'مغامرة رأس المملوك جابر' تكشف خبايا الصراع على السلطة
مجلة الفنون المسرحية
'مغامرة رأس المملوك جابر' تكشف خبايا الصراع على السلطة
شريف الشافعي
يحفل المسرح السياسي العربي بقضايا مصيرية تخص حياة المواطنين وعلاقة الشعوب بالحكام، كما يكشف هذا المسرح في جانب منه خبايا الصراع الدامي على كراسي السلطة، ويفضح انتهازية المتملقين والوصوليين، ويزيل أوراق التوت معرّيا سلبية الكثيرين ممن يحترفون الثرثرة ولا يملكون الفعل، وعلى رأسهم النخبة ومثقفو الصالونات.
“مغامرة رأس المملوك جابر”، مسرحية سياسية جادة تبرز جنون السلطة وانسحاق الشعب، كتبها السوري الراحل سعدالله ونوس (1941-1997) منذ سبعة وأربعين عاما بعد نكسة 1967، وشهدتها القاهرة منذ أيام قليلة بملامح ونكهات مصرية حديثة، حيث قدمتها فرقة كلية الآداب بجامعة القاهرة على مسرح ميامي، ضمن فعاليات “المهرجان القومي العاشر للمسرح” المنعقد بمشاركة 36 فرقة خلال الفترة من 13 إلى 27 يوليو الجاري.
“أن يبيع الإنسان رأسه مقابل مصلحته”، مدخل مفتاحي لقراءة مسرحية سعدالله ونوس، التي أعدها وأخرجها للعرض القاهري الجديد مصطفى طه، وألف موسيقاها عمرو عبدالحكيم، وصمم ديكورها حسن نبيل، وشارك في بطولتها كل من أحمد مصطفى كامل وسعيد سمير وعمرو سامي ويوسف علي ودنيا عبود وسارة عثمان وغيرهم.
بيع الرأس والأفكار
يدور الحدث الأساسي للمسرحية الذي يرويه “الحكواتي” لزبائن المقهى في بغداد القديمة، حيث يتعمق الخلاف بين الخليفة الحاكم وكبير وزرائه الذي يفكر في الانشقاق عنه، ويحاول الوزير الاستعانة بملك العجم ليمده بجيش خارجي ليتمكن من العرش.
يُحسن المسرح العربي تصوير الصراعات المتصاعدة، خصوصا المجتلبة من التاريخ، مُسقطا أحداثها وتفاصيلها على ما يجري على أرض الواقع من تكرار للمآسي ذاتها
وفي صراعهما المحموم على السلطة يغلّب الخليفة والوزير مصالحهما الشخصية متناسيين تماما أن هناك شعبا له حقوق ومطالب، حيث يقولان “يكفي التلويح للشعب بالعصا لكي يرتدع”، ويستكين الشعب بالفعل ولا يصدر منه صوت اعتراض، ويظل مستسلما لكل صنوف القهر وكافة مذاقات الحرمان، ويعبر أحد أفراد الرعية في المسرحية “اللي يتجوز أمنا نقول له يا عمنا”، وهي إحدى العبارات التي أدخلها معد المسرحية كـ”قفشات مرحة” بالعامية المصرية ولم تكن في النص الأصلي لمسرحية ونوس.
ويزداد الصراع يوما بعد يوم بين القطبين: الخليفة والوزير، ولا يجرؤ أحد من الرعية على الخوض في تفاصيل الخلاف بينهما، وهنا تبدأ خيوط سيناريو “بيع الرأس” في التشكل، إذ يرغب الوزير في إرسال رسالة إلى ملك العجم للاستعانة به وبجيوشه لإزاحة الخليفة، وفي ظل إجراءات التفتيش المشددة على كل خارج من المدينة “حتى الهواء، لا يكاد يمر من بين أيدي الجنود”، يقترح المملوك الانتهازي جابر على الوزير الخائن حلا عجيبا، هو أن يمنحه رأسه كي يكتب عليه رسالته بعد حلق شعره، ثم ينتظر فترة حتى ينمو شعره من جديد فيخرج من المدينة آمنا، ليصل إلى ملك العجم بالرسالة التي سيكون من الممكن قراءتها بسهولة عندما يحلق شعره من جديد.
والمملوك جابر، كما يصوره سعدالله ونوس، ومثلما يشخّصه العرض المصري: شاب تجاوز الخامسة والعشرين من عمره، معتدل القامة، شديد الحيوية، يمتاز بملامح دقيقة وذكية، وفي عينيه يتراءى بريق نفاذ يوحي بالفطنة والذكاء.
وتنجح الخطة، ويقرأ ملك العجم رسالة الوزير المنحوتة على رأس المملوك جابر الذي كان يطمع في أن يكافئه الوزير بمنحه كيسا من الذهب ومكانة مرموقة في المجتمع وتزويجه الجارية زمرّد بعد تحريرها، لكن شيئا من ذلك لم يحدث بطبيعة الحال، فالوزير كتب على رأس المملوك جابر في نهاية رسالته لملك العجم حاشية صغيرة “لكي يظل الأمر سرا بيننا، اقتل حامل الرسالة من غير إطالة”.
وهكذا تُبرز مسرحية “مغامرة رأس المملوك جابر” أن الموت هو الجزاء الوحيد الذي تمنحه السلطة الغاشمة لأبناء الشعب، مهما كانت انتماءاتهم وتباينت حظوظهم من الوعي والثقافة واختلفت أفعالهم بين صون الكرامة أو بذل الدناءة، فما يعيشه المواطنون المقهورون على الأرض يشبه ما يسمعونه من الحكواتي، ولا أحد يقدر على تغيير الواقع مثلما أن أحداث التاريخ لا يمكن تعديلها، أما النخبة والمثقفون، على وجه التحديد، فمن الكلام تبتدئ رحلتهم الدائرية وإليه تنتهي.
ويترحم زبائن المقهى على زمن “الظاهر بيبرس” ويطلبون سماع سيرته المليئة بالبطولات والانتصارات والأمان والعز والازدهار، لكن الحكواتي الذي يدور بالمقهى يرفض قراءة سيرة بيبرس، لأن “دور الظاهر لم يأتِ بعد، ولم يحن بعد الزمن الذي يغلب فيه الحق الباطل وينتصر العدل على الظلم”.
ثم يشرع الحكواتي في تلاوة سيرة الاضطراب والفوضى والهم “كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، خليفة في بغداد يدعى شعبان المنتصر بالله، وله وزير يقال له محمد العبدلي، وكان العصر كالبحر الهائج لا يستقر على وضع والناس فيه يبدون وكأنهم في التيه يبيتون على حال ويستيقظون على حال، تعبوا من كثرة ما شاهدوا من تقلبات وما تعاقب عليهم من أحداث، تنفجر من حولهم الأوضاع فلا يعرفون لماذا انفجرت، ثم تهدأ حينا من الزمن فلا يعرفون لماذا هدأت، يتفرجون على ما يجري، لكنهم لا يتدخلون فيما يجري”.
تمصير المفردات
تمصير مسرحية “مغامرة رأس المملوك جابر”، لم يكن باللعب في القصة الأساسية ولا الحدث التاريخي في نص السوري سعدالله ونوس، لكن بإدخال مفردات وعبارات، كوميدية أحيانا، بالعامية المصرية، على أحاديث زبائن المقهى والحكواتي، وأبرز الشخوص: المملوك جابر، الخليفة، الوزير والمملوك منصور، ومثل هذه الإضافات جاءت مقحمة لابتعادها عن النسق اللغوي للعرض وعن الطقس النفسي السائد بجديته وقتامته.
واقتصر العرض المصري على تقديم الحدث التاريخي المحوري بمسرحية ونوس (واقعة كتابة الرسالة على رأس المملوك جابر التي تنتهي بقتله)، في حين لم يتعمق العرض التعمق الكافي في بقية الشخوص الذين قدمهم كمجرد مسامرين لجابر، ومنهم المملوك منصور، صديق جابر، ذو الخامسة والثلاثين، و”صاحب القامة القصيرة والبنية القوية والملامح التي تشف عن وداعة وطيبة”، كما في مسرحية ونوس.
المملوك جابر، كما يصوره سعدالله ونوس، ومثلما يشخّصه العرض المصري: شاب تجاوز الخامسة والعشرين من عمره، معتدل القامة، شديد الحيوية، يمتاز بملامح دقيقة وذكية
هذا المملوك منصور يشكل ملمحا شديد الخصوصية في النص الأصلي لمسرحية ونوس، فهو رمز المثقفين في ذلك العصر الذي دارت فيه المسرحية وفي عصور أخرى لاحقة بالتأكيد، حيث القدرة على فهم وتحليل الأمور، لكن بقدر من التعالي على البسطاء والعاديين والتكاسل عن تقديم أية مبادرة إيجابية على أرض الواقع، الأمر الذي يهدر كل فرص النجاة أمام الشعب القابع في ظلام الجهل والفقر وقلة الحيلة.
على هذا النحو الذي فصّله سعدالله ونوس في مسرحيته وأهمله عرض فرقة كلية الآداب المصرية، يبدو رأس مثل هذا المثقف معادلا لرأس المملوك جابر، فكلاهما مبتور في الحياة ومقطوع بعد الممات، وكلاهما رأس لا يعمل لصالح الشعب، وكلاهما تمكنت السلطة من تحييده واحتوائه ثم القضاء عليه في النهاية.
“مغامرة رأس المملوك جابر” هي مغامرة مسرحية أيضا بامتياز، حيث الثيمة الجديدة التي يتماهى فيها رواد المقهى مع جمهور المسرحية، في حين يأتي الحدث الدرامي من الخلفية التاريخية التي يرسمها الحكواتي لبغداد القديمة وخليفتها ووزيرها ومماليكها وشعبها، وتقود هذه الآليات إلى لعبة اجتذاب الجمهور إلى قلب الحدث ليشارك فيه بشكل تفاعلي، ثم تطغى ألاعيب السياسة على المشهد تدريجيا، ومع تلاحق الأنفاس تفرض بغداد القديمة نفسها عنوانا لمدن العرب الراهنة، وما أكثرها.
ويُحسن المسرح العربي تصوير الصراعات المتصاعدة، خصوصا المجتلبة من التاريخ، مُسقطا أحداثها وتفاصيلها على ما يجري على أرض الواقع من تكرار للمآسي ذاتها، إذ تبدو العلاقة بين الشعوب العربية والحكام بمثابة مأساة وملهاة في الآن ذاته، يشاهدونها صامتين على طول الخط ويكتفون بأن يضربوا كفًّا بكف عند كل زلزلة أو بركان، وتبقى الحال على ما هي عليه، أو تزداد سوءا.
-------------------------------------------
المصدر : جريدة العرب