أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الجمعة، 29 أبريل 2016

الكوميديا: الوجه الضاحك للمسرح / إبراهيم محمود الصغير

مجلة الفنون المسرحية

 العبوس والابتسام وجهان متقابلان ودائمان للحياة، وما بين العبوس والابتسام تسير مركبة الإنسان، فإما أن تجنح به الحياة نحو العبوس، وإما أن تجنح به نحو الابتسام، وإما أن يظل بين بين. وهكذا، منذ أن يولد الإنسان يتعاقب عليه الليل والنهار، والشتاء والصيف، والفقر والغنى، والسعادة والشقاء، والحياة والموت. وهو في مسيرة الحياة الطويلة، يبحث دائماً عن النور، وعن الازدهار، وعن السعادة، وعن الحياة، أي يبحث عن الابتسام، والذي يعني كل هذه الأشياء. إنه في بحث دائم عن الابتسام. قد يصل إليه، وقد يغيب عنه، وقد يصل إليه ثم يغيب عنه، فيعاود البحث عنه من جديد. إنه لا يترك فرصة إلاّ ويحاول الوصول فيها إلى الابتسام.
الابتسام غريزة في الإنسان، يحاول اللجوء إليه دائماً للابتعاد عن العبوس، أي عن الألم والحزن والشقاء. وسلاحه دائماً في عملية الابتسام الضحك. 
فالضحك سلاح الإنسان الأول للتغلب على الوجه العابس للحياة. إنه يستغل كل فرصة مناسبة ليضحك فيها. فالضحك سعادة بالنسبة له، في وجه الشقاء، والضحك علاج له في وجه المرض. والضحك وسيلة له في التواصل مع الآخرين، والضحك نافذة واسعة يطل منها على الحياة ببهجتها وزينتها وجمالها.

بل ويذهب بعضهم في تعريف الإنسان بأنه حيوان ضاحك. فمن بين الكائنات جميعاً، الجهمة أو ذات الملامح الرقيقة، لا يضحك تعبيراً عن الانبساط إلا الإنسان. كما أنه من بين الكائنات جميعها، المتوحشة منها والأليفة، لا يضحك الإنسان إلا من الإنسان، وإن ضحك من القردة أو الدببة أو غيرها من الحيوانات، في السيرك أو التلفاز أو السينما، أو أي مكان آخر، فلأنها تقلّد الإنسان. فالإنسان يضحك من شيء إنساني انتقل إلى ظروف غير إنسانية ولكي يضحك الإنسان ويطرد عنه العبوس والكآبة، فإنه يلجأ إلى اختراع النكتة، وإلى ابتكار الحركة الضاحكة، وإلى تأليف القصة الغريبة، وإلى ابتداع الأشياء غير المعقولة والمألوفة، والغريب أن الضحك لا يتم ويكتمل عادة إلا بوجود الآخرين. فالإنسان يمكن أن يحزن وحده، ولكنه لا يستطيع أن يضحك وحده. فالضحك يلزمه صدى، يلزمه مجتمع. ومن هنا جاءت السهرات والأعراس والاحتفالات والمهرجانات وجاء معها الرقص والموسيقا والغناء، بل جاء معها المسرح، وجاءت معه (الكوميديا) الباعثة على الضحك والمسرات، وهو مصداق لقول الفيلسوف الفرنسي (برغسون) الذي يقول: "إن الشعب المولع بالنكتة هو شعب مولع بالمسرح".(1) إن أعذب الضحك وأجمله ما كان عفوياً، وبسيطاً، وصادقاً، ومما يصادفنا من أحداث غريبة في الحياة، وخاصة من الأطفال والناس البسطاء، وممن النكتة والضحكة سليقة فيهم وجزء من شخصيتهم. أما الضحكة المصطنعة، والتي نسعى إليها دائماً في المسرح أو السينما أو التلفاز أو غيرها من التجمعات الإنسانية فإنها لا تتم إلا عن طريق أشخاص يحسنون عملية الإضحاك، وبواسطة العدوى، أي انتقال الضحك من شخص إلى آخر. والممثلون يعلمون أكثر من غيرهم أن ضحك المتفرج يكون أعمق وأعنف في المسرح كلما كانت الصالة ممتلئة أكثر بالناس. لقد تعارف الناس على تسمية الأعمال المسرحية والفنية التي تبعث على الضحك والابتسام بالكوميديا. فما هي الكوميديا، وما هو أصل تسميتها؟
أصل الكوميديا وتعريفها:
إن كلمة (كوميديا) هي عبارة عن كلمتين يونانيتين هما (كوموس) وتعني (موكب السكارى) و(أود) وتعني (أغنية). وعليه فكلمة (كوميديا) تعني (أغنية موكب السكارى). وموكب السكارى هذا عبارة عن مجموعة من الناس اليونانيين المتنكرين، وكانوا يحتفلون ويصخبون ويتبادلون النكات، وهم في حالة سكر، ابتهاجاً بعيد الإله (ديونيسوس) إله الخمر".(2)
ثم أصبحت كلمة (كوميديا) تعني، فيما بعد، (الملهاة) وهي بعكس كلمة (تراجيديا) وتعني (المأساة). وتعريف الكوميديا بشكل تفصيلي هو: " الكوميديا شكل من أشكال المسرحية، التي تتعلق بالأمور الحياتية، أكثر مما تتعلق بالمشكلات الأخلاقية المطلقة. كما تهتم بعلاقات الإنسان بالمجتمع أكثر مما تتعلق بالحقائق الثابتة والدائمة. والكوميديا أقل جدية من التراجيديا، والتي تسير الأفعال فيها من التأزم والارتباك إلى حالة السعادة أو إلى الحل المرضي المريح للنفس، بعكس التراجيديا التي تسير فيها الأحداث من السعادة إلى الشقاء. والكوميديا هي الحكم العادل للمجتمع، وهي أفضل مما يعطيه حكم الفرد من مقياس أو معيار للسلوك والتصرف. 
وكما أن تأثير التراجيديا، حسب المفهوم الأرسطي، يتمثل في إثارة عاطفتي الخوف والشفقة، فإن تأثير الكوميديا يتمثل في إثارة الضحك وروح الفكاهة. لذلك فإن الكاتب المسرحي الكوميدي يمكن أن يصوغ فعلاً ينتقيه من الحياة صياغة هزلية فكهة، وكلما كان هذا الفعل بشخصياته وأفكاره مناقضاً للسلوك العام، المصطلح عليه، بدت هذه الشخصيات أكثر هزلية وإثارة للضحك ومن هذا المنطلق فإن الكوميديا نادراً ما تعالج مشكلات فلسفية أو أخلاقية على النحو الجاد العميق الذي تتميز به التراجيديا.
وإنما تدور موضوعات الكوميديا، بصفة أساسية، حول علاقات الإنسان الاجتماعية.(3)
تاريخ الكوميديا:
إنه من الغريزة والعفوية أن يلجأ الإنسان إلى الرقص والابتهاج، عندما تزول مظاهر الخطر والخوف أو الحزن والقلق من حوله، أو عندما يحقق انتصاراً على عدوه، أو يحصل على صيد وفير، أو في مناسبات الولادة والزفاف وغيرها من المناسبات السعيدة. لقد أصبحت طقوس الفرح والسرور من ضمن الطقوس الاحتفالية التي تقدم للآلهة، وخاصة إله الخمر (ديونيسوس) عند اليونانيين، والذي أصبح الاحتفال به تقليداً سنوياً، وقد نتج عن هذه الاحتفالات ظهور (الكوميديا) إلى جانب (التراجيديا). ومع أن الكوميديا، في أول ظهورها، كانت مكرسة للإله (ديونيسوس). إلا أن المواضيع الحياتية بدأت شيئاً فشيئاً تسيطر على الكوميديا، حتى صارت هي المواضيع الوحيدة التي تتعرض لها. 
وصار المشاركون في (الكوموس) يقدمون مشاهد صغيرة مثل: سرقة اللصوص لمواد تموينية، أو زيارة مريض لطبيب أجنبي، وكانت تلك بداية النقد الاجتماعي الساخر، وهكذا نجد أن كوميديا القرن الخامس قبل الميلاد كانت سياسية بمضمونها، إذ تعرضت باستمرار لمسائل البناء السياسي، ولنشاط بعض الدوائر في جمهورية أثينا، وسياستها الخارجية، والحرب والسلام، وكوميديا من هذا النوع، لا يمكن لها أن توجد إلا في بلد جمهوري مثل أثينا.
ومن أهم كتاب الكوميديا عند اليونانيين هو (أريستوفانيس) ولد عام (446) وتوفي عام (385) قبل الميلاد، وقد بدأ الكتابة مبكراً، وكتب حوالي (40) مسرحية، ولكن الذي وصلنا منها هو (11)، والكوميديات التي كتبها هذا الشاعر الملتزم، ما زالت حتى يومنا هذا تدهش بما فيها من جرأة وسخرية، وقد لاقت أعماله نجاحات هائلة لدى جمهور أثينا في وقته إذ عبر فيها عن الجوانب السلبية في المجتمع مثل الرشوة، ونهب أموال الدولة وغيرها، بطريقة ساخرة، والبطل الإيجابي عند (أريستوفانيس) هو المزارع الصغير الذي يعمل في الأرض ويساعده واحد أو اثنان من العبيد، وكانت الكوميديات التي كتبها على علاقة وثيقة بالحياة اليومية، التي تغدو موضع سخرية ونقد ولا تُفرح، ومن أهم مسرحياته: الضفادع – السحب- الفرسان- السلم- الثروة- الطيور وغيرها.
كانت الكوميديا، في عهد (أريستوفانيس)، تتألف من (برولوغ) وهو التمهيد أو الاستهلال ويتضمن الحبكة، وبعد الاستهلال تأتي أغنية البداية للجوقة وهي تتألف من (24) شخصاً، وتنقسم إلى مجموعتين يلي ذلك مشاهد تفصلها عن بعضها أغنيات الجوقة، وفي كثير من المشاهد كان الحوار يرافق الأغاني، وكانت تلك المشاهد تتضمن ما يسمى (بالاغون) وهو عبارة عن حوار بين شخصين يدافعان عن فكرتين متناقضتين، غالباً ما ينتهي هذا الحوار بشجار، ثم إن الصراع يصل إلى أقصى درجات التوتر، وهناك ما يسمى أيضاً (بارابازا) حيث تنزع الجوقة أقنعتها وتخطو عدة خطوات إلى الأمام وتتوجه مباشرة إلى المشاهدين، لم يكن (للبارابازا) علاقة وثيقة بالفكرة الأساسية للكوميديا، وإنما كان قائد الجوقة يحاول من خلالها تقديم الكاتب ومؤلفاته، أو يعطي على لسانه رأياً بالقضايا المعاصرة التي يعيشها، أما القسم الأخير من الكوميديا فكان يدعى (إيكسور) حيث تغادر الجوقة الأوركسترا في نهاية العرض، وكانت أغنيات الجوقة تصاحب بالرقص المرح.
تطوَّرت الكوميديا في العصر الهلليني، وحدث عليها بعض التغيرات ولكنها لم ترق إلى عظمة الكوميديا اليونانية، وسميت الكوميديا الجديدة (الكوميديا الأتيكية)، حيث ظهر الممثل المحترف، ولم يعد للجوقة وجود، ,أصبحت ملتصقة بالمجتمع أكثر، ومن أعظم كتاب هذه الفترة (ميناندر) ولد عام (343) وتوفي عام (292) قبل الميلاد. وقد كتب كثيراً من المسرحيات، ولكن لم يصلنا منها إلا مسرحية كاملة واحدة هي ( المتذمر) واعتبر بعد وفاته أعظم كاتب مسرحي، واعترف به كأفضل من كتب الكوميديا الجديدة، وقد تجاوزت شهرته اليونان.
عُرفت في اليونان، إلى جانب التراجيديا والكوميديا الراقيتين، أشكال وضيعة من الفرجة، كانت عبارة عن مشاهد ذات طابع ساخر، وتعتمد على الارتجال وتسمى (مايم) بمعنى التقليد أو المحاكاة، وما يميز ( المايم) عن غيره من الأجناس الدرامية، أنه ألبس الأبطال والآلهة ملابس عادية، وأحياناً مضحكة، وكانت عروض (المايم) تقدم على منصات خشبية، وكانت المرأة تشارك الرجل فيها، كما ظهرت في العصر الهلليني ظاهرة فرق (المايم) الجوالة، وقد لعب (المايم) دوراً كبيراً في ترسيخ وتوسيع عناصر الواقعية في المسرح، واكتسب شعبية هائلة في روما، واحتل المركز الأول بين جميع الأجناس المسرحية الأخرى.
ومن الأنماط الأخرى للكوميديا الوضيعة (الفلاكي) وهي عبارة عن مشاهد كوميدية صغيرة تختلف عن (المايم) باستخدامها للقناع، كما أن مواضيعها تقلد الأسطورة، ومع هذا فقد كانت تأخذ مواضيع واقعية أحياناً، وهذا يؤكد، بل ويثبت حقيقة تقول إن التقاليد الكوميدية العريقة استمرت في الوجود، حتى من خلال الأشكال الأقل فنية.
ولم يختلف المسرح الروماني عن اليوناني في شيء، فقد كان الرومان مقلدين لليونان أكثر منهم مبدعين، إلا أنهم عرفوا (الأغاني الفنية) وهي عبارة عن نكات كانت غالباً بذيئة، ولكنها كانت ساخرة وتهكمية، لم تترك أحداً إلا وطالته حتى الأعيان والوجهاء الذين كانوا يحاولون تجنبها، وقد أصدروا قراراً ينزل أشد العقوبات بمن يتعرض لآخر بالهجاء، كما عرف الرومان (الساتورة)، وهي عبارة عن مشاهد درامية ذات طابع كوميدي حياتي، تحتوي على الحوار والغناء والموسيقى والرقص، وقد لعبت الموسيقى فيها دورا أساسياً.
عرف الرومان كذلك (الغيسترون) وهي كلمة ايترونية، أطلقها الرومان على الذين يقومون بحفلات السمر الشعبية، كما كان هناك أيضاً نوع آخر هو (الأتيليان) الذين كان ذا طابع كوميدي، بالإضافة إلى (المايم) الذي لم يكن مختلفاً عن (المايم) اليوناني، من حيث تعرضه لمواضيع الحياة اليومية.
الكوميديا الأدبية التي عرفتها روما في القرن الثالث وطيلة القرن الثاني تقريباً، هي إعداد للكوميديا الأتيكية الجديدة، وكان يطلق على الكوميديا الأدبية الرومانية المقتبسة من اليونانية (بلياتا) والتي تعني الرداء، حيث كان الممثل يرتدي رداءاً يونانياً، وأسماء الأشخاص يونانية، والمكان الذي تجري فيه الأحداث في اليونان أيضاً.
ومن أعظم كُتاب العصر الروماني الكوميدي، (بلاوتوس) الذي ولد عام (254) وتوفي عام (184) قبل الميلاد، وكان أعظم كاتب كوميدي عرفته روما، والكوميديا عند (بلاوتوس) مليئة بالحيوية والديناميكية والفعل، وهي تتميز بالحماسة والقوة والتفاؤل، لقد نجح (بلاوتوس) في المزج بين الكوميديا الأتيكية الجديدة وعناصر (الأتليانا) الشعبية المليئة بالفعل والحيوية والنكات، التي كانت بذيئة، لكنها ذكية، وتمثل الموسيقى والغناء مكاناً هاماً في كوميديات (بلاوتوس) ومن أهمها التوءمان والبخيل، ومع أن (بلاوتوس) كتب الكثير من المسرحيات، إلا أنه لم يصلنا منها إلا حوالي (20) مسرحية.
وينتقل المسرح ببطء إلى العصور الوسطى، وقد خبا بريقه، وتلاشت قوته وعظمته، وذلك نتيجة للصدام القوي مابين الاتجاه الشعبي الواقعي وبين الاتجاه الديني، فقد قاومت الكنيسة كل مظاهر الحياة الإنسانية، من فرح ونشاط وحب للحياة، ودعت إلى الزهد والابتعاد عن كل ما هو دنيوي إلا أن المسرح، ظل موجوداً بين طبقات الشعب، وخاصة الفرق المسرحية الجوالة، ثم المحاولات المسرحية الدنيوية الأولى، وبعدها فرق (الفارس) التي كانت تقدم عروضها في الساحات إلى جانب المسرحيات الدينية مثل مسرحيات المعجزات والأسرار والأخلاق، ومن أهم الفرق الجوالة كانت فرق (الغيسترون) وهم أول من قام بمحاولات تجسيد الأنماط الإنسانية، وقد ساهموا في الإعداد لظهور ممثلي الفارس، وخاصة في الأعياد الريفية، وفي حياة الفلاحين، فقد عبر الناس عن إيمانهم العفوي بالرقص والغناء والتمثيل.
(الفارس) هو مسرحية كاملة الطول، تتناول موقفاً مضحكاً، يتعرض في أكثر الأحيان للحياة الزوجية ومشاكلها، ومن هنا جاء ما يسمى (بفارس المخدع) وقد تعرض (الفارس) أيضاً لرجال الدين والإقطاعيين بالنقد الساخر، وهناك نوع آخر لا يختلف عن (الفارس) ويسمى (سوتي) وهي تعني الحماقة و(السوتي) عبارة عن مشاهد تتناول بالسخرية وضعاً محدداً، وترتبط بالظرف الراهن وبالتاريخ في عصر النهضة، ويشمل القرنين الخامس عشر والسادس عشر، حيث ظهر العصر الذهبي للمسرح، إذ وصل هذا الفن إلى قمته، وكانت إيطاليا وفرنسا وإنكلترا هي المراكز التي ازدهر فيها المسرح بأشكاله المعروفة آنذاك الكوميديا والتراجيديا والباستورال، ومن الطبيعي أن تحظى الكوميديا بالنصيب الأكبر من الشهرة، فهي الأقرب إلى الواقع، ومن خلالها اتجه الكتاب المسرحيون إلى الإنسان الحقيقي، إلى النضال في سبيل المثل الإنسانية، (والباستورال) الذي هو النوع الثالث من الدراما الإنسانية في عصر النهضة لم يُعرف في المسرح اليوناني، ومصدر (الباستورال) هو الأغاني والأشعار الرومانية مثل أشعار (فرجيل) وأشعار (بوكاتشو) الرعوية، وكان في بدايته ذا طبيعة غنائية ثم أضيف إليه البعد الدرامي، وقد آثر (الباستورال) الابتعاد (عن الحياة) اليومية والموضوعات الاجتماعية، فأصبح نوعاً من التسلية المحببة للأرستقراطية.
إن أهم ميزات عصر النهضة هو ظهور (الكوميديا ديللارتي) الإيطالية الأصل، والتي أخذت طريقها واشتهرت في كل أنحاء أوروبا الغربية وتدعى أيضاً: كوميديا الفنون أو الكوميديا المرتجلة، وهي فن بسيط للغاية ولكنها نافذة الأثر للغاية أيضاً، كان طابعها العام التهريج وارتجال الحوار، أي إن الممثل فوق المنصة يؤلف من الحوار ما يراه مناسباً للموقف المتفق عليه سلفاً بين الممثلين، ولقد ابتدع هؤلاء الفنانون أنماط شخصيات محددة لا تتغير أبداً مهما تغير الموضوع أو المواقف التي يتفقون عليها، وقد لمعت في عصر النهضة أسماء كثيرة من كتاب الكوميديا المشهورين، والذين أثروا في الكوميديا وفي مسيرتها تأثيراً كبيراً وكانوا من أعلامها المشهورين إلى يومنا هذا مثل: (لوب دي رويد) من إسبانيا و (موليير) من فرنسا و(بن جونسون وشكسبير) من إنكلترا وغيرهم كثيرون، ولكن أشهرهم في الكوميديا على الإطلاق وبشهادة كل النقاد هو (موليير) (1622-1673)، الذي كان وحده سيد الموقف في الأعمال الكوميدية الكلاسيكية، وذلك أن موهبته الفطرية وسعيه واجتهاده كانت كلها السبب الذي جعل منه واحداً من ألمع كُتّاب المسرح الكوميديين على مرِّ الزمن، ومن أشهر مسرحياته: مريض بالوهم – طرطوف- البورجوازي النبيل- سغاناريل- الطبيب رغماً عنه- دون جوان- مدرسة الأزواج- كاره البشر- وغيرها كثير.(4)
الكوميديا الحديثة:
بعد ركود طويل، بدأ المسرح يتطور بشكل سريع جداً في القرنين التاسع عشر والعشرين، إذ ظهرت المسارح الحديثة من حيث البناء والتخصص، كما ظهرت الأدوات، والوسائل التكنيكية الجديدة والحديثة من إضاءة وصوت وديكور وملابس ومكياج، وكذلك ظهرت أساليب ومفاهيم ومناهج ومدارس فنية جديدة ومتنوعة في الإخراج والتمثيل والتصميم وغيرها.
ويعتبر الكاتب النرويجي (هنريك ابسن) 1828-1906 هو الرائد الأول للمسرح الحديث، وقد تطورت الكوميديا أيضاً وأصبحت ذات أهداف اجتماعية ورسالة أخلاقية سامية، وتحمل أفكاراً اجتماعية وسياسية وفكرية ونلمس ذلك في كتابات الكثيرين من الكوميديين الساخرين وعلى رأسهم (جورج برنارد شو)، وقد تنوعت الكوميديا حسب الأفكار والاتجاهات السائدة فمنها الملتزم، ومنها الساخر،ومنها التهريجي، ومنها العبثي، ومنها الوجودي، ومنها اللامعقول.. إلخ. كما دخلت الكوميديا مع الفنون الأخرى كالتمثيل الصامت (البانتوميم)، والباليه، والأوبرا، والسيرك، والرقصات الشعبية وغيرها كما دخلت الكوميديا في الفنون الجديدة كالسينما والتلفزيون، والرسم الكرتوني، والمجلات الفكاهية وغيرها، وبذلك دخلت الكوميديا في كل المجالات وإلى كل البيوت، فأصبحت جزءاً من حياة المجتمع. ومن منّا لا يذكر أيام السينما الصامتة، وخاصة معجزة الكوميديا الخالد (شارلي شابلن) الذي أصبح شخصية عالمية، والذي تميز (بكركتر) مميز وحيد عُرف به في كل أنحاء العالم ؟. 
أنواع الكوميديا:
هناك أنواع كثيرة للكوميديا ومسميات مختلفة بحسب العصر والزمان والمكان، وحسب المناسبة والنوع والاتجاه الفكري وغيرها، ولكننا يمكن أن نذكر أهمها بحسب اتفاق النقاد والفنانين، وبحسب انتشارها ومعرفتها بين الناس في الوقت الحالي، وهي:
1- الكوميديا الراقية: وهي مسرحية ضاحكة، يغلب عليها الطابع الجاد، وتثير في مشاهدها ضحكاً خفيفاً مبعثه الذهن، ولأنها تنتقد، في كثير من الأحيان، السلوك الاجتماعي المعاصر، دون مغالاة أو عنف، وقد ارتبطت بشكل ما بنوع آخر كوميدي يسمى كوميديا السلوك.
2- كوميديا الدسائس: تهتم أولاً وقبل كل شيء بصياغة الحبكة، التي تقوم على التنكر، وتدبير المقالب المحكمة الصنع، والتي تثير الضحك.
3- كوميديا التهريج: وتدل على العرض المسرحي الهابط، الذي يتسم بالصخب والعنف الجسدي، والخشونة في الحركة واللفظ، واستعمال الأيدي والأرجل في حركات بهلوانية.
4- الكوميديا الدامعة: من خصائصها معالجة مشاهد ضاحكة في مناخ مسرف في عاطفيته وانفعالياته، وبلغة شعرية شاحبة، ومواقف درامية تثير شجن المتفرج، ولكن ليس إلى درجة الحزن القاسي، أما شخصياتها فبسيطة وسطحية الدوافع، وقد تنتهي الكوميديا في هذا النوع نهاية سعيدة أو حزينة.
5- الكوميديا الرومانسية: تتميز بجملة من الصفات في مقدمتها: الغرام اللاّهب كمحرك أساسي للأحداث، وعوائق وصعوبات تقف في طريق العاشقين والانتقال إلى الحقول والغابات والجبال والأجواء الطبيعية الشاعرية، والبطل أو البطلة المخلصة المثالية...إلخ.
6- كوميديا الشخصية: تعتمد على تصوير الشخصية المسرحية أكثر من اعتمادها على بناء الحبكة، أو على المناخ العام، أو أي عامل آخر.
7- كوميديا المواقف: تعتمد على بناء الحبكة في المقام الأول أكثر من اعتمادها على رسم الشخصيات،وينشأ الضحك، عادة، من المواقف الهزلية، والمفارقة والأخطاء الكثيرة، والتخفي...إلخ.
8- الكوميديا الهزلية: وهي المعروفة باسم (الفارس) وهي عبارة عن تمثيلية خفيفة تبالغ في استخدام المسرح والتهريج، والتناقضات في الموقف واللفظ، والحركات البدنية الهزلية، والمصادفات اللامعقولة، والمواقف والشخصيات التي لا يحكمها قانون الاحتمال والممكن، وهدفها الأساسي هو التسلية والترفيه.
9- التراجيكوميديا: وتسمى أحياناً الميلودراما أو الدراما الرومانسية أو الدراما وهي مزيج من التراجيديا والكوميديا، وتعالج التراجيكوميديا فعلاً له طبيعة جادة إلا أن هذه الجدية ليست مستمرة، وإنما وقتية، كما أنها تنشأ من ظهور قوى شريرة تعمل على عرقلة سير الأحداث السعيدة، وفي العادة تحشر أحداثاً وشخصيات ضاحكة، تبعث على الضحك والترويح للتخفيف من حدة الجدية وصرامتها، ولأن التراجيكوميديا تعالج عالماً ينقسم إلى شر خالص، أو خير خالص، فإن الشخصيات نفسها تنقسم إلى شخصيات تستولي على كل تعاطفنا، وأخرى تستحق كراهيتنا، لذا كان لهذا الشكل من الدراما نهاية مزدوجة، أولاهما نهاية سعيدة بالنسبة للشخصيات التي نتعاطف معها، وأخرى غير سعيدة بالنسبة للشخصيات التي فقدت تعاطفنا، والتراجيكوميديا تكاد تكون أكثر الأشكال الدرامية شيوعاً في المسرح، وأكثرها قبولاً واستحساناً في السينما والتلفاز، ولاشك أن لها أنماطاً متعددة، تتحدد حسب كمية وطبيعة المزج بين عناصر التراجيديا وعناصر الكوميديا.(5)
الكوميديا رسالة سامية:
من خلال اطلاعنا على تاريخ الكوميديا ومعرفتنا لكل أنواعها وأهدافها، ومن خلال اهتمام الناس بها وافتتانهم بها على اختلاف طبقاتهم ومشاربهم، وعلى مدى العصور والأزمنة، واختلاف الأماكن، يتضح لنا أن للكوميديا تأثيراً عظيماً على الناس، فهي المجال الوحيد الذي يضحكون فيه بحرية ويتشاركون الضحك مع الآخرين، لأن الضحك لا يكون إلا مع الناس وبين الناس وكلما زاد الناس زاد الضحك، وكلما ضحكوا أكثر كلما شعروا بانتمائهم إلى الناس أكثر، فالضحك رابط قوي يربط الناس بعضهم ببعض، والضحك أيضاً متنفس للناس، يفرغون فيه كل همومهم وأحزانهم ومشاكلهم، إنهم أيضاً، يجدون الراحة والرضا عندما يضحكون على الطبقات الأرستقراطية وأصحاب النفوذ والقوة والمال ومن يشعرون نحوهم بالكره والنفور، ومن المغفلين والسذج والجهلة، عندما يرونهم على خشبة المسرح، إنهم ينتقمون منهم بالضحك والسخرية والاستهزاء، ويتشفون بهم عندما يرونهم بالمواقف المضحكة والنهايات التعيسة، والانتقام هنا هو انتقام جماعي، والمجتمع لا يرحم مثل هؤلاء الناس.
وعلى المسرح يرى الناس أنفسهم، يرون مشاكلهم وأخطاءهم وسلبياتهم، فيضحكون منها،ولكنهم في نفس الوقت يتعلمون ويتعظون وينتبهون لمواقع الخطأ والخلل، فالكوميديا مرآة المجتمع، والكوميديا معلّم محبوب وظريف ولبق، يعلّم الناس الأخلاق والقيم النبيلة والفضائل الحسنة، ويحذرهم من الشر والأذى والعيوب الضارة بالمجتمع.
عندما نتكلم عن الكوميديا فإننا نتكلم عنها كفن نبيل وصادق، وليس كفن رخيص وتهريجي وخلاعي، كما يحدث أحياناً، فتفقد الكوميديا بذلك رسالتها السامية.
صحيح أن "هدف الكوميديا هو أن تسلي الناس من خلال التمثيل، وتجلب لهم المتعة، ولكن المتعة لا تأتي من الضحك وحده، فالحدث العجيب قد يمنح من المتعة أكثر من أي فعل باعث على الضحك، والحكاية المتقنة هي مصدر المتعة الحقيقية للعقول المتنورة، فالكوميديا إذن مرتبطة بالمتعة وليس بالتهريج، إنها مسألة مدروسة وليست قائمة على المبالغة، وهي مرحة وليست وقحة، والذين يطلقون اسم الكوميديا على كافة أعمال الخلاعة، إنما يستخدمون تعريفاً مستقى من مخيلتهم، وصحيح، أيضاً، أن الضحك من الكوميديا مثل الضحك من التهريج، ولكن أحدهما ينبع من التعابير المريحة أو التلاعب بالألفاظ، بينما ينبع الآخر من المبالغة في سرعة البديهة، ويهدف الأول إلى تقصي الفضائل، بينما يوجه الآخر إلى السخرية من الناس"(6).
وهناك شيء هام بالنسبة للكوميديا: "إن الإنسان إذا تأثر عاطفياً لا يضحك، والمشهد الكوميدي كي يثير الضحك لابد أن يتجرد من العاطفة، فالمشهد الكوميدي مشهد عقلي بحت، الإنسان يضحك من قلب المعقول أو المألوف، إنه يضحك من اللامعقول، وسر الكوميديا في كشف مواطن الضحك هو (الكاريكاتير) فالكاريكاتير يبحث عن العيوب في الشخصية ثم يضخمها ليجعلها بارزة للعيان، فهو لا يعتمد على المبالغة المتعمدة، ولا يختلق العيوب اختلاقاً، وإنما يبالغ في تصوير عيوب موجودة فعلاً في الشخصية". (7)
الكوميديا في سورية:
لم تعرف سورية المسرح بمعناه الحديث، إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان رائد المسرح العربي الأول (مارون النقاش) (1817-1855) قد قدم أول مسرحية باللغة العربية عام (1848) وهي كوميدية بعنوان (البخيل) ومقتبسة عن (موليير)، ثم تتالت المحاولات من قبل بعض الأشخاص والفرق السورية وخاصة في دمشق وحلب وحمص، وكان من أشهرهم على الإطلاق أبو خليل القباني (1836-1902) الذي قدم الكثير من المسرحيات المتنوعة فيها التمثيل والغناء والرقص والموسيقى، وكان التمثيل أشبه بما ندعوه اليوم (الميلودراما) أي خليط من التراجيديا والكوميديا، وظلّ المسرح بعد القباني، تقوم به بعض فرق الهواة وبعض الأشخاص المحبين للمسرح بين الحين والآخر حتى النصف الثاني من القرن العشرين حيث بدأ الاهتمام بالمسرح بشكل متتابع ومتلاحق من قبل الدولة كإنشاء المسرح القومي والمسرح العسكري ومسارح المنظمات الشعبية، ومن قبل الفرق المسرحية الخاصة كالمسرح الحر ومسرح الشوك وغيرها، وأصبحت الثقافة الفنية والمسرحية منتشرة بشكل واسع بين الناس في سورية بواسطة المجلات والكتب الفنية والأفلام السينمائية والبرامج الإذاعية والمحاضرات الفنية، وفي عام (1960) ظهر البث التلفزيوني في سورية فأحدث ظهوره ثورة فنية وثقافية لدى عامة الناس، وتعرّف الناس من خلاله على الكوميديا أكثر فأكثر، خاصة من خلال مسلسلات (غوار الطوشة) التي دخلت إلى كل البيوت، وأصبحت كل شخصيات هذه المسلسلات (كركترات شعبية مشهورة) ليس في سورية وحدها، وإنما في معظم البلاد العربية كشخصيات (غوار وحسني وفطوم وياسين وأبو عنتر وأبو كلبشة وأبو صياح وأبو فهمي وأم كامل) وغيرهم كثيرين.
وفي المسرح، على الخصوص، كان للمسرح القومي وفروعه في كل المحافظات، دور قيادي بارز في عرض أشهر المسرحيات العالمية والمحلية، الجادة والكوميدية، وظهر كتاب مبدعون في المسرح أمثال: سعد الله ونوس ووليد إخلاصي وممدوح عدوان وفرحان بلبل ومحمد الماغوط، وعلى عقلة عرسان وعبد الفتاح قلعه جي ونور الدين الهاشمي وغيرهم كثيرون لا يسع المجال لذكرهم، منهم من كتب الكوميديا وأبدع فيها، ومنهم من مزج الكوميديا بالتراجيديا وكان لمسرحيات دريد لحام صدى كبير وتأثير عام على الناس مثل: ضيعة تشرين وغربة وكأسك يا وطن وغيرها، بالإضافة إلى فلمي (الحدود والتقرير) والأفلام الكوميدية السينمائية الخاصة، وبعض المسلسلات الكوميدية التلفزيونية.
ولا ننسى أيضاً مسرح الفنان الكوميدي العبقري (محمود جبر) وفرقته، فقد كان علامة مميزة في عالم الكوميديا في سورية، وكذلك مسرح الإخوة قنوع وغيرهم كثير وكثير في كل المحافظات السورية.
وهناك تجربة جديرة بالاهتمام، احتلت حيزاً كبيراً في عالم الكوميديا التلفزيونية في سورية للفنان الشامل (ياسر العظمة) في مسلسلاته الكوميدية والاجتماعية الناقدة ومن أشهرها مسلسل (مرايا)، ونتيجة لذلك ظهرت مسلسلات اجتماعية وكوميدية ناقدة مثل (بقعة ضوء) و (عائلة خمس نجوم) ومسلسلات أخرى لا يسعنا ذكرها هنا.
كانت قفزة كبيرة هائلة في المسرح والسينما والتلفزيون، وخاصة في الكوميديا، قامت بها سورية في غضون خمسين عاماً تقريباً إلى الوقت الحاضر، استطاعت خلالها أن تلحق ببعض الدول العربية المتقدمة فنياً بل وتتفوق عليها وتسبقها في مجالات معينة وتصبح في الصدارة، وما زالت تتابع المشوار بإصرار وقوة متسلحة بالعلم والخبرة والمعرفة والتجربة.


الهــوامــــش:
1- دليل المتفرج الذكي إلى المسرح- ألفريد فرج – كتاب الهلال العدد (179)- القاهرة 1966
2- الأدب المسرحي: تاريخ ونصوص- نديم محمد- مديرية التدريب – وزارة التربية – دمشق 1981.
3- النقد الأدبي- موسى الخوري- مكتبة أطلس- دمشق- 1972 (مرجع انكليزي)
4- أخذت المعلومات عن تاريخ الكوميديا من المراجع التالية:
آ- الأدب المسرحي: تاريخ ونصوص- مصدر سابق.
ب- النصوص المسرحية وتاريخها- نديم محمد-مديرية التدريب- وزارة التربية دمشق 1981.
ج- دليل المتفرج الذكي إلى المسرح- مصدر سابق.
د-الأدب الإنكليزي – جون بيرغس ويلسون- لونغمان- لندن- 1970 (مرجع إنكليزي)
هـ- الممثلـون والتمثيـل- توبي كول وهيلين كريش شـينوي- ترجمة ممـدوح عـدوان- وزارة الثقافـة دمشـق 1997.
5- طبيعة الدراما- إبراهيم حمادة- سلسلة كتابك عدد (26) دار المعارف- القاهرة 1977.
6- الممثلون والتمثيل- مصدر سابق.
7- دليل المتفرج الذكي إلى المسرح – مصدر سابق.

---------------------------------------------------
المصدر : الباحثون - العدد 50

0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption