سجن ابو غريب بالعراق، مستفيداً في ذلك بكل ما طرحه هذا المسرح من أفكار وما قدمه من تجليات، وما تطور به في مساره الطويل منذ ستينيات القرن الماضي، حينما بدأ نتعرف في مصر على المسرح التسجيلي، بقلم الشاعر والكاتب والمترجم واستاذ الطب البيطري د, «يسرى خميس»، حينما قام في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي بعرض وترجمة ومناقشة ابرز ما طرحه فارس هذا المسرح الكاتب الالماني «بيتر فايس»، وفي عام واحد؛ هو عام 1967 المرير، قرأنا في مارس من هذا العام، وفي سلسلة (المسرح العالمي) مسرحية «بيتر فايس» الهيرة (اضطهاد واغتيال جان بول مارا كعرض قدمه نزلاء مصحة شارنتون) والشهيرة ب (مارا/صاد) اختصارا والتي كتبها صاحبها قبل ذلك بأربعة اعوام فقط، وقبل ان ينصرم العام، وفي ديسمبر، طالعنا على صفحات مجلة (الآداب) البيروتية مسرحيته الأخرى (انشودة غول لوزيتانيا) المعروفة باسم (انشودة انغولا) او (الغول) فقط كما عرضت بالقاهرة من اخراج المخرج المسرحي احمد زكي.

ومنذ ان ترجم د. «يسرى خميس» هذين النصين في ستينيات القرن الماضي، ورغم كل التيارات المسرحية التي وفدت الينا من تعبيرية وعبثية لما بعد حداثية اليوم، ما زال للمسرح التسجيلي حضوره الطاغي في مناقشاتنا، فهو ابرز هذه الاتجاهات المتعلقة بعلاقة الفن بمتغيرات الواقع الراهن والماضي معا، ليس بهدف توثيق ما يحدث في الأمس القريب او البعيد بصورة فنية، وانما سعيا للكشف عن القوانين التي تحكم الحدث، والحقائق المختبئة خلف تفاصيله.

ان نموذجنا الذي نتوقف عنده هنا هو نص مسرحية (المسلخ) الذي كتبه د. «يسري خميس» عن مذابح العراقيين على يد المحتل وقواته من مرتزقة (البالك ووتر) وأتباعه من العملاء الوطنيين، خلال الغزو الاميركي للعراق عام 2003، انما يعيد طرح القضية التي أثيرت وتثار دائماً حول قدرة المسرح التسجيلي على البقاء والخلود، فاذا ما كان هذا المسرح مؤسسا على فعل توقيق الحاضر، ورصد تفاصيله الآتية، وتحليل وقائعه المعيشية، فما هي امكانياته في البقاء ومخاطبة أزمنة أخرى وجماهير قادمة في المستقبل؟

فحينما كتب «فاس» مسرحيته (مارا/صاد)، ستينيات القرن الماضي، كان هذا العقد يصطخب بالثورات الوطنية التي اجتاحت العالم، وصاغت رموزها التي كانت صورها ايقونات لفعل التحرر من قوى الاحتلال السياسي والاقتصادي، كصورة الثوري المناضل خارج الأنظمة «تشي غيفارا»، الذي عادت صوره اليوم معلقة برقاب شباب وعلى جدران بيوتهم وأسطح موبايلاتهم مثيرة الدهشة حول جيل لم يعش ولم يعرف هذا المناضل الذي ترك كرسي الوزارة ليموت بغابات بوليفيا وسط الثائرين!!. غير ان هذه الثورات الوطنية، التي نشدت الحرية لمجموع الشعب، أجلت في مسيرتها التقدمية وفعلها في تحقيق العدالة الاجتماعية تحقيق حق الفرد في ان يكون حراً في ذاته، وفي ان يعبر عن ذاتيته هذه بحرية قد تنفق وقد تختلف مع حرية الجماعة، والتي تملك بقوتها الخاصة اكتساح الفرد وهرسه في طريقها، لذا نشأ الصراع الفلسفي والاقتصادي بين حرية الفرد المطلقة وحرية المجموع الكاملة، وسعى «بيتر فايس» لصياغة هذا الصراع دراميا في مسرحيته المذكورة، عائدا بنا لتاريخ اوروبا الذي يعرفه، منطلقا من شخصية «جان بول مارا» كنموذج ثوري من نماذج الثورة البورجوازية الفرنسية، والمؤمن بضرورة تحقيق الحرية الكلية لجماعة المجتمع، في مقابل شخصية «المركيز دي صاد» الساعي لتحقيق حريته الفردية، بغض النظر عن حرية المجتمع الذي يعيش فيه، ومنطلقا مسرحيا من زيارة تقوم بها مجموعة من الارستقراطيين لمصلحة (شارنتون) العقلية، والتي تقدم لهم عرضا مسرحيا، يقوم به بعض المرضى من تأليف واخراج المركيز دي صاد، المعتزل بذات المصحة، ويتمحور الحدث الدرامي حول الزعيم المغدور به من زعماء الثورة الفرنسية «جان بول مارا»، والمغتال بيد «شارلوت كوردي»، طارحا طوال مسيرة العرض المسرحي مناقشة جادة حول العلاقات بين السياسة والجنس والعنف، مركزاً على ذلك التضاد بين الحرية الفردية والحرية المجتمعية.

دخائل الشخصيات

وبالجدل بين الموقفين المدعومين بأقوال موثقة للشخصيتين الحقيقتين تاريخياً، وان لم يلتقيا ابدا الا في فضاء مسرحه المتخيل، وبتصور تحقق ذلك اللقاء في مصحة تزدحم بالشخصيات الحقيقية والمتخيلة، وتبيح بطبيعتها، كمصحة عقلية، ان تكشف عن دخائل الشخصيات المتحدثة والفاعلة في حركة الدراما التسجيلية، وتجعلنا نتعاطف مع هذه الشخصيات المتألمة من أجل ذاتها ومجتمعها وانسانيتها، يترك «فايس» للمتلقى المحتوى الدلالي للمسرحية ليستخلصه دون مباشرة من ذلك التعانق بين الموقفين، الذي يقف هو شخصيا موقف الحائر بينهما، لذا يعلن انه كالواقف بين مقعدين، لا يعرف بالضبط على أيهما يجلس، وربما كان يأمل في أن يجد له، مع البشرية، يوماً مقعداً ثالثاً يجلس عليه محققاً التناغم بين حرية الفرد وحرية المجتمع، فلا معنى لحرية فردية وسط مجتمع يعاني القهر والذل والانغلاق، ولا معنى لحرية مجتمعية تسحق حرية الفرد في أن يكون باختياره ذاتاً مبدعاً داخل هذا النسيج الجمعي المتحرر. لهذا إمتزج ما هو تسجيلي (آني) بما هو مستمر و(خالد) بهذا الطرح لموضوع التناقض بين رؤيتين للعالم، أطاحت واحدة منها بالأخرى منذ ما يقرب من عقدين من الزمان، من دون أن تنجح في إبادتها، ومن دون أن تحقق للحالمين بحلم الحرية الفردية يوتوبيا العدالة الاجتماعية، بل وحق هذا الفرد الحر في أن يتعلم ويعالج ويعمل ويتزوج بصورة تحمي كرامته من الهرس تحت أقدام عجلة «آدم سميث» الاقتصادية.

لهذا ترك هذا النص واتجاهه بصمات واضحة على المسرح العالمي عامة، والمسرح العربي في مصر، خاصة في هذه الفترة الحرجة ما بين عامي 1867 و1973م، فحاول «عبدالرحمن الشرقاوي» الاستفادة من تقنيات المسرح التسجيلي في مسرحيته (وطني عكا) الدائرة حول القضية الفلسطينية، وظهرت المسرحية السياسية الوثائقية (النار والزيتون) لـ«ألفريد فرج» على المسرح القومي، مثيرة جدلاً حاداً في الساحة الفنية حول علاقة المسرح بقضايا الواقع الساخنة، خاصة القضية الفلسطينية، والتي أشعلت حركة المقاومة للفلسطينيين أنفسهم، وتماست مع حركات التحرر الثورية التي اجتاحت العالم خلال عقد الستينات، وتشابكت مع توجهات الأنظمة العربية المتباينة، والتي كانت تحاول أن تلملم أطراف ثوبها الممزق منذ هزيمة 67، وترتق الثوب بأفكار محافظة، وبتراجع عربي خافت الصوت عن ثورية الخمسينات وأوائل الستينات، فبدت المقاومة الفلسطينية وقتذاك شعلة تضيء للثوري المجروح طريق الخلاص، وتزيل الأقنعة عن المتقاعسين والمرتدين عن الخط الثوري، خاصة ومعارك الاستزاف ضد العدو الصهيوني في سيناء المحتلة قد حققت نتائجها المرجوة منها، والشارع يغلي بالرغبة في «إزالة آثار العدوان» بالقوة التي تحقق بها.

وظلت القضية الفلسطينية قابعة في عمق المسرح التسجيلي، فكتب اللبناني «عصام محفوظ» مسرحية بعنوان يماثل في طوله مسرحية «فايس» وهو (لماذا رفض سرحان بشارة سرحان ما قاله الزعيم عن فرج الله الحلو في ستيريو 71؟)، كما كتب «يسري الجندي» مسرحيته (ماذا حدث لليهودي التائه مع المسيح المنتظر؟). غير أن الزمن تغير، واختصر الصراع العربي/ الإسرائيلي، الى خلاف فلسطيني/ إسرائيلي حول «أراض محتلة»، وفي عمقه برز صراع فلسطيني/ فلسطيني مثيراً للشقاق بين الثوار، وارتفع الاحتلال الأميركي للعراق ليحتل مكان الصدارة جانبه، وأحياناً أقوى منه لتشابك قوى دولية على الأرض العراقية، وانفجرت ذات يوم فضيحة سجن «أبو غريب»، وانفعلنا كلنا بها، وانتفض الشاعر بقلب المسرحي د. «يسري خميس»، وأرتج عقله غير مصدق لما يراه على شاشة التلفاز، عبر متابعة دؤوبة لكل ما انفجرت عليه هذه الحادثة التي جرت في زمن الصراخ بحقوق الإنسان في الحياة والمقاومة، وتبلورت الفكرة خلال أبرز متابعاته لأسرار ما حدث، وبخاصة متابعته اليومية لأكثر من عامين (2004 و2005) حتى الانتهاء من كتابة المسرحية منتصف عام 2006 لباب (أزمة السجون العراقية) على موقع BBC arabic.com بالإنترنت، ومشاهدته المواجهة المباشرة على «قناة الجزيرة» الفضائية مع البريجيدير جنرال جانيس كاربنسكي BG janis Karpinski قائد اللواء 800 للشرطة العسكرية الأميركية والمسؤولة آنذاك عن إدارة سجون العراق ومن بينها سجن (أبو غريب)، وكذلك المواجهة المباشرة على «قناة الجزيرة» الفضائية مع السيد «عبدالجبار العزاوي» أشهر المعتقلين العراقيين في سجن أبو غريب، الذي تحولت صورته وهو مغطى الرأس بكيس أسود، فاتحاً ذراعية كالمسيح لتلقي الصدمات الكهربائية، الى رمز للفضيحة التاريخية. فضلاً عن الصور التي نشرها الصحافي الأميركي «سيمور هيرش» Seymour Hersh في مجلة (ذي نيويوركر) New Yorker Magazine وتناقلتها كل صحف ومجلات العالم، والوقائع المريرة التي نشرها في كتابه (القيادة الأميركية العمياء أو الطريق من 11 سبتمبر الى سجن أبو غريب). فجاءت مسرحيته هذه، التي إنتهى من كتابتها في صيف 2006، لتكون توثيقاً لهولوكست أميركي وقع ذات يوم على الإنسان العربي، غير القادر حتى على إثبات تدمير إنسانيته تحت نعال الأميركان.

التقرير الرسمي

ولأنها مسرحية تسجيلية كان لا بد وأن تعتمد ـ الى جانب المتابعة الحية المستمرة ـ على التقرير الرسمي للتحقيق الذي قام به ماجور جنرال «أنطونيو تاجوبا» MG Antonio M. Taguba لتقصي الحقئق في أحداث سجن (أبو غريب) ببغداد في يناير 2004، والواقع في 53 صفحة، والذي خلص فيه الى حدوث «وقائع متعددة لانتهاكات إجرامية سادية وجنسية واضحة». في السجون العراقية، ومنها سجن (أبو غريب)، الذي نشرت صوره وصارت صوره كالأيقونات الدالة على فظاعة الاحتلال، ونص (تقرير تاجوبا) على «إن المحتجزين في سجن أبو غريب في بغداد أجبروا على ارتكاب ممارسات جنسية وتعرضوا للتهديد بالتعذيب وللاغتصاب أو مهاجمتهم بالكلاب وتم إخفاؤهم عن الزيارات التي يقوم بها الصليب الأحمر «في خرق للقانون الدولي».

تعيدنا هذه الصياغة الدرامية لوقائع حدثت بالفعل للسؤال الجوهري الذي طرحناه في بداية مداخلتنا هذه حول قدرة المسرح التسجيلي على البقاء والخلود، ككل تيارات المسرح الخالدة من الإغريق حتى اليوم، إذا ما كانت طبيعته البنائية مؤسسة على فعل توثيق الحاضر، ورصد تفاصيله التي تدخل مع الزمن حقل التاريخ؟

فمن المسلم به أن الدراما المسرحية، وغيرها من فنون الدراما المرئية، تقوم على مبدأ إعادة صياغة الفعل الواقعي، ماضياً كان أم آنياً، في بناء جمالي يتأسس داخل السياق الاجتماعي القائم، ويستهدف التأثير في المجتمع الحي، فيخاطب جمهوراً يعرفه، ويكون حاضراً في هذه البناء الجمالي بزمنه وقيمه ورؤيته للعالم؛ شاء مبدعه أو تصور أنه ينفلت منه لعوالم فانتازية يبتدع معها أفعالاً خيالية سابحة في سماوات طوباوية، فحتى الفعل المتخيل له قاعدته الواقعية، ويصاغ لغاية واقعية، والمدن الفاضلة ما هي إلا موقفاً نقدياً من الواقع الراهن.

إذن فالإبداع في مجال المسرح التسجيلي، يمنح الوثيقة بعدها الجمالي، ويحول الراهن الزائل لمستمر خالد، ويحضر التاريخ فيصير بفضاء المسرح واقعاً معاشاً، وذلك لأن الفعل في حقل الدراما حاضر بطبيعته، لا يروى بلسان (راو) خبير كما في حقول التاريخ والسياسة، ولا يحكى بلسان (سارد) يعرف كل شيء عن موضوعه وشخصياته كما في حقل الرواية والقصة، بل هو يحدث الآن ويسير حتى نهايته أمامنا، خلال سويعات قليلة يتتبع عبرها المتلقي مسار الفعل ومصير المتعلقين به، ويتفاعل معهما بوجدان مشتعل وعقل يقظ، ويقتطف في النهاية الفكرة المبثوثة عبر هذا العمل بأكمله. وهي في جوهرها رسالة موجهة للجمهور المشاهد اليوم، وحاملة رؤية المبدع له فيما يتعلق بقضاياها التي يعيشها، وينتظر من الفنان أن يشاركه الرأي فيها، باعتباره مثقفاً فاعلاً في مجتمعه، تعلم و تثقف وخبر الحياة، لا ليدفن رأسه في رمال الأمس، بل ليلعب دوره في تنوير عقل المجتمع والعمل على تغيير واقعه الى ما هو أفضل.

النص الدرامي في المسرح التسجيلي هو توثيق جمالي لوقائع حياتية، ومسرحة فنية لأحداث وقعت في الماضي البعيد أو القريب، يأخذ من هذه الوقائع الحياتية ارتباطها الوثيق بلحظتها الزمنية، ويأخذ من الدراما قدرتها على الخلود والتجدد من كل زمن تقدم فيه، وكمكل مجتمع تخاطبه، ومن ثم سيظل المسرح التسجيلي قادراً على البقاء، طالما قابعاً في حقل المسرح، مستخدماً أدواته الجمالية لتواصل مع جمهور أتى إليه لا لكي يتلقى درساً في السياسة أو محاضرة تاريخية، بل لكي يتحاور مع مسرح ساخن وثائر ومثير للجدل.

----------------------------------------------------------------------------------------------------------
المصدر :  الندوة الفكرية لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الحادية والعشرين

الجمعة، 7 أبريل 2017

التجارب الجمالية في تقنيات المسرح الحديث

مجلة الفنون المسرحية

التجارب الجمالية في تقنيات المسرح الحديث

د . جبار جودي العُبُودي 


إن التطور الحاصل في حقل الفنون المسرحية من الناحية التقنية والتكنولوجية لم يكن بمعزل عن التطورات التقنية في جميع المجالات الحياتية الإنسانية، لكن مايميّز التكنولوجيات في حقل الفنون هو ارتباطها بجانبين مختلفين أحدهما هو الجانب النفعي الذي يحقق المنفعة الاستعمالية الخالصة، وهو يسير باتجاه مكاسب الاختراعات الصناعية والالكترونية، وهذا الأمر يكون بطبيعة الحال مرتبطاً بالجانب الحياتي والمعيشي بشكل عام، أما الشق الثاني فإنه على درجة كبيرة من الأهمية، وذلك لارتباط التكنولوجيات بالجوانب الحسية والجمالية في حقل الفنون عامةً ومجال المسرح خاصة، فعلى سبيل المثال، عندما نقوم بتغيير أحد فيدرات الإضاءة المبرمجة لأحد المشاهد، فإن الإيقاع التكنولوجي التقني لهذا التغيير ينعكس جمالياً وفنياً وفكرياً على خشبة المسرح عن طريق صنع عوالم خيالية متكاملة في الفضاء المسرحي للتعبير عن مختلف الثيمات المقصودة، كذلك فإن رفع وخفض الديكورات في المشاهد المسرحية مرتبط بالجانب التكنولوجي للمسرح، لكن عند تنفيذ ذلك، فإنه سوف يسهم بتحقيق مديات جمالية وحسية مرتبطة بالجانب الفكري للشكل والمضمون فوق الخشبة، إذ تسهم التكنولوجيات كعمليات تنفيذية أدائية آلية في تحـــقيــــق جماليات غير مسبوقة على مستوى عالٍ من الإتقان يشترك بها خيال الفنان ورؤاه المتميزة .
قد يتبادر الى الذهن التصور الذي يقول بأن التكنولوجيا هي معطى تقني آلي، وهذا بطبيعة الحال فرض عياني، لكن الصور المتحققة باستخدامات هذا المعطى، تفرز خطاً مستقلاً للجمالية والفكر والتأمل، إذ " شهدت الساحة الفنية نوعاً من السحر التكنولوجي على خشبة المسرح (..) ظهر بوضوح أن أفضل النتائج يمكن الحصول عليها عندما تنجح التكنولوجيا في التحول من الترقيع الى التجميل "(1) ، أي أن تكون تدخلاتها جمالية خالصة وليست عيالاً على العـــــــمل الفني أو مقحمةً فيه، لذلك استثمر العديد من فناني المسرح الحديث الجانب التكنولوجي في المسرح لإبراز رؤاهم الجمالية وعرضها بطرق مختلفة أسهمت في تكوينها تقنية التصورات الذهنية الإبداعية مشفوعة بالاستخدام التكنولوجي الأمثل للمهارات والخامات والمعدّات، حتى أصبحت تقنيات المسرح تشابه (جراب الحاوي) أو صندوق الساحر الذي يستدعي كل الغرائب من خلاله، إذ ان "تعبير تقنيات حديثة يبدو وكأنه جراب توضع فيه كل الأشياء ويرمز الى الشيء الجديد الذي يبدو أنه من التقنيات "(2) ، هذه التقنيات هي التي تسهم، بالاستخدامات الصحيحة لها ، في اثراء الشكل الفني المعبّر في عالم الفن المسرحي، فالمسرح ماعاد تقديمات تقليدية لمؤدٍ يحفظ دوره ويلقيه على مسامع الجمهور في مقدمة المسرح، بل أصبح ساحة للتنافس الشديد في جذب المتفرج من عوالم السينما والتلفزيون والمنافسة لهما من ناحية الإمكانات التكنولوجية التي تزيد من غنى العوالم الفنية المسرحية.
التقنيات الحديثة عندما تستخدم لخدمة المسرح، فإنها تأتي برؤى جديدة وآليات جديدة ، فالتقنيات تنمّي فكرة الخوارق باستدعائها للخيال الذي يحلّق في غير المألوف وغير المتوَقّع، كذلك لم تعد هذه التقنيات ضرورية لتقديم العرض المسرحي فحسب، بل تقوم بتوفير إمكانات جديدة لإتاحة الرؤية الخيالية سواء بالنسبة للمشاهد أو الممثلين (3) ، فالعرض المسرحي هو صناعة عوالم أخرى تختلف عن الواقع المحيط أو تشابهه، انها عوالم خاصة مصنوعة بحرفنة عالية، وبذوق الفنان وحسه الجمالي الأصيل وبخيالاته التي تصل الى أفق متقدمة في التجربة الإنسانية، إذ يقودنا العرض المسرحي الى " استكشاف كيفية تحوّل الخيال، أو مايفوق الخيال الى واقع، وهو يدفعنا الى استكشاف العلاقة بين الواقع وبين الصور المختلفة التي نعرف من خلالها هذا الواقع (..) العرض المسرحي مجال غريب لانألفه، يشبه عوالم الأحلام "(4) ، هذه العوالم تشخص الى الوجود وفق خيالات الفنان التي بدأت التكنولوجيا بتحقيقها ، فما كان سابقاً يشبه المعجزات في إمكانية تحققه أصبح الآن وبفضل التكنولوجيا المتقدمة، يتحقق بضغطة اصبع واحدة، وخصوصاً في مجال الضوء الذي يتم التحكم به الكترونياً عن طريق المكسرات الحاسوبية البرمجية الحديثة.
أما على صعيد التصورات الفكرية، فلقد أدرك كل من آبيا وكريغ، أن قابلية المسرح للتجريد تفوق كافة الإمكانات الفنية على صعيد البناء الذهني للتركيبات الصورية والمشهدية فيه، فالتجريد له القدرة على امكانية فرز بيئات خيالية أو واقعية لاتشابه في طبيعتها الواقع بالنسبة للمنظر المسرحي أو مستوى التخيّل عن طريق الإيحاء، إذ يوفّر التجريد توظيفه للمكان كمقابل مرئي للأحداث، ولقد كانت ( إضاءة الكهرباء ) هي الأداة المهمة والرئيسة في تحقيق هذا التغيير المهم في الخارطة المسرحية العالمية، إذ عن طريق استغلال مساحة الأداء الثلاثية الأبعاد وتوظيف الإمكانات التشكيلية للضوء، تلك الإمكانات اللا نهائية في تنويع وتركيز وضبط وتوجيه مصادره وحدّتها ونعومتها أضحت بديلة عن التكاليف الباهضة لإقامة المناظر المسرحية الضخمة، إذ بدأ المصممون يوظفون المساحات والعلاقات مابين المكان المضاء والمظلم ومابين الممثل والصورة المتخيلة للشكل والمضمون، إذ أدرك كل من آبيا وكريغ قوة الإضاءة الكبيرة في تشكيل المكان وتنويع فضاء العرض(5) .
لقد سعى فنانو المسرح منذ الإغريق الى الوقت الحالي، في إيجاد سبل مناسبة وطرق وأساليب عمل كفيلة بإيصال الأفكار والصور المتَخَيّلة الى المتلقي في العرض المسرحي عن طريق استخدام التكنولوجيات المختلفة والتي كانت سابقاً تدخل في باب الآلات البسيطة، أما الآن وفي خضم الإيقاع المتسارع للمتغيرات الكونية، أضحت التقنيات التكنولوجية من الحيوية بمكان، إذ لايمكننا تصوّر عرض مسرحي في الوقت الحالي بلا تكنولوجيات الضوء والصوت والمؤثرات البصرية، والكثير من الممكنات التي أتاحتها أجهزة الحاسوب في نقل الصورة .
(1) أنطونيو بيتزو: المسرح والعالم الرقمي، تر أماني فوزي حبشي ، القاهرة : (وزارة الثقافة – مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي) ، 2007 ، ص32 .
(2) لوسيل جاربانياني وبيير موريللي: المسرح والتقنيات الحديثة ، تر نادية كامل ، القاهرة : ( وزارة الثقافة – مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي)، 2007 ، ص248 .
(3) يُنظر: المصدر السابق ، ص7 و ص15 .
(4) جوليان هلتون: نظرية العرض المسرحي، تر نهاد صليحة ، الشارقة.

------------------------------------------------
المصدر : جريدة المدى 

سامي عبد الحميد المفتاح الذهبي لحداثة المسرح العراقي

مجلة الفنون المسرحية

سامي عبد الحميد المفتاح الذهبي لحداثة المسرح العراقي

صلاح القصب 

أزمنة مضيئة كانت تشعّ كفوتونات ضوئية رسمت خارطة كبرى لحداثة قائمة على معادلات زمنية، هذه الخارطة التي صمّمها المخرج سامي عبد الحميد، سمحت لتجاربه الإخراجية أن تتنوع كهارمين موسيقي في الارسال، وماذا تريد مخيلته أن ترسم وماذا يريد أن يرسله عبر مستويات آليات بث صوري اعتمد شفرات النص كمنطلق لمتحولات ومتغيرات، فالبعد الجمالي في تجاربه لم يكن نتيجة بل هدفاً لتحقيق علاقة الفنان – الذات الداخلية بالمحيط الكوني، ولا يرى أن هناك انغلاقات وحجباً تفصل المخرج عن العالم الموضوعي أو عالم الظواهر.  
لذا فإن تجارب معلمنا الكبير سامي عبد الحميد، ترفض التجريد الخالص، كما أنه لا يراهن ماهية الشكل كقيمة منفردة ولا بتلك الثنائيات بل تجاوزها الى انشاء كوني بلاستيكي للإمساك بالمعنى الخلاق، لأنه لا يعتقد أن الاهتزازات والإيقاع وعلاقات الشكل يمكنها أن تغمر المخيلة بأصداء الواقع ولا يريد أن يعبر بتجاربه الإخراجية عبر الرمز والمجان والاستعارات البصرية. بل استعادة مخيلة الشعر وفوتونات اللوحة التشكيلية وحركة الرليف النحتي ليرسم تضاريس جديدة لمسرح عراقي، يشع كقوة الفيزياء الضوئية لخطاب عرض مسرحي داخل مساحات التحديث التي تجعل من المسرح فوتوناً ضوئياً يسمو بفضاءات جمالية كقوة موج بصري، لذا فإن اعماله الخالدة نمت وتأسست في محيطيها الانساني والثقافي، وتفاعلت مع حقول الترددات الموجية الحداثوية لمسارات عالمية كانت معادلات موجية تدرك كينونتها الجمالية. اعماله تجولت في مدن عالم المسرح لمعادلات جديدة تشكلت في فضاءات مختلفة في حقول ومدن وتضاريس أشرتها، الشر له رأسان. هاملت عربياً . وانتيكون بيت برناد البا. الحيوانات الزجاجية، القرد الكثيف الشعر، عطيل في المطبخ، تموز يقرع الناقوس والخادمات، انتظار كودو، المفتاح، وكم من أعمال أخرى خالدة. الخارطة الإخراجية اشبه بالخرائط المعمارية للعصر الباروكي وقوة العمارة شكلاً، وهندسة أشبه بمعمارية قصر فرساي الخالد واقتربت من الاكتشافات الهندسية الجديدة في تصميم العمارة التي هندستها وصمّمتها المعمارية الخالدة زها حديد لإنشاء مكون معماري بصري جديد، تجاربه خلخلت أفق التوقع عند المتلقي كما جعل من تجاربه أن تمتلك روح العصر وثقافته. 
سامي عبد الحميد رمز وطني وثقافي كبير شكل خارطة جمالية لمسرح عراقي حداثوي شكّل مدناً جمالية ترتقي لعلو ومجد عالمي، تجاربه عرفت كيف تتعاقب خارج الاستنساخ والتكرار انها قوة انبثاق للحلم لترددات، لموج، للون، لمساحة، لفضاءات الكتلة وقوة التكوين وقوة السحر، كانت حضوراً مزدوجاً حضور الابداع وحضور طاقته (كمخرج) حداثوي خلاق، منجزه الفني حقول كمية هي الاقرب الى معادلات اشتغلت لتحقيق مركب فني مبهر لمعادل خلق ابداعي، تجربته الاخراجية الممتدة الى اكثر من نصف قرن اشتغلت ضمن مستويات الطاقة للمركب (الفني – العرض) والتي اشتغلت ضمن قراءات التحليل لماهية العرض كمركب يحدد البلاستيكا التشكيلية كخطاب جمالي، كشكل حسي للعرض وهو انشائيات الوحدة السينوغرافية في فيزيائية العرض بصرياً .
طاقة الرمز الكبير سامي عبد الحميد تحركت ضمن مستويات المركب الادائي، فكان ممثلاً كبيراً ممثلاً استثنائياً وكانت طاقته الادائية انشاءً فضائياً مركباً، فكان اداؤه لشخصية، لير، والتي استقبلها الجمهور تصفيقاً لمدة اكثر من خمس واربعين دقيقة، كان ساحراً في أدائه للخال فاينا والشقيقات الثلاث، واغنية التم والمتنبي. كانت قراءاته كممثل قراءة تحليلية جديدة في اسلوبية الاداء كان اشبه  بالساحر اشبه بالمهندس المعماري اشبه بالروائي بالشاعر بالتشكيلي بالموسيقي، ادائه كان فيضاً من الطاقة لرؤيا جديدة للمكون الادائي بتداخل الموجات الصوتية والجسدية ليصل إلى طاقة الفكر إلى النشوة الجمالية إلى أبعد حدود الطاقة لتحقيق حالة الانبهار في كل لحظات الاداء. 
أداؤه كان يمتلك كل الجزيئيات وتفاصيلها كان الممثل المفكر الذي يمتلك فلسفة وفسلجة الجسد بكل جزيئياته وتفاصيله، ان يفكر ومن خلاله أن يكون تفكيره آنياً تنبعث منه الحرارة المتحركة والمتغيرة باستمرار، هذا الاداء ليس فعلاً داخلياً انما هو شيء يمكن أن تتحسسه وتراه عن قرب، كما يمكن أن نحس حرارة انفعالاته المصمّمة بقصدية مركزة مثل هذا المركب الأدائي ليس سهلاً، لأنه يركز على وجود الممثل المفكر التشكيلي الذي يرسم الجسد وطاقة الموج الأدائي كما في مسرحية لير والشقيقات الثلاث والخال نانيا، سامي عبد الحميد رسم اداء الممثل الحر المتحرر من خوفه.
الكبير سامي عبد الحميد ظاهرة من الصعوبة أن تتكرر، لأنها تحتاج آزمنة، انه الطاقة الخالدة كطاقة تلك الموجات الخالدة، انه المفكر والباحث والمترجم والاكاديمي والممثل والمخرج، إنه الأب الروحي لكل الأجيال، انه طاقة الحداثة وطاقة التجريب، انه الموج المشعّ، سامي عبد الحميد المفتاح الذهبي لمسرحنا العراقي.

-----------------------------------------------
المصدر : جريدة المدى 


تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption