الإثراء الدلالي في الخطاب المسرحي بين مدونة المكتوب و فضـاء العرض
مجلة الفنون المسرحية
2ـ محمد الغذامي ، الخطيئة والتكفير ، النادي الادبي الثقافي ، جدة ، 1985
3 ـ كير ايلام ، سيمياء المسرح والدراما ، ترجمة رئيف كرم ، المركز الثقافي العربي ، بيروت 1992، ص 244
Katle, walo, Ibid., p.461 - 4
5ـ باتريس بافيس ، قاموس المسرح ، باريس
6 ـ كير ايلام ، سيمياء المسرح والدراما ، ترجمة رئيف كرم ، المركز الثقافي العربي ، بيروت 1992
7 ـ جوزيت فيرال ، المسرحانية وخصوصية اللغة المسرحية ، ترجمة صالح راشد مصر ، القاهرة ، مجلة فصول ، المجلد 14 ، العدد الاول ،ربيع 1995
8 ـ مايكل فاندين هونيل ، المسرح التجريبي ومفهوم اللاتحدد ، ترجمة سامح فكري مجلة فصول ،عدد 4 سنة 1995
9 ـ xxx ، من قاموس المسرح ، مجلة المسرح، القاهرة ، عدد 57 سنة 1993 ، ص 32
10 ـ جوزيت فيرال ، مصدر سابق ص 68
11- عواد علي ، تعدد الاصواتفي الخطاب المسرحي ، مجلة الدراما ، عمان ، العدد 1 ، 1996 ، ص35
12 ـ كير ايلام ، انظمة العلامات في المسرح ، ترجمة سيزا قاسم ، الدارالبيضاء ، دار توبقال 1987
13- xxx , من قاموس المسرح , مصدر سابق
------------------------------------------------------------------------------------
المصدر : د. حسين الانصاري - قسم الفنون والدراسات النقدية - الاكاديمية العربيةالمفتوحة
خلاصة :-
تعتبر الرسالة الحقيقية للمسرح هي تلك التي تتكون في فضاء المسرح حيث ان الخطاب المسرحي يتجسد من خلال عملية المسرحة للنصوص المتعددة التي يحتويها هذا الفن وليس النص المكتوب فقط الذي غالبا مايعتمد الصيغة اللغوية في التعبير كونه يتضمن الاجزاء الصوتية والاسلوبية التي تعمل في سياق البنية السردية، بل انه هنا يتحول الى جزء من البنية التكوينية للفضاء الدرامي ، بأعتبار ان المكتوب هو رموزا بصرية تظل بحاجة الى تجسيد صوتي او حركي عبر تفعيل العلامات المختزنة بداخلها ، وتتميز العلامات المسرحية بقدراتها للتحول والانتقال من مظهر لاخر ومن حالة لاخرى بل هي تستطيع ان تبعث الحياة في اتون تلك الاجزاء الجامدة والمتواجدة في فضاء العرض كما لها قدرة التوالد والانشطار الدلالي وهو ما اطلقنا عليه في دراستنا هذه الاثراء الدلالي للخطاب المسرحي ، فالعبارات والكلمات والحروف المدونة تأخذ معاني مختلفة حين توضع في معالجات اخراجية متنوعة ، الامر الذي من شأنه ان يغير من وظيفتها بل يعدل او يبدل من دلالتها الاولى نتيجة التغير الذي يطرأ في كيفية استخدامها لفظا وحركة وعلاقات بما ينسجم مع فلسفة واسلوبية الخطاب الجديد ..
ان مايميز العرض المسرحي هو طبيعته التركيبية والتحويلية والتزامنية للنصوص الفاعلة فيه تلك التي تتبلور في هيئات سمعبصرية وحركية ضمن انساق هارمونية داخل بنيةالعرض التي تكون بالتالي الخطاب المسرحي الذي يتكامل وجوده بتألف دور المتلقي الذي سيقوم بدوره في المشاركة الفاعلة تبعا لكفأءته في التلقي ليقوم بتفكيك الشفرات المثوثة واعادة تركيبها منتجا قراءته الخاصة وتأويله الجديد وبذلك تكتسب العلامات المسرحية دلالات ومعاني جديدة تزيد من ثرائها في بنية الخطاب المسرحي.
استهلال
لقد اهتمت الدراسات الادبية الحديثة بموضوع الخطاب المسرحي وكيفية تحققه واساليب تحوله من النص المكتوب الى التركيب السمعبصري على الخشبة كعرض يكتمل من خلال علاقته بالمتلقي وفقا للمتغيرات المستمرة في الوضع المعرفي الذي ينعكس على طبيعة المجتمعات واهتماماتها بشكل عام . فقد قطعت المعرفة البشرية عبر تطورها مراحل عديدة وصولا الى عصر الحداثة الذي بدأ متزامنا مع المرحلةالتنويرية في القرن الثامن عشر تلك التي انطلقت من اوربا على اثر النقلة الصناعية الكبرى ، ثم حدث تحول جديد على اثر الحربيين العالميتين وما نتج عنها من تأثيرات و تنافس تقني هائل نقل العالم الى مايسمى بمرحلة مابعد الحداثة او ما بعد الصناعي والتي تتحدد منذ فترة خمسينيات القرن العشرين وتواصلا مع مستجدات الالفية الثالثة وما جاءت به من معطيات عصر المعلوماتية والمعرفة حيث الاستخدام الاوسع لانظمة الحاسوب وبنوك المعلومات والقدرات التخزينية والاقراص المدمجة والاتصال عن بعد عبر الاقمار الفضائية ، كل هذه التحولات كان لها الاثر الكبير والمباشر على اشكال الوعي والمعرفة ووسائطها وطرق استخدامها وتداولها والتكيف مع تغير انظمتها وقيمها . ومثلما شهدت الوسائل الاتصالية اختلافا وتطورا كان نصيب المسرح ايضا فقد تأثر خطابه شكلا ومضمونا نتيجة التنافس القائم بين النظريات والمذاهب والتيارات ، اي بين القديم والجديد وهو امر بديهي للبحث عن طرق تعبير جديدة تنسجم مع القفزة التقنية ووسائلها المتاحة لتقديم رؤية متجددة للواقع .
لقد ظهرت عديد التجارب الحديثة في المسرح والتي اندرجت تحت تسمية المسرح التجريبي او الطليعي او البديل وغيرها من المسميات التي تتفق مع سمات وتوجهات تيار مابعد الحداثة الذي اتسم بتغيرات في القواعد الفنية الاساسية التي تم تقنينها في نظريات المسرح السابقة كما هي عند كتاب المسرح الكلاسيكي القديم والكلاسيكية الجديدة ايضا امثال راسين وكورنيه وبومارشيه وكذلك ما طبقه بعض المخرجين المعروفين في مقدمتهم الروسي الشهير ستانسلافسكي اوالمخرج والمنظر الالماني برتولد برخت وغيرهما والتي كانت تقوم على مبدأ الانسجام والتكامل والتوازن بين عناصر العرض المسرحي المتمثلة بالنص الادبي والرؤية الاخراجية وطريقة الاداء والعلاقة مع الجمهور . لكن تجارب المسرح الحديث غيرت اسس العلاقة بين اطراف الانتاج المسرحي وقلبت المعادلة رأسا على عقب ، حيث انهم قللوا من شأن النص المكتوب ولم يمنحوه ذلك القدر من الاهتمام كما كان سائدا من قبل بوصفه مادة العرض الاساسية والقاعدة التي يبنى عليها هيكل العرض ، وانحرفت توجهات المخرجين المحدثين الى هيمنة الجانب البصري ومغادرة الجانب لادبي وهناك اسماء بارزة قادت هذا التوجه في المسرح العالمي امثال المخرج انتونين ارتو الذي حاول عبر تجاربه في مسرح القسوة ان يجعل فن التمثيل في اولويات العرض على حساب النص الادبي وتجاوز التحليلات النفسيةالداخلية ، كما انه ينظر الى الاشياء المادية او الجماعات التي تقوم بدور رئيسي في هذا المجال ، وان يسهم المشاهدون في صياغة العرض المسرحي كما كان ذلك سائدا لدى الشعوب البدائية في الطقوس والشعائر الدينية ، وان مفهوم اللغة في العرض المسرحي لايقتصر على مفردات النص المكتوب بل تتجاوزه الى الصراخ ، الايماءة ، الحركة ، الضوضاء ، الاصوات البشرية وما الى ذلك . ان ارتوقلص دور النص الادبي المكتوب واصر على انه مضاد لعمل المسرح الثقافي والحقيقي وساير هذا التوجه ايضا من قبله اندريه انطوان وصولا الى غروتوفسكي الذي دعا الى الغاء مكملات العرض وركز جل اهتمامه على تفجير قدرات الممثل عبر مختبره الذي اطلق عليه المسرح الفقير في بولندا ، وكذلك فعل المخرج الانكليزي بيتر بروك الذي نظر للمسرح على انه مساحة فارغة يتوجب املاؤها ولكن لم يهتم بالكلمة ودورها مثل اهتمامه بالحركة والفضاء ، كذلك الحال عند المخرجين الامريكان روبرت ويلسون وريتشارد فورمان وبيرد هوفمان ولي برور وتجاربهم في ما يسمى المارينكا او مسرح الصورة التي اعتمدت الجانب البصري متجاوزة البناء في المسرح التقليدي الذي يقوم على حكاية وتسلسل منطقي للحدث وشخصيات وبناء لغوي مما يوفره النص الادبي بين طياته , ان اصحاب تيار ما بعد الحداثة لايؤمنون بوحدة النص ولا الانسجام بين اجزاءه ووحداته اللغوية منها او الصوتية . وكذلك الحال مع الممثل اذ صار ينظر له لا بأعتباره العنصر الرئيسى في الاداء الذي تتمركز حوله الدراما ، بل على اساس انه اداة من ادوات التشكيل الحركي للعرض الذي اصبحت تتحكم به السينوغرافيا بل تهيمن على تكوينه العام ، واقتصرت مهمة الممثل بمساهمته في اشغال جانب من اللوحة المسرحية او ملىء الصورة البصرية داخل الاطار المسرحي . لقد ظن اصحاب مسرح مابعد الحداثة ان النص الدرامي لم يعد قادرا على ضمان مسرحانية الخشبة وتولى المخرج المسرحي زمام الامور ليحسم الاشكالية ويقود العمل المسرحي برمته وهنا اصبحت الاعمال تعزى للمخرجين بشكل اساس فقد اصبحت الرؤية الاخراجية هي التي يتحدد وفقها قيمة المنجز المسرحي ،واصبح النص المسرحي رهينا لسلطة المخرج بل هو الذي يعيد كتابته او يقوم بأعداده كسيناريو يتماشى مع نظرته التجريبية او ربما ينجز بشكل جماعي اثناء التمارين ويكون النص الاصلي هو مجرد مرجع اومصدر تستلهم منه الصيغ والافكار الجديدة . ومع هذا التوجه كان لابد ان يكون المتلقي حاضرا في وبفاعلية اخرى تقابل دور اطراف الارسال ليتكامل الخطاب وتضفى عليه القيمة الحقيقية بأعتبار ان المتلقي هو من ينتهي لديه العمل المسرحي وهو الذي يعيد قراءته وفق مستويات التلقي المختلفة وفي هذا الصدد ذهب نقاد ما بعد الحداثة الى ابعد من ذلك وادعو بموت المؤلف كما ذهب الى ذلك الناقد( رولان بارت) واصبحت دعوته اعلانا لاعادة الاعتبار لدور المتلقي حيث اشار الى ان دلالة النص لاتننبع من منتجه بل من خلال علاقته بالمتلقي ويرى في المسرح المعاصر جهازا يرسل عديد الرسائل المكثفة موجهة الى المتلقي ، انه لايعرض قصصا او قضايا ولا يقدم افكارااو مذاهب بل يعرض علينا اللغة نفسها وهي تتبدل وتتشكل وتتطور وتتفاعل وتلك هي المسرحانية . وتعتبر الناقدة الفرنسية (أن اوبر سفيلد) في كتابها قراءة المسرح ان هذا الفن هو مجموعة عمليات تتكشف فيها اللغة عبر تناقضاتها الذاتية . ورغم هذه الاراء التي تقف ضد الجانب الادبي في النص الدرامي وتذهب بأتجاه المسرحي الا ان هناك اراءا اخرى معاكسة تماما فهي ترى في النص الادبي مصدرا لقراءة العرض من قبل الاطراف الاخرى في العملية الاتصالية وهذا مايقوله المخرج الفرنسي( روجيه بلانشون) الذي اخرج بعضا من مسرحيات شكبير ووصفها بأن نصوصها تمنحه الطاقة لمزيد من البوح والتعبير عبر طريقة بناء الشخصيات والحوارات الرصينة والعميقة التي عالجت موضوعات انسانية واجتماعية كبرى ، وتتفق المخرجة (اريان مينوشكين) في هذا التوجه فتشير الى دور شكسبير الكبير في مسرحيته ريتشارد الثاني التي اخرجتها بأنه استطاع فيها ان يجسد دراما طبيعية وتأريخية وسياسية بعيدا عن قيود الواقعية السيكولوجية ، ففي مسرحياته هناك شكلا من التعبير المسرحي بكل معنى الكلمة ، وشكلا شديد الخصوصية ، وفي المسرح الفرنسي ايضا نجد ان المخرج ( روجيه بلان) يولي النص المكتوب اهمية واضحة في عمله حيث يرى ان النص ذاته قادر على طرح معان وحالات عديدة للشخصيات في كل مرة يتم التعامل معه ، وحتى بعض الاتجاهات النقدية مثل التفكيكية التي تلت البنوية فهمت على انها تعمل على تهديم النص في حين انها دعت الى امكانية قراءة النص بطرق متناقضة .
امام هذه الاراء المختلفة حول جنس المسرح ، وهل يتحكم فيه الجانب الادبي في مجال الكلمة ام الجانب المسرحي في اطار الفضاء الدرامي البصري ، اذن لابد من اعادة الظر في هذاه الاتشكالية القائمة واثارة الاسئلة حول اهمية النص المكتوب ام المعروض ؟ وايهما الاقدر على تحقيق الاثر الدلالي في بنية الخطاب المسرحي ؟ وهل يتم ذلك عبر ما يطرأ على النص الادبي من معالجات وتحويل وانزياح وتكييف خلال مرحلة الكتابة المشهدية ؟ ام انه يظل محتفظا بقدرته على التوليد الدلالي عبر تنوع القراءات واختلاف التأويلات ؟ ان هذا مادفعنا للبحث ومحاولةالاجابة عن هذه الاسئلة التي تتطلب فهما عميقا لبنية النص المكتوب وخصوصية الخطاب المسرحي بتعددية نصوصه وكيفية اشتغالها وتحولها من مستوى الى اخر عبر مصادر الارسال المتنوعة وصولا الى متلقيه .
مدونة النص
عبر تأريخ المسرح كان النص المكتوب يشكل المادة الاساسية لهذا الفن ، وظل اسم المؤلف مقترنا به لعصور طويلة الى ان تغير الحال واصبح النص المكتوب لايشكل الا جزءا من مكونات العمل المسرحي , ان النص هو رسالة مكتوبة تتألف من مجموعة رموز واعراف وعلى اساسها يتكون الاطار المسرحي ، وفق هذا يكون النص هو المادة الاولية التي في ضؤها يتم تشكيل العلاقات والبنى التكوينية للفضاء الدرامي ، وانطلاقا من مقولة في البدء كانت الكلمة وبماتحمله من رموز لمفهوم الكلام الملفوظ المتضمن اللغة كخطاب للتواصل المتبادل بين البشر ، وهذا هو الفرق مع النص المكتوب الذي يعتبر رموزا بصرية تظل بحاجة الى تجسيد صوتي في المسرح والا لظل النص محصورا في اطار الادبي المقروء . وحين يخضع الحوار المكتوب الى التجسيد الصوتي تطرا عليه تغيرات في طريقة اللفظ والسرعة والنبر والتنغيم الى جانب الاحساس والتلوين والقوة الشعورية التي يتمتع بها المؤدي كي يوائم اللفظ مع الحالة والموقف والقصد الذي تسعى اليه الشخصية المسرحية في اطارالفضاء الدرامي المصنوع , ان النصوص المكتوبة بل ان بعض العبارات التي اصبحت تشكل افكارا اساسية في بنية هذه النصوص العالمية المعروفة لكتاب امثال شكبير ،براندللو , راسين ، ابسن ، تشيخوف وغيرهم نجدان هذه العبارات وبذات الكلمات والحروف المدونة تأخذ معاني مختلفة حين تتحول الى النص المسرحي المعروض اذ توظف في معالجات اخراجية متنوعة الامر الذي يغير دلالاتها وتتبدل وسائل استخدامها ولفظها وعلاقاتها تبعا لخصوصية الخطاب الجديد الذي يهدف اليه المرسل الجديد ، ان طبيعة الفعل المسرحي تتطلب اختزالا وتكثيفا للحوار المكتوب لاسيما ما يتعلق باللغة الواصفة ( النص الثانوي) حيث ان التعبير البصري على الخشبة وحركة الممثل سوف تعوض الكثير من الالفاظ التي كانت تصف الفعل قبل تجسيده ، او ان هناك بعض الحوارات يتم الاستغناء عنها تماما بسبب اندماجها وتحللها ضمن نصوص اخرى يتوفر عليها فضاء العرض المسرحي فهناك نصوصا الى جانب اللغة المنطوقة هي الحركة ، الصمت ، الرقص ، اللون ، الضوء ، الموسيقى ، الزي وغيرها تلك التي تصبح احيانا هي الركيزة الاساسية وحاملة الخطاب الدلالي في صيرورة البنى المشهدية المتنوعة وهنا تكون الدوال اللغوية المكتوبة جزءا من نسق النص العام فيفقدالمكتوب خصوصيته اللسانية كما يشيرالى ذلك رولان بارت بأن النص الدرامي هو ( نظاما لاينتمي الى النظام اللساني ولكنه على علاقة معه ، علاقة تماس وتشابه في الوقت نفسه )-1-
وليس شرطا ان يكون النص مرسلا عن طريق اللغة الطبيعية ,لكنه ينبغي ان يحمل معنى .وبهذا يكون النص المكتوب احد النصوص التي يحتويها البناء المسرحي والتي تكون في علاقة مع نصوص سابقة او أنية مبتكرة فليس هناك نصا بريئا ومنفصلا عما سبق كما تؤكد ذلك
جوليا كريستفا – بقولها((ان النص عبارة عن لوحة فسيفسائية من الاقتباسات , وكل نص هو تشرب وتحويل لنصوص اخرى ) -2- وهنا تكون هذه النصوص في علاقة متداخلة ومتفاعلة مع بعضها لتفكيك لغة الاتصال عبر وسائل تعبيرية متعددة ثم اعادة تركيبها وبناء لغة اخرى قابلة لانتاج وبث دوال جديدة. ان النص المكتوب يبقى بحاجة لتفعيله ضمن السياق المسرحي واخضاعه لعملية التجسيد داخل بنية فضاء الدراما وتفجير مكنوناته واكتشاف المحمولات الدلالية داخله وهنا تذهب باولا غوللي بوليتاني الى فكرة اعتماد النص المكتوب بوصفه قوة تعبيرية مخزونة ( ان وحدات النص المكتوب التي يمكن تحويلها للمسرح لاينبغي ان ينظر اليها كوحدات نص لساني فقط بل انها قوة كامنة في النص المكتوب )-3- وبهذا تتفق برأيها مع ما ذهبت اليه كريستفا بأن النص المكتوب والنص المسرحي المعد دراميا تربطهماعلاقة متبادلة وهي التي تؤلف البينصية الفعالةIntertextulty التي تظهر على شكل وحدات لغوية او مادية او رمزية عبرنصوص العرض الاخرى . اذن من خلال هذه الاراء وغيرها تتأكد لنا ازدواجية الفن المسرحي التي تقوم على اندماج نص المكتوب مع نص الاخراج ، وهذا ما يساهم في اثارة طاقة النص وتفعيل محمولاته السيميائية واكتشاف تقنياته اللغوية تلك التي سيتم استثمارها اثناء الكتابة المشهدية التي تنقلها الى مسوى اخر ربما يدعم ويطور دلالات النص الاول او يتقاطع معه احيانا وبشكل كامل.
كانت النصوص وستبقى مثار جدل لا ينتهي بوصفها فكرا ,ولكن هذا الفكر لا يتحقق اٍلا حين يجد الاستجابة والتلقي عندها يتحول الى اسئلة واجابات في الوقت ذاته .والنصوص تتبلورعبراساليب تعبيرها واتصالها مع الاخرين وبذلك تتجلى فاعليتها وقيمتها وتأثيرها.
ولكن جماعة التلقي يحيلون النص الى القارىء كما يقول –ستانلي فيش – (( أن النص ليس شيئا او موضوعا ولكنه تجربة او ممارسة يخلقها القارىء )) -4- ويؤكد ذلك – ريفاتير- فلا يعد الظاهرة الادبية متمثلة بالنص حسب بل تمثل المتلقي وردود افعاله المحتملة. من هنا نستطيع القول ان النص هو فكر يحمل بعده التخيلي الرمزي ضمنا , وهذا التميز يمنحه ابعادا جديدة تتوالد مع كل قراءة . هذه الاراء وغيرها تجد حيز تطبيقاتها في مجال الخطاب المسرحي الذي يتسع فيستوعب عديد النصوص وتحولاتها ويرتقي بمعطياتها من اطار ثبوتيتها الى انساق متنوعة التعبير بعد تحويلها من المقترح الذهني المتخيل الى الانجاز المشهدي الجمالي المحمل بالرموز والدلالات والاحالات التاويلية المفتوحة .
الكتابة المشهدية وفضاء المسرحة :
تعد الكتابة الحقيقية للمسرح تلك التي تتنامى في فضاء الخشبة وتحت ظروف ممارسةالخطاب وكيفية تكوين رسالته وتمظهرها حتى لحظة اتصالها بالمتلقي , ولكن كيف تتحقق هذه الكتابة ؟ وهل تتخلى عن مدونة المكتوب تماما ؟ ام تكون منطلقا لها او تصبح جزءا من تعددية نصية تحفل بها البنية المشهدية الشاملة ؟ ان جل النصوص التي انتجها كتاب مسرحنا العربي اعتمدت الصيغة اللغوية للتعبير والاتصال بما تتضمنه من وحدات صوتية ودلالية واسلوبية وتركيبية تشتغل ضمن علاقات سردية وليس على المواقف التعبيرية والبنى التكوينية ، باستثناء القلة من النصوص التي توفرت فيها شروط الكتابة الدرامية المعدة للخشبة.
ان المسرحانية او الادائية ، تلك التي تجعل من الدراما مسرحا بالفعل وليس ادبا مقروءا، انها محاولة لتأكيد خصوصية المسرح عن غيره من فنون الاداء الوقائعي والفنون متعددة الاتصالات. وكما يذكر- باتريس بافيس- ( قد تشكلت في المسرح الحديث ملامح البحث عن المسرح او المسرحانية هذه التي ظلت طويلا بعيدة المنال ولو ان المفهوم ذاته يتضمن شيئا ما سحريا ، شديد العمومية ، بل ومثاليا ايضا )-5- فالمسرحة تعني فن او تقنية تحويل النص الى خطاب مسرحي محمل بدلالات كثيفة تنفتح على مجالات ابعد من حدود السرد المكتوب . او بعبارة انها توظيف ووعي بمفردات وعنا صر العمل المسرحي المادية المجسدة بكل مايتوفرعليه من ايحاءات وتوليدات ومعطيات خارجية ، اي كل مايتعلق ببنية
النص من الخارج. ان عملية سحب النص من اطار اللغة والسرد الى مضمار الكتابة المشهدية واخضاعه لسنن واعراف الفضاء الجديد من شأنة ان ينهي تداولية المدونة المكتوبة ان لم تقصيها تماما لاسيما تلك النصوص التي لاتنتمي الى مستوى مصطلح - المسرحة- الذي يعادل - الادبية - في ميدان الادب ، ولعل هذا احد الاسباب التي دفعت بالمخرجين الى اعادة الكتابة واصبح مصطلح المخرج المؤلف سائدا في التجارب المسرحية وهنا ينشط دور المخرج ويتميز في كتابة اخرى للنص كتابة تقوم على الرؤى والمعالجات الابتكارية التي تتجاوز طريقة السرد او التجارب الاخراجية التقليدية التي هي مجرد ترجمة او زخرفة او نقل حرفي لافكار النص الى اقامة علاقات جديدة وتركيبات قائمة بذاتها ومتحررة بعناصرها في فضاء فعلي يتجسد فيه الدال بصيغ - بوليفونية – يتوزع فيها المنطق السردي والمسرحي على عدد من الوسائط التعبيرية والفنية.
ان خطاب المسرح محكوما بالتعددية خلافا للنص السردي - المكتوب - وخلال عملية التمسرح يتشكل النص وفق اَلية ضبط جديدة لشفراته وكيفية انتظامها وتوزيعها في بنية الخطاب ، فالنص المكتوب يجب ان يكون معد اساسا للانجاز المشهدي ولهذا فهو في حالة تشغيل مستمرة يكون فيها خاضعا للحذف والتبديل والاحلال والانزياح والاضافة انطلاقا من كون خطاب العرض بنية هرمية للعناصر الناشئة فيه او المكونة له ،(( ان المسرح يحتمل التبدل في التراتب الهرمي وهذا يرتبط بقابلية تحول العلامة المسرحية على حد قول هونزل جندريك – 6 - التي من شانها ان تغير مفهوم الدلالة ، بل تنتج دلالات جديدة تجعل النص المكتوب ينحرف عن سياقهُ اللغوي، ليذوب ضمن نسيج التكوينات السمعبصرية. ان عملية انبناء الخطاب الدرامي هنا تنطلق من الكتابة الاولى كمشروع او مقترح فكري جمالي وعبر الكتابة الجديدة او المسرحة المنقولة للاخر بوسائل عديدة تتضمنها بيئة مسرحية متخيلة ومغايرة بزمنها ، ومنفتحة للمقروء الادبي والفلسفي والاجتماعي والنفسي والانثريولوجي. ان الكتابة وفق هذا المستوى من التمسرح ترتقي بدرامية النص وتخصب علاماته المتحولة ليصبح بنية وخطابا تجاوزيا ضمن فضاء مغاير يصنعها فضاء المسرح الى جانب الممثل والمتلقي معا . وتتحقق هذه الكتابة المشهدية او ( المسرحة ) عبر الاجراءات الاتية
التكيف Adaptation :
يعد النص المسرحي المكتوب وفق مفهوم المسرحة عنصرا ثابتا او مدونة مستقرة تشكلها مجموعة علامات لفظية – لغوية- محددة ولكن تكيفه ضمن نص العرض يحوله الى بؤرة من الاحتمالات والتوقعات اللامحدوة ، حيث ان الصورة والحركة حين تلازمان اللغة تعملان على تحويلها من كونها علاقة ثابتة الدلالة الى كونها طاقة ايحائية ومركز من مراكز التشفير يحفل بها خطاب العرض. ووفق هذه المعالجة يتحرر النص المكتوب من اسر اللغة الملفوظة فينطلق نحو افاق الانفتاح والتعددية ليندمج مع البنى المجاورة التي تتيحها الكتابة المشهدية والتي بدورها تحتويه ضمن العلامات والوحدات السيمائية التي تنتمي لأنظمة مختلفة ومركبة معاً. وهذا التكيف لايعمل عليه المخرج حسب بوصفه القارئ النموذجي لمدونة المكتوب والتي يسعى لتوجيه دلالاتها وفقا لموقفه النقدي الجدلي والفكري الجمالي ، بل انه يشمل اطراف الانتاج كافة فمع كل قراءة يطرأ تكيف جديد ، وبما ان المسرحة تعني التجسد الحي وتحويل القولي الى مرئي فأن الممثل هنا يتصدر عناصر التكيف بل يصبح هو المنتج وحامل المسرحة بوصفه جزءا مهما من بنية الخطاب الكلي ، ولكن الممثل ليس منفذا اَليا في هذه المنظومة بل هو قارئ له فهمه الخاص وتأويلاته لوحدات النص التي يترجمها عبر افعاله الجسدية حيث يقوم بتشفيرها وتنضيمها على الخشبة بهيئة علامات وبنيات رمزية معالجة بواسطة دفقاته الشعورية ورغباته بوصفه فاعلا ومنتجاً عبر ادواته الجسدية والصوتية التي يكيفها امام كل الاحتمالات والحالات والمواقف التي تتطلبها طبيعة الشخصية وعلاقاتها مع الاخر.
((فجسد الممثل لايقتصر على كونه اداء فحسب ، وانما يحول ما يحيط به الى فعل المسرح وقد حول الى دلالات ، يصنع هذا الجسد في كل ماحوله سيميائيات، المكان ، الزمن ، الحكاية، الحوادث، السينوغرافيا، الموسيقي ، الاضاءة ، الملابس )) -7-
انه يوائم افعاله مع عناصر الموضوع ولاينعزل عن النسق المسرحي لكنه ينفلت من ذاته ويحرر جسده. كما يقول يوجين باربا ((ان تكون ممثلا يعني ان تحرر نفسك ، ولكن الدور الذي تلعبه ماهو الا جزء من منظومة درامية محبوكة في كلية النص)) - 8
ويتواصل التكيف بالانتقال من مصادر الارسال الى المتلقي ضمن صيغة التفاعل المشترك والتأثير المتبادل كي تتم صياغة العرض وفق طبيعة اللقاء المسرحي والمشاركين فيه. ان هذا التكيف الشمولي لعناصر العرض الدرامي يمهد لانشاء بنية ممسرحة بعد ان تجد طريقها للتجسيد في فضاء العرض.
التحويل Transmutation
ان الطابع التركيبي للخطاب المسرحي وفاعلية نصوصه بتحولاتها الافقية والعمودية التي تحصل بفعل حالات الهدم والبناء المستمرين داخل فضاء الانشاء المسرحي هو ما يمنح العرض قدرة في تحويل دلالة الاشياء والاجساد العارضة من حالة الى اخرى فقراءة المخرج تقوده الى اختيار رؤيته الخاصة لمعالجة النص المكتوب واعادة بنائه , هذه الرؤية ستقلب افاق النص وتغير استراتيجياته ومع كل خروج نصي اومسرحي على المنطق السائد يعد من قبيل المسرحة واضافة عناصر جديدة لم تكن موجودة اصلا او عجز عن كشفها النص المكتوب , فالمخرج يملئ فجوات المرسل الاول (( بل واحيانا يخلخل بنية المكتوب تماما ويشيد تحديداته الذاتيه في الفضاءالمسرحي عندها سيتحول النص المكتوب الى تداولية بصرية تتمظهرفيها الصيغ اللغوية الى انساق وعلامات حسية وبصرية)) -9- هذا التحويل من شأنه ان يخلق نظاما اعلاميا اخر له مواصفات مختلفة عن النص السابق من حيث الوسائل و التقنية والاداء و مستويات الدلالة المختلفة بفعل التحول النصي و نتيجه لما يتوفر عليه العرض المسرحي من شبكة اتصالية متعددة يصبح نظام التواصل اكثر من سعة في اي نموذج اخر من الوسائل الاتصالية , ان التنوع والتعدد في مراكز الارسال المسرحية اثناء عملية التحويل التي تحصل للخطاب المسرحي من الفضاء النصي الى الفضاء المشهدي يثري بنية الخطاب من خلال ثراء العلامات التي تكسب اثناء التحويل رموزا جديدة.
ألتلقي Reception
اذا كان هدف المسرحة هو تحويل وصياغة تركيبات نصية متداخلة ومتناغمة بمساعدة الذوات
المنجزة فأن هذا الانجازمهما بلغ من الدقة والاتقان لا يتحقق ما لم يجد قاسما مشتركا بين ذات الباث المختلفة عبر نصوص المشهدية ودلالاتها و نسقها الرمزي والاستعاري والجمالي وبين ذات المتلقي التي ينبغي ان تكون حاضرة في راهنية العرض وضمن المعادلة التواصلية لاستقبال الرسائل الحسية في صيغها البصرية والسمعية والحركية وما تحمله من احالات رمزية مباشرة وغير مباشرة , ثم تفكيك شفراتها والتفاعل معها ومحاولة ايجاد العلاقات الرابطة بينها وبما يتيح الفرصة للفهم والتأويل والارتقاء الى امتلاك الدلالة وانتاج المعنى. ان ما يغير خطاب المسرح عن بقية الفنون الدرامية هو ذلك الحضور الآني واللقاء المباشر بين الممثل وجمهوره ، ومن هنا تتأتى خصوصيته في تحقيق زمكانية مشتركة للتلقي بين منتجيه. وتتوقف عملية الاتصال على قدرة الممثلين الذين يقومون ببث هذا الزخم من العلامات التي ترد عبر شبكة متنوعة من المصادر الثابتة والمتحركة في العرض . ويتطلب هذا بالمقابل ان يكون هناك متلقي لة قدرة على استيعابها وتفكيكها واعادة انتاجها في التو واللحظة ، ان هذه الرسائل تتأثر بفعالية التلقي وبالخبرات السابقة الاجتماعية والثقافية والمعرفة بسياق العرض وشفراته. ان كفاءة التلقي تساهم في تكاملية العرض وبما يجعل من علاماته الداخلية امتدادا" للعلامات الاجتماعية
والممارسات الواقعية ، بحيث ان المتلقي يشكل عالما خياليا دلالته من المضمرات النصية فيحيل علاقاتها بالمرجع ، بأعتبار ان فعل المسرحة هو تسجيل ماهو مدهش للمتلقي واقامة علاقة مغايرة للحياة اليومية او فعلا تشخيصيا ونباءا خيالياً ((ان المسرحة تبدو كما لو كانت دمجا للخيال في عرض داخل فضاء مغاير يضع الناظر والمنظور كلا في مواجه الاخر)) -10-
الخطاب المسرحي والاثر الدلالي
يعد الخطاب المسرحي خلاصة العمل المنجز عندما يحاول ان يقدم افكارا موضوعية ، ومن خلالاعتماده على وسائل فنية مختلفة تهدف الى التأثير على المتلقي واقناعه ، او ( انه مجموعةالوسائل التي تجعل ادراك العرض المسرحي ممكنا يقوم على المعنى المنتج من مجموعة العلاقات والعناصر المتجانسة والموحدة في العرض المسرحي ، فهو خطاب ذو بنية حوارية سجالية تقوم على تعدد صوتي ودلالي وفني ومرجعي يحمل اثار خطابانت سابقة عليها او متزامنة معها او متولدة منها )-ا-11-
فالخطاب المسرحي يرتقي بالمسرح من المستوى الايهامي الى مستويات اللامألوف والتغريب ، حتى وان قدم حدثا واقعيا ، فأن هذا الواقع عند مسرحته يظل غير واقعي واقرب الى الحلم ، ان تقنية الخطاب المسرحي تهدف الى جعل الاشياء غير واقعية وبعيدة عن سياق الحياة اليومية ومنفردة بخصائص تتميز عن مشابهة الواقع ، فالمتلقي لايتكييف في اللحظة الاولى مع الرسائل التي يتلقاها ولا يأتلف معها وبذلك يكون موقف التلقي معقدا ، الامر الذي يخلق نوعا من التعارض الثنائي بين المألوف-اللامالوف ، وان هذا الاستلاب من شأنه ان يدفع بالمتلقي الى تفجير فعل التفكير والوعي ، وهذا يقابل مفهوم –افق التوقع- الذي رسمه هانز روبرت ياوس ضمن طروحات نظرية –جماليات التلقي- حيث ان تخييب افق توقع المتلقي يجعله اكثر انشدادا واثارة للتواصل مع الحدث المسرحي . وهنا يعمل الخطاب على تهيئة المتلقي لاستقبال العرض بكل عناصره ويمكن تقسيم فعل الخطاب المسرحي الى قسمين هما :
1- خلق البعد الفني اي تحقيق ممارسة حية ومادية للعناصر المسرحية
2- خلق العملية العقلية وتتمثل بالوعي والتفكير الجماليين , فالمتعة التي هي اعلى درجات التفكير تتحقق مرة من خلال البعد الفني وثانية عن طريق فعل التفكير الجمالي .
ان للخطاب المسرحي اثر يتحقق من خلال تأكيد المعنى والهدف للعرض المسرحي و لكنه ليس المعنى المباشر ، بل المعنى الذي يتركه فيما بعد ويتجسد هذا من خلال قدرة العرض في التأثير على المتلقيمن خلال السرد او التفسير او التأويل او الاسقاط المسرحي , اي عندما تتكامل عناصر الخطاب ويتحول العرض المسرحي الى كثافة دلالية عميقة تتجاوز القوالب الجاهزة والمعنى القصدي المباشر , كما ان المتلقي يضفي هو الاخر دلالات متعددة للخطاب تتشكل وتتنوع تبعا للحالات التي استطاع اثارتها فتولد عنها ردود افعال هي عبارة عن اجابات متزامنة ومتقابلة للعرض .
وان ردود فعل المتلقي تنقسم الى اجابة حسية وانفعالية واجابة ساكنة ، اي ادراكا ساكنا يعتمد على خيال المتلقي , وان متعة التلقي تتحقق بالخطاب المسرحي ككل واحيانا داخل اجزاء العرض حيث يكتفي بعض المتلقين بأجزاء العرض، وهذه لها علاقة بكفائتهم التأويلية . ان العرض المسرحي الذي يمتلك خطابا جادا يتواصل مع المتلقي في الذاكرة لفترة طويلة بعد انتهاء العرض , اما العرض الاستهلاكي البسيط فلا يستمر الا لفترة قصيرة ربما تتحدد بمدة العرض نفسها , فمثل هذه العروض لايكتب لها البقاء في ذاكرة الجمهور اذ انها لاتحقق العلاقة بين المتلقي وواقعه على المستوى المطلوب ان العرض الذي يستطيع رصد الواقع عبر رموزه ودلالاته سوف يقدم قراءة مفتوحة للخطاب المسرحي وهذا مايجعل دلالاته تجد اثرا لتحققها لدى متلقيه ، اما اذا كان الخطاب قائما على صياغة غير منظمة للعلامات التي لارابط بينها مما يبعدها عن مستوى المسرحة، فهذا النوع ربما يخلق الدهشة للوهلة الاولى ولكن سرعان ما يجد المتلقي نفسه بعيدا عنه فاقدا قدرة التواصل والتأويل فتكون القراءة ناقصة وخالية من الاثر الدلالي للخطاب المسرحي
فالمسرحة ليست مجرد رؤية مشهدية تختزن بالرموزولكنها ممارسة دالة لايتحقق اثرها الا بنشاط المتلقي ودرجة استجابته التي تنعكس على عملية الاتصال في الفضاء المسرحي برمته.
بين السردي والدرامي
تختلف النصوص في صيغ كتابتها السردية والمسرحية الدرامية فمنها ما يبنى على اساس المواقف اللغوية وينتمي الى الطابع السردي حيث تبدو الشخصيات فيها مسطحة وقد اتسعت افقيا مع امتداد الحبكة القصصية الغارقة في نموذجية عاطفية , وصيغة اخرى تتميز ببنية تكوينية تنتمي الى فضاء الخشبة وحوارية مكثفة لكنها تختزن بالاشارات والايحاءات والرموز المكملة من خارج النص . ان الفروقات بين الصيغة السردية والصيغة المسرحية تتمثل بما يلي :
اولاَ : الراوي
يقوم بمهمة السرد ويكون وسيطا بين المؤلف والشخصيات ويضطلع بمهمة توجيهها في الصيغة السردية ، وهنا تكاد سلطة الراوي تتساوى مع سلطة المؤلف ضمن الخطاب الشمولي للعمل بينما لاتجد مثل هذا في المسرحية اذ يتم من خلال الحوار بين الشخصبات التعرف عن الفكرة أوالحكاية باستثناء بعض الحالات كما هو الحال في المسرح الملحمي. وفي الصيغة المسرحية لايظهر اثر واضح للمؤلف الا في الاشارات الثانوية للحركة والاخراج تلك التي يدونها في النص، وفي كثير من الاحيان تهمل ولايؤخذ بها من قبل
المخرج. ان الشخصيات المسرحية تنهض بمسوؤلية خطابها ، ويحدد الفعل المسرحي قيمةالخطاب ومصداقيته خلافا للصيغة السردية التي ترتبط بالراوي فهو يحكم مسوؤلية توجيه
الخطاب وتحققه.
ثانيا : الزمكانية
ان السرد يتمتع بامكانيات زمانية ومكانية كبيرة ومتنوعة ، اذ لاتوجد قيود او صعوبات تحد من مساحة المكان او امتداد الزمان اللذين يدور فيهما الخطاب فهناك قدرة على التوغل داخلهما الى الماضي او المستقبل او الانتقال من مكان الى اخر. اما في الخطاب المسرحي فالامر مختلف تماما حيث نجد القيود المادية تحد من اهمية عنصري الزمن والمكان فالعمل متقيد بمدة العرض ومساحة المسرح وتغيرالمناظر اضافة للقيود الانتاجية الاخرى .ونجد ايضا ضمن الاختلاف بين الصيغتين ان زمان – مكان السرد مزدوج وينتج عن ذلك عالمان هما : الحاكي- الراوي والمحكي فيه زمان ومكان الشخصيات وبالتالي يكون هناك زمانان ومكانان وبما ان الحكي يسبق دائما المحكي فغالبا ما يكون السرد في اطار الزمن الماضي برغم استخدام صيغ المضارعة وزمن الحاضر.
اما زمان – مكان الصيغة المسرحية فهو حاضر دائما بالرغم من تغير المكان في المسرحية لان الخطاب المسرحي يرتبط وينجز مع المتلقي وهنا يكون وقوع الحدث في حاضر اتصال المتلقي بالخشبة في حالة العرض او بتمثلها على الورق بالنسبة للنص الدرامي المقرؤء حيث يستطيع ان يتخيل الفضاء المكاني ، عن طريق الوصف السردي فيما يقيد عمل الاشارات السمعية والبصرية والحركية المتزامنة والمتتالية لمتفرج في حدود زمكانية معينة هنا , نحن ، الان.
ومن الفروق الجوهرية بين الصيغتين ايضا هي القابلية اللامحدودة للصيغة المسرحية لانها تنتج في سياق علامات تماثلية (ايقونية) تحيط بعلامات النص اللفظية او تتحول الى تمثيل وحركة ومناظر في مساحة محدودة ، وهذا يجعل المتلقي يحول النص الى صورة ذهنية بينما لاينطبق ذلك على قارئ النصوص السردية. اما بالنسبة للغة في العرض المسرحي فأنها تتحلل الى لغات مختلفة ، وهناك خاصية سيميائية للمسرح تزيد من حدة اشكالية اللغة فيه حيث ان المشهد بجوانبه المختلفة من تشكيل مكاني واضاءة وملابس وايحاءات وعناصر اخرى يقوم بدور مجموعة العلامات المتكافئة او المتقاطعة مع العلامات اللغوية كما يذكر – كير ايلام :
((يتميزالعرض المسرحي باستخدامه لقائمة متناهية من الدوال لتوليد عدد لامتناه من الوحدات الثقافية ، وهذه القدرة التوليدية الفعالة التي يملكها الدال المسرحي تعود جزئيا الى اتساع دلالاته المصاحبة وهذا يفسر التعدد الدلالي للعلامة)) -12-
ان اللغة في العرض المسرحي تتحول من حالة نقل – المعنى- الى اداء – توصيل- بالاضافة الى الكثير من الادوات والصور المسرحية التي تشكل جميعا لغة المسرح. ومن خلال مامر ذكره يمكننا اجراء مقارنة بين مدونة المكتوب – النص الادبي – والعرض المسرحي نستخلص الفروقات الاتية:
* ان للنص الادبى وجود تأريخي بينما لايمتلك العرض مثل هذا خارج حدود تحققه.
* النص مدونة كتابية مستقرة في حين نجد العرض عمل غير تدويني، انه نظام متحرك عابر وزائل بانتهاء مدة العرض.
*يمتاز النص بثبات ابعاده كافة ، لكن العرض متغير الابعاد ومختلف من تجربة الى تجربة اخرى.
*النص الادبي ذو حساسية ضعيفة لحظة القراءة ويتم ادراكه بصيغة خيالية ، اما العرض فهو منظومة شديدة الحساسية نتيجة حالة التجسيد في المكان المسرحي ، اي التحقق المادي للاثر وبذلك يكون ادراك العرض عياني ومباشر.
*وجود النص بالقوة، بينما وجود العرض بالفعل.
*النص مسرحه الخيال اما العرض فمسرحه الواقع.
*النص عالم فيه الكثيرمن الافتراض والانفتاح الخيالي للقارىء بينما يكون هذا المجال محددا في العرض المسرحي.
*الدال في النص يكون على مثال مرسله الوحيد، بينما يكون المرسل في العرض متغير ومتعدد، وهو دال ومدلول في الوقت نفسه خلافا لزمانه الخاص ومؤثرا في زمن ومكان متلقيه .
وفيما يتعلق بالكتابة المسرحية المعاصرة او مستوى العلاقة بين النص المكتوب والعرض Performance تتحدد بوجهتي نظر متطرفتين هما :-
*ان العرض تعبير عن النص المكتوب وهو نتاج له ، وقيمة العرض تستمد من درجة امانته للنص.
*العرض متحرر من النص ، اي ان النص ممهد او نص قبلي - Pretext وقيمته تستمد من قدرته على ان يصبح واقعا جماليا بذاته.
وهذا الراي يتفق معه – رولان بارت – من خلال تعريفه للمسرحة فيقول:-
(( انها المسرح بدون نص ، انطلاقا من المضمون المحدد للخطاب الدرامي ، وهي عملية التلقي الجماعي للحظات الشعورية والحركات وطبقات الصوت والمسافات والمواد المستخدمة والاضاءة وكل مايكشف عن ثراء المحتوى الظاهري للنص)) -13-
اما الباحث فيرى ان اي نص مسرحي لايرقى الى درجة المسرحة مالم يكتب وفق رؤية مستمدة من وعي شمولي لبنية المسرح وخصوصيته المركبة والمتعددة الاصوات وربط افكار النص بالمرجعية الاجتماعية ونبض الواقع ومساراته المتحركة والمتحولة ، وخلاف ذلك يفقد وظيفته وتاثيره.
ألاستنتاجات
ان مسرحنا العربى سعى منذ عقود طويلة الى اثبات ذاته محاولا التحرر من هيمنة النص الغربي بمفهومه التقليدي المعروف ، وتبنى فعلا بعض المبادرات الدرامية التي استندت الى وعي الذات والعودة الى التأصيل واستثمار الموروث ، ولعل محاولات – توفيق الحكيم ، يوسف ادريس، الفريد فرج ، سعد الله ونوس ، قاسم محمد، يوسف العاني ، عز الدين المدني ، الطيب الصديقي ، عبد الكريم برشيد ، روجيه عساف وغيرهم الكثير رسمت المسار ومهدت لمزيد من التجديد، الا انه وكما يبدو اليوم ان المخرج العربي قد تفوق في هذا المسعى وامتلك زمام المبادرة مقابل تراجع مستوى النص المكتوب ولاسباب عديدة من بينها : نقص الموروث البصري لدى معظم كتاب المسرح مقارنة بالمسرح الاوربي ، فمازال مفهوم النص – الكلمة هو السائد نتيجة لضعف خبرة هؤلاء الكتاب بتحولات النص ومتطلبات المسرحة وكيفيات اشتغاله ضمن منظومة العرض هذا من جانب ومن جانب اخر افتراق المواقف والرؤى بين عديد الكتاب والمخرجين لاختلاف مصادر ثقافاتهم ومرجعياتهم. كل هذا استدعى قيام المخرجين بالانابة عن الكتاب في التأليف والاقتباس والاعداد للنصوص وتهيأتها للعرض المشهدي وبهذا حصلوا على حرية اكبر في الحذف والاضافة وفق التصور الاخراجي. كما برزت بعض المحاولات في الكتابة والتأليف الجماعي كتجارب الاحتفالية في المغرب والحكواتي في لبنان والمسرح الجديد في تونس ، لكن هذه المحاولات لم تستمر طويلا وعادة سلطة المخرج من جديد. ان اقصاء النص واستبداله ببنية بصرية خالصة قد اضعفت كثيرا دور الكتابة وتحول الكثير من كتاب المسرح الى الكتابة بوسائل تعبيرية مجاورة وبهذا تقلص انتاج النصوص المسرحية مقارنة بالكم المتراكم من الاعمال المرئية التي تضج بها الشاشات الضوئية والالكترونية ، وهذا يشكل خسارة فادحة للمسرح وحضوره وتواصله.
ان ما نحتاجه لتجاوز هذه الاشكالية هو اعادة الاعتبار للنص المسرحي المكتوب ، ولكن اي نص نريد ؟
انه النص الذي يتوفر على خط التمسرح الضمني وفق منظور الخطاب المسرحي المعاصر ، والتناصية البلاغية بين الادبي والمسرحي. النص الذي تنصهر فيه كل النصوص منتجة كتابة توثث الفضاء المسرحي وخالقة لمشهدية تكتمل رسالتها بنص التلقي والتاؤيل . نطمح الى نص يقوم على الكتابة الواعية بلغات المسرح وفضاءاته . كتابة متحررة من الثبات والافكار الجاهزة والتقريرية المباشرة والحوارية المغلقة . كتابة يسندها التصور الاخراجي المبدع وفق رؤية قادرة على توجيه الخطاب عبر دينامية العلامات اللفظية والرمزية المبثوثة فيه والغوص في اعماق المكتوب واستجلاء مكامن التعبير والفكر والحركة والجمال . انها الرؤية التي تغني النص وتبتكر له البقاء في ذاكرة المتلقي وهي الكتابة التي نأمل ان تنير عتمة المشهد .
مصادر البحث
1- ، رولان ، بارت ، نظرية النص ، ترجمة : منذر عياشي ، مقالة في مجلة العرب والفكر العالمي ، عدد ,15 سنة 1995 ،بيروت مركز الانماء القومي ص 93 2ـ محمد الغذامي ، الخطيئة والتكفير ، النادي الادبي الثقافي ، جدة ، 1985
3 ـ كير ايلام ، سيمياء المسرح والدراما ، ترجمة رئيف كرم ، المركز الثقافي العربي ، بيروت 1992، ص 244
Katle, walo, Ibid., p.461 - 4
5ـ باتريس بافيس ، قاموس المسرح ، باريس
6 ـ كير ايلام ، سيمياء المسرح والدراما ، ترجمة رئيف كرم ، المركز الثقافي العربي ، بيروت 1992
7 ـ جوزيت فيرال ، المسرحانية وخصوصية اللغة المسرحية ، ترجمة صالح راشد مصر ، القاهرة ، مجلة فصول ، المجلد 14 ، العدد الاول ،ربيع 1995
8 ـ مايكل فاندين هونيل ، المسرح التجريبي ومفهوم اللاتحدد ، ترجمة سامح فكري مجلة فصول ،عدد 4 سنة 1995
9 ـ xxx ، من قاموس المسرح ، مجلة المسرح، القاهرة ، عدد 57 سنة 1993 ، ص 32
10 ـ جوزيت فيرال ، مصدر سابق ص 68
11- عواد علي ، تعدد الاصواتفي الخطاب المسرحي ، مجلة الدراما ، عمان ، العدد 1 ، 1996 ، ص35
12 ـ كير ايلام ، انظمة العلامات في المسرح ، ترجمة سيزا قاسم ، الدارالبيضاء ، دار توبقال 1987
13- xxx , من قاموس المسرح , مصدر سابق
------------------------------------------------------------------------------------
المصدر : د. حسين الانصاري - قسم الفنون والدراسات النقدية - الاكاديمية العربيةالمفتوحة
0 التعليقات:
إرسال تعليق