عتمة الموت.. مرايا الخيانة.."حصان الدم".. احتراف الرؤيا بـ"فطنة السينوغرافيا"
مجلة الفنون المسرحية
يرتمي المخرج والسينوغرافي جبار جودي العبودي-طوعاً- في أحضان أبهة الجمال الشكسبيري وفق منطلقات توليديّة لروح نص كبير ومُتحدّ مع بهاء تلك الروح التائقة إلى نبذ صدأ السلطة ولا جدوى اللهاث في نزق الحفاظ على كراسي اللعنة،وعدم الكف عن ترديد صلف عبارة؛(على العُلا حتى ... ولو على الخازوق) والزهو بها،حتى وأن كان خاتمة النهاية قبولاً جائراً بالموت تلّذذاً وتشفيّاً أحمق من حيث تقابلات الحياة في مرآيا الوجود،إذا ما قبلنا بمبدأ(غوته) كما في مسرحيّة(فاوست)من أن؛(الفعل هو بدايةً الوجود) بمعزل عن سطوة النفي لمفاهيم (ديكارت) السابقة حيال تقديم الفكر على مآثر الفعل.
بهذا الإنزياح الفعلي يقيم جبار جودي معاملات إرتباطه العملي في مسرحية(حصان الدم)والتي شاء عرضها ليومين-فقط- في بغداد (9 و10 شباط الماضي) على خشبة المسرح الوطني،تمهيداً وثناءً لعرضها في العاصمة تونس ضمن مهرجان(علي بن عيّاد) المسرحي بمناسبة مرور(400) عام على وفاة(وليم شكسبير)للفترة من 12-19 شباط/2016،حين فوضّ مهام ذلك الإنزياح إلى جماليات تعبيرٍ بارعٍ عبر(السينوغرافيا)وحريّة تعميد الصورة المشهديّة للفعل التجسيدي والبلاغي بينابيع معرفة خصبة،ومراسِ تراكمٍ بث شفراتٍ وتورٍيد علامات مُقترحة كبدائل تحديثية-معاصرة لذات الموضوعة التأريخية التي قام ب(فلترتها) النابغة شكسبير
في رائعته(ماكبث)،مستخلصاً إعادة دورة أثر مفعول مسحوق وأكسير التعّطش لدس الخيانة وشرائر القتل والتسبيح بالموت سبيلاً للفوز والطمع والشراهة المُدعمة بالمكر والتخابث،فليس أبلغ من عبارة؛(ليس العبرة في أن تكون ملكاً ... بل العبرةُ أن تكون آمناً) في تثوير لغة الإختصار المُستل- ثقةً ومسعى-من بلاغة المتن الشكسبيري البالغ الكثافة،الوافر المعنى والفائق التأثير،لصالح تطويع جملةً من أفكارٍ وتراكمات تحذيريّة،تتيح إستخدام المُمكن والمحكوم كمداخل وتذكيرات لأصل النص كاملاً في ثنايا الذائقة الجمعيّة والدراسة التبصيريّة لذلك العمل التأريخي المُذهل،وزهو تقابل الرؤية الإحترافية لدى معدُ ومخرج وواضع سينوغرافيا(حصان الدم)،ورهان بلّورة رؤاه و وتحريك جمالياته مع تماثلات مهارة إختيارٍ دقيقٍ وحاذق لمجسدي عرضه التحدثي جملةً وتفصيلاً(أياد الطائي)و(آلأء نجم) إلى جانب تجاذب براعة وحنكة حضور وتنامي ضيوف الشرف(رياض شهيد)و(حيدر منعثر)و(زياد الهلالي)،ومعاضدة عمل الدراما-تورج (د.يوسف رشيد)،بما زاد من متانة العزف على إيقاع الفعل وحفول الحركة بليونة الإنضباط وإتزان الخبرة ونصوع تفهماتهم لجوهر المغامرة التي أقدم عليها جودي في تقليب جمرات وعيه في مواقد الفهم الأمثل للبحث والحفر والإمتثال لمعنى قيمة التجديد والتصدي الخاص لخوالص نصوص عالميّة،كانت قد تعرّضت لعشرات،بل،لمئات المناورات التجريبيّة،فضلاً عن كونها أضحت مثابات ومفتتحات تنظيريّة ومديات فكريّة وملاحم تأريخيّة في عُتق ونشوة التفكير الحيّ والحيوي في حياة المسرح،وفي عموم بلدان العالم.لعل هذا هو ما يشدّ ويثني على مهارة وجودة المغامرة،التي خاض غمارها(جبار جودي)-منذ عدة سنوات-وعاد اليوم ليعيد تشكيل منظومة توليديّة أخرى من رحم ما أستقى منها -من قبل- بغية تجديد ما أستنفد،وما لم يُكتشف بعد،وفق تطلعات ما أستجد من متغيّرات،على ضوء ما يريد ويسعى-الآن- بغية بلوغ أقصى غاياته الفكريّة والعمليّة من حيث إتمام لغة التبصير الجَمالي والنفسي من مسارب الضوء وتناوبات العتمة،ودوران الأرض تحت أقدام الأحداث،وتصدير لغة الدم ممهوراً برائحة وجدارة مساكب تلك الكُتل الضوئية فوق محارب كل هذه الصراعات الدائرة على خشبة العرض المرهون بجلال وجمال تلك الحوارات المُختزلة والدالة لقصديّة تحديث الرؤية وتعميق الدلالة من خلال إفصاحات أبجديات(سينوغرافية)يبرع ويقترحها ويتماوج بها بحثاً ووصولاً في الحصول على تأثيرات بلاغيّة تعاضد جوهر الحدث وتعليلاته التنويريّة في ختام محاولات تمجيد (أناقة الموت)-أن صح الإشتقاق- في نهاية النفق الذي قدّر(جودي)لنفسه وفنه السير في سحر متاهاته،ولذة إغراءاته الجماليّة والبحثيّة،فليس ثمة أدنى تنازل أو تغافل لديه فيما يتعلق بأهمية تقديم الشكل،كنتاج تحديثي مرئي ومسموع من حيث تآزرات الصوت ومؤثراته،والصورة وتجلًياتها،كما لو إنه يتلبس مقولة ذلك الحكيم الصينيّ القديم الذي أفاد بالقول؛من أن المبدع الحقيقي بإمكانه أن يآسر السماء والأرض في قفص الشكل.
------------------------------------
المصدر : حسن عبدالحميد - ىجريدة المدى
0 التعليقات:
إرسال تعليق