المغامرة والابداع في صوامت الأنباري
مجلة الفنون المسرحية
المغامرة والابداع في صوامت الأنباري
هاشم مطر
في مغامرة صحبته إلى تقديم نمط درامي مختلف، نبدأ معه من دون تقديم لمشروعه، فآثرنا متابعته ضمنياً في سياق معرفي يكشف عن نفسه تباعاً، ذلك ضمانة في السماح لعنوانين: الأول هو التعرّف على مشروع الأنباري الصامت، والثاني: جدوى شكل المشروع ومحتواه وتأثيره على القارئ/ المشاهد، وعلى ذلك سنلغي سلّم أولياتنا ونبدأ بما يقول الأنباري شخصياً عن مشروعه من حيث التجنيس على نحو خاص.
يقول الأنباري: كنت أبحث على الدوام عن جنس يصهر كلَّ هذه الأجناس في بوتقة واحدة ثم يصاهر بينها وبين اهتماماتي الأخرى في الإخراج المسرحي، وفي الموسيقى، والتصوير، والاكروباتيك. ص٢١. (1)
ترى كيف بحث وسعى الأنباري إلى مهمته، وكيف جمع وحداتها التي تبدو متناقضة بين إخراج وموسيقى وتصوير واكروباتيك، وتلك هي مؤهلاته التي امتلكها على مدى عقود من عمره حتى انتهى به الأمر إلى منجز عملي مقرون بالنظرية مما منح جهده مصداقية، بل وضع واقعيتها المقرونة بالتنفيذ من جهتي النص والخشبة، وهذا ما ينهي الجدل بأن الصوامت نتاج غير مرن، أو لا يمكن أن يعطي ضخه تلك القوة التي نجدها في باقي الفنون.
في الصفحات الستين الأولى من كتابه "المجموعة المسرحية الكاملة" الصادرة عن "منشورات ضفاف" 2017 يقدم الكاتب فكرة عن الصوامت باعتبارها الوريث الشرعي والأبن البار للـ "Pantomime" بصفة ناقد ذاتي لنصه مع نقود وشهادات لأساتذة مختصين، محاولاً إلى حد بعيد تسهيل مهمة القارئ في الدخول إلى هذا الحقل الجديد. فطالما تعلق الأمر بالابتكار فإننا سنسعى كذلك إلى بعض الكشوفات المرافقة عن قرب وبعد، وتناص وعزلة، عن كيفية النظر للنسيج الرابط الممعن بالتلاقح لإنتاج مضمون وشكل جديد لفن محدد قائم بذاته، منتم إلى المسرح على وجه الخصوص.
سنفترض أولا، وهذا ما سيعقّد مهمتنا، أن المضامين هي بنية مسرحية أراد لها أن تأخذ شكل الصمت حسب، فما الجديد بالأمر لو أنها كانت صائتة علـى غرار العمل المسرحي المألوف، وحتى لو كانت، فما هو الدافع لهذا الفصل الذي يعقّد الأمر على المتلقي بحيث يجعله في حيرة من أمره كيف يفسّر الحركة والأداء من دون كلام، سيّما أن المستهدف هنا هو المشاهد حصرياً، وبدرجة مماثلة قارئ النص فكيف سيفهم الحركة التي رسمها الكاتب.
ولعل من المهم وهي بادئة الكاتب هو (تجنيس النص) بمعنى قامته وحدودها أي جغرافيته، والجغرافيا هنا ليست الحدود فحسب إنما موقعها من بقية الفنون ودرجة تأثيرها وتأثرها، ثم ما تسديه معرفياً وتاريخياً على حركة المجتمع في سياقاته المختلفة. سنخالف الكاتب نظريته حتى يتم لها الانتصار الفعلي على عنادنا، فـ "البانتومايم" حسب الكاتب «يقدم نفسه كحاضن لأفعال حركية تختزن طاقات تعبيرية وإيحائية لا يستهان بها». ص١١، (2) ومن هنا يذهب الأنباري إلى ما وصفه «أن يقول (المؤلف) نصه للممثل». أما استزادته في مشروعه الصامت فيمكن تسهيلها إلى أبعد من ذلك بما اسميه (سؤال الحكاية) أي بمعنى أن يسأل الكاتب حكايته أي يقدمها على نحو أسئلة فحسب، وهذا هو بالذات الاجتراح المعرفي للفكرة أو المشروع الذي سيفاجئه القارئ بتساؤلات غير متناهية، ومخرج النص بتداعيات حركية مشبعة من جانبها الإيحائي وإلى ما تنتهي إليه الأفعال من أسئلة باهرة كانت قبل قليل مضبّبة أو معتمة. وهذه لحظة الانتصار الأولى الهامة لمشروع الأنباري، وسنحاول إسقاطها بشواهد من النصوص لاحقا.
رب سائل يسأل كيف تُسأل الحكاية؟ ذهب علي إلى السوق راكبا دراجته، وانتهى الأمر!
نعم هي تلك الأدوات البسيطة التي نستهين بها، كيف ومتى ولماذا.. الخ.. فهي بمثابة الاستنطاق الحسي (للحركة الفعل)، فلا نعرف على وجه الدقة كيف ذهب علي إلى السوق وماذا واجهه في الطريق وكيف انتهى المطاف به إلى هناك... وهكذا عشرات بل مئات الأسئلة التي تحتوي الحالة لكي توصل حركية العلاقة، حتى بين الوسيلة المستخدمة وهي (الدراجة)، وبين غاية الذهاب إلى السوق وكيف انتهت، أو إذا انتهت فعلياً أم أن علاقتها الوجودية لا تزال قادحة في الذهن. إذن نحن أمام المحاولة كمفهوم، فكيف نفهمها؟ وما زلنا في نفس المثال، الدراجة التي ركبها علي، فهل كانت على مستوى من الجودة ورشاقة الحركة ليستطيع عليٌ بمهارته أن ينجز مهمته، وإذا ما كان هو نفسه ماهراً فعلا في ريادتها؟ هذا على المستوى المبتدأ، ثم ماذا عن الطريق هل كان سالكاً وسهلا؟، ثم عن الحالة التي احتوت رحلته، ومن ثم العناصر التي احتكَّ بها لإنجاز مهمته من بشر وأشياء، وأخيراً العوامل المحيطة، الطبيعية والطارئة منها. إذن نحن أمام حالة تهددها مخاطر كثيرة، وهنا بالذات يكون مسعى الأنباري، عناداً ومثابرة، لعدم لصق صفة الفشل على المنجز. ترى كيف استطاع ذلك؟
وإذا ما كانت فكرة "تجنيس النص" هي شاغل الكاتب الأول باعتبار أن الحكاية سترتكز عليها أولا، بحيث يكون حسب الأنباري تأهيلاً «لتكون (الحكاية) قابلة للقراءة كخطاب أدبي فضلاً عن كونها جنساَ فنياً يعمل على زحزحة الأجناس الأخرى ليحتل رقعة واسعة ومتميزة»، فلا بد إذن من امتلاكها جميع مؤهلات الجنس الإبداعي وآنذاك لا تزحزح الأجناس الأخرى، إلا رمزياً، وإنما تبتدع لها مكاناً خاصا بين الأجناس. وبذلك وضع الناقد علي مزاحم عباس في نقده للمشروع حقيقة (الإنسان يعقل بصريا أكثر مما يعقل سمعياً) (3) نستخدمها هنا على صيغة تساؤل بإضافة (هل)، فتكون: هل (يعقل الإنسان بصريا أكثر مما يعقل سمعياً). فالعين هي الثابت الحسي الوحيد المقرون بمشاهدة الأشياء، وأكاد أجزم علميا بأنها توصل الإيعاز إلى المركز العصبي الحسي بأكثر من غيرها من الحواس. ومع المسح التاريخي للحالة يخلص الكاتب إلى «إن للعين إمكانية على عقلنة الأحداث أكثر بكثير من الأذن... وتتحول صورها إلى مضامين يقينية»، ثم يجنح إلى إحداثيات (البانتومايم) المعاصرة لمبدعين كبار مثل (Marcel Marceau) و (Jean-Louis Barrault) في التحام العناصر المؤثرة بطاقتها البصرية، وأن ينزل مارسو «الكلمة المنطوقة عن عرشها ليأخذ الصمت تلك القوة الآسرة مكانها...» ولكن ماذا عن بقية الحواس فـ «الأذن تعشق قبل العين أحيانا»، سنأتي على هذا العامل بعد قليل، أما الآن فلسنا في الواجب الصرفي للحواس، فمع التوسع الكبير بشرح الكلام كمنتج إنساني بحيث يقرب أن يكون اختزالاً للبنية السيمائية والدلالية، فكما نعرف أن عقل الإنسان المجرد هو (جاهل) ومحدود الأداء بحيث يكون الكلام فيه على نحو مسار فرادي single trak بمعنى كلمة ملحقة بأخرى في حين تكون مجريات الواقع حولنا تحدث كلها مجتمعة مرة واحدة، وبذلك كان لا بد من وجود معالجة أخرى تتطابق وتتلاحق مع الموجودات، حتى الحلمية منها، فما أنْ تفتح عينيك حتى تتدفق الصور والمسموعات والحسِّيات كلّها في آن واحد، فلا تستطيع إيقاف المعلومات الداخلة وتقول: توقف يا سمعي (توقف) إنني أنظر الآن أو العكس، ولا تستطيع منع الاستدراك الحسي والمعالجة الذهنية (الرد فعلية) كأن تتأثر بصورة أو قراءة أو مشاهدة مقطع أسرك في فليم أو مشاهدة ما، ولا قطعك الانطباع بنزول الثلج أو شروق الشمس...، وبإمكانك الاستزادة على ذلك بعدد لا محدود من الأمثلة.
نخلص إذن إلى الجواب الذي مكّن الأنباري، حسب ما قاله في تبيانه للمشروع، أن «يصهر كلّ هذه الأنواع في بوتقة واحدة»، ولكن ما هي تلك البوتقة؟ إنها مكان الاستدراك الداخلي للفهم؛ والربط؛ وردود الفعل الـ subconscious العقل الداخلي او اللاوعي، وهو ما توصل إليه الأستاذ عباس ببعض منه «أن ينزل مارسو «الكلمة المنطوقة عن عرشها ليأخذ الصمت تلك القوة الآسرة مكانها...» (4) وبهذا تصبح المهمة أعقد مما نتصور. فكيف يكون للصمت كل تلك الطاقة التجميعية لإنتاج المضمون..
في متابعاتي للمدارس النقدية اكتشفت - وهذا ليس اكتشافا حصريا- إن المدارس تنتج مدارس حسب، وهذا مفيد قطعا برغم المآخذ، وهو ليس موضوعنا على كل حال، ولكن عندما نحيل المعرفة للاستخدام اليومي فلا ينطبق ذلك على الفعل الذهني بمعنى كمن يكتب اللحن ويطلب له الكلمات. إذن هو الشروع نحو الهدف وهو استخدام (اللحظة) لحظة التأمل contemplating التي أطلق عليها الأنباري بـ (الضجيج) في العقل الباطني، لحظة التوقف غير المحسوسة، اللحظة التي تحسسنا بأن هناك شيئا ما سيحصل فنكون بانتظاره، لكننا هنا لا ننتظره بقدر ما نسعى إليه، ربما يعزيه البعض لقوى خارقة خارجة عن المكان والزمان (الفضاء)، لكنه في واقع الحال هو القدرة التخيلية لإنتاج المضمون الجديد.. ولكن لماذا هذا الصهر في جنس واحد وليست أجناسا قائمة بذاتها.. فكما أسلفنا إن موجودات الحياة تحدث مرة واحدة فلا بد للذهن من إطلاق تساؤلات تتركه في فكرة (التقدم/الشروع) فلا سبيل سوى استنطاق الجواب آنذاك.. وبذلك تكون جميع الفنون بمثابة استنطاق باحثة عن جواب، وبذلك نفهم تعدديتها. والسؤال: هل المونودراما التعاقبية واحدة منها أو آخرها؟ نعم واحدة منها ووريثة لها ولكن ليست آخرها قطعا، ذلك لدخولها حيز السؤال والاستيلاد المعرفي الذي ينسلخ بطريقة وأخرى من بنى مؤهلة للولادة أصلا، لكنه مشمول بقوانين ستختلف كثيرا، ويكون تنفسه الطبيعي غير مناخ الفنون الأخرى حصرا. وبهذا نسجل انتصار الأنباري علينا في هذا الحيز. ونستمر.
ولكن: ما هو العامل الاختراقي؟ تحيلنا التجارب إلى وجود عامل وحيد يفضي إلى ممر وحيد إلى الاستحداث أو الخلق، بحيث يكون الإصرار هو الوقود والدافع لكل شيء ونحو أي شيء، وهو الإرادة المتصلة بالمغامرة، بعد أن كان الأمر قبل قليل خياليا/حلميا، فما إن نضع الأساس المعرفي للمشروع حتى نجد عددا من القوانين قد خضعت واستحالت إلى عوامل مساعدة، وحال إدراكنا بأن لا نتعارض مع ميكانزم الوجود الإنساني الذاهب للخلق والإبداع، نكون قد وقفنا على هضبة هادئة متأملة لما سبق وما يحيط وما سيحدث.. فهل كانت الصوامت من هذه البيئة؟ أظن أن الجواب واف في هذا الحيز، فمثلما يصهر الذهن عددا غير محدود من الأسئلة والصور في لمحة بصرية واحدة، كذلك يصهر الجنس الأدبي عددا غير محدود من عناصر الإبداع ولا يزال يبحث عن جديد مع اختلاف الظواهر وفيض الأسئلة.
استخدم الكاتب جملته الفعلية، في رسم الحركة، من أجل إصدار الصوت الصامت بصفته الشعورية الخلابة، والخلابة هنا صفة للّوحة التي رسمها وأظهر ملامحَها المخرج وعمق الإحساس بها الممثل، فإن لم تكن خلابة فلا نحسن استخدام المفردة بأي حال من الأحوال. وإن لم تنتقل حركيتها إلى القارئ أو المشاهد فأننا سنُسم الجملة وحركتها بالفشل. فلا أهمية لكل ما قيل نظريا. وأنا مع الشك وسأقاوم به جدوى مشروع الأنباري حتى النهاية لنصل إلى واقيته وحقيقته. ومن ثم نضع تقييمنا للمنجز. فإن كنت معي قارئي العزيز عليك بالحلم وصبرك قليلا.
وعليه ليس جديرا بنا أن نضع الصوامت على الرف للقراءة الماتعة، سيما أنها لم تأت كوحدات متناثرة لشغل فراغ ما، وإنما أغلب الظن أنها ألّحت على صاحب المشروع أن تنبض بنفَسٍ مغاير إلى حد ما سنكتشفه بعد قليل. يقول الأنباري بروحية الناقد في بحثه «عن ماهية الحبكة في النصوص الإيمائية الصامتة التي تعتمد على الفعل المرسوم بواسطة الحركة التي يشكلها الجسد بصورة مرئية (مُحفزة) من فعل محبوك»، الأمر الذي مكن الإيماء/ الصامت من تنزيل تسلسل الأحداث درامياً، بحيث كان بإمكانها أن تمتلك القيمة ذاتها، فيما لو كانت صائتة، وبصياغة اكثر وضوحاً، إذا ما كان بإمكان تلك القيمة أن تنتج قيمة دلالية أكثر وضوحاً لإنتاج العلاقة التعاقبية بشكلها الصامت. كلّ ذلك من بيئة حداثية محضة منبثقة من الخيال ومصطفة مع الواقع «ابتكرت لها لغة تميزت بتوصيف الأفعال واستبعاد الأقوال...» (5) فاقترنت باللغة من جانب حركيتها، وبكلام آخر: الفعل مقابل الحركة، حتى السكون تسكنه حركة فيزيائية دائبة، شغلت الأنباري على الأغلب في نشاطه التركيبي بين الفعل والحركة والصمت اللائذ بالصوت المخفي على نحو صوري متعاقب بآلاف الصور كما أسلفنا قبل قليل ووعدنا باستيضاحه. وحالما تعرضنا للصمت فمن البداهة أن يقفز الفراغ بصورة من الصور حاملاً إمكانية استيلاد شخصيات أخرى متخيّلة من معطف الشخصيتين/الشخصيات المتعاقبة أو من نقائضها، أو حتى من فسحة الفراغ ما بينها. والسؤال: هل في ذلك خرق لقانون التعاقبية المركزي (الوحدانية) وماذا يحصل لو جرى ذلك؟ نقول:
كما تقوم اللغة بتشغيل إمكانياتها البينية، تقوم الحركة بذات الفعل.. ولكننا نريد الأكثر من الحركة هنا، لماذا؟ ذلك أن الفعل الدرامي المبني على الكلام يستخدم الحركة أيضا، إذن على الصامت أن يقوم بفعل حركي أكبر بكثير مما هو منجز في ذهنية الكاتب حتى، بحيث يكون النصُ ولّاداً لتعاقبيات أخرى كمن ينظر إلى مرآة وخلفه مرآة أخرى، وهو بذلك يستولد من الفراغ والصمت معا قيمة حركية kinesthetic دائبة، بحيث يتم استيلاد المَشاهِد المفترضة على نحو غير محدود في ذهنية المتلقي كممارس تاريخي/ يومي للتجربة على النحو التالي.
التجربة
أليس حرياً بنا أن نجرب محاولات ربما ستكون مجدية، مع الحفاظ على الأنساق التقليدية والكلاسيكية المختبرة والناجزة بأي حال من الأحوال، وهل هذا ما يجعل مشجعي تلك الفنون التي اقتربت من نسخ نفسها بشكل أو بآخر بأن تضع عوامل نجاحها في تجربة أخرى جديدة في نوعها؟ أظن أن مخيلة الأنباري كانت تسكنها أسئلة من هذا النوع وهو يتقدم بخطاه القصيرة نحو مشروع يجازف فيه بكل نجاحه الشخصي كمثقف متنوع. فكما يقول المثل إنه يضع كامل منجزه (على كف عفريت)، ولكن هل كان عفريته مخلصاً لنزعاته، بل وأميناً عليها، وبذلك استحقت المغامرة خوضها للنهاية؟ يقول الكاتب «ذات ليلة هادئة خطرت لي فكرة المجازفة كخطاب درامي...» (6)
لماذا؟ في مراجعة، حتى لو كانت سريعة، لمقدمة الكتاب، والكثير ما كتبه الأنباري من مقالات وآراء، والكثير من المختصين ممن تناول تجربته وأثنى على حماسه، يكون بإمكاننا وصف مغامرته بالمحسوبة وليست الطائشة التي ستذهب بالمنجز. وها نحن نقوم بفك عقد نصوصه على وفق نفس المفاهيم التي ابتدعها لنرى مضاءها وآثارها حينما تخضع للتجربة وهي الكتابة أولا، واعتلاءها الخشبة بالمرتبة الثانية، أما المرتبة الثالثة وهي الأهم بتقديرنا ما أضافته لعالم المسرح كتنظير وأداء، وفي نهاية المطاف اختزال كل ذلك بردة فعل القارئ والمشاهد مع إمكانية استيلاد شخصيات متعاقبة أو غير متعاقبة مفترضة في ذهنه، لا يهم إن كانت واقعية أم استمرارا على نحو استدامة.
ولكن هل يعني أن نضع هذا الإنجاز معلقاً وكأنه تحفة من التحف؟ سيما أن صباح الأنباري يقول عن أصحاب المساهمات: «ظل نتاجهم أسير الخشبة فقط؛ ولم يجنس أدبياً...» (7) مقرنا هذا بالمسرحية الوحيدة المترجمة لصموئيل بيكت (فصل بلا كلمات) التي كتبت «بدافع التجريب»، مستهدفا فيها خواء العالم وجبروته الزائف الممعن بالحرمان والاستهتار الأرضي وبمباركة أو مساومة سماوية، بحيث تجتمع جميع القوى لاستلاب الإنسان.
في كتابه الاقتصادي ... (Small is Beautiful) يذهب الاقتصادي الأمريكي E.F. Schumacher (8) إلى استنطاق النزعات المادية الاستهلاكية للمجتمع الرأسمالي بعظمته وجنونه، بحروبه وأزماته؛ إلى مدى امتهان الإنسان كقيمة وتوظيفها كأدوات لا معنى لها سوى إنتاج (النعيم الزائف) لعدد محدود من البشر. بتجنيس مشترك بين الاقتصادي والفكري الأدبي، بطبيعة الحال يضع حلوله. وعندما نقارن شواهد الماضي التي اعتمدها بيكت آنذاك نجد أن تماديها واستهتارها أصبح هائلا في عصر العولمة وما يطلق كذلك عن الحداثة وما بعدها، مع التوسع الرهيب (المتوحش) حسب ماركس.. ترى أليس حرياً أن يخز أو يثير صوت السؤال ذهنية الأدبي المبدع؟ هذا في البنية الوجودية، أما في بنيتها الإبداعية فلا بد من الاستنطاق أولا. وطالما نحن أمام عدد من النقائض بما فيها الإنسان المهزوم والتابع له، ومن ثم نقيضهما، فلا بد لنا إذن من التعاقب في توضيح بنى المخيلة الإنسانية بشقيها الإجرامية والطيبة، وإذا ما قدمنا الإجرامية على الطيبة فإن ذلك بسبب كم البؤس واللاجدوى والفيض الإجرامي، بالإضافة إلى الاستلاب الروحي للإنسانية، إذ يتساءل كتاب الأنباري عن ذلك من البداية «لماذا يحيا هؤلاء الناس»؟(9) وإذ ينهي الأستاذ بلاسم الضاحي استنتاجه عن الصفة والقدرة التجميعية لمسعى الأنباري كونها«...منتجا جديداً هدفه إثارة المتلقي جمالياً ودلاليا » (10) فلا يشفي غليلنا مع ذلك، حيث يبقى كل هذا في مجال الشك حتى يتم النطق الصامت بها في أمرين: قارئ النص، ومشاهد الخشبة. وهذا بالذات اشتراط الأنباري بقوله «الخروج من شرنقة البانتومايم...» واضعا حتى (الانثيالات الحلمية) تحت مبضع التجربة فوضع معادلته: الحلم-المخيال الدرامي- اليقظة، الذاهبة فيما بعد حسب قوله «...من شرنقة البانتومايم إلى رحبة الأدب المقروء» الموسومة بـ (الصامتة الجديدة)، فتكون آنذاك (القراءة الصامتة) قد أدت اشتراطها بفاعلية النص كـ(دعوة إلى الرؤية.. بالأذن) حسب الكاتب المسرحي الكبير الراحل محيي الدين زنكنة في كتابته عن صوامت الأنباري باعتبارها تدشينا لجنس جديد أسماه «المشاهدة عبر الأذن» (11)
وهنا نرى مع كل خطوة انزياحا تمثل بمراحله نحو التجنيس. وهنا تبدو المزاوجة ضرورية، بل على ما يبدو إجبارية، فجعلها الأنباري أداة اختراقية خرجت من الفكرة (الوجود الحلمي) نحو إرضاء الواقع مشبعاً بالحركة/الصمت، التناقض اللوني البصري، فالحس السمعي المشبع بحركية النص، فالحكاية قيلت واستنطقت وسئلت، على أساس اختراقي للجنس الأدبي الأول وهو القصة القصيرة ومن ثم الرواية، على نحو معشق ببعضه بعضاً، وهذا شرط خالص باستخدام المعرفة، كل ذلك على أساس تضافري كامل بين الأوجه الحسية التي تعامل معها الكاتب على نحو متناغم فيكون المتلقي بموقع كمن يسمع الموسيقى والقيام بحركات رياضية تنشيطية قبل ذهابه للعمل أو أي شروع بعمل مهم ما، ومع الإضافة السمعية تكون الصوامت قد اكتملت من أوجهها المختلفة واستحقت القول إنها تجربة متكاملة لم تزح الأجناس الأخرى وإنما ابتدعت، كما ذكرنا، مكانا مرموقا لها بين تلك الأجناس، بوظائف ثلاث: البصري visual، الحركي kinesthetic والسمعي auditory. وهنا نسمح لأنفسنا ببعض الاختلاف الذي ذهب به الأنباري إلى توصيف (الصوامت) من بنية لغوية باعتبار (المصمتة) حسب (لسان العرب) بأنها الساكنة التي لا تتكلم! لكنها في واقع التجربة هي تصرخ بالأسئلة على قاعدة تجنيس النص الذي انتهينا منه قبل قليل.
تقنيات التنفيذ
ندرج في هذا المبحث الوسائل الإخراجية المختزنة في ذهنية الكاتب لتسهيل العمل الإخراجي، أو بالأحرى لإيصال الفكرة/ الأفكار إلى حدودها الأبعد في ذهنية المشاهد. وفي هذا شيء من التعقيد. تحضرني وسائل صناعة الأفلام القديمة كالمدرعة بوتمكين، الطيور، هونكونج، وغيرها من الأفلام المنتجة بإمكانيات ضئيلة فيما لو قورنت بالنشاط التقني الحديث وخصوصاً دخول التكنولوجيا الرقمية، بحيث يصعب التفكير، إلى درجة الإستحالة، بأمر إخراجها في يومنا هذا بنفس الإمكانيات التي كانت متاحة آنذاك. وهنا نتساءل كيف سيكون شكلها لو كان وقتها تطور الصناعة وأدواتها كما في عصرنا هذا؟ الجواب سريعا لكانت هائلة!
أقول بالقطع لا!
نعود إلى القيمة التراكمية التساؤلية في البحث النظري، بحيث يخضعه الذهن لعالم الاختبار والتجربة ومن ثم نقله على صيغة وقائع مُشاهَدة أو حضور. يقول الكاتب الأمريكي انتوني روبنز «هناك أنماط متناسقة للأحداث، مسارات محددة للتميّز في داخلنا» (12) وهي الخاصة بإطلاق الطاقات الإبداعية المختبئة في ذهنية المبدع التي تؤدي إلى الابتكار، وهذا ما رأيناه في الأمثلة الفلمية السابقة. ولكن لماذا لم تستخدم في مشهد (بيكت) اليتيم عن البانتومايم؟ ذلك لعدم إطلاق القيمة التساؤلية وقتها، حتى قبل وقت قصير في التجريبية الغربية باستخدام العروض (المثلثة) نسبة للأبعاد الثلاثة، إضافة للصور الوهمية كانهيار جدار مثلاً أو إطلاق شلال مائي وغيرها، نضيف كذلك الرسوم متعددة الأبعاد التي يقوم بها الفنانون في رسومهم في الشوارع كرسم الحفر والأخاديد وغيرها من أنواع الرسوم البصرية المثيرة. وهنا السؤال هل يستطيع أي مخرج يستخدم التقنية، فقط، أن يقدم عرضا مثيرا ورائعاً؟ بالطبع لا لذلك سعى الأنباري إلى تفعيل الحالة الإخراجية الإبداعية لدى المخرج وتدخّل بالتصاميم الأولى للأفكار، بحيث جعل منفذ الابتكار أحاديا، كما قلنا، فأنت لا تستطيع إرغام عقلك على الجديد، ولكنك تستطيع ذلك بالتساؤل والكيفية التي ستفضي للإجابة عما يشغلك، حتى بالوسائل الفقيرة المتاحة. ولكن في حال امتلاك المخرج المبدع وسائط التجربة الحديثة فبالتأكيد سنحصل على رؤية بصرية تفوق الخيال. إذن نفهم آنذاك فكرة شرح المؤلف لعمله حكائيا كونه ليس تدخلاً بالقطع، وإنما مساهمة بارعة لإنتاج قيمة إخراجية مستحدثة في ذهنية المخرج، بحيث يستطيع المخرج نقلها مجتمعة إلى العين والجوانب الحسية الأخرى على درجة كافية من البراعة. كل ذلك يحدث في مصمت واحد، إنه مشهد رائع حسب، ونترك الصالة وما زال ذهننا تشغله تلك الأسئلة اللامتناهية التي قدمنا لها نظرياً في البداية في استنطاق العقل الباطن الذي يعيد إنتاجها على وفق عدد غير محدود من التعامل المشترك الصوري والسمعي والوجداني الحسي. وربما يستطيع أي مبدع آخر إحالتها إلى واقع عمله. فنياً نعم؛ وحتى إخراج عمله الروتيني اليومي من مصابه المزمن الموروث والمطبوع بالجمود وضعف الحركة.
في معرض تقديمه لكتاب الأنباري المنتخب (المجموعة المسرحية الكاملة) أمام تلامذته، بعد أن اختارها الأستاذ د. سيد علي إسماعيل (كمقرر دراسي لطلبة الدراسات العليا في جامعة طنطا) يقول إنها «...أسلوب جديد بالكتابة المسرحية نحو التجنيس... تجربة جديدة لم يكتبها غير الأنباري...» (13) وهنا تبرز التجربة أشد ما فيها جرأة وهو كتابة نص صامت، فمن المحتمل جدا أن يقوم أي ممثل بتقديم عرض صامت، لكننا الآن أمام تجربة من نوع آخر هو تقديم نص صامت مقروء يمتلك جميع مرتكزات القطعة الدرامية قابلة التنفيذ بنفس الوقت، وهذا بالذات شرط معرفي آخر يهتم بالتعشيق الفني للعناصر الإبداعية المختلفة، ومن دونه لا يفرض النص سلطته التجنيسية بل يبقى منتمياً لإحداها.
يبقى أمامنا مفصل واحد هو (التنظير والتطبيق)، لن نحاول شرحه، إنما سنحاول إثبات قدرته نصيا ببعض الأمثلة النصية/الكتابية التي أوردتها الصوامت.
النصوص الصوامت
حظي الجانب النظري الذي ابتكره الأنباري على اهتمام مناسب من قبل المعنين والنقاد الكفوئين، وإذ قمنا بسعي مناسب آنفاً لإثبات صلاحيته وجدواه، فلا بد من إقران مناسب أيضا على نحو عملي. وبذلك سنعتمد على (المقابلة) بمعنى الاجتراح اللغوي الصامت وما يقابله كفعل حركي، ليس على الخشبة، بل في البنية الدرامية الكتابية ذاتها.
يعتمد الأنباري في مشروعه برسم الحركة على فكرة (الأنساق) فلكل معلوم وجه غائب، كأن يكون للجمال وجه قبيح، أو للأبيض وجه أسود، والوجه الآخر للولادة هو الموت أو العكس... على واقع التجربة وكتابة النص تنفتح تلك الأنساق لتنتج قيماً تبادلية مفتوحة، فلم تعد المفاهيم تحمل مواصفات محددة، مثل الفقر، الإجرام، الضحايا.. الخ... وإنما مع اشتداد التركيب المشهدي والعلاقة التبادلية بين جميع أطراف شخصيات العمل: اللوحات، الفعل الفردي، ستنتج مفاهيم بمعانٍ مضافة وربما بعيدة كل البعد عن المعنى الأصل.. وهنا في هذه اللحظة بالذات تنتج الانساق نسقاً مفتوحاً غايته التغيير، يمكننا الآن وصفه بالتراكم الكيفي، فنحن لا ننتظر من أفعال الأنباري المشهدية قرارات آنية مطلقاً، كما لو أعطي العطشان شربة ماء وانتهى الأمر، لأنه سيعطش وسيطلب الماء مرة أخرى. إذن البحث عن الأنساق المفتوح هو هاجس الأنباري في صوامته التي سنستدل عليها تباعاً.
مسرحية طقوس صامتة
صرخة نسوية/ ظلام/ ناس مهرولون/ ملابس بيض وسود/ رجال نصف عراة/ آخرون بملابس زاهية/ إيقاعات/ رقص/ سيوف صدور ناهدة/ مقصلة/رقصة شيطانية، جسر/ طفل...الخ.. ما كل هذا (في مسرحية طقوس صامتة)؟ (14) هنا لابد من فهم حبكة النص كتسلسل درامي حدثي لنفهم ما يحدث.
تبدأ الحكاية بصرخة نسوية وعويل.. هي الفاجعة/ الاغتصاب.. تستولد الصرخة ناساً من كل صوب لتعميق فكرة الصرخة أو جدواها.. فيما يتعجب من الأمر الرجل صاحب (الملابس البيض) تعبيراً عن حسن النية وحتى البلاهة. ثم يبدأ الكاتب بتوصيف الحبكة/ الحدث بأثر رجعي ماذا حدث؟ هذه الانتقالة الاستفهامية جوهرية، ونعني بالجوهرية بمثابة (المشهد الأساس) في السيناريو فلا يمكن متابعة الحبكة من دونه. فتستولد الحكايات عدداً من الضحايا/ السبايا المغتصبات يقدمن أنفسن للمذبح، بالطبع مقروناً بالجلاد/ الجلادين حسب أهميتهم وأدوارهم. تتولد هنا من خلال الرمزية أسئلة كبيرة في البحث عن المنتج التعاقبي للرغبة بالإجرام العام والإجرام الذاتي وعدم رغبة الضحية بمفارقة مصيرها، بل الدفاع عنه، بما فيه صاحب الثياب السود الذي يستنسخ نفسه بنفسه بشبيهه بملابس سود كصفة للتناقض البشري. فيما يبقي على رمزية أوجدها منذ البداية تمثلت بالجسر كتعبير عن هجر الحالة الهذيانية المفعمة بالخراب من جانبيه المادي والروحي بمعنى المسخ الذي يطال الجميع، أما الطفل فهو التعبير الأمثل للصفاء الإنساني غير الملوث، فاستطاع الأنباري هنا الإفادة من أسئلته النظرية لمشروعه فجعل قوانينها طيعة أو العكس بحيث خضعت لإرادة الخلاص الذي تمثل بالطفل وهو يهجر الكل ويتخذ من الجسر معبرا لبداية أخرى.
حدث منذ الأزل
في مسرحيته حدث منذ الأزل نجد بقوة هذه النقائض المتصارعة، وعنوان المسرحية الصامتة (حدث منذ الأزل) يكشف عن ذلك.. ما أراده الأنباري في نصه هو تطور الصراع الجنيني من داخل تفاحة كبيرة لا تقبل، بعد اكتمال جنينها/ أجنتها، بالبقاء داخلها، فماذا يحدث؟ وكأن لوثة وجودية مشبعة بالجنون تغلف الكون الفسيح، بحيث يتم التماهي بين الصفير المُنذر وبين القداس أولا، ثم سرعة التعامل مع الذكر والأنثى بصفة الرجل والمرأة اتخذ شكله منذ اللحظة الأولى مصحوباً بالصراع الإنساني الاستحواذي غير المتكافئ، كإعانة من الكاتب، لتسهيل فهم الصراع الذي تنامى فأصبح جيوشاً، ما يقابله بالرفض للمهزوم الأعزل، ماعدا التجاوب العيني للشابة الأولى في مشهد حلمي مع نثار الموسيقى والرقص والزهور، وهما ضحيتان على كل حال، كل من طرف خصوصيته في نسقيته فيلتحمان بنسق واحد، نسق التماهي والرفض، مشمولان بالإعجاب والرقص والزهور، فيما يتسع الكم القمعي للطرف الأول الذي يعاد إلى رحمه (التفاحة) بإشارة بارعة للكاتب لدوران الرغبة والإمعان بالتعذيب والامتهان، بما في ذلك الشابتان الضحيتان/ السبيتان اللتان أخذتا إلى داخل التفاحة كذلك، في وقت آثر المخرج على تطوير شخصية الرجل الثاني (المهيمن) فتنمو باتجاه تاريخي على نحو جيش مطيع، مع إحساس مسبق بحس المؤامرة فيقتل عددا من مريديه. ومع الكثير من المشاهد البصرية الخادمة المفسرة لتنامي الحبكة، ينتهي الأمر بالجلاد، الرجل الثاني، بسمل عيني حبيبة الأول المفترضة كابتكار نوعي بزيادة الإجرام وحصة الألم، مع الإبقاء على فكرة المقاومة للأول قبل الختام المفتوح بصفة حبل المشنقة.
متوالية الدم الصماء
من الملاحظ ان هناك صفة غالبة في أدب الأنباري هي استخدام الخيال وتطويعه لفكرة واقعية حاضرة، على الأغلب تكون استبدادية محضة، ذلك ان مبحثه الأساس ينطوي على معالجة مجتمعية ابتلت بها مجتمعاتنا على مر العصور. وهنا الاستخدام الخيالي في النص الصامت يكون بمثابة اداة اساسية للكاتب، فنرى في جهد للأنباري مستويات فنية متخيلة يخرجها حسب اقتضاء الحالة. وهذه واحدة من ابتكارات الانباري والتي نراى حضورها في معظم نصوصه الصامتة. يستخدم الكاتب هنا فكرة النزول من السماء كتعبير عن ارادة حاسمة، هذا أولاً. ثم يستخدم الدم ويبتعد عن الجينية، بسبب الإبقاء على النص ضمن واقعيته، فتشابه الدماء معروفة من قبل الجميع حتى على نحو استعاري او تأويلي. أما حبكته الصامتة فهي تقوم على مبدأ الأقوى ضد القوي. نحن نقرأ التاريخ على نحو منجز نفتخر به حسب، أما بياناته الصامتة في كتب التاريخ القديم فلا نعرف عنها شيئاً، الا بالقدر اليسير او التأويلي الحسي فقط. لنأخذ مثالا على ذلك هو (حمورابي) الذي سن اول قوانين للبشرية، لكننا لا نعرف عن سطوته وجبروته وحتى عن احكامه في شريعته فيما يخص النساء والاعداء وغيرها. كذلك الحال بالنسبة لـ (ابو خذنصر) و(الفراعنة) وغيرهم.
بناءً على ذلك آثر الانباري أن يصف مشهده الأول في هذه المسرحية بطراز سومري، واحداثها زقّورة بصحبة كاهن. كل ذلك ليطبع نصه بالتوالي كذلك، فحاضرنا حلقة واحدة من سلسلة متعاقبة، أو متأثرة بسابقتها على أقل تقدير. بل يمكننا تأويل الأمر الى ابعد من ذلك، وكأن مستوى الإستبداد لا يقبل إلا بالخط البياني التصاعدي مهما اختلفت الحياة من حولنا. وهذا مثير للغاية بالنسبة للأنباري الذي شغلته الفكرة. أما متعلقات الأمر الخارجية التي اسداها الى المؤثر الفضائي الخارجي، فهو تعبير عن ارادة غير مستقلة بالمطلق، الا بالنزر اليسير من الأساسيات التي وضعها في الكاتب في كهنوتية وقوة شباب آخرين لم يستطيعوا سوى التفاخر فيجمدون بالفعل الخارجي القادم من الخارج، حتى تتم عملية نقل الدماء وحقنها بآخر فيكون الأقوى والأهم. غير ان تحولات النص تأتي تباعاً وكأن المنتج الجديد لا يفي بغرضه بعد حين، فيتم استبداله بآخر.
يبدأ النص حركيته بنزول ثلاثة رجال بملابس تشبه زي «...رجال الفضاء المعاصرين...» لهم قدرات اشبه بالخارقة، يستخدمون آلات تُجمّد حركة ستة شباب مغرورين من سكنة المعبد/الأرض. بعد توثيقهم على ستة اعمدة نازلة لهذا الغرض تتم عملية نقل دم معقدة بمتوالية شبه دائرية من الذراع الأيسر لمخلوق (فضائي) ضخم عملاق «يوثقونه على العمود السابع...» الى الذراع الأيمن لأول شاب، ومن ذراع الشاب الأيسر الى يمين الآخر... وهكذا تباعا على التوالي.
وما يهمنا هنا هو السؤآل: لماذا هذا التوالي؟
بتقديرنا اراد الانباري احكام فكرته ليس عن طريق نقل الدم وانما خلطه بحيث يصبح الشاب جاهزا للإستخدام وقت الحاجة، حيث المنتج الجديد يبقي على مواصفاته وليس غريبا بالمرة. أما عملية نقل الدم فهي وسيلة حسب لإظهار التركيبة الخارجية بما فيها اللوثة الإجرامية التقنية للقادم الخارجي، فهنا الحاكم سيكون من سكنة المعبد/الأرض ولكن بدماء ملوثة وقابل للإستبدال وقت الضرورة. وهذه هي القيمة الذكية للأنباري التي انتهى اليها «وقد صار الشبه بينهم وبين العملاق كبيرا...». بعد مغادرة القادمون الى الفضاء، ينتقل النص الى بعده الثاني، اسميه ارض+فضاء = أرض فقط. فاللوثة اصبحت جاهزة للإستخدام. أما تجليات الحبكة فقد تركزت على فكرة استبدال الحاكم الذي يستحكم بقوته وجبروته وانصبت في نص الأنباري، اضافة لما قلنا، على الإستهتار والاغتصاب، ومن ثم القتل حتى تأتي القوة الخارجية/الفضائية مرة أخرى فتستبدل الوجوه. ومع هذا التحول تكون فكرة النص قد اكتملت من دون اشارات مكملة لتبقي الكاتب على امكانية التأويل والإسقاط معاً في ذهنية اي متلقي قارئاً أم مشاهدا.
الالتحام في فضاءات الصمت
نلاحظ لدى الأنباري أن الصفة الإجرامية غالبة في نصوصه لكنها متطورة ومختلفة بعضها عن بعض، حتى نرى التدرج في هذا الجانب يأخذ منحى مختلفاً في مسرحية الالتحام في فضاءات الصمت فقد أصبحت الحياة مسكونة بهاجس القتل. ومهما قام القتيل من نعشه ووهبت له الحياة مجدداً فلن يعيد سوى إصراره على القتل الذي يبدو متأصلاً فيه بالرغم من أنه الضحية (بملابس بيض). أما قاتله (ظله) فلن يتوانى عن قتله اكثر من مرة.
حتى اصبحا متماثلين، تمثل في (رقصة القدر) لكلا القاتلين المقتولين بتناوب مثير، حتى يعزز الكاتب فكرته عن ذلك بنهوض الشابة القتيلة التي تحاول الإلتحام بالقتيل، لكنه يهرب منها، وبذلك إشارة الى أن دواعي القتل مختلفة، بالرغم من انها ضحية وتقوم بالرقص بنفس الرقصة، وكأن الأمر مفروغ منه فالكل قاتل والكل مقتول.
لا بد من الإشارة الى ان رمزية الصامتة مشغولة على نحو معقد بعض الشيء، وكأن في رآس الكاتب عددا من القصص المتشابهة آثر ان يجمعها في واحدة، فكان له ما أراد. نجد ذلك في تبدل هيئة الكهول بملابس عصرية مع هراوات كسلاح قديم، وادخال المرآة التي تطارد القتيل كوجه آخر له، واختلاف حالة الموت بين التعليق بأنشوطة واختيار المرأة الذهاب طواعية الى تابوتها، والاشد ايحاء هو مشهد اطلاق الرصاص من قبل القاتل للقتيل فتجمعهما صرخة واحدة، وهي صفة الإلتحام النهائي الذاهب لما خلف السؤال الذي سنأتي عليه.
أما التطور الرمزي للباعث الحقيقي فجعله بالمتغير النوعي، ونعود هنا إلى النمط السياقي، في الكهول المتبدلين في مظهرهم وأدواتهم من دون لوثة إجرامية واضحة، لكنها واضحة كذلك بأنهم الباعثون على الجريمة. وهنا نتوقف لنختار سؤالنا الذي نجهل بأي أداة استفهام نبدأ؟! وهذا بالذات ما أراد الأنباري أن يبهرنا به وهو أن الحبكة المبتكرة الناتجة عن فيض الإجرام وتعدديتها لا تسأل بأداة واحدة، فتجري الأنساق جميعها باتجاه أي جواب غائب، ناهيك عن النأي بفكرة السؤال الواحد الذي لا يفي بالكم الحسي التراكمي.
محاولة لاختراق الصمت
يتابع الأنباري تطور فكرته وهي فكرة الأنساق المتعددة للجريمة، فيحاول في نص (محاولة لاختراق الصمت) وهي المسرحية الصامتة التي قدم لها الأستاذ علي مزاحم عباس، بطريقة موجزة رائعة، يحاول الاستفاضة عن فكرة (اللعب) فرسم لها رقعة الشطرنج، فأنت تلعب كما أريد وباللعبة التي اختار، مقابل ذلك الموت، وحتى لو انتبذت السيف (آلة القتل) المتروك لك، وحتى لو قاومت وقتلت واحداً أو أكثر فستبقى محاصراً وأسير الرقعة ومصيرك تحتمه قواعد اللعبة. وهنا ينتفي السؤال: هل ترضى أم لا؟ ذلك لوجود منفذ واحد، هو ليس منفذاً على كل حال إنما الجلوس في واحد من المربعات الفارغة.
يحمل هذا النص مقداراً من الكآبة بحيث يُقتل فيه أي أمل بالخلاص، بما في ذلك قطع رأس الطفل ومقتل أمه، والجدران الوهمية المحكمة الضاغطة على صاحب الملابس البيض من أربع جهات، لكن الكاتب وضع تطور فكرة الرفض بصرخة «قوية مدوية ومؤثرة» فربما ستصل إلى آخرين، أو كدلالة استمرار المقاومة، إضافة إلى مستويات أخرى من الرفض والشجاعة في مواجهة مستويات القتل، عالجتها الفصول الصامتة.
هذا التعدد بالسيل الإجرامي تتكون فكرة أخرى اسميها (تأصيل الجرم) فهل يبقى الإجرام محكوماً فقط بالاكتساب أم سيكون بعد حين موروثاً جينياً؟ وهنا لابد من العطف على الفكرة الفرويدية (الإنسان الذئب) الخارج من معطف الإنسانية إلى خارج حدودها، والتي ينبغي معالجتها إنسانياً على الكوكب الذي نعيش عليه، فهي لم تأت على نحو متخيل في ذهنية فرويدية، بل مرضاً بشرياً، تابع نشاطها عدد من العلماء، وطالت الأدب والفن.
ابتهالات الصمت الخرس
المزاوجة الرائعة بين فكرة الكهنة والسلطة في مسرحية (ابتهالات الصمت الخرس) هي في واقع الحال الابتلاء الرهيب للإنسانية. يبدأها الكاتب على نحو طقوسي سرعان ما يتحول إلى الإجرام، يبدأ برفض حالة الانحناء والرضوخ والتوسل للمرأة التي تبرك عند قدمي (الرجل الأكبر)، وهي الضحية (الأولى) المشتركة التي أراد الكاتب إبرازها. يستخدم الكاتب رقصة (الساس) العربية الذكورية مدخلاً للجريمة، وهي إحالة خالصة للعنف الموروث الذي تساءلنا عنه قبل قليل، والذي سيشكل نزعة ثابتة في مجتمعاتنا بما فيها قوانينه كغسل العار ودونها. تبقى صامتة كنصوص الأنباري حتى يأتي عالم جليل لاستنطاقها، وهذا خارج موضوعنا على كلّ حال، إنما استدركت به لأن سؤال المسرحية ولد لديَّ تساؤلات لا تنتهي مع إحالات أخرى لا تنتهي كذلك، واحدة منها التأسيس لسلطة القتل من قبل الجناحين (اليسار واليمين) بصفتي الرجلين القويين. استطاع الكاتب مستخدما بنية أسطورية بالخلاص على يد (القادم الجديد) القادم من خارج (الكوكب)، مستخدما الأسطورة المشغولة دينياً، بقوة برهانية يشفى بها الأعمى وتعيد الحياة للميت مع تناوب وتعاقب للفعل الدرامي الموسوم بانتصار غير حاسم لكلا السلطتين. حتى يتمكن (الرجل الأكبر) من استعادة سطوته مرات في غياب القادم الجديد الذي يتم طرده بجو من المؤامرة أو التفاهم الصامت، فتشطح أذهاننا إلى عدد آخر من الإحالات المعاصرة، جمعها الأنباري في نص مفتوح واحد خالقاً تساؤلات أثبتت شرعيتها من خلال تحولات النص. وفي هذه الأنساق المتباينة والمتصارعة والمتفاهمة بنفس الوقت شكّلت أو أجّلت سؤال العدالة السماوية المبني على الخرافة بل حددت بتراجعها مصير الأرض المحتوم، وهو استنتاج كئيب، بأن القوى الظالمة هي واحدة وهي الباقية على مرّ العصور. وإذ أقوم هنا بكشف الأنساق تلك، ذلك لسبب واحد هو تشظي احتمالاتها ذهنياً إلى انساق متعددة تجعل القارئ متأملاً لمصائر متعددة، ربما واحدة منها عزوف (القطيع) عن تأمل مصيره بعدم قيامه بفعل يطلق طاقاته.
والحال بالنسبة للمسرحية الصامتة؛ بماذا اختلفت عن حكاية (كان يا ما كان)؟ ففي الحالتين هنالك أناس مظلومون، ورجل جبار، وصراع على السلطة، ووجهان للحياة، خيرها وسوئها، بداية ونهاية. تعيننا أمثلتنا أعلاه من بنية نصوص الأنباري وطريقة تفاعلها على أساس حداثيتها بأن شيئاً بينياً يحدث مع كل نقلة، على عكس الحكاية المتسلسلة الأحداث والذاهبة إلى مصير واحد، لا ضير إن كان حزيناً أم مفرحاً، إنما في المعالجة الكتابية الدرامية الصامتة تأخذ الأحداث، بصورها المركبة، نمطاً تساؤليا مع كل انتقالة، ناهيك عن فتحها آفاق تمنح النص قدرة كافية لإطلاق عوامل رفضه، بينياً كذلك، ممتلكاً قوة تحريضية كبيرة بنفس الوقت. بمعنى امتلاكها طاقة كامنة لإحداث أي تغيير محتمل، وإن لم تحمله القصة الصامتة على عكس الحكاية التقليدية، فإنها، أي الطاقة المخزونة التي تشحن حتى النهاية ستكون منتجة وليست حتمية منتهية. إذن إنها خرجت من جلباب الحكاية وأسست لنفسها بنفسها نسقاً كما تعرضنا له آنفاً. وهنا ينبثق الفحوى التساؤلي للقارئ ومخرج العمل وعناصره، فيتم تحديد اتجاهاته ومساراته وإخضاعها للمفهوم الذي استولد من قِبَلِ القارئ/ المخرج/ الممثلون.. وبالتالي إطلاق الشحنة الكامنة لإنتاج مضامين مختلفة، قد تكون مختلفة، بقدر ما، عن أفكار الكاتب نفسه. واذا ما أضفنا الحركية الصامتة المفعمة بالحركة والصوت والإضاءة كـ(تقرير حلمي) حسب ما ذهب إليه الناقد المرموق علي مزاحم عباس نكون قد أطلقنا في رؤية بيكت في مشهده اليتيم (فصل بلا كلمات) مشاهد حية غير يتيمة هذه المرة بل متوالدة ومتصلة ومشتملة على أنساق قد تخرج عن السياق الكتابي وحتى الإخراجي إضافة لرؤية الكاتب كما أسلفنا، فجميعها ستخضع إلى عامل واحد هو المشغل الذهني للمتلقي بصفتيه القارئ والمشاهد ومن ثم الكفاءة المهنية للناقد.
الهديل الذي بدد صمت اليمامة
التخصيص الذي اعتمده الأنباري في مسرحيته الصامتة (الهديل الذي بدد صمت اليمامة) بقراءة البطلة لرواية (ذهب مع الريح) لـ "ماركريت ميشل" (15) التي تنتهي بجملة أو بفكرة واحدة لم يذكرها الكاتب حرفيا: (غداً يوم آخر)، ألهمت الكاتب تقليص الفروق، وعلى نحو أدق اختزالها، بين الحبكة الروائية وبين المشهدية على نحو صامت. فماذا حصل؟
نحن نقرأ الرواية لفيضها الإنساني، وهنا نقوم بحس استدراكي لتلك الفحوى أو النشاط الذي يجعلنا نمتلك رؤية ثابتة لما حدث وما يحدث، ولكن ماذا عما سيحدث؟ يقوم الأنباري مثلما في هذه (المسرحية/ القصة) باستشراف متأمل من خلال تعمية رؤوس الرماح لمظالم الحروب بتعشيق مع صور الحب والانتظارات، بما فيها مواجهة المكائد والنزعات الفردانية، بحيث يصبح هديل الحمائم الصوت المحرّض، وهو مؤكد، غائب وحاضر منتج متدرج. وبهذه اللبنة التي أسداها رمزيتها الكتابية استطاع أن يفرض هيبة عاطفية، ولا أقول شحنة، لأنها تخطت الحدود أكثر من مرة فتجاوزت ضعفها كونها دمدمة كورالية إلى صوت ينتظره القارئ/ المشاهد في وقت يحتاج ذلك الصوت بنفسه، أما الكاتب فهو الذي يقدر بمجساته تلك الحاجة تناغما مع التصاعد الدرامي للحدث. كيف؟
حالة الانتظار التي استخدم فيها الكاتب كأسي العصير والكرسي الفارغ المقابل هما رمزا الانتظار والإخلاص. رسم المشهد بأصوات انفجارات دلالة حرب تحصل وعلى الأغلب إن من تنتظره هناك، ومع كل نكوص واكتئاب تلجأ الشخصية/ العاشقة إلى فتح الكتاب لتستجلب الأمل بصوت الحمام الذي يأتي مع كل فتح. ثم يأتي على التصاعد «...فصيلاً من المهرولين وهم يطلقون أصواتاً كالتي يطلقها الجنود...»، ثم مشهداً ملازماً عن الأمل فتتخيل وجوده ويلامس كأسه الذي سرعان ما «تسقط من يده». ثم تصاعد عن اللاجدوى فالقادمون يحملون الموتى فتبكي.
نلاحظ هنا أفكاراً مختلفة في مشاهد متتابعة: الانتظار، الأمل، أصوات الوصول، ثم الكشف عن السبب، فالانهيار «تسقط على الأرض» خشية منها أن القادم هو من تحب، وهو المشهد الذي يتكرر في المصمت الثاني، بعد حالة الأسر المعنوي بصفة السجن، لكنها لا تترك أملها (الكتاب) ليجلب لها هديل الحمائم. أما واقعية النص فقد جعلها الأنباري في مشهد اغتصابها حيث يقتحم عالمها الصامت رجلان ممسوخان يقدمانها وليمة لسيدهم، فينتهي المشهد بـ«صرخة قوية مستغيثة طويلة، ومدوية..». وهنا ستأتي الإجابة المستقبلية للجريمة الذي تقاومها بالأمل فجعله الكاتب في أقصى درجات المقاومة والانتقام. استجلبت حبيبها إلى منطقة الأمل (خيال الظل) يشربان من الكأسين و«يرقصان بفرح غامر». أما المستقبلية المنتظرة فتأتي بشكلين: الأولى بحالة هذيانية مستفزة بفعل الأمل للحبيبين في المشهد المتخيل المفترض، فيطبق الرجال الثلاثة مشابكهم باتجاهها فيما تتصاعد مقاومته، حتى في أشد اللحظات قسوة، فلن تترك روايتها التي ستجلب لها هديل الحمام كما في كل مرة فيستمر إلى النهاية بطريقة (Fadeout) دلالة اللانهائية. لا أعتقد أن بعد هذا الإيجاز في تعشيق الأفكار والحبكة الدرامية للأحداث بأن قارئاً سيقول: إنني لم أقرأ رواية كاملة في هذا النص.
حلقة الصمت المفقودة
يعالج الأنباري في مسرحية (حلقة الصمت المفقودة) فكرة سطوة وهيمنة الرجل الأوحد أو الدكتاتور بصفة "الرجل الكبير"، وعلى الأغلب في ذهنه نموذج محدد منحه سمات عامة وخصص سلطته بـ هرم يتربعه من ثلاث طبقات كرمزية عن مراحل تطوره للوصول إلى قمة الهرم (السلطة). أما التابعين فلكل فرد محدد من مساعديه له دوره، ولكل مجموعة لها دورها كذلك، فتقسمت على نحو ذئبية وهي المستشرسة والممعنة بالقتل يقودها التابع الثاني، الكلابية وهي سمة التخويف والبحث والاستدلال، والثعلبية عن المراوغة والإيقاع يقودها التابع الأول، ثم مجموعة الراقصين والمهرجين بصفة القرود المعروف ودورها من اسمها، وأخيرا اختار أربعة نماذج من الرجال. ترى كيف واصل الكاتب وأسقط فكرته ميدانيا، وكيف استطاعت حبكته تجنيس نصه، وهل كانت كذلك؟ سيما أن النص مفتوح، يفهمه كل من عاصر فترة ظلامية محددة أو كان أحد ضحاياها. وبسؤال آخر بماذا اختلفت عن رواية أي إنسان كان ضحية التجربة التي حاول الكاتب استنطاقها بفن مغاير؟
يستخدم الأنباري هنا فكرتين هما الحفاظ على سلطة الرئاسة، والسأم، فينطلق من واقع هادئ وكل شيء على ما يرام فليس هنالك ما يتهدد عرش الرجل الأكبر ولا منازع له فالجميع كما يبدو من حركاتهم وشدة انصياعهم هم عناصر خشبية بحس واحد هو تنفيذ الأمر بحركات خرقاء. لكن الأمر لن يرضي الرجل الأكبر الذي يبدو سئماً وقلقاً، بحس منه أنه مهدد من قبل قريبين وبعيدين. فيقوم بإشارات ليبدأ الجميع بتنفيذ أدوارهم وما تعلموه وما صنعوه لأجله من خلال حركة وليست كلمة، فالرجل الأكبر يشير فقط، كدلالة على قوة فاقت النطق غير المسموح به مطلقاً. وهنا نجد الإسقاط الأول لأسم النص، بحيث يستخدم الكاتب الموسيقى كتفعيل درامي عن عدد غير محدود من الإيحاءات التي تنم عما يحصل. وبنظام متسلسل يبدأه الكاتب بالتهريج والرقص والتباهي والولاء، ثم الانسحاب دلالة إكمال مهمتهم خارج المسرح الذي صار مركز الحكم، فكل المجاميع تنطلق باتجاهات مختلفة. بحيث تخرج القرود من دون توصيف محدد دلالة على أن مكانهم في كل مكان، بينما تخرج الثعالب من اليمين، بإشارة إلى اليد اليمنى (الميدانية) التي تطول، وتدخل من يسار المسرح دلالة على دورانية مهمتهم، ثم تؤمر بإشارة من سيدهم بالاندفاع نحو الجمهور، وهذا عنصر مشاركة حي. تختطف (أربعة رجال) سيتعامل الكاتب معهم على مستويات مختلفة. يستسلم واحد منهم وينظم إلى فرقة المطاردة فيما يهرب ثلاثة منهم تطاردهم مجموعة الكلاب. هذا هو المستوى الأول الذي تمت به المطاردة واجبر أحد المطاردين أن يكون متخاذلاً فيتشبه بهم. المستوى الثاني حيث تقوم مجموعة الكلاب بأمر سيدها بمطاردة الثلاثة الآخرين، تظفر بواحد، ويهرب اثنان. يجبر الأسير الثاني أن يصبح كلباً مثلهم ويطارد الآخرين. بالطبع هناك معالجة درامية للكاتب في هذه المشاهد تنم على قوة الرجل الأكبر وجبروته، بالإضافة إلى استخدام المؤثرات لتفعيل المشاهد وتحديد فواصلها كفصول الحبكة القصصية. ثم ينتقل إلى المستوى الثالث بصفة فرقة الذئاب التي تظفر بأحد الرجلين المتبقيين الذي «يذعن لمشيئتهم فيسير على الأربع ثم يكشر عن أنيابه ويطارد الرجل الذي تخلص من قبضتهم...». هذه المستويات يمكن اعتبارها مفتوحة فلا يهم أن يكون الأسير ممثلا لمجموعة من البشر أم انه نفسه طرف في السلطة أو ذنب لها أصلا، إنما هو كيفية تشيئ وتأسيس فكرة (الرجل الأكبر)، حتى نقع من خلال النص أن ليس هنالك رجل أول أو ثاني إلا بالتسمية فيتم التعامل معهم كذلك بالسوط والإهانة ليدمجوا مع المجاميع المروضة. أما المستوى الرابع هو الضحية المقاومة التي منحها الكاتب مواصفات اعتبارية خارجة عن حدود التحمل والاحتمال، وهي بذلك مشاكسة، رافضة، عنيدة، تعرف قيمة التضحية وجدوى المواجهة بـ(الضعف). فهي لا تمتلك سلاحا تواجه به كل هذه الجيوش الغابية/ الحيوانية، لكنها تبقى على عنادها الذي من خلاله ستتم عدوى المشاهد بعد مشهد القتل، بمغادرة صالة العرض على درجة كافية من الرفض، فيما أطلق الرجل الأكبر (صفارته) بالانقضاض عليها، فمشهد التسلط لن ينتهي!
هذا المنظر الرؤيوي المحدث هو مولود طبيعي وليس قيصري، خرج من تلاقح أجناس مختلفة، في وقت تاريخي محدد استدعى انطلاقه، وهو بالتالي يؤدي إلى «تكييف محدداته مع ظهور كل نتاج جديد» حسب د. ورقاء يحيى قاسم حول (النص الأدبي وإشكالية التجنيس) (16) فعالم الكاتب المثبت هو التسلط، الإجرام، المسخ.. فاختار عدم مواجهتها نصيا استرساليا بسبب زحمة الحياة وتناقضاتها، ومن ثم سرعة إنتاج التفاعلات التي ستفضي إلى شكل محدد يعالج فكرة واحدة محددة، أو ربما من جانب آخر، كما ذكرنا في «وقت تاريخي محدد استدعى الانطلاق» فالحالة كذلك هي مؤثر مهم في الخلق والإبداع. فأنت لا تستطيع أن تتحدث لكنك تستطيع الإيحاء، أو ربما تستطيع الموت. فكرة مثيرة أليس كذلك (تستطيع الموت)، يموت البطل بواجب ليس بطولياً صرفاً وعليك استخراج المعنى.
هنا استطاع الأنباري بكثافة مفهومة مكنت الوقفة الدلالية من خلال القارئ/ المشاهد إلى إحداث شرخ في المفهوم النصي المتداول لفكرة المستبد/ المجرم/ الضحية، والتي من دون خلق مطاوعة وتلازم وإخاء للأجناس المستخدمة لا يمكن أن تفضي إلى أي نجاح. وعليه تكون هنا الصوامت الأب الروحي لتلك الأجناس والعكس صحيح في حيازتنا للجنس الأدبي المقابل كالقصة والرواية والشعر...الخ، ليس تراضياً على وليمة، وإنما إمعانا في الكثافة الواجبة حسب كلّ فرع من الفروع الجناسية، ولا نعني بالكثافة هنا الإقلال السردي، بل هو القدحة المثمرة للإشعال الكافي.
سلاميات في نار صماء
يستمر الأنباري في معالجة أمر مهم في مسرحيته الصامتة (سلاميات في نار صماء)، فنسأل أولا إذا ما كانت النار صماء فعلاً، أو أن الكاتب قد أخرجها من وجوديتها وهو يسعى إلى فك عقد لا يجدر بها أن تكون عقداً أصلاً. فالرجل والمرأة كائنان طبيعيان، كبقية الأحياء، هذا إذا ما تجاوزنا هيولية المواد الأخرى. فلماذا الإمعان إذن بالتركيز عليهما، وما السر بذلك؟
الطبيعة الملغزة، شجرتان تقدمان الورود على نحو لوحة سريالية، يفتحان افقأ مناسباً، فالكاتب لم يرجّح المفهوم الغيبي بالمؤامرة على حبيبين وإبعادهما عن بعضهما بعضاً إلا على نحو استعاري، أما إرادة الشيوخ الثلاثة في المسرحية تحتاج إلى سلطة غيبية لتنفيذها، وبذلك وضع الأنباري أول حجر لفكرته، وكأنه أراد في الصواعق والرعد وأصوات الكون أن تكون بفعل ارضي محض. وعلى هذا الأساس استمر الكاتب بمعالجة المستويات التي وصفها في اسم المسرحية بالنار (الصماء). المستوى الأول هو تأسيس القوة الموسومة بالماضي وتسخير الغيب لمنع الحب والتفريق بين حبيبين منجذبين لبعضهما كتقرير طبيعي لسجية الوجود. نرى تطورها في المصمتين الأول والثاني باستخدام السيف والمشبك والقضبان الحديدية دلالة على تطور التعاليم والقوانين الصارمة والموغلة بوئد أي لقاء محتمل، وهذه السلامية/ العقدة الأولى التي ستنتج المستوى الثاني في عصر آخر معاصر، موسوماً بالزحام وبـ «أصوات محركات السيارات ومنبهاتها، وضجيج المارة...» وهو (المصمت الثالث) الذي سيشتمل على بحث الحبيبين عن بعضهما وسط الزحام. وفي المستوى الثالث يتم اللقاء الذي تنقض عليهما فيه الكلاب البشرية. في المستوى الرابع تتطور حالة المنع المادي الذي عبر عنه الأنباري بصورة واقعية باستخدام الحبال التي يربطان بها، من قبل مقنعين اثنين، حتى يوعز لهما المقنع الأكبر، الذي اتخذ مكانه فوق المرتفع واختفي، فيطلقان النار على الحبيبين. يمكن تأويل الفكرة غسلاً للعار على سبيل الاحتمال، أو ثأرية محضة لانهما تجاوزا الخط الأحمر.
المستوى الأخير للنص تمثل في تلخيص حالات الرفض التي لم نأت عليها في حينها فلكل مستوى من المستويات كانت هنالك حالة رفض ومقاومة من قبل الحبيبين بشكل من الأشكال، قوبلت جميعها بعقاب مناسب، أما المشهد الأخير، بعد موت العاشقين، اختار الكاتب حله فأنهضهما من نعشيهما، بإيحاء واضح بأن المسار الطبيعي لمنطق الأشياء لا يحكمه الموت أيا كان نوعه، وهذا بحد ذاته استبصاراً، بمعناه الكلّي، وليس تأويلا للكاتب، فما دامت الطبيعة محبة فلماذا وجب على الإنسان لي عنق الضرورات وأولها الحب، ثم يبحث فيما بعد عن مخارج؟ ادخل الكاتب فكرة الاغتصاب، اغتصاب المرأة التي تنهض من نعشها، من قبل الرجل الكهل، فيما يدافع الرجل عن حبيبته فيتجمد عن الحركة، بحركة دراماتيكية سحرية بصولجان الكهل، دلالة على امتلاكه كل مصادر القوة، وعندما يفشل المغتصب، تكون النيران الصماء، بمشيئته، قد أشعلت «...تاركاً المرأة والرجل يكتويان باللهيب...».
سؤالي لأي كاتب: هل تستطيع كتابة رواية أو قصة قصيرة معتمدا إحداثيات الأنباري؟ توصيف زماني ومكاني، شخصيات واضحة، ومفاتيح لتصعيد درامي، خطة روائية كاملة، هل يكفي ذلك؟ قبل الجواب بنعم: هل أستطيع اختيار حبكة أخرى؟ نعم بكل تأكيد. وسؤالي الآخر هل في هذا النص تجنيس مختلف؟ الجواب اتركه لقارئي حسب ما تقدم، لكنني أقول: نستطيع تحويل النص أعلاه إلى عدد كبير من الحكايات/ القصص/ الروايات... وعلى الأرجح عندما كان الأنباري يسن قواعد (لعبته) بالنظرية كانت مخيلته تشتغل في ضفة أخرى لإكمال مشروعه، وعلى ذلك لا نجد أية فجوة مردومة بقصد، بل نجد التطابق بين جناحي المشروع الصامت النظري منه العملي فيه.
هاشم مطر
في مغامرة صحبته إلى تقديم نمط درامي مختلف، نبدأ معه من دون تقديم لمشروعه، فآثرنا متابعته ضمنياً في سياق معرفي يكشف عن نفسه تباعاً، ذلك ضمانة في السماح لعنوانين: الأول هو التعرّف على مشروع الأنباري الصامت، والثاني: جدوى شكل المشروع ومحتواه وتأثيره على القارئ/ المشاهد، وعلى ذلك سنلغي سلّم أولياتنا ونبدأ بما يقول الأنباري شخصياً عن مشروعه من حيث التجنيس على نحو خاص.
يقول الأنباري: كنت أبحث على الدوام عن جنس يصهر كلَّ هذه الأجناس في بوتقة واحدة ثم يصاهر بينها وبين اهتماماتي الأخرى في الإخراج المسرحي، وفي الموسيقى، والتصوير، والاكروباتيك. ص٢١. (1)
ترى كيف بحث وسعى الأنباري إلى مهمته، وكيف جمع وحداتها التي تبدو متناقضة بين إخراج وموسيقى وتصوير واكروباتيك، وتلك هي مؤهلاته التي امتلكها على مدى عقود من عمره حتى انتهى به الأمر إلى منجز عملي مقرون بالنظرية مما منح جهده مصداقية، بل وضع واقعيتها المقرونة بالتنفيذ من جهتي النص والخشبة، وهذا ما ينهي الجدل بأن الصوامت نتاج غير مرن، أو لا يمكن أن يعطي ضخه تلك القوة التي نجدها في باقي الفنون.
في الصفحات الستين الأولى من كتابه "المجموعة المسرحية الكاملة" الصادرة عن "منشورات ضفاف" 2017 يقدم الكاتب فكرة عن الصوامت باعتبارها الوريث الشرعي والأبن البار للـ "Pantomime" بصفة ناقد ذاتي لنصه مع نقود وشهادات لأساتذة مختصين، محاولاً إلى حد بعيد تسهيل مهمة القارئ في الدخول إلى هذا الحقل الجديد. فطالما تعلق الأمر بالابتكار فإننا سنسعى كذلك إلى بعض الكشوفات المرافقة عن قرب وبعد، وتناص وعزلة، عن كيفية النظر للنسيج الرابط الممعن بالتلاقح لإنتاج مضمون وشكل جديد لفن محدد قائم بذاته، منتم إلى المسرح على وجه الخصوص.
سنفترض أولا، وهذا ما سيعقّد مهمتنا، أن المضامين هي بنية مسرحية أراد لها أن تأخذ شكل الصمت حسب، فما الجديد بالأمر لو أنها كانت صائتة علـى غرار العمل المسرحي المألوف، وحتى لو كانت، فما هو الدافع لهذا الفصل الذي يعقّد الأمر على المتلقي بحيث يجعله في حيرة من أمره كيف يفسّر الحركة والأداء من دون كلام، سيّما أن المستهدف هنا هو المشاهد حصرياً، وبدرجة مماثلة قارئ النص فكيف سيفهم الحركة التي رسمها الكاتب.
ولعل من المهم وهي بادئة الكاتب هو (تجنيس النص) بمعنى قامته وحدودها أي جغرافيته، والجغرافيا هنا ليست الحدود فحسب إنما موقعها من بقية الفنون ودرجة تأثيرها وتأثرها، ثم ما تسديه معرفياً وتاريخياً على حركة المجتمع في سياقاته المختلفة. سنخالف الكاتب نظريته حتى يتم لها الانتصار الفعلي على عنادنا، فـ "البانتومايم" حسب الكاتب «يقدم نفسه كحاضن لأفعال حركية تختزن طاقات تعبيرية وإيحائية لا يستهان بها». ص١١، (2) ومن هنا يذهب الأنباري إلى ما وصفه «أن يقول (المؤلف) نصه للممثل». أما استزادته في مشروعه الصامت فيمكن تسهيلها إلى أبعد من ذلك بما اسميه (سؤال الحكاية) أي بمعنى أن يسأل الكاتب حكايته أي يقدمها على نحو أسئلة فحسب، وهذا هو بالذات الاجتراح المعرفي للفكرة أو المشروع الذي سيفاجئه القارئ بتساؤلات غير متناهية، ومخرج النص بتداعيات حركية مشبعة من جانبها الإيحائي وإلى ما تنتهي إليه الأفعال من أسئلة باهرة كانت قبل قليل مضبّبة أو معتمة. وهذه لحظة الانتصار الأولى الهامة لمشروع الأنباري، وسنحاول إسقاطها بشواهد من النصوص لاحقا.
رب سائل يسأل كيف تُسأل الحكاية؟ ذهب علي إلى السوق راكبا دراجته، وانتهى الأمر!
نعم هي تلك الأدوات البسيطة التي نستهين بها، كيف ومتى ولماذا.. الخ.. فهي بمثابة الاستنطاق الحسي (للحركة الفعل)، فلا نعرف على وجه الدقة كيف ذهب علي إلى السوق وماذا واجهه في الطريق وكيف انتهى المطاف به إلى هناك... وهكذا عشرات بل مئات الأسئلة التي تحتوي الحالة لكي توصل حركية العلاقة، حتى بين الوسيلة المستخدمة وهي (الدراجة)، وبين غاية الذهاب إلى السوق وكيف انتهت، أو إذا انتهت فعلياً أم أن علاقتها الوجودية لا تزال قادحة في الذهن. إذن نحن أمام المحاولة كمفهوم، فكيف نفهمها؟ وما زلنا في نفس المثال، الدراجة التي ركبها علي، فهل كانت على مستوى من الجودة ورشاقة الحركة ليستطيع عليٌ بمهارته أن ينجز مهمته، وإذا ما كان هو نفسه ماهراً فعلا في ريادتها؟ هذا على المستوى المبتدأ، ثم ماذا عن الطريق هل كان سالكاً وسهلا؟، ثم عن الحالة التي احتوت رحلته، ومن ثم العناصر التي احتكَّ بها لإنجاز مهمته من بشر وأشياء، وأخيراً العوامل المحيطة، الطبيعية والطارئة منها. إذن نحن أمام حالة تهددها مخاطر كثيرة، وهنا بالذات يكون مسعى الأنباري، عناداً ومثابرة، لعدم لصق صفة الفشل على المنجز. ترى كيف استطاع ذلك؟
وإذا ما كانت فكرة "تجنيس النص" هي شاغل الكاتب الأول باعتبار أن الحكاية سترتكز عليها أولا، بحيث يكون حسب الأنباري تأهيلاً «لتكون (الحكاية) قابلة للقراءة كخطاب أدبي فضلاً عن كونها جنساَ فنياً يعمل على زحزحة الأجناس الأخرى ليحتل رقعة واسعة ومتميزة»، فلا بد إذن من امتلاكها جميع مؤهلات الجنس الإبداعي وآنذاك لا تزحزح الأجناس الأخرى، إلا رمزياً، وإنما تبتدع لها مكاناً خاصا بين الأجناس. وبذلك وضع الناقد علي مزاحم عباس في نقده للمشروع حقيقة (الإنسان يعقل بصريا أكثر مما يعقل سمعياً) (3) نستخدمها هنا على صيغة تساؤل بإضافة (هل)، فتكون: هل (يعقل الإنسان بصريا أكثر مما يعقل سمعياً). فالعين هي الثابت الحسي الوحيد المقرون بمشاهدة الأشياء، وأكاد أجزم علميا بأنها توصل الإيعاز إلى المركز العصبي الحسي بأكثر من غيرها من الحواس. ومع المسح التاريخي للحالة يخلص الكاتب إلى «إن للعين إمكانية على عقلنة الأحداث أكثر بكثير من الأذن... وتتحول صورها إلى مضامين يقينية»، ثم يجنح إلى إحداثيات (البانتومايم) المعاصرة لمبدعين كبار مثل (Marcel Marceau) و (Jean-Louis Barrault) في التحام العناصر المؤثرة بطاقتها البصرية، وأن ينزل مارسو «الكلمة المنطوقة عن عرشها ليأخذ الصمت تلك القوة الآسرة مكانها...» ولكن ماذا عن بقية الحواس فـ «الأذن تعشق قبل العين أحيانا»، سنأتي على هذا العامل بعد قليل، أما الآن فلسنا في الواجب الصرفي للحواس، فمع التوسع الكبير بشرح الكلام كمنتج إنساني بحيث يقرب أن يكون اختزالاً للبنية السيمائية والدلالية، فكما نعرف أن عقل الإنسان المجرد هو (جاهل) ومحدود الأداء بحيث يكون الكلام فيه على نحو مسار فرادي single trak بمعنى كلمة ملحقة بأخرى في حين تكون مجريات الواقع حولنا تحدث كلها مجتمعة مرة واحدة، وبذلك كان لا بد من وجود معالجة أخرى تتطابق وتتلاحق مع الموجودات، حتى الحلمية منها، فما أنْ تفتح عينيك حتى تتدفق الصور والمسموعات والحسِّيات كلّها في آن واحد، فلا تستطيع إيقاف المعلومات الداخلة وتقول: توقف يا سمعي (توقف) إنني أنظر الآن أو العكس، ولا تستطيع منع الاستدراك الحسي والمعالجة الذهنية (الرد فعلية) كأن تتأثر بصورة أو قراءة أو مشاهدة مقطع أسرك في فليم أو مشاهدة ما، ولا قطعك الانطباع بنزول الثلج أو شروق الشمس...، وبإمكانك الاستزادة على ذلك بعدد لا محدود من الأمثلة.
نخلص إذن إلى الجواب الذي مكّن الأنباري، حسب ما قاله في تبيانه للمشروع، أن «يصهر كلّ هذه الأنواع في بوتقة واحدة»، ولكن ما هي تلك البوتقة؟ إنها مكان الاستدراك الداخلي للفهم؛ والربط؛ وردود الفعل الـ subconscious العقل الداخلي او اللاوعي، وهو ما توصل إليه الأستاذ عباس ببعض منه «أن ينزل مارسو «الكلمة المنطوقة عن عرشها ليأخذ الصمت تلك القوة الآسرة مكانها...» (4) وبهذا تصبح المهمة أعقد مما نتصور. فكيف يكون للصمت كل تلك الطاقة التجميعية لإنتاج المضمون..
في متابعاتي للمدارس النقدية اكتشفت - وهذا ليس اكتشافا حصريا- إن المدارس تنتج مدارس حسب، وهذا مفيد قطعا برغم المآخذ، وهو ليس موضوعنا على كل حال، ولكن عندما نحيل المعرفة للاستخدام اليومي فلا ينطبق ذلك على الفعل الذهني بمعنى كمن يكتب اللحن ويطلب له الكلمات. إذن هو الشروع نحو الهدف وهو استخدام (اللحظة) لحظة التأمل contemplating التي أطلق عليها الأنباري بـ (الضجيج) في العقل الباطني، لحظة التوقف غير المحسوسة، اللحظة التي تحسسنا بأن هناك شيئا ما سيحصل فنكون بانتظاره، لكننا هنا لا ننتظره بقدر ما نسعى إليه، ربما يعزيه البعض لقوى خارقة خارجة عن المكان والزمان (الفضاء)، لكنه في واقع الحال هو القدرة التخيلية لإنتاج المضمون الجديد.. ولكن لماذا هذا الصهر في جنس واحد وليست أجناسا قائمة بذاتها.. فكما أسلفنا إن موجودات الحياة تحدث مرة واحدة فلا بد للذهن من إطلاق تساؤلات تتركه في فكرة (التقدم/الشروع) فلا سبيل سوى استنطاق الجواب آنذاك.. وبذلك تكون جميع الفنون بمثابة استنطاق باحثة عن جواب، وبذلك نفهم تعدديتها. والسؤال: هل المونودراما التعاقبية واحدة منها أو آخرها؟ نعم واحدة منها ووريثة لها ولكن ليست آخرها قطعا، ذلك لدخولها حيز السؤال والاستيلاد المعرفي الذي ينسلخ بطريقة وأخرى من بنى مؤهلة للولادة أصلا، لكنه مشمول بقوانين ستختلف كثيرا، ويكون تنفسه الطبيعي غير مناخ الفنون الأخرى حصرا. وبهذا نسجل انتصار الأنباري علينا في هذا الحيز. ونستمر.
ولكن: ما هو العامل الاختراقي؟ تحيلنا التجارب إلى وجود عامل وحيد يفضي إلى ممر وحيد إلى الاستحداث أو الخلق، بحيث يكون الإصرار هو الوقود والدافع لكل شيء ونحو أي شيء، وهو الإرادة المتصلة بالمغامرة، بعد أن كان الأمر قبل قليل خياليا/حلميا، فما إن نضع الأساس المعرفي للمشروع حتى نجد عددا من القوانين قد خضعت واستحالت إلى عوامل مساعدة، وحال إدراكنا بأن لا نتعارض مع ميكانزم الوجود الإنساني الذاهب للخلق والإبداع، نكون قد وقفنا على هضبة هادئة متأملة لما سبق وما يحيط وما سيحدث.. فهل كانت الصوامت من هذه البيئة؟ أظن أن الجواب واف في هذا الحيز، فمثلما يصهر الذهن عددا غير محدود من الأسئلة والصور في لمحة بصرية واحدة، كذلك يصهر الجنس الأدبي عددا غير محدود من عناصر الإبداع ولا يزال يبحث عن جديد مع اختلاف الظواهر وفيض الأسئلة.
استخدم الكاتب جملته الفعلية، في رسم الحركة، من أجل إصدار الصوت الصامت بصفته الشعورية الخلابة، والخلابة هنا صفة للّوحة التي رسمها وأظهر ملامحَها المخرج وعمق الإحساس بها الممثل، فإن لم تكن خلابة فلا نحسن استخدام المفردة بأي حال من الأحوال. وإن لم تنتقل حركيتها إلى القارئ أو المشاهد فأننا سنُسم الجملة وحركتها بالفشل. فلا أهمية لكل ما قيل نظريا. وأنا مع الشك وسأقاوم به جدوى مشروع الأنباري حتى النهاية لنصل إلى واقيته وحقيقته. ومن ثم نضع تقييمنا للمنجز. فإن كنت معي قارئي العزيز عليك بالحلم وصبرك قليلا.
وعليه ليس جديرا بنا أن نضع الصوامت على الرف للقراءة الماتعة، سيما أنها لم تأت كوحدات متناثرة لشغل فراغ ما، وإنما أغلب الظن أنها ألّحت على صاحب المشروع أن تنبض بنفَسٍ مغاير إلى حد ما سنكتشفه بعد قليل. يقول الأنباري بروحية الناقد في بحثه «عن ماهية الحبكة في النصوص الإيمائية الصامتة التي تعتمد على الفعل المرسوم بواسطة الحركة التي يشكلها الجسد بصورة مرئية (مُحفزة) من فعل محبوك»، الأمر الذي مكن الإيماء/ الصامت من تنزيل تسلسل الأحداث درامياً، بحيث كان بإمكانها أن تمتلك القيمة ذاتها، فيما لو كانت صائتة، وبصياغة اكثر وضوحاً، إذا ما كان بإمكان تلك القيمة أن تنتج قيمة دلالية أكثر وضوحاً لإنتاج العلاقة التعاقبية بشكلها الصامت. كلّ ذلك من بيئة حداثية محضة منبثقة من الخيال ومصطفة مع الواقع «ابتكرت لها لغة تميزت بتوصيف الأفعال واستبعاد الأقوال...» (5) فاقترنت باللغة من جانب حركيتها، وبكلام آخر: الفعل مقابل الحركة، حتى السكون تسكنه حركة فيزيائية دائبة، شغلت الأنباري على الأغلب في نشاطه التركيبي بين الفعل والحركة والصمت اللائذ بالصوت المخفي على نحو صوري متعاقب بآلاف الصور كما أسلفنا قبل قليل ووعدنا باستيضاحه. وحالما تعرضنا للصمت فمن البداهة أن يقفز الفراغ بصورة من الصور حاملاً إمكانية استيلاد شخصيات أخرى متخيّلة من معطف الشخصيتين/الشخصيات المتعاقبة أو من نقائضها، أو حتى من فسحة الفراغ ما بينها. والسؤال: هل في ذلك خرق لقانون التعاقبية المركزي (الوحدانية) وماذا يحصل لو جرى ذلك؟ نقول:
كما تقوم اللغة بتشغيل إمكانياتها البينية، تقوم الحركة بذات الفعل.. ولكننا نريد الأكثر من الحركة هنا، لماذا؟ ذلك أن الفعل الدرامي المبني على الكلام يستخدم الحركة أيضا، إذن على الصامت أن يقوم بفعل حركي أكبر بكثير مما هو منجز في ذهنية الكاتب حتى، بحيث يكون النصُ ولّاداً لتعاقبيات أخرى كمن ينظر إلى مرآة وخلفه مرآة أخرى، وهو بذلك يستولد من الفراغ والصمت معا قيمة حركية kinesthetic دائبة، بحيث يتم استيلاد المَشاهِد المفترضة على نحو غير محدود في ذهنية المتلقي كممارس تاريخي/ يومي للتجربة على النحو التالي.
أليس حرياً بنا أن نجرب محاولات ربما ستكون مجدية، مع الحفاظ على الأنساق التقليدية والكلاسيكية المختبرة والناجزة بأي حال من الأحوال، وهل هذا ما يجعل مشجعي تلك الفنون التي اقتربت من نسخ نفسها بشكل أو بآخر بأن تضع عوامل نجاحها في تجربة أخرى جديدة في نوعها؟ أظن أن مخيلة الأنباري كانت تسكنها أسئلة من هذا النوع وهو يتقدم بخطاه القصيرة نحو مشروع يجازف فيه بكل نجاحه الشخصي كمثقف متنوع. فكما يقول المثل إنه يضع كامل منجزه (على كف عفريت)، ولكن هل كان عفريته مخلصاً لنزعاته، بل وأميناً عليها، وبذلك استحقت المغامرة خوضها للنهاية؟ يقول الكاتب «ذات ليلة هادئة خطرت لي فكرة المجازفة كخطاب درامي...» (6)
لماذا؟ في مراجعة، حتى لو كانت سريعة، لمقدمة الكتاب، والكثير ما كتبه الأنباري من مقالات وآراء، والكثير من المختصين ممن تناول تجربته وأثنى على حماسه، يكون بإمكاننا وصف مغامرته بالمحسوبة وليست الطائشة التي ستذهب بالمنجز. وها نحن نقوم بفك عقد نصوصه على وفق نفس المفاهيم التي ابتدعها لنرى مضاءها وآثارها حينما تخضع للتجربة وهي الكتابة أولا، واعتلاءها الخشبة بالمرتبة الثانية، أما المرتبة الثالثة وهي الأهم بتقديرنا ما أضافته لعالم المسرح كتنظير وأداء، وفي نهاية المطاف اختزال كل ذلك بردة فعل القارئ والمشاهد مع إمكانية استيلاد شخصيات متعاقبة أو غير متعاقبة مفترضة في ذهنه، لا يهم إن كانت واقعية أم استمرارا على نحو استدامة.
ولكن هل يعني أن نضع هذا الإنجاز معلقاً وكأنه تحفة من التحف؟ سيما أن صباح الأنباري يقول عن أصحاب المساهمات: «ظل نتاجهم أسير الخشبة فقط؛ ولم يجنس أدبياً...» (7) مقرنا هذا بالمسرحية الوحيدة المترجمة لصموئيل بيكت (فصل بلا كلمات) التي كتبت «بدافع التجريب»، مستهدفا فيها خواء العالم وجبروته الزائف الممعن بالحرمان والاستهتار الأرضي وبمباركة أو مساومة سماوية، بحيث تجتمع جميع القوى لاستلاب الإنسان.
في كتابه الاقتصادي ... (Small is Beautiful) يذهب الاقتصادي الأمريكي E.F. Schumacher (8) إلى استنطاق النزعات المادية الاستهلاكية للمجتمع الرأسمالي بعظمته وجنونه، بحروبه وأزماته؛ إلى مدى امتهان الإنسان كقيمة وتوظيفها كأدوات لا معنى لها سوى إنتاج (النعيم الزائف) لعدد محدود من البشر. بتجنيس مشترك بين الاقتصادي والفكري الأدبي، بطبيعة الحال يضع حلوله. وعندما نقارن شواهد الماضي التي اعتمدها بيكت آنذاك نجد أن تماديها واستهتارها أصبح هائلا في عصر العولمة وما يطلق كذلك عن الحداثة وما بعدها، مع التوسع الرهيب (المتوحش) حسب ماركس.. ترى أليس حرياً أن يخز أو يثير صوت السؤال ذهنية الأدبي المبدع؟ هذا في البنية الوجودية، أما في بنيتها الإبداعية فلا بد من الاستنطاق أولا. وطالما نحن أمام عدد من النقائض بما فيها الإنسان المهزوم والتابع له، ومن ثم نقيضهما، فلا بد لنا إذن من التعاقب في توضيح بنى المخيلة الإنسانية بشقيها الإجرامية والطيبة، وإذا ما قدمنا الإجرامية على الطيبة فإن ذلك بسبب كم البؤس واللاجدوى والفيض الإجرامي، بالإضافة إلى الاستلاب الروحي للإنسانية، إذ يتساءل كتاب الأنباري عن ذلك من البداية «لماذا يحيا هؤلاء الناس»؟(9) وإذ ينهي الأستاذ بلاسم الضاحي استنتاجه عن الصفة والقدرة التجميعية لمسعى الأنباري كونها«...منتجا جديداً هدفه إثارة المتلقي جمالياً ودلاليا » (10) فلا يشفي غليلنا مع ذلك، حيث يبقى كل هذا في مجال الشك حتى يتم النطق الصامت بها في أمرين: قارئ النص، ومشاهد الخشبة. وهذا بالذات اشتراط الأنباري بقوله «الخروج من شرنقة البانتومايم...» واضعا حتى (الانثيالات الحلمية) تحت مبضع التجربة فوضع معادلته: الحلم-المخيال الدرامي- اليقظة، الذاهبة فيما بعد حسب قوله «...من شرنقة البانتومايم إلى رحبة الأدب المقروء» الموسومة بـ (الصامتة الجديدة)، فتكون آنذاك (القراءة الصامتة) قد أدت اشتراطها بفاعلية النص كـ(دعوة إلى الرؤية.. بالأذن) حسب الكاتب المسرحي الكبير الراحل محيي الدين زنكنة في كتابته عن صوامت الأنباري باعتبارها تدشينا لجنس جديد أسماه «المشاهدة عبر الأذن» (11)
وهنا نرى مع كل خطوة انزياحا تمثل بمراحله نحو التجنيس. وهنا تبدو المزاوجة ضرورية، بل على ما يبدو إجبارية، فجعلها الأنباري أداة اختراقية خرجت من الفكرة (الوجود الحلمي) نحو إرضاء الواقع مشبعاً بالحركة/الصمت، التناقض اللوني البصري، فالحس السمعي المشبع بحركية النص، فالحكاية قيلت واستنطقت وسئلت، على أساس اختراقي للجنس الأدبي الأول وهو القصة القصيرة ومن ثم الرواية، على نحو معشق ببعضه بعضاً، وهذا شرط خالص باستخدام المعرفة، كل ذلك على أساس تضافري كامل بين الأوجه الحسية التي تعامل معها الكاتب على نحو متناغم فيكون المتلقي بموقع كمن يسمع الموسيقى والقيام بحركات رياضية تنشيطية قبل ذهابه للعمل أو أي شروع بعمل مهم ما، ومع الإضافة السمعية تكون الصوامت قد اكتملت من أوجهها المختلفة واستحقت القول إنها تجربة متكاملة لم تزح الأجناس الأخرى وإنما ابتدعت، كما ذكرنا، مكانا مرموقا لها بين تلك الأجناس، بوظائف ثلاث: البصري visual، الحركي kinesthetic والسمعي auditory. وهنا نسمح لأنفسنا ببعض الاختلاف الذي ذهب به الأنباري إلى توصيف (الصوامت) من بنية لغوية باعتبار (المصمتة) حسب (لسان العرب) بأنها الساكنة التي لا تتكلم! لكنها في واقع التجربة هي تصرخ بالأسئلة على قاعدة تجنيس النص الذي انتهينا منه قبل قليل.
تقنيات التنفيذ
ندرج في هذا المبحث الوسائل الإخراجية المختزنة في ذهنية الكاتب لتسهيل العمل الإخراجي، أو بالأحرى لإيصال الفكرة/ الأفكار إلى حدودها الأبعد في ذهنية المشاهد. وفي هذا شيء من التعقيد. تحضرني وسائل صناعة الأفلام القديمة كالمدرعة بوتمكين، الطيور، هونكونج، وغيرها من الأفلام المنتجة بإمكانيات ضئيلة فيما لو قورنت بالنشاط التقني الحديث وخصوصاً دخول التكنولوجيا الرقمية، بحيث يصعب التفكير، إلى درجة الإستحالة، بأمر إخراجها في يومنا هذا بنفس الإمكانيات التي كانت متاحة آنذاك. وهنا نتساءل كيف سيكون شكلها لو كان وقتها تطور الصناعة وأدواتها كما في عصرنا هذا؟ الجواب سريعا لكانت هائلة!
أقول بالقطع لا!
نعود إلى القيمة التراكمية التساؤلية في البحث النظري، بحيث يخضعه الذهن لعالم الاختبار والتجربة ومن ثم نقله على صيغة وقائع مُشاهَدة أو حضور. يقول الكاتب الأمريكي انتوني روبنز «هناك أنماط متناسقة للأحداث، مسارات محددة للتميّز في داخلنا» (12) وهي الخاصة بإطلاق الطاقات الإبداعية المختبئة في ذهنية المبدع التي تؤدي إلى الابتكار، وهذا ما رأيناه في الأمثلة الفلمية السابقة. ولكن لماذا لم تستخدم في مشهد (بيكت) اليتيم عن البانتومايم؟ ذلك لعدم إطلاق القيمة التساؤلية وقتها، حتى قبل وقت قصير في التجريبية الغربية باستخدام العروض (المثلثة) نسبة للأبعاد الثلاثة، إضافة للصور الوهمية كانهيار جدار مثلاً أو إطلاق شلال مائي وغيرها، نضيف كذلك الرسوم متعددة الأبعاد التي يقوم بها الفنانون في رسومهم في الشوارع كرسم الحفر والأخاديد وغيرها من أنواع الرسوم البصرية المثيرة. وهنا السؤال هل يستطيع أي مخرج يستخدم التقنية، فقط، أن يقدم عرضا مثيرا ورائعاً؟ بالطبع لا لذلك سعى الأنباري إلى تفعيل الحالة الإخراجية الإبداعية لدى المخرج وتدخّل بالتصاميم الأولى للأفكار، بحيث جعل منفذ الابتكار أحاديا، كما قلنا، فأنت لا تستطيع إرغام عقلك على الجديد، ولكنك تستطيع ذلك بالتساؤل والكيفية التي ستفضي للإجابة عما يشغلك، حتى بالوسائل الفقيرة المتاحة. ولكن في حال امتلاك المخرج المبدع وسائط التجربة الحديثة فبالتأكيد سنحصل على رؤية بصرية تفوق الخيال. إذن نفهم آنذاك فكرة شرح المؤلف لعمله حكائيا كونه ليس تدخلاً بالقطع، وإنما مساهمة بارعة لإنتاج قيمة إخراجية مستحدثة في ذهنية المخرج، بحيث يستطيع المخرج نقلها مجتمعة إلى العين والجوانب الحسية الأخرى على درجة كافية من البراعة. كل ذلك يحدث في مصمت واحد، إنه مشهد رائع حسب، ونترك الصالة وما زال ذهننا تشغله تلك الأسئلة اللامتناهية التي قدمنا لها نظرياً في البداية في استنطاق العقل الباطن الذي يعيد إنتاجها على وفق عدد غير محدود من التعامل المشترك الصوري والسمعي والوجداني الحسي. وربما يستطيع أي مبدع آخر إحالتها إلى واقع عمله. فنياً نعم؛ وحتى إخراج عمله الروتيني اليومي من مصابه المزمن الموروث والمطبوع بالجمود وضعف الحركة.
في معرض تقديمه لكتاب الأنباري المنتخب (المجموعة المسرحية الكاملة) أمام تلامذته، بعد أن اختارها الأستاذ د. سيد علي إسماعيل (كمقرر دراسي لطلبة الدراسات العليا في جامعة طنطا) يقول إنها «...أسلوب جديد بالكتابة المسرحية نحو التجنيس... تجربة جديدة لم يكتبها غير الأنباري...» (13) وهنا تبرز التجربة أشد ما فيها جرأة وهو كتابة نص صامت، فمن المحتمل جدا أن يقوم أي ممثل بتقديم عرض صامت، لكننا الآن أمام تجربة من نوع آخر هو تقديم نص صامت مقروء يمتلك جميع مرتكزات القطعة الدرامية قابلة التنفيذ بنفس الوقت، وهذا بالذات شرط معرفي آخر يهتم بالتعشيق الفني للعناصر الإبداعية المختلفة، ومن دونه لا يفرض النص سلطته التجنيسية بل يبقى منتمياً لإحداها.
يبقى أمامنا مفصل واحد هو (التنظير والتطبيق)، لن نحاول شرحه، إنما سنحاول إثبات قدرته نصيا ببعض الأمثلة النصية/الكتابية التي أوردتها الصوامت.
النصوص الصوامت
حظي الجانب النظري الذي ابتكره الأنباري على اهتمام مناسب من قبل المعنين والنقاد الكفوئين، وإذ قمنا بسعي مناسب آنفاً لإثبات صلاحيته وجدواه، فلا بد من إقران مناسب أيضا على نحو عملي. وبذلك سنعتمد على (المقابلة) بمعنى الاجتراح اللغوي الصامت وما يقابله كفعل حركي، ليس على الخشبة، بل في البنية الدرامية الكتابية ذاتها.
يعتمد الأنباري في مشروعه برسم الحركة على فكرة (الأنساق) فلكل معلوم وجه غائب، كأن يكون للجمال وجه قبيح، أو للأبيض وجه أسود، والوجه الآخر للولادة هو الموت أو العكس... على واقع التجربة وكتابة النص تنفتح تلك الأنساق لتنتج قيماً تبادلية مفتوحة، فلم تعد المفاهيم تحمل مواصفات محددة، مثل الفقر، الإجرام، الضحايا.. الخ... وإنما مع اشتداد التركيب المشهدي والعلاقة التبادلية بين جميع أطراف شخصيات العمل: اللوحات، الفعل الفردي، ستنتج مفاهيم بمعانٍ مضافة وربما بعيدة كل البعد عن المعنى الأصل.. وهنا في هذه اللحظة بالذات تنتج الانساق نسقاً مفتوحاً غايته التغيير، يمكننا الآن وصفه بالتراكم الكيفي، فنحن لا ننتظر من أفعال الأنباري المشهدية قرارات آنية مطلقاً، كما لو أعطي العطشان شربة ماء وانتهى الأمر، لأنه سيعطش وسيطلب الماء مرة أخرى. إذن البحث عن الأنساق المفتوح هو هاجس الأنباري في صوامته التي سنستدل عليها تباعاً.
مسرحية طقوس صامتة
صرخة نسوية/ ظلام/ ناس مهرولون/ ملابس بيض وسود/ رجال نصف عراة/ آخرون بملابس زاهية/ إيقاعات/ رقص/ سيوف صدور ناهدة/ مقصلة/رقصة شيطانية، جسر/ طفل...الخ.. ما كل هذا (في مسرحية طقوس صامتة)؟ (14) هنا لابد من فهم حبكة النص كتسلسل درامي حدثي لنفهم ما يحدث.
تبدأ الحكاية بصرخة نسوية وعويل.. هي الفاجعة/ الاغتصاب.. تستولد الصرخة ناساً من كل صوب لتعميق فكرة الصرخة أو جدواها.. فيما يتعجب من الأمر الرجل صاحب (الملابس البيض) تعبيراً عن حسن النية وحتى البلاهة. ثم يبدأ الكاتب بتوصيف الحبكة/ الحدث بأثر رجعي ماذا حدث؟ هذه الانتقالة الاستفهامية جوهرية، ونعني بالجوهرية بمثابة (المشهد الأساس) في السيناريو فلا يمكن متابعة الحبكة من دونه. فتستولد الحكايات عدداً من الضحايا/ السبايا المغتصبات يقدمن أنفسن للمذبح، بالطبع مقروناً بالجلاد/ الجلادين حسب أهميتهم وأدوارهم. تتولد هنا من خلال الرمزية أسئلة كبيرة في البحث عن المنتج التعاقبي للرغبة بالإجرام العام والإجرام الذاتي وعدم رغبة الضحية بمفارقة مصيرها، بل الدفاع عنه، بما فيه صاحب الثياب السود الذي يستنسخ نفسه بنفسه بشبيهه بملابس سود كصفة للتناقض البشري. فيما يبقي على رمزية أوجدها منذ البداية تمثلت بالجسر كتعبير عن هجر الحالة الهذيانية المفعمة بالخراب من جانبيه المادي والروحي بمعنى المسخ الذي يطال الجميع، أما الطفل فهو التعبير الأمثل للصفاء الإنساني غير الملوث، فاستطاع الأنباري هنا الإفادة من أسئلته النظرية لمشروعه فجعل قوانينها طيعة أو العكس بحيث خضعت لإرادة الخلاص الذي تمثل بالطفل وهو يهجر الكل ويتخذ من الجسر معبرا لبداية أخرى.
حدث منذ الأزل
في مسرحيته حدث منذ الأزل نجد بقوة هذه النقائض المتصارعة، وعنوان المسرحية الصامتة (حدث منذ الأزل) يكشف عن ذلك.. ما أراده الأنباري في نصه هو تطور الصراع الجنيني من داخل تفاحة كبيرة لا تقبل، بعد اكتمال جنينها/ أجنتها، بالبقاء داخلها، فماذا يحدث؟ وكأن لوثة وجودية مشبعة بالجنون تغلف الكون الفسيح، بحيث يتم التماهي بين الصفير المُنذر وبين القداس أولا، ثم سرعة التعامل مع الذكر والأنثى بصفة الرجل والمرأة اتخذ شكله منذ اللحظة الأولى مصحوباً بالصراع الإنساني الاستحواذي غير المتكافئ، كإعانة من الكاتب، لتسهيل فهم الصراع الذي تنامى فأصبح جيوشاً، ما يقابله بالرفض للمهزوم الأعزل، ماعدا التجاوب العيني للشابة الأولى في مشهد حلمي مع نثار الموسيقى والرقص والزهور، وهما ضحيتان على كل حال، كل من طرف خصوصيته في نسقيته فيلتحمان بنسق واحد، نسق التماهي والرفض، مشمولان بالإعجاب والرقص والزهور، فيما يتسع الكم القمعي للطرف الأول الذي يعاد إلى رحمه (التفاحة) بإشارة بارعة للكاتب لدوران الرغبة والإمعان بالتعذيب والامتهان، بما في ذلك الشابتان الضحيتان/ السبيتان اللتان أخذتا إلى داخل التفاحة كذلك، في وقت آثر المخرج على تطوير شخصية الرجل الثاني (المهيمن) فتنمو باتجاه تاريخي على نحو جيش مطيع، مع إحساس مسبق بحس المؤامرة فيقتل عددا من مريديه. ومع الكثير من المشاهد البصرية الخادمة المفسرة لتنامي الحبكة، ينتهي الأمر بالجلاد، الرجل الثاني، بسمل عيني حبيبة الأول المفترضة كابتكار نوعي بزيادة الإجرام وحصة الألم، مع الإبقاء على فكرة المقاومة للأول قبل الختام المفتوح بصفة حبل المشنقة.
متوالية الدم الصماء
من الملاحظ ان هناك صفة غالبة في أدب الأنباري هي استخدام الخيال وتطويعه لفكرة واقعية حاضرة، على الأغلب تكون استبدادية محضة، ذلك ان مبحثه الأساس ينطوي على معالجة مجتمعية ابتلت بها مجتمعاتنا على مر العصور. وهنا الاستخدام الخيالي في النص الصامت يكون بمثابة اداة اساسية للكاتب، فنرى في جهد للأنباري مستويات فنية متخيلة يخرجها حسب اقتضاء الحالة. وهذه واحدة من ابتكارات الانباري والتي نراى حضورها في معظم نصوصه الصامتة. يستخدم الكاتب هنا فكرة النزول من السماء كتعبير عن ارادة حاسمة، هذا أولاً. ثم يستخدم الدم ويبتعد عن الجينية، بسبب الإبقاء على النص ضمن واقعيته، فتشابه الدماء معروفة من قبل الجميع حتى على نحو استعاري او تأويلي. أما حبكته الصامتة فهي تقوم على مبدأ الأقوى ضد القوي. نحن نقرأ التاريخ على نحو منجز نفتخر به حسب، أما بياناته الصامتة في كتب التاريخ القديم فلا نعرف عنها شيئاً، الا بالقدر اليسير او التأويلي الحسي فقط. لنأخذ مثالا على ذلك هو (حمورابي) الذي سن اول قوانين للبشرية، لكننا لا نعرف عن سطوته وجبروته وحتى عن احكامه في شريعته فيما يخص النساء والاعداء وغيرها. كذلك الحال بالنسبة لـ (ابو خذنصر) و(الفراعنة) وغيرهم.
بناءً على ذلك آثر الانباري أن يصف مشهده الأول في هذه المسرحية بطراز سومري، واحداثها زقّورة بصحبة كاهن. كل ذلك ليطبع نصه بالتوالي كذلك، فحاضرنا حلقة واحدة من سلسلة متعاقبة، أو متأثرة بسابقتها على أقل تقدير. بل يمكننا تأويل الأمر الى ابعد من ذلك، وكأن مستوى الإستبداد لا يقبل إلا بالخط البياني التصاعدي مهما اختلفت الحياة من حولنا. وهذا مثير للغاية بالنسبة للأنباري الذي شغلته الفكرة. أما متعلقات الأمر الخارجية التي اسداها الى المؤثر الفضائي الخارجي، فهو تعبير عن ارادة غير مستقلة بالمطلق، الا بالنزر اليسير من الأساسيات التي وضعها في الكاتب في كهنوتية وقوة شباب آخرين لم يستطيعوا سوى التفاخر فيجمدون بالفعل الخارجي القادم من الخارج، حتى تتم عملية نقل الدماء وحقنها بآخر فيكون الأقوى والأهم. غير ان تحولات النص تأتي تباعاً وكأن المنتج الجديد لا يفي بغرضه بعد حين، فيتم استبداله بآخر.
يبدأ النص حركيته بنزول ثلاثة رجال بملابس تشبه زي «...رجال الفضاء المعاصرين...» لهم قدرات اشبه بالخارقة، يستخدمون آلات تُجمّد حركة ستة شباب مغرورين من سكنة المعبد/الأرض. بعد توثيقهم على ستة اعمدة نازلة لهذا الغرض تتم عملية نقل دم معقدة بمتوالية شبه دائرية من الذراع الأيسر لمخلوق (فضائي) ضخم عملاق «يوثقونه على العمود السابع...» الى الذراع الأيمن لأول شاب، ومن ذراع الشاب الأيسر الى يمين الآخر... وهكذا تباعا على التوالي.
وما يهمنا هنا هو السؤآل: لماذا هذا التوالي؟
بتقديرنا اراد الانباري احكام فكرته ليس عن طريق نقل الدم وانما خلطه بحيث يصبح الشاب جاهزا للإستخدام وقت الحاجة، حيث المنتج الجديد يبقي على مواصفاته وليس غريبا بالمرة. أما عملية نقل الدم فهي وسيلة حسب لإظهار التركيبة الخارجية بما فيها اللوثة الإجرامية التقنية للقادم الخارجي، فهنا الحاكم سيكون من سكنة المعبد/الأرض ولكن بدماء ملوثة وقابل للإستبدال وقت الضرورة. وهذه هي القيمة الذكية للأنباري التي انتهى اليها «وقد صار الشبه بينهم وبين العملاق كبيرا...». بعد مغادرة القادمون الى الفضاء، ينتقل النص الى بعده الثاني، اسميه ارض+فضاء = أرض فقط. فاللوثة اصبحت جاهزة للإستخدام. أما تجليات الحبكة فقد تركزت على فكرة استبدال الحاكم الذي يستحكم بقوته وجبروته وانصبت في نص الأنباري، اضافة لما قلنا، على الإستهتار والاغتصاب، ومن ثم القتل حتى تأتي القوة الخارجية/الفضائية مرة أخرى فتستبدل الوجوه. ومع هذا التحول تكون فكرة النص قد اكتملت من دون اشارات مكملة لتبقي الكاتب على امكانية التأويل والإسقاط معاً في ذهنية اي متلقي قارئاً أم مشاهدا.
الالتحام في فضاءات الصمت
نلاحظ لدى الأنباري أن الصفة الإجرامية غالبة في نصوصه لكنها متطورة ومختلفة بعضها عن بعض، حتى نرى التدرج في هذا الجانب يأخذ منحى مختلفاً في مسرحية الالتحام في فضاءات الصمت فقد أصبحت الحياة مسكونة بهاجس القتل. ومهما قام القتيل من نعشه ووهبت له الحياة مجدداً فلن يعيد سوى إصراره على القتل الذي يبدو متأصلاً فيه بالرغم من أنه الضحية (بملابس بيض). أما قاتله (ظله) فلن يتوانى عن قتله اكثر من مرة.
حتى اصبحا متماثلين، تمثل في (رقصة القدر) لكلا القاتلين المقتولين بتناوب مثير، حتى يعزز الكاتب فكرته عن ذلك بنهوض الشابة القتيلة التي تحاول الإلتحام بالقتيل، لكنه يهرب منها، وبذلك إشارة الى أن دواعي القتل مختلفة، بالرغم من انها ضحية وتقوم بالرقص بنفس الرقصة، وكأن الأمر مفروغ منه فالكل قاتل والكل مقتول.
لا بد من الإشارة الى ان رمزية الصامتة مشغولة على نحو معقد بعض الشيء، وكأن في رآس الكاتب عددا من القصص المتشابهة آثر ان يجمعها في واحدة، فكان له ما أراد. نجد ذلك في تبدل هيئة الكهول بملابس عصرية مع هراوات كسلاح قديم، وادخال المرآة التي تطارد القتيل كوجه آخر له، واختلاف حالة الموت بين التعليق بأنشوطة واختيار المرأة الذهاب طواعية الى تابوتها، والاشد ايحاء هو مشهد اطلاق الرصاص من قبل القاتل للقتيل فتجمعهما صرخة واحدة، وهي صفة الإلتحام النهائي الذاهب لما خلف السؤال الذي سنأتي عليه.
أما التطور الرمزي للباعث الحقيقي فجعله بالمتغير النوعي، ونعود هنا إلى النمط السياقي، في الكهول المتبدلين في مظهرهم وأدواتهم من دون لوثة إجرامية واضحة، لكنها واضحة كذلك بأنهم الباعثون على الجريمة. وهنا نتوقف لنختار سؤالنا الذي نجهل بأي أداة استفهام نبدأ؟! وهذا بالذات ما أراد الأنباري أن يبهرنا به وهو أن الحبكة المبتكرة الناتجة عن فيض الإجرام وتعدديتها لا تسأل بأداة واحدة، فتجري الأنساق جميعها باتجاه أي جواب غائب، ناهيك عن النأي بفكرة السؤال الواحد الذي لا يفي بالكم الحسي التراكمي.
يتابع الأنباري تطور فكرته وهي فكرة الأنساق المتعددة للجريمة، فيحاول في نص (محاولة لاختراق الصمت) وهي المسرحية الصامتة التي قدم لها الأستاذ علي مزاحم عباس، بطريقة موجزة رائعة، يحاول الاستفاضة عن فكرة (اللعب) فرسم لها رقعة الشطرنج، فأنت تلعب كما أريد وباللعبة التي اختار، مقابل ذلك الموت، وحتى لو انتبذت السيف (آلة القتل) المتروك لك، وحتى لو قاومت وقتلت واحداً أو أكثر فستبقى محاصراً وأسير الرقعة ومصيرك تحتمه قواعد اللعبة. وهنا ينتفي السؤال: هل ترضى أم لا؟ ذلك لوجود منفذ واحد، هو ليس منفذاً على كل حال إنما الجلوس في واحد من المربعات الفارغة.
يحمل هذا النص مقداراً من الكآبة بحيث يُقتل فيه أي أمل بالخلاص، بما في ذلك قطع رأس الطفل ومقتل أمه، والجدران الوهمية المحكمة الضاغطة على صاحب الملابس البيض من أربع جهات، لكن الكاتب وضع تطور فكرة الرفض بصرخة «قوية مدوية ومؤثرة» فربما ستصل إلى آخرين، أو كدلالة استمرار المقاومة، إضافة إلى مستويات أخرى من الرفض والشجاعة في مواجهة مستويات القتل، عالجتها الفصول الصامتة.
هذا التعدد بالسيل الإجرامي تتكون فكرة أخرى اسميها (تأصيل الجرم) فهل يبقى الإجرام محكوماً فقط بالاكتساب أم سيكون بعد حين موروثاً جينياً؟ وهنا لابد من العطف على الفكرة الفرويدية (الإنسان الذئب) الخارج من معطف الإنسانية إلى خارج حدودها، والتي ينبغي معالجتها إنسانياً على الكوكب الذي نعيش عليه، فهي لم تأت على نحو متخيل في ذهنية فرويدية، بل مرضاً بشرياً، تابع نشاطها عدد من العلماء، وطالت الأدب والفن.
ابتهالات الصمت الخرس
المزاوجة الرائعة بين فكرة الكهنة والسلطة في مسرحية (ابتهالات الصمت الخرس) هي في واقع الحال الابتلاء الرهيب للإنسانية. يبدأها الكاتب على نحو طقوسي سرعان ما يتحول إلى الإجرام، يبدأ برفض حالة الانحناء والرضوخ والتوسل للمرأة التي تبرك عند قدمي (الرجل الأكبر)، وهي الضحية (الأولى) المشتركة التي أراد الكاتب إبرازها. يستخدم الكاتب رقصة (الساس) العربية الذكورية مدخلاً للجريمة، وهي إحالة خالصة للعنف الموروث الذي تساءلنا عنه قبل قليل، والذي سيشكل نزعة ثابتة في مجتمعاتنا بما فيها قوانينه كغسل العار ودونها. تبقى صامتة كنصوص الأنباري حتى يأتي عالم جليل لاستنطاقها، وهذا خارج موضوعنا على كلّ حال، إنما استدركت به لأن سؤال المسرحية ولد لديَّ تساؤلات لا تنتهي مع إحالات أخرى لا تنتهي كذلك، واحدة منها التأسيس لسلطة القتل من قبل الجناحين (اليسار واليمين) بصفتي الرجلين القويين. استطاع الكاتب مستخدما بنية أسطورية بالخلاص على يد (القادم الجديد) القادم من خارج (الكوكب)، مستخدما الأسطورة المشغولة دينياً، بقوة برهانية يشفى بها الأعمى وتعيد الحياة للميت مع تناوب وتعاقب للفعل الدرامي الموسوم بانتصار غير حاسم لكلا السلطتين. حتى يتمكن (الرجل الأكبر) من استعادة سطوته مرات في غياب القادم الجديد الذي يتم طرده بجو من المؤامرة أو التفاهم الصامت، فتشطح أذهاننا إلى عدد آخر من الإحالات المعاصرة، جمعها الأنباري في نص مفتوح واحد خالقاً تساؤلات أثبتت شرعيتها من خلال تحولات النص. وفي هذه الأنساق المتباينة والمتصارعة والمتفاهمة بنفس الوقت شكّلت أو أجّلت سؤال العدالة السماوية المبني على الخرافة بل حددت بتراجعها مصير الأرض المحتوم، وهو استنتاج كئيب، بأن القوى الظالمة هي واحدة وهي الباقية على مرّ العصور. وإذ أقوم هنا بكشف الأنساق تلك، ذلك لسبب واحد هو تشظي احتمالاتها ذهنياً إلى انساق متعددة تجعل القارئ متأملاً لمصائر متعددة، ربما واحدة منها عزوف (القطيع) عن تأمل مصيره بعدم قيامه بفعل يطلق طاقاته.
والحال بالنسبة للمسرحية الصامتة؛ بماذا اختلفت عن حكاية (كان يا ما كان)؟ ففي الحالتين هنالك أناس مظلومون، ورجل جبار، وصراع على السلطة، ووجهان للحياة، خيرها وسوئها، بداية ونهاية. تعيننا أمثلتنا أعلاه من بنية نصوص الأنباري وطريقة تفاعلها على أساس حداثيتها بأن شيئاً بينياً يحدث مع كل نقلة، على عكس الحكاية المتسلسلة الأحداث والذاهبة إلى مصير واحد، لا ضير إن كان حزيناً أم مفرحاً، إنما في المعالجة الكتابية الدرامية الصامتة تأخذ الأحداث، بصورها المركبة، نمطاً تساؤليا مع كل انتقالة، ناهيك عن فتحها آفاق تمنح النص قدرة كافية لإطلاق عوامل رفضه، بينياً كذلك، ممتلكاً قوة تحريضية كبيرة بنفس الوقت. بمعنى امتلاكها طاقة كامنة لإحداث أي تغيير محتمل، وإن لم تحمله القصة الصامتة على عكس الحكاية التقليدية، فإنها، أي الطاقة المخزونة التي تشحن حتى النهاية ستكون منتجة وليست حتمية منتهية. إذن إنها خرجت من جلباب الحكاية وأسست لنفسها بنفسها نسقاً كما تعرضنا له آنفاً. وهنا ينبثق الفحوى التساؤلي للقارئ ومخرج العمل وعناصره، فيتم تحديد اتجاهاته ومساراته وإخضاعها للمفهوم الذي استولد من قِبَلِ القارئ/ المخرج/ الممثلون.. وبالتالي إطلاق الشحنة الكامنة لإنتاج مضامين مختلفة، قد تكون مختلفة، بقدر ما، عن أفكار الكاتب نفسه. واذا ما أضفنا الحركية الصامتة المفعمة بالحركة والصوت والإضاءة كـ(تقرير حلمي) حسب ما ذهب إليه الناقد المرموق علي مزاحم عباس نكون قد أطلقنا في رؤية بيكت في مشهده اليتيم (فصل بلا كلمات) مشاهد حية غير يتيمة هذه المرة بل متوالدة ومتصلة ومشتملة على أنساق قد تخرج عن السياق الكتابي وحتى الإخراجي إضافة لرؤية الكاتب كما أسلفنا، فجميعها ستخضع إلى عامل واحد هو المشغل الذهني للمتلقي بصفتيه القارئ والمشاهد ومن ثم الكفاءة المهنية للناقد.
الهديل الذي بدد صمت اليمامة
التخصيص الذي اعتمده الأنباري في مسرحيته الصامتة (الهديل الذي بدد صمت اليمامة) بقراءة البطلة لرواية (ذهب مع الريح) لـ "ماركريت ميشل" (15) التي تنتهي بجملة أو بفكرة واحدة لم يذكرها الكاتب حرفيا: (غداً يوم آخر)، ألهمت الكاتب تقليص الفروق، وعلى نحو أدق اختزالها، بين الحبكة الروائية وبين المشهدية على نحو صامت. فماذا حصل؟
نحن نقرأ الرواية لفيضها الإنساني، وهنا نقوم بحس استدراكي لتلك الفحوى أو النشاط الذي يجعلنا نمتلك رؤية ثابتة لما حدث وما يحدث، ولكن ماذا عما سيحدث؟ يقوم الأنباري مثلما في هذه (المسرحية/ القصة) باستشراف متأمل من خلال تعمية رؤوس الرماح لمظالم الحروب بتعشيق مع صور الحب والانتظارات، بما فيها مواجهة المكائد والنزعات الفردانية، بحيث يصبح هديل الحمائم الصوت المحرّض، وهو مؤكد، غائب وحاضر منتج متدرج. وبهذه اللبنة التي أسداها رمزيتها الكتابية استطاع أن يفرض هيبة عاطفية، ولا أقول شحنة، لأنها تخطت الحدود أكثر من مرة فتجاوزت ضعفها كونها دمدمة كورالية إلى صوت ينتظره القارئ/ المشاهد في وقت يحتاج ذلك الصوت بنفسه، أما الكاتب فهو الذي يقدر بمجساته تلك الحاجة تناغما مع التصاعد الدرامي للحدث. كيف؟
حالة الانتظار التي استخدم فيها الكاتب كأسي العصير والكرسي الفارغ المقابل هما رمزا الانتظار والإخلاص. رسم المشهد بأصوات انفجارات دلالة حرب تحصل وعلى الأغلب إن من تنتظره هناك، ومع كل نكوص واكتئاب تلجأ الشخصية/ العاشقة إلى فتح الكتاب لتستجلب الأمل بصوت الحمام الذي يأتي مع كل فتح. ثم يأتي على التصاعد «...فصيلاً من المهرولين وهم يطلقون أصواتاً كالتي يطلقها الجنود...»، ثم مشهداً ملازماً عن الأمل فتتخيل وجوده ويلامس كأسه الذي سرعان ما «تسقط من يده». ثم تصاعد عن اللاجدوى فالقادمون يحملون الموتى فتبكي.
نلاحظ هنا أفكاراً مختلفة في مشاهد متتابعة: الانتظار، الأمل، أصوات الوصول، ثم الكشف عن السبب، فالانهيار «تسقط على الأرض» خشية منها أن القادم هو من تحب، وهو المشهد الذي يتكرر في المصمت الثاني، بعد حالة الأسر المعنوي بصفة السجن، لكنها لا تترك أملها (الكتاب) ليجلب لها هديل الحمائم. أما واقعية النص فقد جعلها الأنباري في مشهد اغتصابها حيث يقتحم عالمها الصامت رجلان ممسوخان يقدمانها وليمة لسيدهم، فينتهي المشهد بـ«صرخة قوية مستغيثة طويلة، ومدوية..». وهنا ستأتي الإجابة المستقبلية للجريمة الذي تقاومها بالأمل فجعله الكاتب في أقصى درجات المقاومة والانتقام. استجلبت حبيبها إلى منطقة الأمل (خيال الظل) يشربان من الكأسين و«يرقصان بفرح غامر». أما المستقبلية المنتظرة فتأتي بشكلين: الأولى بحالة هذيانية مستفزة بفعل الأمل للحبيبين في المشهد المتخيل المفترض، فيطبق الرجال الثلاثة مشابكهم باتجاهها فيما تتصاعد مقاومته، حتى في أشد اللحظات قسوة، فلن تترك روايتها التي ستجلب لها هديل الحمام كما في كل مرة فيستمر إلى النهاية بطريقة (Fadeout) دلالة اللانهائية. لا أعتقد أن بعد هذا الإيجاز في تعشيق الأفكار والحبكة الدرامية للأحداث بأن قارئاً سيقول: إنني لم أقرأ رواية كاملة في هذا النص.
حلقة الصمت المفقودة
يعالج الأنباري في مسرحية (حلقة الصمت المفقودة) فكرة سطوة وهيمنة الرجل الأوحد أو الدكتاتور بصفة "الرجل الكبير"، وعلى الأغلب في ذهنه نموذج محدد منحه سمات عامة وخصص سلطته بـ هرم يتربعه من ثلاث طبقات كرمزية عن مراحل تطوره للوصول إلى قمة الهرم (السلطة). أما التابعين فلكل فرد محدد من مساعديه له دوره، ولكل مجموعة لها دورها كذلك، فتقسمت على نحو ذئبية وهي المستشرسة والممعنة بالقتل يقودها التابع الثاني، الكلابية وهي سمة التخويف والبحث والاستدلال، والثعلبية عن المراوغة والإيقاع يقودها التابع الأول، ثم مجموعة الراقصين والمهرجين بصفة القرود المعروف ودورها من اسمها، وأخيرا اختار أربعة نماذج من الرجال. ترى كيف واصل الكاتب وأسقط فكرته ميدانيا، وكيف استطاعت حبكته تجنيس نصه، وهل كانت كذلك؟ سيما أن النص مفتوح، يفهمه كل من عاصر فترة ظلامية محددة أو كان أحد ضحاياها. وبسؤال آخر بماذا اختلفت عن رواية أي إنسان كان ضحية التجربة التي حاول الكاتب استنطاقها بفن مغاير؟
يستخدم الأنباري هنا فكرتين هما الحفاظ على سلطة الرئاسة، والسأم، فينطلق من واقع هادئ وكل شيء على ما يرام فليس هنالك ما يتهدد عرش الرجل الأكبر ولا منازع له فالجميع كما يبدو من حركاتهم وشدة انصياعهم هم عناصر خشبية بحس واحد هو تنفيذ الأمر بحركات خرقاء. لكن الأمر لن يرضي الرجل الأكبر الذي يبدو سئماً وقلقاً، بحس منه أنه مهدد من قبل قريبين وبعيدين. فيقوم بإشارات ليبدأ الجميع بتنفيذ أدوارهم وما تعلموه وما صنعوه لأجله من خلال حركة وليست كلمة، فالرجل الأكبر يشير فقط، كدلالة على قوة فاقت النطق غير المسموح به مطلقاً. وهنا نجد الإسقاط الأول لأسم النص، بحيث يستخدم الكاتب الموسيقى كتفعيل درامي عن عدد غير محدود من الإيحاءات التي تنم عما يحصل. وبنظام متسلسل يبدأه الكاتب بالتهريج والرقص والتباهي والولاء، ثم الانسحاب دلالة إكمال مهمتهم خارج المسرح الذي صار مركز الحكم، فكل المجاميع تنطلق باتجاهات مختلفة. بحيث تخرج القرود من دون توصيف محدد دلالة على أن مكانهم في كل مكان، بينما تخرج الثعالب من اليمين، بإشارة إلى اليد اليمنى (الميدانية) التي تطول، وتدخل من يسار المسرح دلالة على دورانية مهمتهم، ثم تؤمر بإشارة من سيدهم بالاندفاع نحو الجمهور، وهذا عنصر مشاركة حي. تختطف (أربعة رجال) سيتعامل الكاتب معهم على مستويات مختلفة. يستسلم واحد منهم وينظم إلى فرقة المطاردة فيما يهرب ثلاثة منهم تطاردهم مجموعة الكلاب. هذا هو المستوى الأول الذي تمت به المطاردة واجبر أحد المطاردين أن يكون متخاذلاً فيتشبه بهم. المستوى الثاني حيث تقوم مجموعة الكلاب بأمر سيدها بمطاردة الثلاثة الآخرين، تظفر بواحد، ويهرب اثنان. يجبر الأسير الثاني أن يصبح كلباً مثلهم ويطارد الآخرين. بالطبع هناك معالجة درامية للكاتب في هذه المشاهد تنم على قوة الرجل الأكبر وجبروته، بالإضافة إلى استخدام المؤثرات لتفعيل المشاهد وتحديد فواصلها كفصول الحبكة القصصية. ثم ينتقل إلى المستوى الثالث بصفة فرقة الذئاب التي تظفر بأحد الرجلين المتبقيين الذي «يذعن لمشيئتهم فيسير على الأربع ثم يكشر عن أنيابه ويطارد الرجل الذي تخلص من قبضتهم...». هذه المستويات يمكن اعتبارها مفتوحة فلا يهم أن يكون الأسير ممثلا لمجموعة من البشر أم انه نفسه طرف في السلطة أو ذنب لها أصلا، إنما هو كيفية تشيئ وتأسيس فكرة (الرجل الأكبر)، حتى نقع من خلال النص أن ليس هنالك رجل أول أو ثاني إلا بالتسمية فيتم التعامل معهم كذلك بالسوط والإهانة ليدمجوا مع المجاميع المروضة. أما المستوى الرابع هو الضحية المقاومة التي منحها الكاتب مواصفات اعتبارية خارجة عن حدود التحمل والاحتمال، وهي بذلك مشاكسة، رافضة، عنيدة، تعرف قيمة التضحية وجدوى المواجهة بـ(الضعف). فهي لا تمتلك سلاحا تواجه به كل هذه الجيوش الغابية/ الحيوانية، لكنها تبقى على عنادها الذي من خلاله ستتم عدوى المشاهد بعد مشهد القتل، بمغادرة صالة العرض على درجة كافية من الرفض، فيما أطلق الرجل الأكبر (صفارته) بالانقضاض عليها، فمشهد التسلط لن ينتهي!
هذا المنظر الرؤيوي المحدث هو مولود طبيعي وليس قيصري، خرج من تلاقح أجناس مختلفة، في وقت تاريخي محدد استدعى انطلاقه، وهو بالتالي يؤدي إلى «تكييف محدداته مع ظهور كل نتاج جديد» حسب د. ورقاء يحيى قاسم حول (النص الأدبي وإشكالية التجنيس) (16) فعالم الكاتب المثبت هو التسلط، الإجرام، المسخ.. فاختار عدم مواجهتها نصيا استرساليا بسبب زحمة الحياة وتناقضاتها، ومن ثم سرعة إنتاج التفاعلات التي ستفضي إلى شكل محدد يعالج فكرة واحدة محددة، أو ربما من جانب آخر، كما ذكرنا في «وقت تاريخي محدد استدعى الانطلاق» فالحالة كذلك هي مؤثر مهم في الخلق والإبداع. فأنت لا تستطيع أن تتحدث لكنك تستطيع الإيحاء، أو ربما تستطيع الموت. فكرة مثيرة أليس كذلك (تستطيع الموت)، يموت البطل بواجب ليس بطولياً صرفاً وعليك استخراج المعنى.
هنا استطاع الأنباري بكثافة مفهومة مكنت الوقفة الدلالية من خلال القارئ/ المشاهد إلى إحداث شرخ في المفهوم النصي المتداول لفكرة المستبد/ المجرم/ الضحية، والتي من دون خلق مطاوعة وتلازم وإخاء للأجناس المستخدمة لا يمكن أن تفضي إلى أي نجاح. وعليه تكون هنا الصوامت الأب الروحي لتلك الأجناس والعكس صحيح في حيازتنا للجنس الأدبي المقابل كالقصة والرواية والشعر...الخ، ليس تراضياً على وليمة، وإنما إمعانا في الكثافة الواجبة حسب كلّ فرع من الفروع الجناسية، ولا نعني بالكثافة هنا الإقلال السردي، بل هو القدحة المثمرة للإشعال الكافي.
سلاميات في نار صماء
يستمر الأنباري في معالجة أمر مهم في مسرحيته الصامتة (سلاميات في نار صماء)، فنسأل أولا إذا ما كانت النار صماء فعلاً، أو أن الكاتب قد أخرجها من وجوديتها وهو يسعى إلى فك عقد لا يجدر بها أن تكون عقداً أصلاً. فالرجل والمرأة كائنان طبيعيان، كبقية الأحياء، هذا إذا ما تجاوزنا هيولية المواد الأخرى. فلماذا الإمعان إذن بالتركيز عليهما، وما السر بذلك؟
الطبيعة الملغزة، شجرتان تقدمان الورود على نحو لوحة سريالية، يفتحان افقأ مناسباً، فالكاتب لم يرجّح المفهوم الغيبي بالمؤامرة على حبيبين وإبعادهما عن بعضهما بعضاً إلا على نحو استعاري، أما إرادة الشيوخ الثلاثة في المسرحية تحتاج إلى سلطة غيبية لتنفيذها، وبذلك وضع الأنباري أول حجر لفكرته، وكأنه أراد في الصواعق والرعد وأصوات الكون أن تكون بفعل ارضي محض. وعلى هذا الأساس استمر الكاتب بمعالجة المستويات التي وصفها في اسم المسرحية بالنار (الصماء). المستوى الأول هو تأسيس القوة الموسومة بالماضي وتسخير الغيب لمنع الحب والتفريق بين حبيبين منجذبين لبعضهما كتقرير طبيعي لسجية الوجود. نرى تطورها في المصمتين الأول والثاني باستخدام السيف والمشبك والقضبان الحديدية دلالة على تطور التعاليم والقوانين الصارمة والموغلة بوئد أي لقاء محتمل، وهذه السلامية/ العقدة الأولى التي ستنتج المستوى الثاني في عصر آخر معاصر، موسوماً بالزحام وبـ «أصوات محركات السيارات ومنبهاتها، وضجيج المارة...» وهو (المصمت الثالث) الذي سيشتمل على بحث الحبيبين عن بعضهما وسط الزحام. وفي المستوى الثالث يتم اللقاء الذي تنقض عليهما فيه الكلاب البشرية. في المستوى الرابع تتطور حالة المنع المادي الذي عبر عنه الأنباري بصورة واقعية باستخدام الحبال التي يربطان بها، من قبل مقنعين اثنين، حتى يوعز لهما المقنع الأكبر، الذي اتخذ مكانه فوق المرتفع واختفي، فيطلقان النار على الحبيبين. يمكن تأويل الفكرة غسلاً للعار على سبيل الاحتمال، أو ثأرية محضة لانهما تجاوزا الخط الأحمر.
المستوى الأخير للنص تمثل في تلخيص حالات الرفض التي لم نأت عليها في حينها فلكل مستوى من المستويات كانت هنالك حالة رفض ومقاومة من قبل الحبيبين بشكل من الأشكال، قوبلت جميعها بعقاب مناسب، أما المشهد الأخير، بعد موت العاشقين، اختار الكاتب حله فأنهضهما من نعشيهما، بإيحاء واضح بأن المسار الطبيعي لمنطق الأشياء لا يحكمه الموت أيا كان نوعه، وهذا بحد ذاته استبصاراً، بمعناه الكلّي، وليس تأويلا للكاتب، فما دامت الطبيعة محبة فلماذا وجب على الإنسان لي عنق الضرورات وأولها الحب، ثم يبحث فيما بعد عن مخارج؟ ادخل الكاتب فكرة الاغتصاب، اغتصاب المرأة التي تنهض من نعشها، من قبل الرجل الكهل، فيما يدافع الرجل عن حبيبته فيتجمد عن الحركة، بحركة دراماتيكية سحرية بصولجان الكهل، دلالة على امتلاكه كل مصادر القوة، وعندما يفشل المغتصب، تكون النيران الصماء، بمشيئته، قد أشعلت «...تاركاً المرأة والرجل يكتويان باللهيب...».
سؤالي لأي كاتب: هل تستطيع كتابة رواية أو قصة قصيرة معتمدا إحداثيات الأنباري؟ توصيف زماني ومكاني، شخصيات واضحة، ومفاتيح لتصعيد درامي، خطة روائية كاملة، هل يكفي ذلك؟ قبل الجواب بنعم: هل أستطيع اختيار حبكة أخرى؟ نعم بكل تأكيد. وسؤالي الآخر هل في هذا النص تجنيس مختلف؟ الجواب اتركه لقارئي حسب ما تقدم، لكنني أقول: نستطيع تحويل النص أعلاه إلى عدد كبير من الحكايات/ القصص/ الروايات... وعلى الأرجح عندما كان الأنباري يسن قواعد (لعبته) بالنظرية كانت مخيلته تشتغل في ضفة أخرى لإكمال مشروعه، وعلى ذلك لا نجد أية فجوة مردومة بقصد، بل نجد التطابق بين جناحي المشروع الصامت النظري منه العملي فيه.
هرم الصمت السداسي
في مسرحيته الصامتة هرم الصمت السداسي، يجنح الأنباري بمشروعه إلى خارج حدوده الأولى لحد الآن، فجاءت مسرحيته على نحو (حدث) أو معلومة استقاها من واقع محدد، وهذا بالنسبة للشخص المعاصر الذي يعرف الحدث أصلاً، ترى كيف استطاع الأنباري من تحويل الخبر إلى مختبره الصامت ليتعامل معه كفكرة صارخة تستهدف أي إنسان، وان نجح بذلك فهو تأكيد جديد على امتلاك الصوامت القوة التعشيقية Integration بمعنى تواصلها بين شقيها النظري والكتابي العملي مع المعرفة، بطبيعة الحال موصولة بالرؤية الإخراجية الأولية للمسرحية الصامتة، ناهيك عن مظهرها العام الجديد.
هناك سجين يتعذب وجودياً في زنزانته، وليس بالضرورة عذابا مادياً كالمرض مثلاً أو طعنة ما وهذا مرجح لحد الآن، إنما ممكن تصورها على نحو صراع ذاتي/ ذاتي. هذا على أقل تقدير، أما التقديرات الأخرى فسيتم الكشف عنها تباعا من خلال المعالجة.
يصحب مشهد السجن الأول موسيقى معبرة، وثلاثة أشخاص يعتلون الهرم، والهرم هنا اختاره الكاتب لمضمونين الأول السلطة/ القرار، والثاني هو إشارة لمكان الواقعة.
المشهد الثاني هو بداية الحكاية (فلاش باك). العسكري الخفير هو حارس (البوابة/ الحدود) بصفة النسر الهابط وهذا رمز آخر على مكانية الحدث. تشاغله فتاتان فاتنتان بنزق ومجون. العقدة هنا ذكورية صرف إن لم نقل شرقية كطريقة بالإيقاع، فهي أكثر مضاءً من المال أو أي شيء آخر خصوصاً في أوقات يتوحد فيها العسكريون مع ذواتهم لمدد طويلة أحياناً. إذن الاختيار صائب وفي محله. يرتكن العسكري إلى واجبه بحركة دراماتيكية «يرمي عقب السيجارة، ويسحقها بقدمه بقوة توحي بانفعاله وتردده...». نلاحظ هنا الانفعال والتردد لوقت قصير جداً حتى تتعزز لديه مهمته فيتلفت ليرى ثلاثة متسللين، لم يتردد بإطلاق النار عليهم، فيرديهم قتلى. وهذا واجبه على أية حال فمن اجل حماية الحدود اُنتدب لمهمته.
هذا هو واقع القصة وليست تداعياتها التي ستأتي استدراكية بمجملها. بحيث يفك الكاتب العقدة الأولى وهو سر (الثلاثة) معتلياً الهرم في المشهد الأول، فينزلون ويدخلون «البوابة النسرية»! ثم ماذا يحدث؟ وهذا أمر مثير فالكاتب يلاحق المعنى كمن كتب رواية أو تاريخاً بأكثر مفاصله بأسا، بحيث ينزل ثلاثة مكعبات كناية عن الهرم/ الأهرامات لثلاثة حقب تاريخية متتالية، يمتطونها مع يافطة زمنية آنية موسومة بـ (ميزان العدل) وهي الميزة التاريخية المنقولة ولم تتغير على مر العصور، فمن يا ترى الذي يمعن بالإجرام؟، ثم تدخل العاهرتان/ الغانيتان، مرحبا بهما إلى أعلى الهرم.. سؤالي: كم عدد من الصفحات سيكتب الروائي ليصل هذه النتيجة؟ المهم كل هذا الوهم التاريخي سُخّر في لحظة واحدة لقتل العسكري الذي اُمرَ أصلا بالدفاع عن البوابة/ الحدود والتاريخ ذاته! أما مُوصلات الحبكة فيكشف عنها المصمت الرابع والخامس بصفة النجمة السداسية الهابطة من الأعلى، ثم المكعبات الثلاثة دلالة على رمزية محدثة كونها جرى إعادة صياغة وظائفها فألحقت بالنجمة، فيما تستبدل الوجوه بأخرى مقنعة هذه المرة، ليستمر نزيف الدماء ليطول الجميع من خلال تدفق جرح واحد نحو الحاضرين أو قارئي النص. في كتاب (المصطلح النقدي) المترجم لعبد الواحد لؤلؤة وردت العبارة التساؤلية التالية «عندما أخرج پيتر بروك مسرحية الملك لير على مسرح شكسبير الملكي، تناول المسرحية لكي يجعل الجمهور يغادر المسرح (مهزوزا)...» (17) هنا في مسرحية الأنباري الصامتة يعطي المشهد الأخير صفة التمرد على أسباب الدم، الكثافة اللونية تعطي إحساس بالخيبة وهي مقابلة لصورة الاهتزاز. ولو تخيلت هذا المشهد مضاء على شاشة رقمية وهمية بالتقنيات المتاحة، وهذه وظيفة المخرج على أية حال، لحصلنا على قطعة صامتة لا تضاهيها الكلمات أو أية معارضة للنص بأية شعرية أم سردية! فيبقى النص مفتوحاً بالرغم من النهاية إلى مالا نهاية، ليس بالضرورة أن يحفز على حمل بندقية بل ينمي أسلحة دفاعية بأقل حال.
شواهد الصمت المروضة
يعكف الأنباري، في مسرحيته الصامتة «شواهد الصمت المروضة» على معالجة فكرة (الترويض) وهو الاسم الذي انطوى عليه عنوان المسرحية بصفة الشواهد جمع (شاهدة) كناية عن الموت.
يؤشر ذلك إلى أن موضوعات الأنباري عنيفة ومتطورة وتفوق المحاكاة وكأنها تخترق نص المأساة التقليدي بأكثر من موقع، بحيث ينبثق فجأة السؤال: كيف نتواصل مع الحكاية؟ باعتبارها خارج المأساة (الطبيعي). وهذا له جانب ريادي مؤكد كون الفعل الصامت لم يكن مُختبراً لحد اللحظة التي كتب بها الأنباري نصوصه، وعليه لا نجد له مقارنة أو مقاربة سوى تاريخية سحيقة ربما ترجع إلى المأساة الإغريقية الأولى وبأفضل الحالات تطورها الشكسبيري اللاحق وما بعده، وكلاهما غير صامت، كذلك المُطور المانياً واسكندنافياً «ففي الواقع إن الفلاسفة الألمان والاسكندنافيون هم من أعطوا المأساة مركزها...» (18) حسب المصدر ذاته ص٤٧. ترى هل فطن الأنباري لهذا الفراغ/ النقص/ العوز فقدم تجربته الصامتة من خلال حكايات لا تقل شأناً عن تلك الموغلة بالعتق لِكَم إنسانيتها فتبقى لاهبة مادامت قوى الشر قائمة، بل تلبس لبوسها المعاصرة فيمنحها الأنباري كهنيتها وقدمها وحتى أساطيرها الغامضة عن الخلق وقوى الشر. أليس هذا كافياً بحد ذاته لاجتراح الفكرة التي لا تقول لكنها تفعل، وهي الصوامت، احتساباً لجلال الحالة والرفعة الإنسانية، طهارتها ووضاعتها؟ فيعبر «بتسلسل الأحداث عن حالة بشرية أو موقف إنساني» حسب د. صالح الرزوق (19)
في مشاهده الصامتة نجد مع كل مستوى ترويضي ما يناسبه من أثر نفسي. هذه الفكرة الخارجة من بطانة تاريخية سحيقة تجد استدامتها (عصريا). في الحالة الأوربية، كما تشير المصادر، بأن إحداثيات المعالجة تنوعت للحد الذي جعل من حالة مسرحية واحدة تنتج نفسها على وفق معالجة ثانية وثالثة...الخ. أما انتباهة الأنباري هنا تكمن بتلك المستويات المتراكمة فلا نجد أن شيئاً يحصل مهما بلغ التعقيد.
في المشهد الأول، دعني اسميه بالمدخل التاريخي، «يظهر رجال أحياء... يقفون بخشوع، وإذلال ثم يستديرون نحو الكرسي... يظهر الرجل ذو الملابس الحمر جالساً عليه بشموخ وكبرياء لا تليق به...». ثم يبدأ فعله الحركي بالسوط نحوهم فيزداد اضطرابهم وضرب الأرض بأرجلهم حتى يهدأ الرجل ذو الملابس الحمر، وهذا المستوى الترويضي الأول الذي قاد إلى تفسير اللوحة الثانية/ المشهد بنهوض الموتى ومحاولتهم الاقتراب أو الإجهاز عليه، لكنهم يصطدمون بجدار وهمي فيرجعون إلى قبورهم يائسين، فيما يستمر الرجل ذو الملابس الحمر بالضرب. فيأتي ضرب أرجل الأحياء للأرض وكأنه الصدى الطبيعي لسلطة الإذلال، حتى يأتي مشهد حُلمي بتفاعل بين الأحياء والموتى فيرمي الأحياء قطعاً من ملابس الأموات بوجهه، لكنه سرعان ما يستفيق من غفوته «فيجفل الأحياء». وبعد معالجة درامية تمهيدية يبدأ المستوى الثالث من الترويض وهو الثأر الموسوم بتعذيب الأحياء على فعلتهم وتماديهم بصفة أكثرهم جرأة، وقتله فيما بعد أمام الأحياء الآخرين الذين يشرعون بالحبوِ على أربع كعلامة ترويضية قوية، حتى يتقدم الرجل ذو الملابس الحمر نحو جمهور النظارة بتهديد وزهو شاهراً سوطه بوجوههم وكأنه يقول: جاء دوركم إنْ كنتم ممتعضين. وهنا استطاع الكاتب إدخال القارئ/ المشاهد ضمنياً في نصه من دون جهد، بل باسترسال بلاغي صامت.
إما مستوى الترويض الرابع وهو الأشد عنفاً فقد منحه الأنباري مضموناً مختلفاً، هو ليس الترويض حسب، وإنما هو نقل جرثومة القاتل الإجرامية إلى الأجيال، فوضعنا الكاتب أمام مستوى تعاقبي بحيث يقوم الشباب اليافعين بخنق ذويهم الأحياء حتى الموت! يستثني الكاتب واحداً من الشباب ليمنحه دوراً في المشهد الأخير كمكمل للفكرة.
هذا المشهد العنيف لو جاء في نسق آخر لكان مبالغ به، لكن وضعهُ في مستواه التدريجي من قبل الكاتب منحه القبول والاشمئزاز في الوقت ذاته، ناهيك عن قدرته التساؤلية الكبيرة.
لم ينهِ الأنباري مسرحيته بهذا المشهد، فواصله على نحو منصرف إلى التصاعد وليس التأويل، بحيث ينهال الشباب - إلا واحداً منهم وهو ذات الشخص- بضرب «الأموات السابقون واللاحقون»، يأتي ذلك بعد أن يتجاوزوا ترددهم بفعل ظهور الرجل ذو الملابس الحمر بسوطه كدلالة نفسية على أهمية التحام الجميع بصفة الإجرام التي لم يسلم منها حتى الموتى. أما مصير الرفض الموسوم بصفة الشاب الوحيد المشاكس فقد قام الكاتب هنا بنقلة دراماتيكية مهمة تجلّت بهروبه من مسدسي أعوان الرجل ذي الملابس الحمر، نحو الجمهور ليختفي بينهم، ليأتي عقابهم وجرمهم هذه المرة ناجزاً، فيتم إطلاق النار عليهم جميعاً.
هكذا إذن عالج الأنباري فكرته بالترويض الشمولي كأيدلوجية تحكمها الجريمة في كل مكان ولأي كان، فتعامل فيها على ثلاثة مستويات هي المجاميع البشرية، الموتى، والأقرباء.. ثم يلزم ذلك بفكرة العقاب الجماعي الذي أسداه لجمهور النظارة الذي يفترض أن يكون حيادياً مستمتعاً، لكن الأنباري جعله من بيئة أحداث المسرحية الصامتة، فتعدت فكرته إلى ذهنية القاتل بأن الجميع مطلوب للترويض والمسدس هو الأداة حتى يتم استيلاد المعنى الشمولي بصفة: الجميع هم القتلة!
أزمة صاحب القداسة
في صامتته هذه يزاوج الأنباري مرة أخرى بين المُلك/ الملك، والقداسة الموسومة بالكاهن وعدد من التماثيل، ولعل الأنباري آثر بحث هذا الموضوع أكثر من مرة بسبب سطوته وسيادته التاريخية منذ القدم وحتى يومنا هذا، فأثقل بهذا المفهوم سلوكيات مجتمعات راكدة هي مجتمعاتنا على عكس المجتمعات الناهضة. وهذا يشير إلى جوهر الاستبداد المُحكم من جانبيه المدني بصفة الملك، والديني (الطقوسي) بصفة الكاهن، وهو المبحث الذي تناوله ضمنياً في نصوصه الأخرى، إنما عالجه هنا بعناية ومن زوايا أخرى، وعليه اخترع الكاتب شخصية (الملك الكاهن) كتوصيف لا مفر من فهمه بعيداً عن التعقيد. ومن المهم أن نميّز بين هذه الطقوسية المنتخبة، وبين أي طقوسية محايدة لا ضرر فيها. فهنا تكون قد تماهت مع السلطة وأصبحت بمثابة الموجّه لها، ومن دونها يفقد الحكم تأثيره وربما انهياره في أية لحظة. وفي هذا شواهد عديدة بحثها المختصون، منهم المختص بتاريخ الإسلام وعلم الاجتماع (علي شريعتي) في كتابه المهم (التشيع العلوي والتشيع الصفوي) الذي أوضح هذا التزاوج برؤية ومصداقية حيادية، كذلك الباحث الكبير داريوش شايغان في كتابه الأثير (النفس المبتورة).
تصحب المشاهد الصامتة جميعها موسيقى طقسية، وغرائبية تبعث الرعب للتركيز على الفكرة ذاتها.
يدخل الأنباري حيّز الفعل باستعراض تطبيعي لذوي (الملابس البيض)، «مقلدة حركة الكاهن» والسجود لـ«كبير التماثيل»، مع مصاحبة اثنين بملابس سود هما اليد الضاربة فيقومان بدورهما بملاحقة وسجن وتعذيب المتمرد الشاب الوحيد الذي يرفض الأمر. وهنا يستخدم الكاتب جميع وسائل الترهيب من وحوش خرافية مهاجمة دلالة على القدم والأساطير، وأسلحة دلالة على آنية القصة أو حداثتها التي يقاومها الشاب المتمرد لحد الإعياء. ثم تأتي النقلة الكبرى للنص بالتماهي الذي أشرنا إليه أعلاه بين المُلك والحكم، وبين الطقوس، فيعتلي الكاهن بصفته المزدوجة الكاهن/ الملك العرش فيما تؤدي المجموعة «رقصة الطاعة تعبيراً عن ولائها للملك/الكاهن.
يجنح الأنباري إلى استنباط تاريخي منقول محاولاً الاستفادة منه على نحو متطور يتعلق بقوة الإنسان ورفضه للمظالم مهما كانت النتيجة بمعنى التضحية بالنفس. فالجميع يعرف قصة الأصنام التي حطمها النبي إبراهيم وعلق الفأس برأس كبيرها، ومن ثم حرقه بالنار التي لم تنل منه. لكن الأنباري استخدم الفكرة ذاتها بفعل متقدم موسوم بالرفض برغم كل أنواع التعذيب وأقصاها الجمر الملتهب في دفن الفتى المتمرد حتى النهاية، فلم يتبق للشاب سوى وسلة واحدة فيبصق بوجه الكاهن وهو وسط النار التي ستحرقه.
نستطيع أن نقول عن هذا المبنى كونه مغامرا بامتياز باستخدام الرمز، الأسطورة، الحكاية التاريخية المستخدمة دينياً، بالإضافة إلى المباحث العلمية الاجتماعية-التاريخية. فالكاتب يقف على شفى الجمر الملتهب وسيدخله نصه إن لم يستطع توظيف العناصر وجمعها في مراد آني غير مرتبك وتوجيهها باتجاه واحد، بحيث يشحذ بنا قوة مستفاضة بالرفض والتحدي والتمرد على أكذوبة السلطة الحائزة على (شرف) العلاقة بالمتعلق الديني، بالإضافة إلى الانتصار للإنسانية التي تتوق إلى السلام والحرية ومقاومة الاستبداد وغيرها من المعاني النبيلة. وهذا ما نجح الأنباري في توصيله من خلال مساحة النص المنفتح على استخدامات متعددة، فنال فرصة توجيه النص بإتقان، ومكّنه من تبويب ذاته بذاته فاستحق مكانته بين نصوصه من حيث التجنيس.
تجليات في ملكوت الموسيقى
تجليات في ملكوت الموسيقى.. هو نص عن التأهيل مشفوعاً بمعرفة موسيقية، وقت ضرورتها، بدءًا من نواقيس الفرح، السمفونية التاسعة لبتهوفن، العزف المبهر للصبي، سوناتا في ضوء القمر، نواقيس الكنيسة، معشقة بأصوات مفزعة كأن تكون دلالات حربية.
يبدأ الأنباري الفعل المسرحي الصامت بولادة طفل مع السمفونية التاسعة لبتهوفن، وهي تعبير عن الفرح، وكأن الأنباري أراد لهذه الموسيقى أثراً رجعياً يوسم ولادة الطفل بالفرح الهابط من الأعلى، أو كمن يرى مستقبلاً أو يكون رائياً لذلك بصفة الرجل العجوز، جده، الذي يأخذه من أمه ويطوف به حول آلة البيانو. فهنا ولادتان: الطفل، والموسيقى بأعلى تجلياتها. وهنا يواجه النص مشكلة، هي بناءه الذي بدأ على فكرة إيحائية موسيقية للسمفونية التاسعة التي ربما يجهل الكثيرون ظروف كتابتها كعمل، ناهيك عن مستوياتها الالهامية المعقدة، فآثر فك عقدها في مشاهد لاحقة.. ثم ينتقل إلى مستوى متقدم في المصمت الثاني من حياة الطفل بامتلاكه المبكر لعناصر الإبداع الموسيقي. مع دور راقص للأب الثمل/ المدمن بالرغم من إدمانه على الكحول، يظل مواظباً على متابعة الطفل، بل مجبرًا إياه على التعلم باستمرار، وفي هذا لا نجد تأويلاً يذكر عدا المعنى المباشر في الإملاء والتشجيع، خلق هذا توازنا بين الإيحاء والفعل الواقعي المستقبلي، بحيث يُؤثر الطفل ممارسة عزفه على آلتي الكمان والبيانو على متابعة دروسه المدرسية.
هذه بداية قصة طفل موهوب يتربى بكنف عائلة تمتلك عناصر الإبداع على نحو عقد أو تقليد لتهبها له، فيبدو الكاتب كمن يكتب سيناريو احترافياً، وهو بهذا يضع مقاربة أساسية بين السيناريو، وبين كتابة صامتة كاجتراح أو تجنيس مختلف. بحيث يُدخل الحبكة مشاهد متطرفة تختص بسلوكيات الطفل والتعشيق المثمر بين الحياة العامة للأسرة ورغباته في هذا الجانب. فيجيب على تساؤلاتنا في بداية بحثنا، بردم الهوة المفترضة بين ما وضعه نظرياً وبين ما أحقه واقعاً، ليعزز نجاحه بمسعاه الصامت. ليس شكلياً فحسب وإنما استخداما معرفياً لأصول الاحتراف الكتابي/ العملي التجنيسي كإبداع.
وكأن الكاتب يقول لماذا نفهم الموسيقى بقدرة إيحائية كبيرة، ونفترض أن النص الصامت لا يصل بكثافته للقارئ أو المشاهد.
أما المصمت الثالث فجاء على نحو تطوير للمشهدين السابقين من حيث ماهية العائلة وظروفها الإنسانية، فيبتعد عن الإيحاء مستعيضاً عنه بمفردات يومية محضة، كالذهاب والمجيء والتسوق، والحياكة وغيرها كحركات الأب بسحبه «باطن جيوبه.... خارج بنطاله» دلالة على شظف عيش وقلة مال أو سوء استخدام، وعراك محدود بين الأب والأم. تلك هي نتف عن إدخال الحياة الخاصة للعائلة في ظروف ونشأة وتطور فكرة الموسيقى للطفل الذي يمتثل لعنف الأب بالضرب على أصابعه ليعزف أفضل و «غالِباً ما كانَ لودفيج يَعزِف باكياً بسبب أبيه وكانَ لِهذا أثرٌ كبيرٌ في نَفسِه وعُلوّه كأحدِ أشهر المُؤلّفينَ في العالم» عن ويكبيديا، أو حتى ينام «والدموع لا تزال تترقرق من عينيه...» حسب الكاتب. فتأتي موسيقى (في ضوء القمر) كتعبير عن محنة ذاتية مركبة تقع بين ما أسدته تنشئته كطفل، وبين تجربة دخلها مصادفة ليواجه فتاة عمياء تعزف البيانو (حسب الرواية المنقولة) التي تأثر بها الأنباري، فيثير به شجناً مركبا بين محاكاة الحالة المصحوبة بضوء القمر الداخل لصالة العزف. وبغض النظر عن الرواية المنقولة ومدى قبولها، لكن معناها الصادق اخذ طريقه لحبكة الأنباري كتوصيف درامي هادئ قبل أن تدخل مؤثرات جديدة.
وهنا لا بد من التوقف قليلاً لنشير إلى أدب الأنباري: فهو يرث الحكاية المستقبلية من بينية الأثر الأول، بمعنى عدم ترك القارئ عند نهاية حدث ما، ثم يبدأ تمهيداً لآخر، بل نرى نصه كوصلة نسيج شفاف توصل خيوطه بأناقة واسترسال أنيقين، حتى دخوله أشد المفاصل قوة التي قارب الكاتب فيها بين دقات نواقيس الكنيسة وبين الاستغاثة والصراخ البشري وسقوط الجدران فيكون الصبي شاهد عليها فيعزف «أقرب إلى التنويمة منه إلى أي شيء آخر..» ككناية عن التداعي. ومن ثم بإشارة متقدمة يتصدر فرقة أوركسترالية تعزف في خيال الظل، ويزاوج بين كل هذا ودور الأب الغاضب فيضع كونشرتو البيان الأول الذي تصرف به الأنباري على نحو استعارة للفعل الموسيقي أو استبداله للتصاعد الدرامي، فلا أظن أن في مثل هذه الكثافة تعبيراً لا يعنى بالدلالة المباشرة في أية حبكة كما يقوم الأنباري بعمل تجنيسي مختلف بحيث «لا تتوفر هنا تفاصيل الدراما المعروفة» حسب الدكتور صالح الرزوق. وعلى نفس المنوال، ومع زمن مختلف، يُظهر الكاتب نمو فكرته كما نمو الطفل القابل للتطور بشخصيته فيصبح شاباً لا تهمه صفات المجتمع الأرستقراطي، ولا حتى الإمبراطور، الذي أظن انه (نابليون) في السيرة الخاصة، الذي تحول من أمل مشرق بنظر الشاب إلى دكتاتور، فيعالج الأنباري بصامتته هذه الانقلابات (المُعسكرة) الهاربة من الأمل والمتجهة لإعادة الشموليات بشكل جديد، مظهره التحرر. ولما كانت محاور الأنباري بغالبيتها تعالج الاستبداد والتسلّط فأنه جنح هذه المرة للبطل الذي أحبه أولا، ومن ثم (قتله) مجازاً كإمبراطور جائر. بحيث تكون المشاهد الصامتة موازية ومتقاطعة أحياناً مع الفعل الموسيقي المزدحم أصلاً بأفكار كتابية كانت في مخيلة واضع السمفونية (الثالثة)، فأعاد الأنباري ترجمتها من اجل نبش دلالتها لتصل القارئ/ المشاهد بتأثير عابر لأية فترة تاريخية. وهذا توضيح غاية بالأهمية عن مخاطر استدامة الشمولية وحتى من بطانة التحرر ذاته. وهنا سؤال آخر هل يستولد المفهوم الديني وحتى القومي أو الأممي الباهر بصفته المشرقة مكنون الاستبداد؟ فالقتل هو القتل سواء إن كان بطعنة خنجر أو أي سلاح آخر. وعلى ذلك يكون الأنباري قد اخرج الحدث من محدوديته إلى فضاء تأمله أممياً/ تاريخياً/ مستقبلياً، غير حاضن لحالة محددة، وإنما كفكرة استبدادية شمولية.
في خامس فصول المسرحية الصامتة يخلص الأنباري إلى استنتاجه بأن أفضل تعبير أو بالأحرى أفضل سلاح لمواجهة الاستبداد هو الحب. وهنا وضعه الكاتب بالموسيقى ذاتها التي تهزم أي عدد من المستبدين مهما بلغ عددهم. بطبيعة الحال هذا مشهد حلمي خالص لكنه واقع كذلك، كون فعلي الموسيقى والكتابة أخذا مجريهما إلى التأثير الرائع لملاين كثيرة من البشر. بطبيعة الحال لا ننسى الدور العظيم للسينما التي أحدثت تغيراً هائلاً في بنية التفكير الإنساني إجمالاً، وعليه تكون كلُّ الأجناس مالكة لقدرة تخيلية لنسج أشكال متعددة يتاح من خلالها رسم فكرة مشرقة لمستقبل البشرية، حتى وان كان حلماً لكنه سيغير إلى حد بعيد نمطية العلاقة بين الأصل الذي هو الاستبداد هنا وبين الفعل ومن ثم المواجهة المصحوبة بأمل عظيم.
حجر من سجيل
في مسرحيته الصامتة هرم الصمت السداسي، يجنح الأنباري بمشروعه إلى خارج حدوده الأولى لحد الآن، فجاءت مسرحيته على نحو (حدث) أو معلومة استقاها من واقع محدد، وهذا بالنسبة للشخص المعاصر الذي يعرف الحدث أصلاً، ترى كيف استطاع الأنباري من تحويل الخبر إلى مختبره الصامت ليتعامل معه كفكرة صارخة تستهدف أي إنسان، وان نجح بذلك فهو تأكيد جديد على امتلاك الصوامت القوة التعشيقية Integration بمعنى تواصلها بين شقيها النظري والكتابي العملي مع المعرفة، بطبيعة الحال موصولة بالرؤية الإخراجية الأولية للمسرحية الصامتة، ناهيك عن مظهرها العام الجديد.
هناك سجين يتعذب وجودياً في زنزانته، وليس بالضرورة عذابا مادياً كالمرض مثلاً أو طعنة ما وهذا مرجح لحد الآن، إنما ممكن تصورها على نحو صراع ذاتي/ ذاتي. هذا على أقل تقدير، أما التقديرات الأخرى فسيتم الكشف عنها تباعا من خلال المعالجة.
يصحب مشهد السجن الأول موسيقى معبرة، وثلاثة أشخاص يعتلون الهرم، والهرم هنا اختاره الكاتب لمضمونين الأول السلطة/ القرار، والثاني هو إشارة لمكان الواقعة.
المشهد الثاني هو بداية الحكاية (فلاش باك). العسكري الخفير هو حارس (البوابة/ الحدود) بصفة النسر الهابط وهذا رمز آخر على مكانية الحدث. تشاغله فتاتان فاتنتان بنزق ومجون. العقدة هنا ذكورية صرف إن لم نقل شرقية كطريقة بالإيقاع، فهي أكثر مضاءً من المال أو أي شيء آخر خصوصاً في أوقات يتوحد فيها العسكريون مع ذواتهم لمدد طويلة أحياناً. إذن الاختيار صائب وفي محله. يرتكن العسكري إلى واجبه بحركة دراماتيكية «يرمي عقب السيجارة، ويسحقها بقدمه بقوة توحي بانفعاله وتردده...». نلاحظ هنا الانفعال والتردد لوقت قصير جداً حتى تتعزز لديه مهمته فيتلفت ليرى ثلاثة متسللين، لم يتردد بإطلاق النار عليهم، فيرديهم قتلى. وهذا واجبه على أية حال فمن اجل حماية الحدود اُنتدب لمهمته.
هذا هو واقع القصة وليست تداعياتها التي ستأتي استدراكية بمجملها. بحيث يفك الكاتب العقدة الأولى وهو سر (الثلاثة) معتلياً الهرم في المشهد الأول، فينزلون ويدخلون «البوابة النسرية»! ثم ماذا يحدث؟ وهذا أمر مثير فالكاتب يلاحق المعنى كمن كتب رواية أو تاريخاً بأكثر مفاصله بأسا، بحيث ينزل ثلاثة مكعبات كناية عن الهرم/ الأهرامات لثلاثة حقب تاريخية متتالية، يمتطونها مع يافطة زمنية آنية موسومة بـ (ميزان العدل) وهي الميزة التاريخية المنقولة ولم تتغير على مر العصور، فمن يا ترى الذي يمعن بالإجرام؟، ثم تدخل العاهرتان/ الغانيتان، مرحبا بهما إلى أعلى الهرم.. سؤالي: كم عدد من الصفحات سيكتب الروائي ليصل هذه النتيجة؟ المهم كل هذا الوهم التاريخي سُخّر في لحظة واحدة لقتل العسكري الذي اُمرَ أصلا بالدفاع عن البوابة/ الحدود والتاريخ ذاته! أما مُوصلات الحبكة فيكشف عنها المصمت الرابع والخامس بصفة النجمة السداسية الهابطة من الأعلى، ثم المكعبات الثلاثة دلالة على رمزية محدثة كونها جرى إعادة صياغة وظائفها فألحقت بالنجمة، فيما تستبدل الوجوه بأخرى مقنعة هذه المرة، ليستمر نزيف الدماء ليطول الجميع من خلال تدفق جرح واحد نحو الحاضرين أو قارئي النص. في كتاب (المصطلح النقدي) المترجم لعبد الواحد لؤلؤة وردت العبارة التساؤلية التالية «عندما أخرج پيتر بروك مسرحية الملك لير على مسرح شكسبير الملكي، تناول المسرحية لكي يجعل الجمهور يغادر المسرح (مهزوزا)...» (17) هنا في مسرحية الأنباري الصامتة يعطي المشهد الأخير صفة التمرد على أسباب الدم، الكثافة اللونية تعطي إحساس بالخيبة وهي مقابلة لصورة الاهتزاز. ولو تخيلت هذا المشهد مضاء على شاشة رقمية وهمية بالتقنيات المتاحة، وهذه وظيفة المخرج على أية حال، لحصلنا على قطعة صامتة لا تضاهيها الكلمات أو أية معارضة للنص بأية شعرية أم سردية! فيبقى النص مفتوحاً بالرغم من النهاية إلى مالا نهاية، ليس بالضرورة أن يحفز على حمل بندقية بل ينمي أسلحة دفاعية بأقل حال.
شواهد الصمت المروضة
يعكف الأنباري، في مسرحيته الصامتة «شواهد الصمت المروضة» على معالجة فكرة (الترويض) وهو الاسم الذي انطوى عليه عنوان المسرحية بصفة الشواهد جمع (شاهدة) كناية عن الموت.
يؤشر ذلك إلى أن موضوعات الأنباري عنيفة ومتطورة وتفوق المحاكاة وكأنها تخترق نص المأساة التقليدي بأكثر من موقع، بحيث ينبثق فجأة السؤال: كيف نتواصل مع الحكاية؟ باعتبارها خارج المأساة (الطبيعي). وهذا له جانب ريادي مؤكد كون الفعل الصامت لم يكن مُختبراً لحد اللحظة التي كتب بها الأنباري نصوصه، وعليه لا نجد له مقارنة أو مقاربة سوى تاريخية سحيقة ربما ترجع إلى المأساة الإغريقية الأولى وبأفضل الحالات تطورها الشكسبيري اللاحق وما بعده، وكلاهما غير صامت، كذلك المُطور المانياً واسكندنافياً «ففي الواقع إن الفلاسفة الألمان والاسكندنافيون هم من أعطوا المأساة مركزها...» (18) حسب المصدر ذاته ص٤٧. ترى هل فطن الأنباري لهذا الفراغ/ النقص/ العوز فقدم تجربته الصامتة من خلال حكايات لا تقل شأناً عن تلك الموغلة بالعتق لِكَم إنسانيتها فتبقى لاهبة مادامت قوى الشر قائمة، بل تلبس لبوسها المعاصرة فيمنحها الأنباري كهنيتها وقدمها وحتى أساطيرها الغامضة عن الخلق وقوى الشر. أليس هذا كافياً بحد ذاته لاجتراح الفكرة التي لا تقول لكنها تفعل، وهي الصوامت، احتساباً لجلال الحالة والرفعة الإنسانية، طهارتها ووضاعتها؟ فيعبر «بتسلسل الأحداث عن حالة بشرية أو موقف إنساني» حسب د. صالح الرزوق (19)
في مشاهده الصامتة نجد مع كل مستوى ترويضي ما يناسبه من أثر نفسي. هذه الفكرة الخارجة من بطانة تاريخية سحيقة تجد استدامتها (عصريا). في الحالة الأوربية، كما تشير المصادر، بأن إحداثيات المعالجة تنوعت للحد الذي جعل من حالة مسرحية واحدة تنتج نفسها على وفق معالجة ثانية وثالثة...الخ. أما انتباهة الأنباري هنا تكمن بتلك المستويات المتراكمة فلا نجد أن شيئاً يحصل مهما بلغ التعقيد.
في المشهد الأول، دعني اسميه بالمدخل التاريخي، «يظهر رجال أحياء... يقفون بخشوع، وإذلال ثم يستديرون نحو الكرسي... يظهر الرجل ذو الملابس الحمر جالساً عليه بشموخ وكبرياء لا تليق به...». ثم يبدأ فعله الحركي بالسوط نحوهم فيزداد اضطرابهم وضرب الأرض بأرجلهم حتى يهدأ الرجل ذو الملابس الحمر، وهذا المستوى الترويضي الأول الذي قاد إلى تفسير اللوحة الثانية/ المشهد بنهوض الموتى ومحاولتهم الاقتراب أو الإجهاز عليه، لكنهم يصطدمون بجدار وهمي فيرجعون إلى قبورهم يائسين، فيما يستمر الرجل ذو الملابس الحمر بالضرب. فيأتي ضرب أرجل الأحياء للأرض وكأنه الصدى الطبيعي لسلطة الإذلال، حتى يأتي مشهد حُلمي بتفاعل بين الأحياء والموتى فيرمي الأحياء قطعاً من ملابس الأموات بوجهه، لكنه سرعان ما يستفيق من غفوته «فيجفل الأحياء». وبعد معالجة درامية تمهيدية يبدأ المستوى الثالث من الترويض وهو الثأر الموسوم بتعذيب الأحياء على فعلتهم وتماديهم بصفة أكثرهم جرأة، وقتله فيما بعد أمام الأحياء الآخرين الذين يشرعون بالحبوِ على أربع كعلامة ترويضية قوية، حتى يتقدم الرجل ذو الملابس الحمر نحو جمهور النظارة بتهديد وزهو شاهراً سوطه بوجوههم وكأنه يقول: جاء دوركم إنْ كنتم ممتعضين. وهنا استطاع الكاتب إدخال القارئ/ المشاهد ضمنياً في نصه من دون جهد، بل باسترسال بلاغي صامت.
إما مستوى الترويض الرابع وهو الأشد عنفاً فقد منحه الأنباري مضموناً مختلفاً، هو ليس الترويض حسب، وإنما هو نقل جرثومة القاتل الإجرامية إلى الأجيال، فوضعنا الكاتب أمام مستوى تعاقبي بحيث يقوم الشباب اليافعين بخنق ذويهم الأحياء حتى الموت! يستثني الكاتب واحداً من الشباب ليمنحه دوراً في المشهد الأخير كمكمل للفكرة.
هذا المشهد العنيف لو جاء في نسق آخر لكان مبالغ به، لكن وضعهُ في مستواه التدريجي من قبل الكاتب منحه القبول والاشمئزاز في الوقت ذاته، ناهيك عن قدرته التساؤلية الكبيرة.
لم ينهِ الأنباري مسرحيته بهذا المشهد، فواصله على نحو منصرف إلى التصاعد وليس التأويل، بحيث ينهال الشباب - إلا واحداً منهم وهو ذات الشخص- بضرب «الأموات السابقون واللاحقون»، يأتي ذلك بعد أن يتجاوزوا ترددهم بفعل ظهور الرجل ذو الملابس الحمر بسوطه كدلالة نفسية على أهمية التحام الجميع بصفة الإجرام التي لم يسلم منها حتى الموتى. أما مصير الرفض الموسوم بصفة الشاب الوحيد المشاكس فقد قام الكاتب هنا بنقلة دراماتيكية مهمة تجلّت بهروبه من مسدسي أعوان الرجل ذي الملابس الحمر، نحو الجمهور ليختفي بينهم، ليأتي عقابهم وجرمهم هذه المرة ناجزاً، فيتم إطلاق النار عليهم جميعاً.
هكذا إذن عالج الأنباري فكرته بالترويض الشمولي كأيدلوجية تحكمها الجريمة في كل مكان ولأي كان، فتعامل فيها على ثلاثة مستويات هي المجاميع البشرية، الموتى، والأقرباء.. ثم يلزم ذلك بفكرة العقاب الجماعي الذي أسداه لجمهور النظارة الذي يفترض أن يكون حيادياً مستمتعاً، لكن الأنباري جعله من بيئة أحداث المسرحية الصامتة، فتعدت فكرته إلى ذهنية القاتل بأن الجميع مطلوب للترويض والمسدس هو الأداة حتى يتم استيلاد المعنى الشمولي بصفة: الجميع هم القتلة!
أزمة صاحب القداسة
في صامتته هذه يزاوج الأنباري مرة أخرى بين المُلك/ الملك، والقداسة الموسومة بالكاهن وعدد من التماثيل، ولعل الأنباري آثر بحث هذا الموضوع أكثر من مرة بسبب سطوته وسيادته التاريخية منذ القدم وحتى يومنا هذا، فأثقل بهذا المفهوم سلوكيات مجتمعات راكدة هي مجتمعاتنا على عكس المجتمعات الناهضة. وهذا يشير إلى جوهر الاستبداد المُحكم من جانبيه المدني بصفة الملك، والديني (الطقوسي) بصفة الكاهن، وهو المبحث الذي تناوله ضمنياً في نصوصه الأخرى، إنما عالجه هنا بعناية ومن زوايا أخرى، وعليه اخترع الكاتب شخصية (الملك الكاهن) كتوصيف لا مفر من فهمه بعيداً عن التعقيد. ومن المهم أن نميّز بين هذه الطقوسية المنتخبة، وبين أي طقوسية محايدة لا ضرر فيها. فهنا تكون قد تماهت مع السلطة وأصبحت بمثابة الموجّه لها، ومن دونها يفقد الحكم تأثيره وربما انهياره في أية لحظة. وفي هذا شواهد عديدة بحثها المختصون، منهم المختص بتاريخ الإسلام وعلم الاجتماع (علي شريعتي) في كتابه المهم (التشيع العلوي والتشيع الصفوي) الذي أوضح هذا التزاوج برؤية ومصداقية حيادية، كذلك الباحث الكبير داريوش شايغان في كتابه الأثير (النفس المبتورة).
تصحب المشاهد الصامتة جميعها موسيقى طقسية، وغرائبية تبعث الرعب للتركيز على الفكرة ذاتها.
يدخل الأنباري حيّز الفعل باستعراض تطبيعي لذوي (الملابس البيض)، «مقلدة حركة الكاهن» والسجود لـ«كبير التماثيل»، مع مصاحبة اثنين بملابس سود هما اليد الضاربة فيقومان بدورهما بملاحقة وسجن وتعذيب المتمرد الشاب الوحيد الذي يرفض الأمر. وهنا يستخدم الكاتب جميع وسائل الترهيب من وحوش خرافية مهاجمة دلالة على القدم والأساطير، وأسلحة دلالة على آنية القصة أو حداثتها التي يقاومها الشاب المتمرد لحد الإعياء. ثم تأتي النقلة الكبرى للنص بالتماهي الذي أشرنا إليه أعلاه بين المُلك والحكم، وبين الطقوس، فيعتلي الكاهن بصفته المزدوجة الكاهن/ الملك العرش فيما تؤدي المجموعة «رقصة الطاعة تعبيراً عن ولائها للملك/الكاهن.
يجنح الأنباري إلى استنباط تاريخي منقول محاولاً الاستفادة منه على نحو متطور يتعلق بقوة الإنسان ورفضه للمظالم مهما كانت النتيجة بمعنى التضحية بالنفس. فالجميع يعرف قصة الأصنام التي حطمها النبي إبراهيم وعلق الفأس برأس كبيرها، ومن ثم حرقه بالنار التي لم تنل منه. لكن الأنباري استخدم الفكرة ذاتها بفعل متقدم موسوم بالرفض برغم كل أنواع التعذيب وأقصاها الجمر الملتهب في دفن الفتى المتمرد حتى النهاية، فلم يتبق للشاب سوى وسلة واحدة فيبصق بوجه الكاهن وهو وسط النار التي ستحرقه.
نستطيع أن نقول عن هذا المبنى كونه مغامرا بامتياز باستخدام الرمز، الأسطورة، الحكاية التاريخية المستخدمة دينياً، بالإضافة إلى المباحث العلمية الاجتماعية-التاريخية. فالكاتب يقف على شفى الجمر الملتهب وسيدخله نصه إن لم يستطع توظيف العناصر وجمعها في مراد آني غير مرتبك وتوجيهها باتجاه واحد، بحيث يشحذ بنا قوة مستفاضة بالرفض والتحدي والتمرد على أكذوبة السلطة الحائزة على (شرف) العلاقة بالمتعلق الديني، بالإضافة إلى الانتصار للإنسانية التي تتوق إلى السلام والحرية ومقاومة الاستبداد وغيرها من المعاني النبيلة. وهذا ما نجح الأنباري في توصيله من خلال مساحة النص المنفتح على استخدامات متعددة، فنال فرصة توجيه النص بإتقان، ومكّنه من تبويب ذاته بذاته فاستحق مكانته بين نصوصه من حيث التجنيس.
تجليات في ملكوت الموسيقى
تجليات في ملكوت الموسيقى.. هو نص عن التأهيل مشفوعاً بمعرفة موسيقية، وقت ضرورتها، بدءًا من نواقيس الفرح، السمفونية التاسعة لبتهوفن، العزف المبهر للصبي، سوناتا في ضوء القمر، نواقيس الكنيسة، معشقة بأصوات مفزعة كأن تكون دلالات حربية.
يبدأ الأنباري الفعل المسرحي الصامت بولادة طفل مع السمفونية التاسعة لبتهوفن، وهي تعبير عن الفرح، وكأن الأنباري أراد لهذه الموسيقى أثراً رجعياً يوسم ولادة الطفل بالفرح الهابط من الأعلى، أو كمن يرى مستقبلاً أو يكون رائياً لذلك بصفة الرجل العجوز، جده، الذي يأخذه من أمه ويطوف به حول آلة البيانو. فهنا ولادتان: الطفل، والموسيقى بأعلى تجلياتها. وهنا يواجه النص مشكلة، هي بناءه الذي بدأ على فكرة إيحائية موسيقية للسمفونية التاسعة التي ربما يجهل الكثيرون ظروف كتابتها كعمل، ناهيك عن مستوياتها الالهامية المعقدة، فآثر فك عقدها في مشاهد لاحقة.. ثم ينتقل إلى مستوى متقدم في المصمت الثاني من حياة الطفل بامتلاكه المبكر لعناصر الإبداع الموسيقي. مع دور راقص للأب الثمل/ المدمن بالرغم من إدمانه على الكحول، يظل مواظباً على متابعة الطفل، بل مجبرًا إياه على التعلم باستمرار، وفي هذا لا نجد تأويلاً يذكر عدا المعنى المباشر في الإملاء والتشجيع، خلق هذا توازنا بين الإيحاء والفعل الواقعي المستقبلي، بحيث يُؤثر الطفل ممارسة عزفه على آلتي الكمان والبيانو على متابعة دروسه المدرسية.
هذه بداية قصة طفل موهوب يتربى بكنف عائلة تمتلك عناصر الإبداع على نحو عقد أو تقليد لتهبها له، فيبدو الكاتب كمن يكتب سيناريو احترافياً، وهو بهذا يضع مقاربة أساسية بين السيناريو، وبين كتابة صامتة كاجتراح أو تجنيس مختلف. بحيث يُدخل الحبكة مشاهد متطرفة تختص بسلوكيات الطفل والتعشيق المثمر بين الحياة العامة للأسرة ورغباته في هذا الجانب. فيجيب على تساؤلاتنا في بداية بحثنا، بردم الهوة المفترضة بين ما وضعه نظرياً وبين ما أحقه واقعاً، ليعزز نجاحه بمسعاه الصامت. ليس شكلياً فحسب وإنما استخداما معرفياً لأصول الاحتراف الكتابي/ العملي التجنيسي كإبداع.
وكأن الكاتب يقول لماذا نفهم الموسيقى بقدرة إيحائية كبيرة، ونفترض أن النص الصامت لا يصل بكثافته للقارئ أو المشاهد.
أما المصمت الثالث فجاء على نحو تطوير للمشهدين السابقين من حيث ماهية العائلة وظروفها الإنسانية، فيبتعد عن الإيحاء مستعيضاً عنه بمفردات يومية محضة، كالذهاب والمجيء والتسوق، والحياكة وغيرها كحركات الأب بسحبه «باطن جيوبه.... خارج بنطاله» دلالة على شظف عيش وقلة مال أو سوء استخدام، وعراك محدود بين الأب والأم. تلك هي نتف عن إدخال الحياة الخاصة للعائلة في ظروف ونشأة وتطور فكرة الموسيقى للطفل الذي يمتثل لعنف الأب بالضرب على أصابعه ليعزف أفضل و «غالِباً ما كانَ لودفيج يَعزِف باكياً بسبب أبيه وكانَ لِهذا أثرٌ كبيرٌ في نَفسِه وعُلوّه كأحدِ أشهر المُؤلّفينَ في العالم» عن ويكبيديا، أو حتى ينام «والدموع لا تزال تترقرق من عينيه...» حسب الكاتب. فتأتي موسيقى (في ضوء القمر) كتعبير عن محنة ذاتية مركبة تقع بين ما أسدته تنشئته كطفل، وبين تجربة دخلها مصادفة ليواجه فتاة عمياء تعزف البيانو (حسب الرواية المنقولة) التي تأثر بها الأنباري، فيثير به شجناً مركبا بين محاكاة الحالة المصحوبة بضوء القمر الداخل لصالة العزف. وبغض النظر عن الرواية المنقولة ومدى قبولها، لكن معناها الصادق اخذ طريقه لحبكة الأنباري كتوصيف درامي هادئ قبل أن تدخل مؤثرات جديدة.
وهنا لا بد من التوقف قليلاً لنشير إلى أدب الأنباري: فهو يرث الحكاية المستقبلية من بينية الأثر الأول، بمعنى عدم ترك القارئ عند نهاية حدث ما، ثم يبدأ تمهيداً لآخر، بل نرى نصه كوصلة نسيج شفاف توصل خيوطه بأناقة واسترسال أنيقين، حتى دخوله أشد المفاصل قوة التي قارب الكاتب فيها بين دقات نواقيس الكنيسة وبين الاستغاثة والصراخ البشري وسقوط الجدران فيكون الصبي شاهد عليها فيعزف «أقرب إلى التنويمة منه إلى أي شيء آخر..» ككناية عن التداعي. ومن ثم بإشارة متقدمة يتصدر فرقة أوركسترالية تعزف في خيال الظل، ويزاوج بين كل هذا ودور الأب الغاضب فيضع كونشرتو البيان الأول الذي تصرف به الأنباري على نحو استعارة للفعل الموسيقي أو استبداله للتصاعد الدرامي، فلا أظن أن في مثل هذه الكثافة تعبيراً لا يعنى بالدلالة المباشرة في أية حبكة كما يقوم الأنباري بعمل تجنيسي مختلف بحيث «لا تتوفر هنا تفاصيل الدراما المعروفة» حسب الدكتور صالح الرزوق. وعلى نفس المنوال، ومع زمن مختلف، يُظهر الكاتب نمو فكرته كما نمو الطفل القابل للتطور بشخصيته فيصبح شاباً لا تهمه صفات المجتمع الأرستقراطي، ولا حتى الإمبراطور، الذي أظن انه (نابليون) في السيرة الخاصة، الذي تحول من أمل مشرق بنظر الشاب إلى دكتاتور، فيعالج الأنباري بصامتته هذه الانقلابات (المُعسكرة) الهاربة من الأمل والمتجهة لإعادة الشموليات بشكل جديد، مظهره التحرر. ولما كانت محاور الأنباري بغالبيتها تعالج الاستبداد والتسلّط فأنه جنح هذه المرة للبطل الذي أحبه أولا، ومن ثم (قتله) مجازاً كإمبراطور جائر. بحيث تكون المشاهد الصامتة موازية ومتقاطعة أحياناً مع الفعل الموسيقي المزدحم أصلاً بأفكار كتابية كانت في مخيلة واضع السمفونية (الثالثة)، فأعاد الأنباري ترجمتها من اجل نبش دلالتها لتصل القارئ/ المشاهد بتأثير عابر لأية فترة تاريخية. وهذا توضيح غاية بالأهمية عن مخاطر استدامة الشمولية وحتى من بطانة التحرر ذاته. وهنا سؤال آخر هل يستولد المفهوم الديني وحتى القومي أو الأممي الباهر بصفته المشرقة مكنون الاستبداد؟ فالقتل هو القتل سواء إن كان بطعنة خنجر أو أي سلاح آخر. وعلى ذلك يكون الأنباري قد اخرج الحدث من محدوديته إلى فضاء تأمله أممياً/ تاريخياً/ مستقبلياً، غير حاضن لحالة محددة، وإنما كفكرة استبدادية شمولية.
في خامس فصول المسرحية الصامتة يخلص الأنباري إلى استنتاجه بأن أفضل تعبير أو بالأحرى أفضل سلاح لمواجهة الاستبداد هو الحب. وهنا وضعه الكاتب بالموسيقى ذاتها التي تهزم أي عدد من المستبدين مهما بلغ عددهم. بطبيعة الحال هذا مشهد حلمي خالص لكنه واقع كذلك، كون فعلي الموسيقى والكتابة أخذا مجريهما إلى التأثير الرائع لملاين كثيرة من البشر. بطبيعة الحال لا ننسى الدور العظيم للسينما التي أحدثت تغيراً هائلاً في بنية التفكير الإنساني إجمالاً، وعليه تكون كلُّ الأجناس مالكة لقدرة تخيلية لنسج أشكال متعددة يتاح من خلالها رسم فكرة مشرقة لمستقبل البشرية، حتى وان كان حلماً لكنه سيغير إلى حد بعيد نمطية العلاقة بين الأصل الذي هو الاستبداد هنا وبين الفعل ومن ثم المواجهة المصحوبة بأمل عظيم.
حجر من سجيل
الشكل المبسط والمباشر في التكوين للمشروع الصامت أحكم الأنباري بناءه في مسرحية حجر من سجيل التي تناولت قضية شعب يولد أبناؤه تحت الاحتلال، مرمّزا بعض الشيء بالهلال والنجمة، كناية عن، لا أقول فيها نوع من الانسياق وراء مفاهيم قد نختلف معها وهي الموسومة بالهلال=المسلمين، النجمة السداسية في موازاة اليهودية، لكنه استخدمهما كرمزين مباشرين لتوضيح فكرة الصراع/ الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين. قد يؤاخذ الأنباري على ذلك الاستخدام المباشر، ولكن في حقيقة الحال وضع الإشارتين كترميز من بابين الأول: وهو كما أسلفنا المباشرة فهو يبتعد إلى حد ما في نظامه الكتابي: من حيث الزمان، بإشارة واضحة لكولدا مائير بصفة العجوز، وموشي ديان ذو العين الواحدة، والمكان لا يقبل التأويل بصفة الرمزين، والثاني: وهو الأهم باستخدام الرمز الديني وخصوصا (النجمة السداسية) كأداة تجميعية ذات طاقة إجرامية لفكرة لا علاقة لها بالنجمة/ الرمز أصلاً. وهنا يعكف الأنباري على استيضاح الفعل الإجرامي في خلق نقيضه الذي يسميه الطرف الآخر إجرامياً أيضا. بطبيعة الحال لا يساوي الطرفين، بل ظهر الأنباري كما في سياقات مسرحياته الأخرى منحازاً إلى الحقيقية فلن يجافيها في أي من أعماله. فالطفل الذي يقتل بدم بارد ويقدم كوجبة (غذاء) مطبوخة يذكرني برائعة "ماريو بارغاس يوسا" (وليمة التيس) (20) حينما يقدم للسجين غذاء لذيذا بعد تجويعه لأيام من قبل سجانيه، ثم يسألوه إن كان الأكل طيباً؟ فيعلموه انه مطبوخاً من لحم ولده! وعلى ذلك استطاع الأنباري في صامتته (حجر من سجيل) أن يسخر عنصر المباشرة في العمل الفني في مشروعه، فيمكننا مقاربة ذلك بلوحة من الفن الواقعي، أو رواية كلاسيكية أو أي عمل آخر. ثم يستمر، وهذا الأهم، في تطوير شخصية الطفل في شكل مقاومته للاحتلال حتى ثورة الحجارة وحمله السلاح، وهنا نقع في بارادوكس أراده لنا الكاتب. فمن جهة إنه لا يريد لنا أن نؤمن بالعنف كوسيلة، ومن جهة أخرى يسمح لنا بمباركته، حتى تستفيق بأذهاننا المنظومة الأممية التي تتيح للشعب المحتل مقاومة الاحتلال بكافة أشكاله، فيستعيض الأنباري بلقطة أثيرة نهائية بصفة الهلال الكبير المرمّز كمظلومية شعب، يزيح النجوم السداسية من حوله. وهذه صورة مبالغ فيها واقعاً في زمن ربما نعهد فيه، بدرجة كبيرة، إلى الحلم أكثر من الواقع.
قطار الموت
السمة العامة في صوامت الأنباري مبنية على هيئة ملوك، حاشية، كهنة وجلادين.... الخ، وعلى ذلك لها بنية تاريخية فاحصة لميراث محدد بالأذى والمظالم، لكنها غير موصّفة إلا بالقليل الإيحائي. ففي مسرحية "قطار الموت" تَقْصُرُ المسافة إلى حدّ بعيد، فيكون للمعاصر تفسير دلالات الحدث المسرحي بسهولة أو بقليل من الجهد، أما بالنسبة للآخر غير المعاصر، فسيعهد إلى ذهنية الإسقاط، وترتيب الأحداث الدرامية إنسانياً مع شعور بالخجل، بأن الإنسان هو صانع الأحقاد والمآسي بنفسه، وأن الزعامة أورثت كل ذلك الاحتقار، وأن تراتبية السلطات لا تنتج إلا نفسها بابتكارات أشدّ قسوة وظلامية، فالعقل الحاكم لا بد له أن ينتج (كشوفاته) المثيرة التي تبقيه على قيد الحياة أبدياً ربما. ففي هذه الصامتة نرى التحولات (عراقية صرفاً) مع إمكانية تأويلها وإسقاطها على تجارب مجتمعات أخرى ببعض التحوير أو حتى من دونه.
اختار الكاتب أن يبدأ الحكاية كما هي بسقوط العرش الملكي على يد ثلاثة عسكريين على ما يبدو أن هناك صراعاً خفيا بينهم، ينتهي بإطلاق الرصاص ثم إعادة تشكيل اللوحة الملكية السابقة بشخوص آخرين، مع الإبقاء على لوني الأحمر والأسود كإشارة تاريخية بأن البديل هو من البنية ذاتها المعروفة تاريخياً بألوان (الثورة العربية الكبرى)، مع إضافة لميزان العدالة الذي يتخذ مكانه في كلّ زمان ومكان كمرموز شكلي أقرب إلى الأيقونة منه إلى الدلالة الحقة. وبإيحاء آخر يهرع أحد العسكريين الثلاثة إلى رفع «كرسي العرش.. بتأن واهتمام ثم يجلس عليه»، ثم تعود الكراسي الأخرى إلى وضعها السابق كلّما أطلق الأول طلقة. كل التغيير الذي يحصل في اللوحة أن العسكريين خلعوا ملابسهم العسكرية فظهروا بملابسهم الداخلية التي هي من نفس ألوان العلم بالأحمر والأسود. ثم سرعان ما يعالج الكاتب فكرته عن استباب الحكم بالقضاء على المتهمين من باب عدالة مزيفة بصفة ثلاثة (قضاة)، فتكون الحركة الأولى هي إذلال المتهمين بالاعتداء عليهم «بالضرب المبرح» في وقت يواصل الكاتب فكرته ذاتها بإطلاق النار على المعترضين من الاتباع، يتبعه بمشهد انفجارات واشتباكات من الخارج حتى مدخل المصمت الثاني. وهذا المشهد يشكل في الواقع جوهر الفكرة تاريخياً، بأن أية حركة معسكرة لا يستتب لها الأمر إلا بالدم، بل بدماء كثيرة رسم الأنباري حركتها ببراعة، بطريقة جامعة لبقع الدم، فهي تلتقي من أجل هدف واحد. وهذه القدرة التجميعية لكل مصادر القوة والعنف دفعت بكثافتها إلى تشغيل ممكنات عقل المتلقي، لكل واحد حسب تأويله وإسقاطه، ومن ثم إشعال غضبه. وهذا ليس بجديد فالصوامت الأخرى كانت تسير بنفس المنهج، لكننا نجدها في هذه المسرحية أكثر عمقاً وتكثيفاً، بل تمنح القارئ رؤية معاصرة ربما افتقدناها في صوامت أخرى. وعلى ما يبدو أن إشكالية تخفي النص، ولبوسه المموه احتساباً لأي تأويل رقابي سلطوي، سيما أن الأنباري أنتج أكثرها في الزمن الدكتاتوري والعنف الصدامي، قد جازف بها الأنباري هذه المرة لتبدو كمشغّل نوعي في مشروعه. حتى يكشف في مصمته الثالث عن الوجه الآخر للسلطة بحركة معقدة دورانية لكرسيين لا يساء فهمهما. وبهذا تمدد نصه لحد الأن على مساحة الاستبداد بأوجه مختلفة، فيما نرى أوجه وأشكال تطورها بصفة الإجرام تسير بسرعة فائقة ممسرحة بانتظام. فحالة الانقلاب الأول تكون منتجة لنوع آخر، والآخر ينتج نوعاً مختلفاً، وهذا النوع المختلف ينتج كما يبدو سلالة إجرامية تبتكر أدواتها، كل ذلك استوحاه الأنباري من كرسي الحكم ليصبح كرسيين، ومن ثم يعود ليصبح كرسي واحد بفعل الجريمة المزدوجة. الوجه الأول: سلطة# سلطة، والثاني: سلطة # معارضة، امتاز الوجهان بقوة المؤامرة والغدر، مشفوعة بإذلال وجريمة مبتكرة، فعلى ما يبدو أن العقل الإجرامي لا تكفيه الجريمة كقتل عادي حتى يتخذ من إيحاء قاطرة القطار تفصيلاً يمعن بالتعذيب ومعالجة الروح وقت قضائها داخل جدران مصفحة، فلا بد لنا من استذكار "قطار الموت" الحقيقي الذي استخدمه الانقلابيون في عام٦٣، كذلك ابتكاراتهم الهمجية التي شهدها العراق بقتل المعارضين كدفن الأحياء جماعياً، وجرائم عظيمة أخرى كـ (حلبجة). أما تفصيلات النص التي لم نأتِ على أكثرها فهي بيئة مخاتلة وجرثومية في ذهنية ملوثة أصلاً، استخدمها الأنباري تباعاً كتوزيع درامي مع الضوء والصوت بصفة الانفجارات والطلقات والموسيقى.
عندما يرقص الأطفال
سنعرض إلى محاولة الأنباري من خلال إحدى صوامته إلى (أدب الطفل).. وهي مسرحيته الموسومة بـ (عندما يرقص الأطفال) لنرى إلى أي مدى استطاع الأنباري توظيف رؤيته الصامتة فيها، خصوصاً وان مبدأ التخصص أصبح نافذاً في العمل الأدبي الإبداعي، فلكل حقل له خصائصه وسبل معالجاته.
يبدأ حكايته بطرافة عن ثلاثة أولاد يلعبون فيفاجأون بمن يطاردهم فيختبئوا خلف شجرة. خلع الأنباري على المطاردين الثلاثة ثلاثة صفات هي: شمام كناية عن الشم، سمّاع عن السمع وشّواف عن الرؤية بالعين. تمتلك ثلاثتها إسقاطات زمنية مختلفة. يمسك الثلاثة باثنين من الأولاد، وعلى نحو كاركتيري حركي يطاردون ثالثهم، وبذكاء ثالث الأولاد وحركته ولفت انتباه المطاردين إليه يتحرر الولدان. هذا على صعيد المبتدأ. ثم يُدخل الأنباري في مصمته الثاني حكاية أخرى تشير من خلال أسماء أبطالها وبعض أحداثها بأنها مستوحاة من الأدب الرافديني القديم وعلى وجه الخصوص ملحمة (جلجامش). يبدأها بوصول موكب (خمبابا) ليحتل مساحته خلف خيال الظل فيما يتقدم قائدهم وسط المسرح فيصبح الإيحاء واقعا حيث يقلد الثلاثة شواف وشماع وشمام السيوف بأمر من خمبابا نفسه، بعد أن فطن إلى موهبة كلّ منهم، فيما يعهد إلى الشعوذة والسحر لكشف الطالع بالاستعانة بعرافته التي تكشف له عن طفل دليل لبطلين قويين هما انكيدو وجلجامش اللذين يقاومان السحر وينتصران على قوته. ثم بمشهد موسيقي إيحائي يظهر مدى تأثير الموسيقى على نفسية خمبابا الذي ينزعج منها فيسد أذنيه، في وقت لا يعرف اتباعه كيف يخففون عذابه منها، بإيحاء على أن الموسيقى هي وقفا إنسانياً تنويرياً وسلاحاً بنفس الوقت ضد قوى الشر. مع قدرة البطلين وانتصارهما الأول.
في مشهده الصامت الرابع يقارب الكاتب بين الحكايتين وهما الوحدة الأساسية التي ابتدأها، والثانية التي تمثلت بظهور البطلين، بحيث يسبق ذلك مشهد ضمني لتعذيب عائلة بصفة أب وأم للطفل الأول الذي يرفض الكشف عن مكان صديقيه. ومع ظهور الطفل المرشد والبطلين يلجأ الأشرار إلى لعبة يبدو أنها الوحيدة النافعة للمقاومة والانتصار، فيتم بسبب تهديدهم بذبح الصبي انصياع البطلين فيوثقان بالحبال.
لحد الأن نجد الحركة تصاعدية مفعمة بالإثارة ولم تحد عن مسار الذهنية المستهدفة وهم الأطفال من أعمار محددة بعمر أبطال المسرحية، فيتبعها بحركة بطولية للطفل الدليل مستخدماً رشاقته وسرعة حركته كطفل ليرمي نفسه حائلاً بين جلجامش الموثق بالحبال وبين (شواف) الذي يهم بطعنه بسكين، فيحدث ذلك ارتباكاً في مشهد القتل فيتحرر الموثقان من قيدوديهما، ويجتمع جميع الأطفال بزهو ويهرعون لتحرير المرأة والرجل وابنهما الطفل الأول بحركة راقصة «تدور على نفسها كما بداية المسرحية».
يصاعد الأنباري في مشهده الأخير من الإثارة، مع تركيز على بنية النص الأصلي لملحمة جلجامش، بتحويرات ضمنية خادمة لفكرته التي تستهدف ذهنية الطفل وميله للبطولة، بل جنوحه للمساهمة فيها، فجعل قدرتها الإيجابية بالميل نحو مسعى البطلين بالانتصار على مكامن الشر بوجهتهم النهائية للقضاء على خمبابا، متجاوزان عقبات جمة تصادفهما في رحلتهما مع دليلهم الصبي. من المعروف أن الحكايات الرافدينية القديمة و(الألف ليلية) كانت بنية الذهنية المتخيلة لإنتاج الكثير من الأدب والأقاصيص والحكايات والأفلام القديمة والمعاصرة، ذلك لامتلاكها كامل عناصر الإبداع، فيمكن التعامل معها على نحو يخاطب أي عمر من الأعمار، حتى كانت باذخة بعطائها، فمن جلبابها خرج أكثر كتاب العالم شهرة في السرد الخيالي. وإذ يقوم الأنباري بتسخير بعض أجزاء الحكاية السومرية، فأنه يبرهن على عنصر مهم في الجهد الصامت وهو (المطاوعة)، وليس بعيداً عن إبداع الكاتب لكننا نجد في ترابط الوحدات وتعشيق بعضها ببعض أن النص القديم يتجه نحو حداثة ماتعة وأخاذة حتى نهايته السعيدة بهزيمة الشر الموسومة بالمارد خمبابا. وهنا لابد من لفت الانتباه إلى لقطة مهمة انه بالرغم من طعنه بسيفي جلجامش وانكيدو، إلا أنه لم يمت وإنما هرب بعيداً، بإيحاء على أن الشر باق بالرغم من هزيمته، وبرسالة أخرى إنه من الممكن أن يعود بصفة من الصفات وعلى ذلك يتوجب الحذر ومقاومته بوحدة ظافرة طوال الوقت.
في حالة إخضاع النص لعنصر المطاوعة، وهو أمر يتطلب الكثير من المعرفة التخصصية الكتابية، أكد الكاتب مرة أخرى، ولكن من باب آخر، على قدرة الصوامت في استهداف أي من الفنون وبمستويات مختلفة. فعندما لا
نجد الفجوة في سياق أي عمل أدبي ننعته بالسلاسة والاسترسال، وعندما يتقدم العمل ضمن مساراته الخادمة من وجهين هما هدف الكاتب، وعطاءه للمتلقي نقول إن العمل ناجح، وعندما يحدث العمل تغييراً معلوماً فإننا نصاعد من مستوى تقديمه وصولا إلى التفوق أو الامتياز. وليس الأمر هنا يتعلق بالاستحسان أو بالاعتقاد، ولكن درجة تقييمنا تتعلق بقدرة النص الصامتة في خلق مناخها الصائت بل الصارخ على وجه من الخصوص بأنها استطاعت، كما أسلفنا، ردم الفجوة إضافة لتقديمها حلة إبداعية خاصة بها حصراً وهذا ما وجدناه في القطعة الصامتة أعلاه.
السماح على إيقاع الرصاص
واحدة من السمات المهمة في أدب الأنباري والتي سنتناولها في مسرحية (السماح على إيقاع الرصاص) هي عدم ترك النص يفلسف ذاته لذاته، فالكاتب يعي تماماً ما يكتب وما يحتاج من أدوات لتقديم نص حركي صامت من دون إجهاد ذهني عسير. ولكن ما الذي تضيفه تلقائية النص إذا ما كانت الحكاية مفهومة بواقعيَّتِها؟ في هذه الصامتة تناول الأنباري فكرة بسيطة وهي اسم لرقصة مشهورة في سوريا اسمها (السماح)، ورجل بملابس صفر، على ما يبدو مولعا بها، بل ربما هو معروف بملبسه في تلك المدينة التي أهداها الكاتب نصه المسرحي.
بإيحاء، أو بفعل أولي، يظهر الطائر، وهو العنقاء على الأرجح، ذلك لظهوره عدة مرات على مدار النص مع القمم الدرامية المسرحية، يظهر متزامنا مع كتلتين بشريتين من عمرين/ جيلين متباعدين. نلاحظ هنا مستويين. الأول: كتلتان بشريتان مصنفتان عمريا. الثاني: ترقص الكتلتان بطريقة مختلفة عن الأخرى ولكن على نفس إيقاع الموسيقى/ الرقصة، ثم تندمجان مع بعضهما بعضا بإيعاز من الرجل (الأصفر) أو ذي الملابس الصفر، بحيث يكون تشكيل اللوحة المسرحية: يمين ويسار لكلا المجموعتين، والوسط للرجل الأصفر الجامع. ما يصلنا لحد الآن هو أن الفرح/ الموسيقى/ الرقص/ المحبة/ تواصل الأجيال، هي الباعث الأساس لفكرة انبعاث العنقاء الطائر الذي ينهض من بين الركام في كل مرة على نحو أسطوري، وبطبيعة الحال (المسامحة) وهو التأويل القادم من اسم الرقصة أصلاً..
ومع جمع الوحدات التي هي طائر العنقاء وظهور المجموعتان ورقصهما المختلف على الإيقاع ذاته مع بعض الحداثة بالنسبة لكتلة الشباب، نكون قد فهمنا أن حدثاً ما حصل في الزمن السحيق، ومع الظهور المفاجئ للعنقاء يتعمق فهمنا بأن الأمر يعيد إنتاج نفسه بنفسه، ولو بشكل مغاير، لكن نتيجته متشابهة. ولكن وكما يبدو من تطور النص ومن خلال التمهيد إلى مستوى جديد يُؤشر كذلك إلى شكل جديد قبيح المنظر وسمه الكاتب بذوي النيوب الناتئة يستخدمون أسلوباً جديداً فيفصلون الراقصين عن الجمهور، بإشارة للعلاقة مع المجتمع، بسلسلة حديدية، في وقت يكون الرجل الأصفر قد طوى من كتاب قديم صفحة من التاريخ ترافقت مع ظهور آخر للعنقاء. ومع هذا التفعيل ينطلق تصعيد آخر لكتلتي الراقصين فيصبحون على شكل أشجار من الفستق الحلبي، لتعميق الدلالة عن المدينة المنكوبة، تتهادى برقصها دلالة على سلام الراقصين الذي يواجهون به كافة أشكال العنف بفعل واحد هو الرقص والغناء الذي يستفز الطغاة، فيبدأ فعلهم المعاكس بعاصفة هوجاء. نلاحظ التصعيد الدرامي في المشاهد أن الأنباري استخدم الأشكال المتاحة من بنية الفكرة فلم يزحمها بأفكار أخرى، ضمانة لاستقرار النص وعدم تشظيه بحيث يذهب إلى مديات خارجة عن السياق الصامت للمسرحية التي ابتدأت بفعل وعليها معالجته حسب. يعود الأنباري لردة الفعل الإجرامي التي تقتل بهمجية في البداية راقصين تنهش أجسادهم كمصدر لإدخال الذعر لقلوب الراقصين السلميين مع إطلاق رصاص لزيادة الرعب، فيما يضعون هذه المرة أسلاكا شائكة بين المتظاهرين الراقصين وبين الجمهور، بإيحاء إلى منع استشراء أسلوب المواجهة السلمية الداعي للرقص والغناء.
في المصمت الثالث يضع الأنباري واحدة من بديهيات المواجهة التي لا بد لها أن تأخذ مناخها تدريجيا وهي مواجهة العنف بالعنف غير ناسٍ أمر تغذيته من قبل أطراف أخرى منحهم صفة (الرجال ذوو الملابس السود) الذين مهّد لدورهم في مشهد سابق، ليكون السلاح في منال أي كائن. اعتمد الكاتب في رسمه هذا المستوى المهم، أي استقبال واستخدام السلاح/ العنف، على ثلاثة حركات، الأولى: بتسلل ذوي الملابس السود، على هيئة مهربين، داخل مجموعة الراقصين، ومن ثم تزويدهم بالأسلحة، بإشارة إلى دور القوى السوداء بتوسيع العنف؛ الثانية: ترك مجموعة الراقصين السلاح على الأرض متوجهين إلى الرجل الأصفر؛ أما الثالث: فعلى الرغم من إيعاز الرجل الأصفر يبدأ الرقص، في وقت تنتظر المجموعة إشارته، لكن بعضهم يستخدم السلاح في محاولة للدفاع عن النفس، وفي هذا نجد أن الأنباري لم ينبهر كليا بفكرة الرقص، وإنما اعتمد على موازنة النص واقعياً، فالسلام يحتاج كذلك إلى القوة بالدفاع عن نفسه، طالما هي السمة الغالبة، حتى يتم نسيانها كأداة إنسانية. فمن غير المعقول، حتى بظهور طائر العنقاء المتكرر، أن تعاد الحكاية بنفس دورانها، فهنا، أي في المشهد الأخير، دخلت الطائرات والانفجارات الإرهابية والقتل الجماعي، قابلها الأنباري بإصرار الراقصين ككتلة بشرية مناوئة وباحثة عن المستقبل هذه المرة، وغير مكتفية بالأهازيج، وبذلك استبدل الرقص والموسيقى في نهاية المشهد الأخير، بالمارش الحماسي الذي على إيقاعه كسر الراقصون سلاسل الحديد واتجهوا بعزيمة نحو الجمهور مع ولادة جديدة للطائر/ العنقاء، الذي هو، اذا ما فهمنا ظهوره المتكرر، يكون طائر عنقاء آخر «يشق بطيرانه عنان السماء، ليتقدم إلى الأمام بقوة وبصوت يتردد صداه في أرجاء المكان حتى يغطي بجناحيه الأفق كله...». من الملاحظ هنا أن التصعيد الدرامي لحدث المقاومة جعله الأنباري، بلقطة ذكية، أن الجموع المتدفقة والتائقة لحريتها نحو الضياء ما زال الرجل الأصفر يتقدمها كتعبير عن السماح والرقص والموسيقى والسلام.
وهنا نعود إلى المبتدأ وهو فلسفة النص، فنجد في القدرة الانصاتية ما يتعدى لما هو عظيم، فلا يهمها ردم الهوة بين فلسفة الشيء والمعرفة. ففلسفة العنقاء هي مرموزية وقتية، صابرة ومصرة، لكنها غير مكتفية بذاتها، فهي لا تعشق الطيران من اجل الطيران ذاته، أو تولد نفسها بنفسها على نحو الأحياء الأخرى، وإن فعلت فهو قناع، وكثيراً ما يحال وجودها، أو شبيهها، إلى مخيال أو مرموز مثلوجي/ أسطوري مبهم. أما بالنسبة إلى الأنباري فهو يحيل ممكنات الحكاية إلى موازاة الواقع، فما جدوى عبارة الأرض ولادة، ونحن بلد الشهداء مثلاً، ولماذا هذا الفخر أصلاً، إذا لم يصاحب الحركة العنقائية فعل جديد، حتى وإن كان مغامر، وهو المرجح هنا، لكنه واثق، بل معشق بالدفع المتقدم وليس النستولوجي بأي حال من الأحوال. هنا حداثة التناول للأنباري تضعنا أمام تساؤلات من هذا النوع، وهو النوع الذي لا يختص بالذاكرة، بل القطع معها عند حدود الاستخدام بتوجيه الحبكة وجعل المرموزية سبباً وليس نتيجة.