المسرحي اللبناني وجدي معوض ينبش في باريس جرح اليونان
مجلة الفنون المسرحية
ثلاثية المسرحي اللبناني تستحضر المأساة الإغريقية بوصفها صناعة ترفيه بالرغم من الموت الذي تحويه، ليتلمس العرض أنساق العنصرية والتمييز والمعاناة والموت والعبودية.
يشهد مسرح الشايوت الوطني حالياً في باريس ثلاثية الكاتب والمخرج اللبناني-الفرنسي وجدي معوض بعنوان “اليوم الأخير في حياته”، الثلاثية التي ألّفها واخرجها معوض تتضمن ثلاثة عروض هي “كاباريه أجاكس” و”التهاب الفعل أحيا” و”دموع أوديب”، والعروض الثلاثة تشهد إقبالا جماهيريا كبيرا، العرب اللندنيّة غطت التجربة الحيوية التي يقدمها معوض أحد أشهر مخرجي المسرح في فرنسا حالياً.
كابارية أجاكس
لا يحضر في هذا العرض اسم معوض كمؤلف ومخرج فقط، إذ يحمل العرض شذرات من حياته وذاكرته التي يفككها “الآن” وفي الماضي داخل العرض، دامجاً تجربته الذاتية مع المأساة الإغريقية، فالعرض يبدأ بصوت معوض وهو يحكي قصة تحرّش جنسي في الطفولة، بالإضافة إلى تسجيلات فيدوية له كأجاكس ممسوساً، ينبح ككلب، ويركض على شاطئ ما، بالإضافة إلى مقاطع مسجلة له في مكتبه وهو يعمل على نصوص سوفوكليس التي تستمد منها الثلاثية حكاياتها، كما تحضر مشاهد من مجزرة صبرا وشاتيلا في لبنان، ليتقاطع التاريخ الشخصي لمعوض مع الحكاية الإغريقيّة ومع “الآن وهنا”، لتظهر موضوعة المجزرة في مقارنة لما حدث في طروادة من موت وما شهدته لبنان أثناء الحرب الأهليّة.
فضاء العرض يحوي شاشة كبيرة للإسقاط، عبرها نرى الفيديوهات المختلفة، الشاشة ذاتها تعبرها الشخصيات، كذلك يتحرك أجاكس خلالها، أما حكاية البطل الإغريقي فيضبطها مدير للخشبة، إلى جانب شخصيات أخرى تسرد لنا الأحداث وتعلّق على ما يمر به أجاكس بصورة ساخرة، لكن هذه الشخصيات ليست أفرادا، بل هي وسائل إعلام واتصال كل منها يحكي مأساة وانتحار أجاكس وكأنها حدث للترفيه أو وسيلة لجذب الجمهور، إذ نرى مذياعاً وتلفازاً وهاتفاً ذكياً وحاسوباً محمولاً إلى جانب راديو ترانزستور، كل منها يحكي من هو أجاكس، بصورة تشبه برامج المنوعات، ولكل منها لهجته، الفرنسية الكنديّة، والفرنسية اللبنانية، والفرنسية الفرنسية، والفرنسية الجزائرية، كل هذه اللهجات تختزن موقفاً من المأساة ومن الوسائل/اللهجات الأخرى، كي لا ننسى أننا أمام صراع حكايات مؤسسات، أمام تقنيات عصريّة تحوّل الموت إلى سلعة من أجل معدلات المشاهدة.
إلى جانب حضور أجاكس على الخشبة نرى رواة آخرين يؤدوّن الحكاية، تاريخهم الشخصي يحضر بوصفه أيضاً تقاطعاً مع مأساة أجاكس وتاريخ معوض نفسه، فالجزائري مثلاً يعود لقريته ليرى ما تبقى منها بعد الاستقلال عن فرنسا وانتشار التشدد الإسلامي.
العرض يستحضر المأساة الإغريقية ومآسي الآن، بوصفها صناعة ترفيه بالرغم من الموت الذي تحويه، ليتلمس العرض أنساق العنصرية والتمييز والمعاناة والموت والعبودية، فأجاكس هو البطل الذي حاول الانتحار، هو الذي خسر درع أخيل، ثم فقد عقله، وما نراه على الخشبة هو هذه الحكاية “الآن” في ظل مجتمع معولم يَسخر من الإنسان وتجربته الفرديّة.
الثلاثية التي ألفها وأخرجها معوض تتضمن ثلاثة عروض هي (كاباريه أجاكس) و(التهاب الفعل أحيا) و(دموع أوديب)، والعروض الثلاثة تشهد إقبالا جماهيريا كبيرا، ويعتبر معوض أحد أشهر مخرجي المسرح في فرنسا حالياً
المسرح في هذا العرض تحول إلى وسيط يجمع أشكال التواصل، فالصيغة الساتيرية التي يتم التعامل فيها مع المأساة تعكس سياسات انتهاك الجسد واستغلال خسارات الأفراد والشعوب، وهذا ما ينعكس في فضاء الكابارية، تسلية وموسيقى صاخبة، لا وقت كي نحزن، لنفرح لأننا نجونا، وليترك الخاسرون لصراخهم كما حصل مع زوجة أجاكس.
العرض يحوي خصائص ما بعد حداثية، تداخل الأساليب الفنية وأصوات السرد كلها تشكل توليفة تنتمي لعالم الآن، لعالم اللاتعيين، “حيث كل شيء مادي فكل شيء مباح”، فالجسد نفسه يخضع للغسيل والتلوين أمامنا كما حدث مع أجاكس أمامنا، مآسينا الصغيرة التي تمر يومياً لا تُهم، لا تحضر في هذه الوسائل، بل نرويها ونحكيها نحن الذين عايشناها لتدخل بعدها في النسيان، أما “سقوط بطل” فهذه مادة دسمة، تتداخل فيها كل التقنيات لخلق جرعة مركزّة من الإثارة لجذب الجمهور، الأمر أشبه بالمطبعة التي نراها نهاية على الشاشة، حميميّة ما خسرناه لم تعد ملكاً لنا، بل هي ملك لجمهور واسع، ملك لمن يبحث عمّا يشاهده ليخفي عاره بالشفقة على خسارة الآخرين وما يتعرضون له من إذلال.
التهاب الفعل أحيا
في العرض الثاني من السلسلة بعنوان “التهاب الفعل أحيا”، يعتمد معوض في اشتغاله على نص مسرحية سوفوكل “فيلوكتيت”، حيث تتضح أكثر معالجة معوض للمأساة الإغريقيّة، وموقفه من لحظات ما قبل انهيار البطل ولحظات اللاحسم، حيث يخوض رحلة البحث عن فيلوكتيت الجريح، باحثاً عن مبررات انتظاره وصموده لعشر سنوات نازفاً دون أن يستسلم.
يبدأ العرض بمعوض نفسه متحدثاً عن الحياة وجدواها، ثم يسأل الجمهور إن كان من بينهم من لم يدخل مسرحاً من قبل، مستعرضاً نشأة المسرح وظروفه السياسة بل وتعريفاته المدرسية وارتباطه باليونان، كأنه يحيل إلى سؤال عن المأساة، هل هناك من ولد قبل ما يحصل الآن؟ ساخراً بسؤال آخر، هل هناك من لا يعرف اليونان ولا يعرف منشأ المسرح والديمقراطيّة؟ لتتحول بعدها الخشبة عبر خدعة بصرية إلى فضاء تتداخل فيه شاشة العرض مع الخشبة ينتقل معوض بينهما، بوصفه المؤدي الوحيد للعرض الذي نراه على الخشبة، في حين أن باقي الممثلين نراهم على الشاشة فقط.
يحضر معوض بعدها مع فريق العمل، غاضباً، يريد إلغاء العروض الباقية بسبب المشكلات التي يواجهها مع النص، الترجمة التي طلبها لم تكتمل لموت صديقه الشاعر والكاتب روبيرت دافرو عام 2013، ما تركه بدون نص وبدون حكاية يبني عليها، وخصوصاً أن السؤال الذي يحيّره مازال بلا إجابة، لماذا بقي فيلوكتيت صامداً لعشر سنوات في اليونان، ينزف كل يوم في سبيل حياته التي لم تعد ذات جدوى، هذا الغموض جعل معوض عاجزاً عن الكتابة ومتابعة العمل.
يقرر معوض أن يرحل لليونان ليجد الإجابة، هناك يريد أن يزور أرض فيلوكتيت، حين يصل للفندق، يكتب رسالة لأطفاله، ثم يقترب من البحر ويلقي بنفسه، ما يريده هو زيارة العالم السفلي، مملكة هاديس حيث ينتظر العابرون في مكان “لا في الأعلى ولا في الأسفل”، فهو سيقوم برحلة أوديس للوصول إلى أجوبة لسؤاله.
حين وصوله لممكلة هاديس، يجد نفسه في مطار فارغ مليء بسجلات مبعثرة للعابرين، يغادر بعدها المطار برفقة سائق أجرة يوناني سيوصله للعالم السفلي، الذي يتفاجأ بأنه اليونان، بلاد على حافة الانهيار، تضاريس موحشة ومضطربة، يأخذه السائق بعدها نحو مكب كبير للقمامة تحلّق فيه مئات النوارس، التي تصف نفسها بأنها جراح لم تندمل بعد. لاحقاً، يكتشف معوض جروحه الشخصية، والخطايا التي تضيع لأجلها الحياة وينزف الضمير لها، الجوع للجنس، للمال، للشهرة، للسلطة، الحياة تفقد جدواها، بالرغم من ذلك يظل سؤال فيلوكتيت معلقاً، كيف انتظر لعشر سنوات دون أن يستسلم؟
يقابل بعدها معوض ضميره وضمائر الآخرين الضائعة، بوصـفها كلاباً شريدة، بعضها حزين وبعضها غاضب، هي دون أيّ صاحب تهيم وحيدة في العـالم السـفلي.
انتحار أجاكس يتحول إلى حدث ترفيهي
في تصورات معوض عن العالم السفلي في اليونان، يتداخل الحلم مع الواقع السياسي، لاكتشاف المأساة التي تعيشها البلاد، الشبان المنتحرون هم الأرواح العالقة، يذهب معوض ليزور العرافة في معبد دلف بحثاً عن تفسير، فتخذله، أبولون وأثينا اعتزلوا وظائفهم أيضاً، يذهب لزيارة صديقه دافرو علّه يساعده كي يجد الجواب لكن بلا جدوى، معوض يغوص أكثر في عوالم الليل في اليونان، ليتلمس حياة الشبان، الجنس والكحول وانهيار الأحلام، كيف اختفى الدافع للحياة، الدافع للحلم، اليونان الآن هي فيلوكتيت الذي يـنزف جرح قَدمه، ما جدوى حياته؟ لمَ صمد عشر سنوات؟ كيف تحولت اليونان إلى مجرد بلاد على حافة الانهيار؟ هل ستبقى وصمة عار في ضمير أوروبا؟
العرض مهدى إلى شعب اليونان، هو محاولة للوقوف Fإلى جانب البلاد التي ظهرت منها الديمقراطية والمسرح، ومعوض يحوّل رحلته للبحث عن فيلوكتيت إلى رحلة شخصية-فنيّة، اكتشافات وتأملات في مفاهيم الموت والحياة والفقدان، الاختبارات الجسدية التي يمر بها أمامنا، تتركه أيضاً كمسرحيّ معلقاً على حافة الحياة، بعد إنقاذه من الغرق، هل سيستمر العرض، هل اقتنع بالجواب وهو في سيارة الإسعاف، هل سينجو كفيلوكتيت ويكمل الثلاثيّة؟ الجواب وكما ردده، هو الشعر، هو الطريق الوحيد، نحن كفيلوكتيت لم نخسر كل شيء بعد، ما زال لدينا الشعر.
دموع أوديب
في العرض الأخير من الثلاثية يشتغل معوض على الحكاية فقط معتمدا على نص سوفوكل “أوديب في كولون”، متحسساً اللحظات الأخيرة من حياة أوديب، حيث نرى الأخير مع أنتيغون “منفيان يبحثان عن ملجأ”، لينتهي بهما الأمر في مسرح قديم، هناك يستلقي أوديب ينتظر أن يصل ويلمس الطفل الصغير خارجاً الذي يمثل الموت، ليدخل عليهما بعدها شاب مغنٍ، يسأل عن هويتهما ليتفاجأ بعدها حين يعلم أنه أمام أوديب قاتل أبيه وزوج أمه، ليقوم حينها بسرد قصته التي تتخللها أناشيد بصوته تمهد لرحيل أوديب.
ما يحصل أن المغني يقول لأوديب إن مأساته تتكرر كل يوم، وهي ليست حكراً على زمنه الغابر، كل يوم هناك من يفقأ عينيه بعد فوات الأوان، هناك دوماً شاب يفقد مستقبله لغفلة عما يحصل معه، فأوديب حين كان في الخامسة عشرة قتل أباه، وفي اليونان أيضاً الشباب يخسر مستقبله، ما يحصل أن أنتيغون تغضب، تريد تذكير الشاب بأن قصة أبيها لا يوجد لها مثيل، تقف عند رأس أوديب وتعيد ترتيل الحكاية، تحكي المأساة مرة أحرى، أما المغني فيحكي قصة مشابهة، لشاب تعرض لإطلاق الرصاص، وكأننا أمام حكايتين تتداخلان، أمام مأساتين وخسارتين متشابهتين، وفي كل حكاية لن يصلّح العطب الذي حدث، إذ يبلغ أوج الحكاية عند لقاء أوديب بالسفينكس، حين يجد حلّ الأحجية، الجواب وقتها كان الإنسان، والآن وأمام، كل أحجية تبشر بالمأساة الجواب هو الإنسان، الأصل الذي يجب أن يبقى ثابتا، لا بد له أن ينتصر وإن كان في ذلك رحيله.
العرض الأخير من الثلاثيّة مختلف عن العروض الأخرى، فهو لا يحوي أيّ مشهديّة، بل نراه فقيراً للأقصى، فنحن نشاهد ظلال الممثلين فقط إلى جانب أصواتهم، هوياتهم غير واضحة وكأنهم يشبهون الجميع، إلى أن تحين آخر لحظة، حين يموت أوديب، لنراه يتحول من ظل إلى جسد حيّ أمامنا على الخشبة، كأن موته هناك في الظل منفياً، هو حياة له هنا، فالمأساة ستتكرر مرة أخرى، معضلات اللجوء والهرب والموت التي مرّ بها تعاد الآن في اليونان، أوديب ومأساته، كالسفينكس، كلما مات/احترق، بُعث من جديد.
نرى في العروض الثلاثة معوض وهو يتلمس البطل التراجيدي في لحظات انهياره، وفي كل مرة نرى بصيصاً من الأمل، بالرغم من أن المأساة لا يمكن تفاديها أحياناً لكن لا بد من حياة بعدها، لا بد من أن يعود الكون لنظامه ومقوماته، وكأن المأساة خطأ دوري في معادلة رياضية، فالعروض الثلاثة تنتقل عبر ثلاث صيغ من الصيغة العمومية الجماهيرية إلى الصيغة الفردية في علاقتها مع المأساة، إلى الصيغة الخصوصية التامة المرتبطة بأوديب نفسه وخسارته، وكأننا أمام بحث أنثروبولوجي في مفهوم المأساة.
------------------------------------
المصدر : العرب - عمار المأمون
0 التعليقات:
إرسال تعليق