أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الخميس، 26 مارس 2015

مسرح الكابوكي تراث متأصل في الحياة اليابانية المعاصرة / د. محمود عبد الواحد محمود

مدونة مجلة الفنون المسرحية


اليابان تلك الأمة التي استطاعت على مدى تاريخها أن تنال احترام الشعوب والأمم، وأن تحقق نجاحات ملفتة في الجانب التكنولوجي ، مما حولها إلى علامة بارزة في عالم الصناعة والعلوم والتقانة، وهذا دفع البعض من المؤرخين الغربيين إلى إطلاق صفة «اليابان المتحدة»(1) في إشارة إلى دور الشركة والتقانة في اليابان المعاصرة، وإلى علاقة التحالف بين الدولة والشركة. وإذا كانت اليابان مرتبطة في الذهنية الشرق أوسطية والعالم العربي بما تقدمه من صورة مشرقة لدولة متقدمة تكنولوجيا، فإن وراء هذه السمعة العالمية ثقافة وحضارة لا تقل أهمية عن الجانب التقاني. ففي اليابان حضارات قديمة ترجع إلى آلاف السنين وثقافات شعبية ما زال اليابانيون يجتهدون في الحفاظ عليها.
تحولت التكنولوجيا إلى عامل مساعد للترويج لهذه الثقافات وتطويرها. ومن هذه الثقافات الشعبية اليابانية التي تعد مظهراً من مظاهر صورة اليابان التقليدية، مسرح كابوكي، هذا المسرح الذي ظهرت جذوره الأولى مع مفتتح حقبة إيدو (1603 1867-) (2)، وتطور عبر تاريخ اليابان الحديث والمعاصر، وما زال يشكل حلقة مهمة في تطور الثقافة اليابانية المعاصرة. فمن لا يحضر مسرح كابوكي في طوكيو أو أي مدينة يابانية أخرى لا يعد نفسه قد زار اليابان. فهذا المسرح الكلاسيكي يجسد صورة اليابان التقليدية في عصر الإقطاع، ويعطي المتلقي إحساساً بالانغماس عميقاً في تاريخ اليابان في عصر إيدو، وهو العصر الذي ظهر فيه هذا النوع من المسرح، وأنماط أدبية أخرى تفاعلت مع بعضها؛ لتؤدي إلى تكامل الشخصية اليابانية التي جمعت عبر تاريخها الطويل بين التقليد والحداثة، وبين الاستمرارية والتغيير. وهاتان سمتان أساسيتان في تنامي وتطور التجربة الثقافية اليابانية. 
وتمثل كابوكي قمة التجربة المسرحية في اليابان ، حيث بلغت درجة من الإتقان والتعقيد لاتقل عن مثيلاتها في أوربا، ولم تعد تغفل في أية دراسة عامة عن تطور المسرح على الصعيد العالمي (3). استمر مسرح كابوكي معبراً عن الثقافة الشعبية اليابانية طيلة حقبة توكوكاوا وعهد ميجي، ثم تطور في القرن العشرين وحتى الحرب العالمية الثانية؛ ليعاني من التهميش والإقصاء من المحتلين الأمريكيين، لأنه مثل بالنسبة لهم خطراً على مشروعهم في اليابان، الذي تمثل بتجريد اليابان من ماضيها وثقافتها ومجدها، الذي تجسد بأنماط فكرية وأدبية شكل كابوكي إحدى هذه المكونات للثقافة اليابانية، ليرجع إلى سابق تألقه بعد مدة من التوقف أثناء الاحتلال الأمريكي، لأن هذا المسرح يذكر بماضي اليابان وتقاليدها وقيمها واعتزازها بذاتها، التي حاول المحتلون الأمريكيون إحداث نوع من الشرخ بين ماضي اليابان وحاضرها.
البحث محاولة لتتبع جانب من الثقافة الشعبية اليابانية المعاصرة، وجهود المؤسسات الثقافية اليابانية، للحفاظ على هذا الموروث الثقافي الأصيل، لاسيما بعد إدخال التكنولوجيا الحديثة في إضفاء أجواء سحرية تنقل الجمهور إلى عصور الإقطاع والموروثات الشعبية التقليدية، إذ تفاعلت الحداثة مع الموروث الشعبي للمساعدة في إظهار صورة اليابان التقليدية في عهد إيدو. فالبحث، وفقاً لهذا الفهم، محاولة لتقديم جانب من جوانب الثقافة الشعبية اليابانية للمثقف العربي، بالتركيز على بدايات هذا النوع من الثقافة الفنية وتطوره منذ عهد إيدو وحتى الوقت الحاضر، مع تتبع مكوناته الفنية وأدواته التي أسهمت في رسوخه واستمراره.
البدايات:
يعود تاريخ كابوكي لحوالى أربعمائة سنة، ونجده ضمن قائمة اليونسكو للتراث الإنساني الحي منذ عام 2005. بدأ هذا الفن عروضاً راقصة، ثم واصل تطوره وسط شعبية كبيرة ومستمرة إلى أن أصبح واحداً من أشهر فنون العرض اليابانية. في هذا الفن تتحد الألوان والموسيقى والمثل الجمالية الأسلوبية على خشبة المسرح لتصنع نخبة من أرقى العروض الدرامية، وأروع أساليب التمثيل(4). ظهر هذا النوع من الفن المسرحي في بداية عصر إيدو في مفتتح القرن السابع عشر الميلادي، مع ظهور أنماط فنية أخرى مثل نو (5) وبونراكو (6) التي أصبحت بتطورها وتكاملها بمرور الوقت جزءاً أساسياً من الثقافة التقليدية اليابانية. فهذه الأنماط الفنية الثلاثة: نو وبونراكو وكابوكي، تفاعلت مع بعضها وتطورت على نحو متزامن. وهذا النوع من الرقص مشتق من الرقص الفلوكلوري الذي يدعى فوريو-أو أودوري ونيمبو أودوري، الذي تقوم بتجسيده النساء فقط. ظهر مسرح كابوكي في مفتتح القرن السابع عشر ، مترافقا مع ظهور أسرة توكوكاوا. ويرجع المؤرخون ظهوره إلى سنة 1603، وهي السنة ذاتها التي ظهرت فيها أسرة توكوكاوا، عندما بدأت أوكوني أيزومو بالغناء على ضفاف نهر كاموكاوا في مدينة كيوتو، العاصمة الإمبراطورية طيلة حقبة إيدو. وبدأ ينتشر بسرعة كبيرة في أرجاء اليابان بسبب طابعه الشعبي، وأجيز عمل الممثلات من قبل ناغويا سانزا بورو، ووصل كابوكي إلى مدينة إيدو في سنة 1607، إذ بدأ مسرح كابوكي بالظهور وشيدت قربه المتاجر والمطاعم، ثم بدأ العديد من الفرق بالظهور تقليدا لهذا النمط الجديد من الدراما والرقص بين سكان المدن (7). ولأن العديد من الممثلات في هذا النوع من المسرح الشعبي كن من المومسات، منع الشوغون، وهو حاكم إيدو العسكري ، النساء من الصعود على المسرح في عام 1629. وحل محلهن صبيان أطلق عليهم اسم واكاشو، الذين بسبب صغر سنهم وممارستهم لأعمال مخلة بالأخلاق، لاسيما مع المحاربين من الساموراي مما يبعدهم عن أداء واجباتهم القتالية، تعرضوا أيضاً إلى فضائح عديدة، ومنعوا من الصعود لخشبة المسرح في عام 1652. وأمرت حكومة الشوغون أن تجسد عروض كابوكي على مسرح كيوجين الذي كانت تجسد عليه أعمال مسرح نو وأن يقوم الرجال (يارو ) بالتمثيل(8). وأجبرت الفرق المختصة بمسرح كابوكي على الإقامة في أجزاء محددة من المدينة ليخضعوا للمراقبة الدائمة (9).
أصبح كابوكي نوعاً من المسرح الاحترافي المهتم بفنون كا (الغناء)، وبو (الرقص)، وكي(تقنية). وجسد الرجال أدوار النساء (أوناكاتا). وتم إنشاء المسارح في إيدو وأوساكا وكيوتو لتمثيل مسرحيات كابوكي. وحدثت تغييرات على خشبة المسرح بابتكار هاناميشي ( وهو الممر الذي يستخدمه الممثلون ويراه الجمهور عندما يسير خلاله الممثلون ) والستارة، مما أعطى حرية للممثلين بتغيير ملابسهم وأوضاعهم مع كل حركة ومشهد. وأصبحت المسرحيات طويلة وتكتب خصيصا لهذا النوع من المسرح (10).
والكابوكي نمط تقليدي من الدراما اليابانية يمتزج فيها الرقص بالغناء والحوار، والترجمة الحرفية للمصطلح: «مهارة ممارسة الرقص والغناء»، ويترجم المصطلح أحيانا «فن الغناء والرقص»، وكابوكي مشتق من الفعل «كابوكو» الذي يعني «الغريب أو غير المألوف». وتأتي كلمة كابوكي أيضاً من «كابوكو»، وهي تعني: «ارتداء ملابس مبتكرة ومبالغ فيها، وعمل أشياء عجيبة» أو ذات الصفة المفاجئة (11). ويلاحظ في مسرح كابوكي ارتداء الخوذات من طراز «كابوتو»، التي كان يرتديها المحاربون في القرن السادس عشر ، وعربات الكرنفال أو «داشي» التي تسير في مهرجان جيون في كيوتو. وربما كان الإلهام في هذه التصميمات ـ بزخرفتها الشديدة ـ قد جاء لليابانيين نتيجة لاتصالهم بالأوروبيين عبر التجار الذين ربطوا بين الشرق والغرب (12). 
ليس هناك تاريخ محدد لاتخاذ كابوكي شكله المسرحي المعروف، إلا أنه من المحتمل أن تكون القوانين المقيدة التي صدرت عن الباكوفو (حكومة الشوغون) في النصف الأول من القرن السابع عشر، قد دفعت بالعاملين فيه إلى الاقتصار على العروض المسرحية الدرامية والابتعاد عن الممارسات الأخرى التي شابت نشأته. وبعد منع مؤقت من سلطات الباكوفو في عام 1652، سمحت السلطات بهذا النوع من العمل الفني بعد إجبار العاملين على التقيد بشروط محددة للالتزام بالعمل المهني، بعيداً عن الإخلال بالمسائل الأخلاقية. فأفاد العاملون في كابوكي من الأصناف الأخرى ، مثل مسرح (نو) من حركة الممثلين والرقص ومصاحبة العروض بالموسيقى، ومن (الكيوجين) في الموضوعات التي تخرج عن الصبغة الدينية، ومن بونراكو في الاستعانة بالمنشد / الراوي وعازفي الشاميسين (وهي آلة موسيقية يرافق عزفها مع الغناء في العمل المسرحي). وفي نهاية الأمر، تطور كابوكي ليصبح فناً مستقلاً بذاته، وبمواصفات لم تتوافر لأي من التعابير المسرحية التي سبقته (13). 
كانت قصص كابوكي تدور حول الحوداث التاريخية والصراعات الأخلاقية وقصص الحب وما شابه ذلك من قصص المجتمع الإقطاعي في عهد إيدو. ويستخدم الممثلون اللغة اليابانية الكلاسيكية مما يصعب على اليابانيين أحياناً فهمها. ويستخدم مسرح كابوكي خشبة متحركة مع مؤثرات متعددة تضفي على العرض نوعاً من التاثير على الجمهور. وكانت الحقبة الممتدة بين النصف الثاني من القرن السابع عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، عصراً ذهبياً لمسرح كابوكي، إذ استقرت أدواته وتوسعت قصصه ونضج أسلوبه في عرض مشكلات المجتمع الإقطاعي. وأفاد كابوكي من أنماط المسرح الياباني الأخرى، مثل مسرح الدمى المتحركة (بونراكو)، الذي أصبحت قصصه موضوعات لمسرح كابوكي. اشتمل مسرح كابوكي عند ظهوره على الممثلين من النساء والرجال، لكن بعد أن منعت سلطات إيدو النساء من التمثيل، أصبح الأطفال يمثلون دور النساء، ثم منع الأطفال من أداء أدوار النساء، فأخذ الرجال يجسدون هذه الأدوار، واستمر هذا التقليد حتى الوقت الحاضر. إلى جانب استخدام الأقنعة والأصباغ وعلى نحو مبالغ فيه ومحترف، مما يضفي على أجواء العرض بهجة وتنقل الجمهور إلى عصر الإقطاع والموروثات الشعبية اليابانية(14).
ويطلق اسم (أوناكاتا) على الممثلين الذين يجسدون أدوار المرأة على المسرح، وهي ظاهرة في مسرح كابوكي ذات بعد جديد تماماً. ومن يقرأ التاريخ يجد أن تمثيل الرجال لأدوار النساء هو شيء كان موجوداً في أماكن كثيرة من العالم، لكن مسرح كابوكي هو الوحيد الذي طور هذه الظاهرة إلى فن راقٍ حقيقي ومستمر حتى العصر الراهن. ومن الأشياء التي تسحر النظر في كابوكي: الحركات الميكانيكية على المسرح، مثل خشبة المسرح التي تدور (مادواري-بوتاي) والمصعد الذي يتحرك عبر باب سحري (سيري)، وهو مصعد يرتفع في جو مسرحي ليكشف عن مبنىً في غاية الفخامة، أو عن ممثل في وضع مسرحي مبهر فيخلق بذلك لحظات من أكثر المواضع إثارة في المسرحية. ومما يجعل العرض بهذا الجمال أن الإزاحة تتم باستمرار تحت خشبة المسرح لا فوقها (15). وتم استخدام هذا المصعد لأول مرة في القرن الثامن عشر؛ ولكن تحريكه طبعاً في ذلك الحين كان يتم يدويّاً. وتتم الحركةأمام المشاهدين، وتستخدم لإعداد المشهد نحو الخطوة التالية، فخشبة المسرح عندما تدور تكشف عن منظر مختلف تماماً، ومن الصعب أن نجد في مكان آخر مسارح تستخدم مثل هذه الحركات الآلية على مدى هذا التاريخ الطويل، وهذا يدل على الفكر العبقري الذي ألهم مسرح كابوكي عبر كل هذه السنين(16). 
إن الخطوط العريضة في المكياج (كومادوري) بلونها الأحمر والأزرق لها أيضاً غرض عملي، وهو إبراز وجوه الممثلين على المسرح في زمن كانت فيه الأضواء الصناعية غير موجودة تقريباً، وكانت خشبة المسرح أكثر ظلاماً مما يمكن أن نتصور. ولا شك أن اليابان ليست المكان الوحيد في العالم الذي يرتدي فيه الأفراد مكياجاً غير عادي في بعض المناسبات الخاصة، لكن مكياج (كومادوري) يبدو وكأنه مصمم لكي يضفي على الممثل صورة من يملك قوة خارقة للطبيعة (17). 
تنوعت مسرحيات كابوكي في عهد جينروكو (1704-1688) في أواخر القرن السابع عشر. فقد حقق كابوكي ازدهاره الأول كمسرح ناضج، واستمر في تطوره على مدى عهد إيدو؛ ليصبح المسرح الأكثر شعبية في اليابان (18). فإلى جانب قصص إيراكوتو، التي تتحدث عن الأبطال، هناك القصص التاريخية (جيداي-مونو)، وسيوا-مونو (القصص الأكثر جوهرية)، والمسرح الراقص (شوساكوتو)، والقصص الواقعية (جيتسوكوتو) وواكوتو، التي كتبها مؤلفون متخصصون مثل ساكاتا توجورو، وجيكاماتسو مونزيمون، الذي كتب أيضاً لمسرح الدمى الذي ازدهر في أوساكا، فقد مثلت مسرحيات جيكاماتسو في ضريح كيتانو في كيوتو في بداية عهد إيدو، وانتقل فيما بعد إلى مسرح في وسط المدينة، ثم انتشر إلى أرجاء البلاد (19).
تعددت موضوعات كابوكي سنوياً، فبعض المسرحيات التي عرضت في عهد إيدو، لاسيما (شيباراكو) و(كوتوبوكي ـ سوجا ـ نو –تايمن) (مواجهة الإخوة سوجا) يتم عرضها كل سنة بلا استثناء. وعلى الرغم من أن المشاهد وأسلوب التمثيل قد تعرضت لتغيير تدريجي مع الزمن، إلا أن القصة الرئيسة ظلت تماما كما هي، وهذا ما يتطلع له الجمهور كل عام، ففي اليابان يعد ثبات الشيء دون تغيير باعثاً كبيراً على الاحتفال به، وهذا بالضبط ما نراه في قصص مسرح كابوكي.والاحتفال بالاستمرارية والثبات في الماضي هو أمر طبيعي، لاسيما في البلاد الزراعية حيث تكون أقصى أماني الناس هي الحصاد الوفير سنة بعد أخرى، ومن هنا تأتي عروض كابوكي السنوية ، فهي تماماً مثل المهرجانات والطقوس وغيرها من المناسبات السنوية، التي تعبر في كل سنة عن أماني الناس في الصحة الجيدة ورغد العيش(20). وكانت تعرض المسرحيات في المدن بانتظام، وحتى القرى كان لها «كابوكي» في مهرجاناتها. وكان الفلاحون مغرمين بأداء أدوار كابوكي (21). 
وتشتمل موضوعات كابوكي على قطاع واسع من الأحداث التاريخية إلى مآسي الحب والحكايات الفكاهية وقصص الرعب، ووسط جميع هذه المسرحيات نجد أن المسرحية المفضلة في اليابان هي «كاناديهون تشوشينجورا» (ثروة من سبعة وأربعين من الأتباع المخلصين). تدور قصة المسرحية حول نبيل إقطاعي قديم يضطر للانتحار تبعاً لطقوس سيبوكو في شق البطن بحضور أتباعه المخلصين الذين أعدوا مجموعة كبيرة من الخدع والحيل لينتقموا لموته. تثير القصة شعورا من التواصل لدى اليابانيين، ليس مع ظاهرة الانتقام فيها، وإنما مع الصعوبات الهائلة التي يواجهها هؤلاء الأتباع وهم يتقدمون خطوة إثر خطوة نحو هدفهم الخطير، بينما يخفون نواياهم الحقيقية، وتتولد الإثارة الدرامية في المسرحية من حاجة كل تابع لإخفاء ما يريد حقاً أن يقوله.
أما الحب فهو شيء لم ينسه كابوكي أبدا، ففي عهد إيدو ، كانت حرية الحب من الممنوعات. فكان على اليابانيين احترام الفروق الاجتماعية والمنزلية المتعددة لكل فرد، وإلا انهار المجتمع كله من أساسه طبقاً لمفاهيم ذلك العصر، وأدى ذلك عكسيّاً إلى غرام اليابانيين في ذلك العصر بتجربة الحب المحرم على خشبة المسرح، وأعطى للكتاب دفعاً أكبر للتعبير عنه في كتاباتهم لهذا المسرح (22).
وأدخلت بعض موضوعات مسرح الدمى ضمن مسرح كابوكي. ففي بعض المسرحيات، وتأثراً بمسرح الدمى (العرائس)، يكون البطل الرئيس حيواناً، كما في مسرحية «يوشيتسوني وألف شجرة كرز»، وهي مسرحية تصور حب ثعلب لأبيه، ومسرحية «تسوري-جيتسوني» (الثعلب وصانع الفخاخ)، التي يتظاهر خلالها أحد الثعالب بأنه إنسان، في محاولة لإقناع صانع الفخاخ بالتوقف عن قتل الثعالب، ولكن إغراء الطعم الذي يضعه صانع الفخاخ يتغلب على الثعلب في النهاية، فيقع فريسة في الفخ. والقصة مستمدة من مسرح كيوجين الكوميدي ، وهو أقدم من كابوكي. وكثير من هذه المسرحيات مأخوذ من أعمال مسرح الدمى، الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة (23).
كان مسؤولو الباكوفو ومعلمو الكونفوشيوسية أمثال هاياشي رزان (24) 1657-1589 ينظرون إلى عروض كابوكي الأولى على أنها ممارسات تفسد الأخلاق، وتكسر القيم المجتمعية، وتهدد الأمن، لاسيما وأن جمهورها لم يقتصر على سكان المدن؛ بل شمل أيضاً عدداً من كبار الساموراي. إلا أن سلطات الباكوفوكانت ترى أيضاً أن كابوكي، مثله مثل الدعارة، شر لا بد منه، فهما معاً يصرفان الناس عن شرور أعظم. ولهذا الاعتبار لم تمنع السلطات كابوكي منعاً نهائياً، لكن عملت، بغية حفظ الأمن والأخلاق، على حصره في إحياء المتعة الهامشية، ومنع القائمين بها من السكن في غيرها، إلى جانب إخضاعهم لرقابة صارمة(25).
حاول تسورويا نامبوكو 1829-1755، وكاواتاكي موكوامي 1816-1893 تحديث كابوكي في أواخر عهد إيدو وعهد ميجي بجعل الممثلين يرتدون الملابس الغربية (26).وكتب موكوامي ما يربو على ثلاثمائة وستين مسرحية أصيلة، وما زالت مسرحياته تمثل حتى الآن، إلى جانب مراجعته وإكماله لمخطوطات أخرى تركها كتاب سابقون (27). وظهر العديد من الممثلين المشهورين الذين مثلوا في مسرح كابوكي، إلى جانب مؤلفين كتبوا مسرحيات ذات موضوعات جديدة، مما أدى إلى ظهور ما يسمى «كابوكي الجديد». وأفاد كابوكي من عهد ميجي بعد سقوط أسرة توكوكاوا في عام 1868، فحاول الممثلون والقائمون على هذا المسرح الإفادة من انفتاح اليابان على الغرب لتوسيع شهرة هذا المسرح، لاسيما وأنه يذكر بعهد اليابان المرتبط بالطبقات الاجتماعية مثل الساموراي والدايميو، فأخذت الطبقات الأرستقراطية تحضر عروض كابوكي، ومن أشهر هذه العروض: العرض الذي حضره الإمبراطور ميجي في الحادي والعشرين من نيسان عام 1887 (28). 
كان هناك في منتصف القرن التاسع عشر ثلاثة مسارح كابوكي في الشوارع الصاخبة الواقعة خلف معبد سنسو-جي بحي أساكوسا في طوكيو، ومازال الناس يتذكرون تلك الأيام. وهناك الآن شركة مازالت موجودة، وكانت قد تأسست في عام 1872، وبدأت نشاطها بتأجير لوازم المسرح التي يستخدمها فنان كابوكي. ويطلق على هذه اللوازم اسم «كودوجو»، التي تعني اللوازم والأدوات التي يرتديها أو يحملها أو يستخدمها ممثل كابوكي، وتشمل السيوف ودروع القرون الوسطى، والغليون، وعلبة الدخان، والمظلة، والمروحة اليابانية «أوجي» والمحفات «كاجو» وغيرها (29).

كابوكي المعاصر:
بعد مرحلة من التوقف في أوائل القرن العشرين، ولاسيما في السنوات الأولى التي تلت الاحتلال الأمريكي، إذ عانى هذا النمط الدرامي من الإهمال بوصفه «ممثلاً للماضي»، فمنعت سلطات الاحتلال الأمريكي هذا النوع من الفن الياباني الذي يجسد اتجاه اليابان للحرب منذ عام 1931، إلى جانب نفور الشعب الياباني في المرحلة التالية للهزيمة من هذا النوع من الفن، لأنه جسد قيماً أدت إلى اتجاه اليابان نحو الحرب والاستعمار، مما أدى إلى تدمير المجتمع الياباني. إلا أنه سرعان ما عاد للظهور في عام 1947 بعد استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في اليابان (30). فأصبحت مسرحيات كابوكي تمثل في مسارح متعددة أنشئت خصيصاً لهذا النوع من العرض. وكانت المسرحيات طويلة تستغرق أربع إلى خمس ساعات. 
أصبح مسرح كابوكي أحد مقومات الثقافة الشعبية اليابانية، ومعبراً عن حفاظ اليابان على موروثها الثقافي والحضاري. فأصبح مسرح كابوكي مع المكونات الأخرى للثقافة اليابانية جانباً من ثنائية التقليد والحداثة في تجربة اليابان المعاصرة. وتنتشر مسارح كابوكي في الوقت الحاضر إلى جانب الحواضر الكبرى: طوكيو ، كيوتو وأوساكا، في المدن والأرياف الصغيرة لتذكر اليابانيين بموروثاتهم الشعبية.. حماية للأجيال المعاصرة من الإغواء بالتحديث وقيم التغريب. ففي جزيرة شيكوكو هناك مسرح ريفي في مدينة كوتيهارا، ويدعى هذا المسرح كانامارو - زا. لقد تم بناء هذا المسرح لجذب الزوار القادمين لزيارة معبد قريب هو كوتوهيراجو، ويقدم في الوقت الحاضر عروضه خلال أسبوعين في السنة في موسم الربيع. تأسس هذا المسرح في عام 1835، وينكون من طابقين، ويصل ارتفاع المدخل لأكثر قليلاً من متر واحد، ولا يتسع لمرور أكثر من شخص واحد. والجلوس على الأرض بدون مقاعد، لنقل أجواء عصر إيدو، وهناك الممشى «هاناميتشي»، الذي يدخل منه الممثلون ويراهم الجمهور، فيثير فيهم الحماس ومتعة المشاهدة. وتحرك خشبة المسرح يديويا، إذ يقوم عدد من الشباب بأخذ إجازة من عملهم للمشاركة في هذا العمل، وهم يشعرون بالسعادة لمساهمتهم في إمتاع الجمهور. وعندما يبدأ عرض مسرحية كابوكي ينتقل الجمهور إلى عصر إيدو ، فكل شيء قد تم ترتيبه بإتقان من الملابس والأدوات والأضواء وأداء الممثلين (31). 
ولمسرح كابوكي شهرة واسعة في اليابان وخارجها في الوقت الحاضر، إذ يشارك الكثير من نجوم كابوكي في أفلام وأعمال تلفزيزنية متعددة في أعمال بعيدة عن مسرح كابوكي. وهناك أسر معروفة في اليابان توارثت التمثيل والعزف أو التأليف في مسرح كابوكي، مثل أسرة إيتشيكاوا دانجورو 1704-1660، التي استمرت في الحرفة حتى الوقت الحاضر. منجبة حوالى عشرة أجيال من الممثلين، كان آخرهم إيتشيكاوا دانجورو الحادي عشر (1965-1909. إلا أن الانتماء للأسرة لم يكن كافياً بدون التدريب والموهبة (32). وإلى جانب مسارح كابوكي الكبيرة في طوكيو وكيوتو وأوساكا ، هناك مسارح صغيرة أخرى في اوساكا وفي مدن يابانية أخرى. وبدأت بعض الفرق الصغيرة المختصة بمسرح كابوكي تستخدم النساء لتجسيد أدوار النساء «أوناكاتا»، وهناك فرقة إيشيكاوا كابوكي، جميع ممثليها من النساء ،تأسست بعد الحرب العالمية الثانية واستمرت لمدة قصيرة. ومن الجدير بالذكر أن تجسيد الرجال لأدوار النساء ظل مفضلا من قبل الجمهور، إذ فشلت محاولات عديدة لإعادة قيام النساء بتجسيد مثل هذه الأدوار. وفي عام 2003، تم نصب تمثال لأوكوني في مدينة بونتوشو في كيوتو. وانتقل الاهتمام بمسرح كابوكي إلى الغرب والولايات المتحدة، فتأثر العديد من الروائيين والكتاب الغربيين بمسرح كابوكي وجسدوا جوانب منه في أعمالهم. ومن الكتاب اليابانيين، يعد الكاتب الياباني يوكيو ميشيما من أبرز من اهتموا بتجسيد أفكار كابوكي في رواياته وقصصه (33). وقد اهتمت إستراليا بتجسيد مسرحيات كابوكي، وقد تشكلت فرقة خاصة لهذا الغرض تقدم عروضاً سنوية(34). وقد ظهر العديد من الممثلين الذين نالوا شهرة في اليابان وخارجها.
ووفقاً لما تقدم ، يشكل مسرح كابوكي علامة فارقة في تمسك اليابانيين بالمحافظة على تقاليدهم الثقافية الشعبية. فعلى مدىً تجاوز الأربعة قرون، استمر هذا النوع من المسرح الشعبي، وأنماط تقليدية أخرى معبرة عن ثقافة شعبية متأصلة في الذات اليابانية. وقد حاول اليابانيون الإفادة من موجة التحديث التي اجتاحت اليابان منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر لتحديث أدوات هذا المسرح الياباني التقليدي، دون التأثير على موضوعاته التراثية ومكوناته الأساسية، فأصبحت التكنولوجيا في خدمة الموروث الشعبي. وسيبقى كابوكي رمزاً من رموز الثقافة الشعبية اليابانية مهما تقدم الزمن، ومهما حققت اليابان من معجزات في مجال التكنولوجيا والحداثة، فهو تجسيد لروح الأمة اليابانية الحية.


الهوامش:
(1)- ناصر يوسف، دينامية التجربة اليابانية في التنمية المركبة دراسة مقارنة بالجزائر وماليزيا، ط1، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2010، ص229 230- . (2)- للتفاصيل عن عهد إيدو، انظر: طارق جاسم حسين، جذور التحديث في اليابان في أواخر عهد أسرة توكوكاوا (1868-1853)، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب ـ جامعة بغداد ،2009. (3)- محمد اعفيف ،أصول التحديث في اليابان -1568 1868، ط1، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2010، ص 477 -478. (4)- ياناي كنجي، «غموض الكابوكي حوار مع ماتسوي كيساكو»، في نيبونيكا، العدد 1 ، 2010 ، ص 3 -4 . (5)- مسرح نو، أو نواكو، وهما كلمتان يبانيتان مقابلتيلان للمهارة أو الموهبة. ظهر هذا النوع من المسرح في القرن الرابع عشر، وهو شكل من الدراما الموسيقية الكلاسيكية. للتفاصيل انظر: Louis Frederic, Japan Encyclopedia, Trans. by Kathe Roth, Cambridge, Harvard University Press, 2002, P.723-725. (7)- بونراكو، ويسمى أيضا ننجيو جوروري، وهو نمط تقليدي لمسرح الدمى تأسس في أوسكا في عام 1684. وقد أصبح مسرح الدمى نشاطاً توثيقياً للشعب الياباني لمئات من السنين. للتفاصيل أنظر: Louis Frederic, Op.Cit, P.92. (8)- انظر: Ibid; the Kodansha Bilingual Encyclopedia of Japan, Tokyo, Kodansha International Ltd., 1998, P.642. (9)- يوشيدا مامي، «دموع وضحك ومفاجآت الكابوكي ثروة نفيسة من المتع»، في نيبونيكا، العدد 1، 2010، ص 9. (10) انظر: W.G. Beasley, The Japanese Experience A Short History of Japan, California, university of California Press , 2000, PP.166-167. (11)- يوشيدا مامي، المصدر السابق، ص 9. (12)- انظر : The Kodansha Bilingual Encyclopedia of Japan, P.642. (13)- ياناي كنجي، المصدر السابق، ص 4. (14)- محمد اعفيف، المصدر السابق، ص 480. (15)- انظر: Louis Frederic, Op.Cit, PP.441-442. (16)- توكوناجا كيوكو، «الكابوكي يواصل تطوره»، نيبونيكا، العدد 1، 2010، ص 14. (17)- ياناي كنجي، المصدر السابق، ص 4. (18)- المصدر نفسه. (19)- انظر: The Kodansha Bilingual Encyclopedia of Japan, P.640. (20)- كاتب دراما خاصة بكابوكي وبونراكو، ويطلق عليه اسم (شكسبير اليابان). كتبت عنه دائرة المعارف البريطانية بأنه (أعظم كاتب دراما ياباني). كتب قصصاً لمسارح كيوتو وأوساكا. انظر: طارق جاسم حسين، المصدر السابق، ص 58؛ Edwin O. Reischauer, , Japan the Story A Nation, New York, Harvard University,1990, p.86. (21)- انظر: W.G. Beasley, Op.Cit, PP.181-182; Louis Frederic, Op.Cit, PP.441-442. (22)- ياناي كنجي، المصدر السابق، ص 4. (23)- توماس ج. هاربر وآخرون (جمع وتحرير)، دعوة إلى الأدب الياباني، ط1، طوكيو، معهد الثقافة الياباني،1976، ص37. (24)- المصدر نفسه، ص 5 . (25)- المصدر نفسه. (26)- ويعرف أيضاً باسم هاياشي دوشون، وهو أحد فلاسفة الكونفوشيوسية الجديدة ، عمل مستشاراً ومعلماً للشوونات الاربعة الاوائل ولحكومة الباكوفو. ويعد رازان مؤسساً لفرع هاياشي الفلسفي بين المفكرين الكونفوشيوسين. قام باعادة تفسير الشنتوية. للتفاصيل انظر: طارق جاسم حسين، المصدر السابق، ص 50. (27) محمد اعفيف، المصدر السابق، ص ص -479 480. (28)- أنظر: The Kodansha Bilingual Encyclopedia of Japan, P.640. (29)- توماس ج. هاربر وآخرون (جمع وتحرير)، المصدر السابق، ص 37-38. (30)- انظر: Louis Frederic, Op.Cit, PP.441-442. (31)- سانادا كونيكو و سوجاوارا يو، «تركيز الأضواء على الكابوكي»، نيبونيكا، العدد 1 ،2010، ص 18. (32)- انظر: Louis Frederic, Op.Cit, PP.441-442. (33)- يوشيدا مامي، «مسرح قديم ومعبد عتيق»، نيبونيكا، العدد1، 2010، ص ص22 25- . (34)- محمد أعفيف ، المصدر السابق ، ص ص486 -487 . (35)- للتفاصيل عن يوكيو ميشيما وجهوده الأدبية، انظر: محمود عبد الواحد محمود، «يوكيو ميشيما ثنائية التقليد والحداثة في الفكر الياباني المعاصر»، مجلة الرافد، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، العدد 158 - 2010. (36)- انظر: The Kodansha Bilingual Encyclopedia of Japan, P.645-646.

0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption