أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الجمعة، 1 مايو 2015

المسرح الأوروبي الحديث ومسرح بريخت .. إدراك متأخر لفك القيود على الخشبة / عصمان فارس

مجلة الفنون المسرحية الموقع الثاني

يرتبط المثقف والثقافة بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وممكن تحويل الثقافة إلى أداة للتضليل والخداع الإيديولوجي، ولكن الثقافة وظيفتها النشاط وإنتاج الفكر الإنساني وخلق الوعي، ويبقى الفنان والمثقف أفكاره وموقفه غير قابل للبيع والشراء والاستلاب، وأصبح موقف الفنان والمثقف من المجتمع وحركة التأريخ وسلاحه التغيير وعدم الرضوخ لقوى الظلام والجهل والتخلف . عندما يكون الفنان والكاتب في ظل الأنظمة الفاشية والنازية في القائمة السوداء، ومطارد ومكبل، اضافة الى ضياع حريته وحقوقه، وهذا ما حصل مع "برتولد بريشت"، حيث كان احراق كتبه مع مجموعة من الادباء الشرارة الاولى لهروبه خارج ألمانيا.
ان المخرج وفريق العمل في المسرح الأوروبي يعمل بحرية بلا رقيب داخلي أو خارجي، ويفكر بحرية وينطق آراءه الجمالية والمعرفية، ويتناقش ويتحاور مع الآخر بحرية. كما ان العمل لا يبدأ من أشياء مسلمة ومألوفة، انما يبدأ بالاجتهاد والحفر في ذاكرة المجتمع وفي فن الممثل، والحفر في المشاهد، لأن المسرح الغربي ينظر إلي المشاهد كمبدع أساسي للمسرح لأنه هو الذي يتلقى إبداع الممثل أولاً، ومن ورائه الكاتب والمخرج والتقنيات وغيرها من مكونات العرض المسرحي، لا توجد قواعد جامدة ثابتة، وان البحث والاجتهاد والتجريب يقود إلى معطيات جديدة لا يوجد شيء اسمه التابوات أو المحرمات في المسرح السويدي بشكل خاص تُختبر وتقدم على المسرح، ولا تحرّم بشكل مسبق، أي أنك تجرب الشيء وبعدها تفكر إذا كنت تريد إلغاءه أو إزاحته، فتعمل عندئذ على مبدأ التكثيف والارتجال. وللدراماتورج في المسرح الأوروبي دور كبير ومهم في نضوج المسرحية. وهو الناقد والمنظر، وهو الذي ينبه جميع العاملين الى سير العمل والى سير وبناء الفكرة، والى وسائل تجسيد الموضوع، وإذا ما وجد خللاً في الفهم والإدراك يعيد تفكيك النص من جديد. وطريقة فهم وتفسير ومعالجة مسرحيات بريخت استعمال ديكور بسيط يك?ن من الواقع ولا نجعل من المتلقي يغرق في التفاصيل اما التمثيل وهو قد وضحه بريشت في مسرحه الملحمي وفي الاورجانون الصغير وطرق الأداء في المسرح الديالكتيكي على مستوى الكتابة والتكنيك والإخراج والتمثيل وكل مكونات العرض المسرحي.
كان لكتابات ماركس وهيجل التحليلية بالغ الأثر على مسرح بريخت، فحاول خلال مسيرته الفنية مخاطبة أكبر عدد من الجمهور، لإقناعهم بأهمية تحرير أدوات إنتاجهم من سيطرة رأس المال. أولى مسرحياته التي لاقت نجاحاً كبيراً كانت "أوبرا القروش الثلاثة"، وتضمنت المسرحية نقداً لاذعاً لأوضاع النظام البرجوازي أيام جمهورية "فايمر". وكان من الطريف أن تلقى المسرحية هذا النجاح والإعجاب من قِبل من تعمد بريخت انتقادهم.
مسرحية "أوبرا القروش الثلاثة" هي واحدة من أمهات الأعمال في المسرح الحديث، ويندر أن يوجد مسرح في العالم لم يقدم صياغة لها بشكل من الأشكال قيمة وجمال الفكر لدى برتولد بريخت.
المسرح الملحمي وظيفته التوعية والتنوير وعملية المزج ما بين التحريض والتسلية من خلال إدخال الأغنية أو الراوي، وكسر حالة الاندماج لدى الممثل وتحرير المتلقي من حالة التعاطف والاندماج. والممثل له الدور الأساسي في إدارة اللعبة المسرحية وتسييرها لخلق جدلية فضاء ومكونات العرض المسرحي، فالفضاء السينوغرافي عند بريخت فضاء فارغ "يغير شروط ممارسة الرؤية، ويبني عالماً مسرحياً لا يقلد العالم الخارجي ولكنه يستقل عنه".
استعمل المسرح الملحمي تقنيات الخط والفلم والصورة من خلال استعمال اللافتات واستعمال الوثائق المصورة والفوتو مونتاج، وتشكل الاغاني والفرقة الموسيقية واللافتات والسلايدات والافلام دوراً تغريبياً مهماً لا ينفك يذكر المتفرج بوجوده داخل المسرح ويسهل اندماجه مع الاحداث، كل هذه الاقتراحات الجمالية كانت تروم تحقيق هدف أسمى وهو أن يقدم الممثل دوره من دون أن يبرز اندماجه فيه، وأن يكشف عن هويته المسرحية، وأن تكون كل مكونات الخشبة رهن إشارته لأداء هذه المهمة لأنها الشرط الأساسي لتحقيق التغريب. ولكن وللأسف سيفهم البعض من اقتراح بريخت حول الممثل أن يعتمد هذا الأخير على اللعب المسرحي بطريقة باردة من دون حياة تذكر. وقد عبر بريخت نفسه عن تذمره من هذا الفهم القاصر. ذلك أن الاندماج شرط أساسي للممثل المسرحي، ويكون خطوته الأولى لبناء دوره وفهم الشخصية المسرحية، وبعدها تحل مرحلة الانفصال عن الشخصية وأدائها بطريقة بارعة تراوح بين تمكن الممثل من الاندماج فيها، ثم الابتعاد عنها كأنه يحكيها فقط أو يعرضها بأمانة. ربما يختلف النقاد والمخرجون حول طريقة تفسير ومعالجة مسرحيات بريخت وهل مازال منهج بريخت صالحا لكل العصور؟، ربما لان ثيمة العدالة تتحقق في مسرحياته وتجعل المتلقي في موضع المفكر والمتأمل، وان كسر الإيهام ومحاولة إحداث صدمة تلقي بظلالها على الإخراج والتمثيل وكذلك المتلقي وجماليات العرض المسرحي.
شهدت مسارح أوروبا خلال السنين الأخيرة تقديم مسرحيات بريخت بطرق جديدة والحفاظ على تراثه المسرحي والالتزام بمسرحه التعليمي والملحمي وطبيعة التغيير في كل تناقضات المجتمع فمثلا مسرحية اوبرا القروش الثلاثة التي كتبها بريخت سنة 1928 وبعد الحرب العالمية الثانية أضاف إليها الكثير وعدل بناءها المسرحي وعرضت المسرحية بطريقة التجريب حسب طبيعة المجتمعات المختلفة والظروف السياسية بعمق وثراء، فبريخت شاعر وكاتب ومخرج مسرحي وله نشاطات عديدة في القصة والشعر والنقد والسينما وصاحب مدرسة ونظرية المسرح الملحمي، وجسد فلسفته في الاورجانون الصغير وهو يغاير ويرد على المدرسة الارسطية وأوجد مفهوما مختلفا للدراما عن الدراما الارسطية، وفكر بريشت يستند على اهمية المسرح ودوره في التحولات الاجتماعية ومساهمة المسرح في تحرير الوعي من الأفكار المحافظة وعملية الوعي التي تساهم في تغيير الواقع الاجتماعي، وقدم مسرحيات جسدت أفكاره في الاورجانون الصغير وتطبيقا لوجهة نظره دخل في نقاش وسجال في نشر فكره الجمالي واختلف مع علماء الجمال مثل جورج لوكاتش وفند أهمية ودور الفن المسرحي ودوره في تحريك وتغيير الواقع الاجتماعي، من خلال التأكيد على النظرية السياسية وكل المساهمات الأدبية والعلاقة الجدلية مابين الاثنين ودور الفنان وعلاقته بالواقع السياسي والاجتماعي،يتجلي ذلك من خلال وعي الفنان ونتاجه الفني. ويعتبر بريخت المسرح الملحمي بديلا مهما عن المسرح الدرامي، فبريخت لا يجسد في مسرحه الحالة النفسية والذاتية لكنه جسد حالة العالم لذلك كانت أهمية بريخت محليا وعالميا كفكر ونظرية حديثة في المسرح الملحمي، برغم الطابع السياسي لأعمال بريخت نجت هذه الأعمال من الفجاجة والمباشرة التي تعيب عادةً المسرحيات السياسية. حتى بريخت نفسه كان ينحى بنفسه جانبا عن الأيديولوجيات في أعم?له الأدبية ولم يعرف عنه القيام بتعليقات مباشرة صادمة، فقد كان يفضل تجنب المواجهات الانتحارية مع الأنظمة التي كان يعيش في كنفها، كما يلمح المرء عنده محاولة مستمرة لمراجعة وتنقيح أفكاره وعدم الارتكان على فكرة واحدة منتهية.
مسرحياته الملحمية تسعى إلى تحفيز الجمهور على إمعان التفكير حتى يُكوّن وعياً خاصاً به اتجاه ما يراه، وذلك على العكس من المسرح الدرامي أو الأرسطي حيث يكتفي الجمهور بدور المتابع السلبي. كما تمتد أفكار المسرح الملحمي إلى دور الممثل على خشبة المسرح، محاولة تغيير طابع وظيفة الممثل من مؤدٍ إلى عنصر إيجابي في المسرحية، حيث كان بريخت يدعو ممثليه إلى جعل قدر من المسافة بينهم وبين النصوص واتخاذ مواقف نقدية منها أثناء أدائها وليس فقط تكرارها بشكل ميكانيكي عكست مسيرة الكاتب والشاعر الألماني بيرتولت بريخت الفكرية والأحداث المتلاطمة التي شهدها النصف الأول من القرن العشرين في أوروبا. ففي ظل الفساد السياسي وغياب الوعي الشعبي في ألمانيا أيام الحكم النازي بلور بريخت فكرته عن المسرح الملحمي كمقابل للمسرح الدرامي المعتاد. وسعى من خلال هذا اللون المسرحي أن يخلق جمهوراً يستطيع التفاعل مع الأحداث ليتحرر من دوره كمشاهد سلبي.
هل ما زال من الممكن الحديث عن مسرح سياسي أو ذي تأثير سياسي بشكل يتطابق مع مفهوم بريخت؟ المسرح يرتبط في الواقع بموقف سياسي ويمثل آراء سياسية. ومن الطبيعي ان تكون هناك صعوبة في معرفة أن كان المسرح مرآة تعكس الواقع - وهذا ينطبق أيضا على مسرح بريخت- الذي يتمتع بقدرة على تغيير المجتمع بشكل مباشر، ولكن ما قيمة العالم بدون مسرح؟، لا يمكنني ان أتصور عالماً بدون مسرح.
ان بريخت هو مسرحي كبير من وزن شيلر وليسنغ في هذا التقليد. فقد طمح دائماً إلى انشاء مسرح تنويري، كما أراد ان يفضح الأقوياء ويسقط أقنعتهم. لقد كان في داخله حب كبير للعدالة، كما انه شعر بنفسه مسؤولا دوماً عن مصلحة المظلومين. وأعتقد ان هذا الموقف مازال حتى اليوم في صميم توجهات العديد من كتاب ومخرجي وممثلي المسرح المعاصر.
ان الشخصيات الرائعة التي أوجدها بريخت، وبشكل خاص بالنساء العظيمات: كغروشه في مسرحية "دائرة الطباشير القوقازية" وكذلك الأم شجاعة والقديسة يوهانا "أو جان دارك" في قديسة المسالخ. إنهن النساء اللواتي يتمتعن بالفتنة الروحية التي يحلم كل كاتب ومخرج ان تكون من صميم أفكاره وكل ممثلة تحلم في تقليد هيلينا فايجل.
اعتقد ان بريخت قد خلق أجمل الأدوار النسائية في تاريخ المسرح الألماني. فمسرح بريخت الملحمي يتخذ أبعاده الكاملة اذا امتزج نقد الفرد بنقد البنية البرجوازية. فالنقد الاجتماعي يتطلّب نقداً للفرد وهذا ينقلب بدوره الى نقد للمجتمع بحيث لا يمكن الفصل بين الاثنين ضمن العملية الجدلية، والتي كانت الأساس والمنهج المتكامل لمسرح بريخت في قمة مسرحه المسرح الجدلي لذا كان المسرح التعليمي ذا أهمية في تطور أعمال بريخت وكما يقول رولان بارت عن خطاب تلك المرحلة انه يأخذ طابعا إحيائيا، يبني نقداً يهدف إلى الحد من حركة حتمية الاستلاب الاجتماعي أو إبطال الإيمان بهذه الحتمية فالأمور الباطلة في هذا العالم كالحرب والاستغلال، يمكن علاجها وزمن الشفاء يمكن إدراكه.

عصمان فارس
 ناقد مسرحي عراقي مقيم في السويد

0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption