مسرح «التعزية» راسخ في المشهد الثقافي العراقي الراهن تحديات الطقوسية الدينية والقضايا المعاصرة
مجلة الفنون المسرحية
ما عرف بـ«الحملة الإيمانية» التي أطلقتها الحكومة العراقية خلال تسعينيات القرن الماضي، كان الشرارة الأولى التي أرست جذورها في تغيير بنية المجتمع العراقي. تحول من مجتمع منفتح على الفنون والآداب إلى مجتمع مغلق لا يفكر إلا بالخطوات التي رسمتها الدولة له. وعلى الرغم من النوايا التي بنيت عليها تلك الحملة، والتي فهمها المواطن حينها، غير أنها امتدت عميقاً خصوصاً بعد محاولات بعض رجال الدين الشيعة إلى تغيير البنية الثقافية من خلال دعم أفكارهم «الإيمانية»، ما أثر بشكل مباشر على الفنون عموماً، وعلى فن المسرح خصوصاً.
هذا التأثير بدأ بانطلاق المسرحيات الدينية في التسعينيات، ومن ثمَّ تلاه بما عُرف بـ«مسرح التعزية» بعد العام 2003. المسرح الذي يتحدث عن واقعة الطفّ في كربلاء، وامتداداتها في الحياة الاجتماعية. غير أن مسارح التعزية اتسعت لتشمل موضوعات أخرى، كان لها أثرها على تغيير بنية المسرح العراقي، فبعض النقاد أشار إلى طقوسية هيمنت على المسرح العراقي وخطابه، فما الأسباب التي تجعل مسرح ما من الاتجاه للديني مقابل الفني؟ وكيف يمكن الخروج من مسرح كهذا للوصول إلى النموذج الفني
المتكامل؟
المتكامل؟
انحسار الفني
يشير الدكتور طارق العذاري، في حديث مع «القدس العربي»، إلى أنه «لا تهيمن ظاهرة من الظواهر على المحيط الاجتماعي، إلا بسبب تراجع ظواهر أخرى. وهذا ليس على صعيد المسرح والثقافة، بل في كل الأصعدة والمستويات، عالمية كانت أم محلية»، مضيفاً أنه من الملاحظ أن «تراجع قوى اليسار العالمي والوطني من دوره في الشارع العراقي، وانحسار النفوذ القومي الليبرالي، وانتعاش الاتجاهات الدينية المعتدلة والسلفية المتشددة، لابد أن يترك آثاره على واقع العراق الرخو اقتصادياً وسياسياً وثقافياً».
ووفق، توينبي، فالتاريخ تحدٍ واستجابة، وهذا الذي حصل في واقعنا المسرحي، استجابة للهيمنة الطقسية والشعائرية دون دراسة نقدية وتمحيص سوسيوثقافي واضح، بل بتبعية غير متلمسسة لخطورة الاختيار المسرحي والثقافي الذي يستشرف الأفق الواعد، وهذه الاستجابة كانت استسلامية، خالية من رونق الإبداع والموقف الجمالي المعاصر.
ويبي العذاري أننا لا نزال ننظر لطقوسنا بلغة فنية مسطحة غير متفاعلة مع الرؤى العالمية، لواقع الصراع الإنساني الحداثي، هناك فرق فلسفي جمالي كبير بين التطهير التراجيدي والعاطفي، لأن الأول يدخل معادلة الوعي التاريخي بالتحول، بينما العاطفي مصدره شحنات وقتية تغلق عليها الستار عنها تغلق الجفون.أ ووفق هذه الحسابات، انحسر الفني والجمالي أمام الوعي المبسط واليومي والعابر للطقسية، بفعل الخوف من المواجهة، أو التشكيك في قدرة الفني، أو ابتعاد رجال المسرح ومؤسساته الرسمية والتجمهات الشعبية. ليس بالضرورة أن يكون كل المسرح العراقي طقسياً ويتناول عروض (الطف) مثلاً، لأن قضية الحسين مقدسة ولها من يتصدى لها بما يليق بها… كما أن العراق يؤمن بتعددية الأفكار والرؤى، كما هو حال مجتمعه ومكوناته، والمسرح تحرير لتلك المكونات لتعبر عن مواقفها في الحياة والتاريخ والتغيير.
عباءات الدين
من جهته، يرفض الدكتور فاضل السوداني، وجود «مسرح تعزية»، عاداً إياه «مشاهد بكائية يقوم بها فنانون مدفوعي الثمن من قبل المؤسسات الدينية من أجل التاكيد على الحس الطائفي، وهذا هو السبب من إشاعة مثل هذه العروض وإن كانت غير كثيرة»، موضحاً أن «الهدف غير فني»، فهم يقدمون هذه البكائيات بـ»تقنية المسرح التقليدية وليس هنالك تمايز تقني مسرحي خاص بالمسرح، فمسرح التعزية في العراق هو منصة لتقديم مأساة الطف، وهي جريمة بشعة والآن تتكرر المئآت من مثيلاتها في العراق كل شهر تقريباً».
أما الطقوسية التي تصاحب هذه العروض، وفق السوداني، فهي طقوسية غير فنية، إنما هي طقوسية دينية تشوه العمل الفني وهدفه، وستبقى هكذا إذا لم تدخل هذه الطقوسية بمختبرها الفني وتتحول إلى طقس فني مسرحي. وكما هو معروف بأن الحكام الجدد في العراق يحاولون الاستيلاء على كل شئ بما فيها الثقافة، والمسرح لديهم حرام لأنه تشخيص وخلق. وليس هنالك مسرح حقيقي في العراق سوى مسرح المناسبات، فلا يمكن للثقافة أن تخرج من عباءة رجل الدين إلا إذا ابتعدت السياسة الثقافية عن الطائفية والقومجية والدين. موضحاً أن رفعة شأن الجانب الفني والإبداعي في شتى المجالات الثقافية وخاصة المسرح يتم عبر فنانين ومؤسسات غير طائفية، وأيضاً عندما يتوحد المجتمع العراقي ويكون مجتمعاً حضارياً علمانياً. والمشكلة العراقية أو الماساة أن الدولة العراقية لا تعرف ماذا تريد، لأن المصائر والنتائج بيد قوة أخرى غير عراقية تهددها دائماً بأن تدخل عليها قوة أخرى هي دولة جوار أو قوة صغيرة مثل داعش أو القاعدة لتشغلها عن مهامها (وتفلس خزينتها)، هذه سياسة أمريكية جددة تؤكد على هيمنة الرأسمال العالمي… ومن الجانب الآخر، والمهم، هو أن العراقي لا يعرف ماذا يريد بالضبط، لأنهم جميعاً أدخلوه بجهنم الطائفية، ولا يعرف لماذا هو بهذه الحال، لأنه منشغل بأمور ثانوية وغير جوهرية.
تحدي المتغيرات
يرى الكاتب المسرحي مثال غازي أن «الوضع السياسي والاجتماعي في العراق منذ عقود طويلة، وتحديداً منذ الثمانينيات، قد مر بمراحل حرجة من حرب الخليج مروراً بفتره الحصار إبان التسعينيات وصولاً إلى حرب الخليج الثانية، ثم الاجتياح الإمريكي للعراق وهذه المتغيرات الكبرى الكارثية لابد أن تلقي بظلالها على كل مفاصل الحياة في العراق ومنها الفن وتحديداً المسرح»، مشيراً إلى ان «المسرح بؤره خصبة لخطاب يعنى بالمتغير لذلك تعددت أشكال الخطاب عند المسرح من التعبئة والتحشيد إبان الثمانينيات إلى التباكي بعدما طالت الحرب وانكسر زهو الانتصار الذي كان يحلم به صدام حسين، لينتقل الخطاب التسعيني إلى مستوى آخر وهكذا بدأت المتغيرات تعكس بظلالها على مشاكل جديدة حتى وصلنا أخيراً على هيمنة الخطاب الديني بسبب نزوع الإسلام السياسي في العراق على فرض معطيات جديدة على المسرح بسبب امتلاكها التمويل اللازم للإنتاج بعدما تراجعت الكثير من المؤسسات الفنيه، ومنها وزارة الثقافه بالاضطلاع بدورها في قيادة الحركة الفنية ما جعل هيمنة المؤسسة الدينية واضحاً ومؤثراً على الجو الثقافي عموماً».
ويؤكد غازي أنه بسبب هذا النكوص المؤسساتي ظهرت الكثير من الأعمال الخاصة بالسير الذاتية لرجال الدين أو بعض من الرموز الدينية كما أن المسرح في العراقي انقاد لليومي من الأحداث، وكأن المسرح عبارة عن نشرة يومية للأخبار، وليس معطى جمالياً بحتاً ومجرداً.. كذلك وقع المسرح العراقي في فخ اللهجة العامية، متناسياً أن ما يحدث في الشارع أهم وأبلغ من ما يقدم على الخشبة، فضلاً عن وسائل الاتصال الاجتماعي التي شكلت تحدياً هائلاً على المسرح… لذلك، فالعاملون في المسرح يواجهون تحدياً أمام هذه المتغيرات التكنولوجيه، وهناك مشكلة أخرى لا يعيها المخرج الشاب في أن المسرح فن جماعي يتشكل من خلال مجموعه من الخبرات في مجال التأليف والسينوغرافيا والإخراح ولا يمكن أن يستهين المخرج من قدره المؤلف وأهمية وجود الدراماتورج، وأي استهانه بأحد من هذه المفاصل يسقط المسرح في هاوية التسطيح فالمسرح العراقي ذو تاريخ عريق واقترن بمخرجين وكتاب أفذاذ، ولا يمكن أن نتنازل عن شروط الجودة من وجود نص جيد ومخرج ذو عقلية متقدمة أسوة بالذي سبقوه من رواد المسرح العراقي، كما أن على المسرح العراقي أن يستعيد الصداره من جديد بعد هذه الإخفاقات التي أبعدته المسرح عن صدارته للمسارح العربيه الأخرى.
مدن معزولة
يوضح الاستاذ الجامعي جبار خماط أن «الحرب والإرهاب والتاريخ الديني في مرحلة ما بعد 2003 تشكل مقاربة مسرحية تمثل بنية العرض المسرحي التي يتحقق أثرها الجمالي والفكري والنفسي بوساطة الشراكة المسرحية ما بين الجمهور والعرض المسرحي. كما أن ما يطرح على خشبة المسرح في حدود المدن العراقية من يوميات تتناول السياسي أو الديني أو مظاهر الإرهاب من دون تحويلها إلى خبرة جديدة في وعي الجمهور، يعد ترسيخاً للسلبي في حياتنا اليومية، وهو ما يناقض وظيفة المسرح الأساسية من تنوير للوعي وتقديم روية مسرحية تتسم بالجدة والتنوع لما هو مألوف من الأفكار، وتطهير للنفس من المشاعر المؤلمة التي أسفر عنها الإرهاب والعنف الطائفي، ومن هنا، ما نجده من عروض مسرحية تعد تدعيماً لليومي الخشن وانعكاساته في وعي الناس. وهو ما يناقض وظيفة المسرح في تحويل السلبي إلى إيجابي بمنطق المعالجة المسرحية. لذا تبرز تساؤلات حول جدوى استثمار الوقائع اليومية أو الشخصيات الدينية مسرحياً؟ هل نحن معها أم ضدها؟ وهل ما قدمه المسرحيون كان ناجحاً في التعبير عن الاحتجاج أو الرفض أم كانت العروض المسرحية تدعيماً للحالة السلبية التي يمر بها العراق؟
بعد هذه التساؤلات يجيب خماط أن ما تحقق مسرحياً، يعد إرباكاً في المفاهيم العامة التي تشكل بمجموعها الإطار الفكري للعرض المسرحي، بإزاء ما يجري من متغيرات بنيوية شاملة في حدود جغرافية الوطن العراقي إذ إن خلاصة ما حصل بعد العام 2003، تتمثل في المدن المعزولة، والمفاهيم الطائفية التي أوجدت قطيعة بين أبناء البيت العراقي الواحد، وبروز سلوكيات جديدة تؤكد فكرة الوطن البديل والدليل تزايد نسب اللاجئين، مما يعني ضرورة تقديم عروض مسرحية مستقبلاً تتناول تلك الحالات تتسم بالمسؤولية الفنية من حيث الشكل المسرحي النوعي والمضمون العضوي الذي يتفاعل معه الجميع.
التفريغ المقدس
ووفق المخرج الشاب، مصطفى ستار الركابي، فإن الملتقى العراقي عموماً تربى على نوع معين من الإصغاء الإرادي، وهو الإصغاء داخل المساجد والحسينيات والمجالس العشائرية وغيرها من الأماكن التي يطغي عليها طابع التقديس بنوعيه الديني والاجتماعي.. ولم يكن المسرح العراقي مكاناً مقدساً يمكن أن يعامله المتلقي بالطريقة نفسها التي يتعامل فيها مع المنبر الحسيني أو غيره من مراكز البث التي تتطلب التفاعل بنفس طريقة المسرح، ولنفس السبب انقسم جمهور المسرح لنوعين، الأول تدفعه آيديولوجية معينة ليكون متلقي (مكلف) أثناء حركة الشيوعيين العراقيين واتخاذهم للمسرح كوسيلية إعلامية. والنوع الثاني كان ضيفاً ينظر للمسرح على أنه شيء ممتع ومضحك، وكلا النوعين بعيدان كل البعد عن فكرة المقدس والإيمان بالمسرح».
ويضيف الركابي أنه «في فترة ما بعد الحرب وفترة الحصار تحديداً، ونزوح المجتمع باتجاه المسجد بمباركة الكثير من الشخصيات الدينية، ومن ثمة السلطة بحملتها الإيمانية، لم يكن أمام المسرح سوى أن يسيرفي الاتجاه نفسه أو يكون فعلاً زائداً وبطراً وسط كل هذا الجوع واليأس الذي يعانيه المجتمع، فتراه أصبح يستخدم في أحيان كثيرة الآلية نفسها التي يتبعها المسجد في التخفيف عن الناس، وهي عملية التفريغ المقدس لكل الهموم التي يعانيها الفرد (المتلقي)، فالمسجد يعطي فرصة لكل واحد منهم أن يحصل على أجر مقابل ألمه عن طريق الإيمان والبكاء… وبالحالتين يخرج المتلقي بوضع نفسي أفضل مما كان عليه، فأصبح المسرح يعزف على الوتر نفسه بالعمل على شخصيات يقدسها المتلقي أو التحدث عن هموم تدفع المتلقي للبكاء، وبذلك يخلق المسرح لنفسه طقسية لم يكن يتمتع بها بنظر الكثير من الناس. وهذا الحال استمر بعد العام 2003، فبعد أن حصل المشتغلون في المسرح على طريق سهل يمكن أن يجر المتلقي نحو ما لا يمكن بأي حال من الأحوال التخلي عنه بسهولة، عدا بعض المحاولات (النخبوية) التي لا تخلو أبداً من تأثيرات المرحلة السابقة».
----------------------------------------
صفاء ذياب - القدس العربي
0 التعليقات:
إرسال تعليق