أراء في المسرح تأليف بيتر بروك / ترجمة وتقديم د. محمد سيف
مجلة الفنون المسرحية
رحلة سريعة في أروقة كتاب " الفضاء الخالي"
بقلم : د.محمد سيف
نستهل مقدمتنا بقول، "لمارتن آسلن": ( إن أي كتاب يؤلفه بيتر بروك وكل تجميع لنظرياته ووجهات نظره عن المسرح لا بد أن يكون حدثا مهما. و"المكان الخالي" كتاب رائع ومثير وذكي، وكيف لا يكون كذلك لا سيما وانه صادر عن ذهن حاد متوقد، وقد كتب أيضا بأسلوب جذاب جدا وبشكل يصلح للقراءة إلى ابعد حد.)[1]
إن "الفضاء الخالي" ضروري جدا ليس فقط بالنسبة لأولئك الذين يعبدون المسرح ويعشقونه وإنما هو أيضا ضروري لأولئك الذين لا يحبونه. انه ضروري ومهم أيضا للذين يعملون في حقل المسرح مثلما هو ضروري ومهم جدا أيضا لأولئك الذين يتفرجون عليه ويتتبعونه. إن هذا الكتاب يحتوي على الكثير من الاسئلة والأجوبة المفتوحة والمغلقة، التي تتعلق بالمتفرج، بالممثل، وبالمخرج، والتي بفضلها يستطيع المسرح، المكتوب وغير المكتوب، أن يعيش. إن العنوان الأصلي للكتاب هو "الفضاء الخالي The empty space؛ ولكن كان يمكن أن يطلق عليه اسم "الفضاء الذي يجب أن يُملأ ". فبالنسبة لبيتر بروك، إن المكان المثالي الذي يمكن أن يحقق تواصلاٌ حقيقياٌ، مازال لم يُعثر عليه.
ولد بيتر بروك في لندن عام 1925 . وتعلم في مدرسة كرشام في (ويستمنستر) وفي كلية (ماجدلين) في اكسفورد. ولقد ولد مسرحيا وفنيا سنة 1946، عندما بدا يقدم للمسرح والسينما أعمالا تلو أعمال، يمكن أن نذكر منها: الكوخ الصغير، بيت الزهور، الزيارة، يرما الرقيقة، الديك المقاتل، مارا-صاد، أوبرا فاوست، كارمن، المهابارتا، مؤتمر العصافير، الملك لير، حلم ليلة صيف، العاصفة، وأعمالاً أخرى لشكسبير حيث اخرج لهذا المؤلف لوحده ما يقارب العشر مسرحيات. عدا أعماله السينمائية: سيد الذباب، الملك لير، كارمن، مارا-صاد، الخ … . لقد كان اهتمام بروك منصبا منذ البداية على المسرح والسينما في آن واحد. ولعل هذا أهم ما يميز انشغالاته الدائمة في المجالين، ويفسر اندفاعاته المستمرة في البحث عن كل ما هو جديد. فهو يمقت التكرار، وكل ما هو ثابت غير متحرك، ويبتعد عن كل ما هو مؤكد، ويعتقد إن كل شئ يجب أن يخضع للامتحان والتطبيق لكي يعاد اكتشافه من جديد. لهذا نراه منذ بداية حياته الفنية وهو يرفض هيمنة النظريات والعقائد الجامدة، ويحاول قدر ما يستطيع أن لا يتقيد بأي اتجاه أو مذهب مسرحي سواء كان ذلك مسرحيا، سياسيا أو فيلسوفيا. ولقد وصل به التطرف حدَّ إن يتمرد على ما كتبه هو بنفسه في كتاب "الفضاء الخالي"،
إذ يقول في كتاب " الشيطان هو الضجر" الذي نقدم له الآن : ( لقد ذكرت في أول جملة دونتها في كتابي الفضاء الخالي :" يمكنني أن أتناول أي مكان خال، فأسميه مسرحا عاريا. وكل ما يقتضيه الفعل المسرحي هو أن يمشي شخص عبر تلك الفسحة في حين يراقبه شخص آخر"، إن هذا لم يعد كافيا اليوم، لقد تقادم عليه الزمن، لأننا نحتاج من اجل أن يكتمل الفعل المسرحي ويتفجر إلى شخص ثالث يراقب عملية المرور والمراقبة التي يشترك بها الشخص الاول والثاني الذي يقوم بفعل المراقبة.) انطلاقا من هذا المنطق المفتوح على التحول والتغير، يمكننا أن نفهم رفض وتمرد بروك المطلق لأي تخطيط أو أعداد مسبق للإخراج والتمثيل وباقي عناصر العرض. انه يعتبر المخرج الذي يأتي إلى التمارين المسرحية مع مخططات جاهزة، مخرجاً ميتاٌ خالياً من الحياة. فهو مع المخرج الذي يعمل على تنظيف حديقة الممثل من الأعشاب الميتة كي لا تقف هذه الأخيرة حجرة عثر في دربه؛ مع المخرج الذي يبحث عن العلاقة المباشرة والواضحة مع الممثل والجمهور؛ مع المخرج الذي يعمل على اكتشاف الفضاء المسرحي، مع الممثل لحظة التمرين، بل وحتى لحظة التقديم نفسها؛ مع المخرج الذي يعمل على تحرير الممثل من كل قيود، ومن كل كليشهات النظرية الجاهزة. إن مسرح بروك، ليس بمسرح نخبوي، انه يتأسس أولا وقبل كل شئ، على العلاقة الجدلية بين المخرج والممثل والجمهور، على العكس تماما من صاحب نظرية المسرح الفقير"كروتوفسكي" الذي يحبه بروك ويحترمه خير احترام ولكن مع ذلك، هذا لا يمنعه من الاختلاف معه، لان هذا الأخير يعتمد على النوعية ويقوم مسرحه على أساس العلاقة بين المخرج والممثل فقط متجاوزا المتفرج، ذلك السيد الجليل الذي لولاه لما اكتمل أو يكتمل الحفل ولما تفجر الفعل المسرحي. إن المسرح، إذا ما افتقر إلى الجمهور يصبح مفتقرا لوجوده، فالجمهور هو التحدي وبدونه تبقى الصورة كاذبة. أليس كذلك كما يقول بروك؟
التقسيمات الأربعة للمسرح
في كتاب الفضاء الخالي الذي يعتبر في نظرنا أهم كتب بروك وأغناها. تحدث بروك عن أربعة اتجاهات في المسرح وأعطى لكلمة المسرح أربعة معانٍ مختلفة: المسرح المميت، المسرح المقدس، المسرح الخشن، والمسرح المباشر. ويقول في هذا الصدد: ( قد تقف هذه الأنواع الأربعة جنبا إلى جنب في بعض الأحيان سواء في "الويست اند West End ، في لندن، أو ساحة التايمز، في نيويورك. وقد يبتعد الواحد عن الآخر مئات الأميال. فنجد المسرح المقدس في وارشو والمسرح الخشن في براغ. وقد يحدث أحيانا أن نستعمل هذه الأنواع الأربعة استعمالات مستعارة وقد يظهر نوعان منهما في أمسية واحدة وفي مشهد واحد، وقد تتزاوج الأنواع الأربعة في لحظة من اللحظات وفي كثير من الأحيان.)[2]
المسرح المميت
إن اسم هذا النوع من المسرح لوحده كاف لان يدل على اللاحياة، وتفوح منه رائحة الموت، فهو مسرح بلا غد، لا يلامس إلا جزء صغير من المجتمع، هذا الجزء الذي نعرف انه دائما يخطئ في تقييمه للأشياء التي، بموجبه، يجب أن تحترم … لكن المسرح المميت، يحيط الأعمال الكلاسيكية بهالة من الاحترام المزيف باسم الأشياء المكتوبة. لا ينفك بيتر بروك عن ترديد هذا المنطق الذي صار يصطدم في وقتنا الحاضر مع الكثير من الناس الذين يعتبرون المسرح الكلاسيكي هو أدب وثقافة قبل كل شئ وليس عرضاً مسرحياً حياً. ولقد سئل الناقد والمترجم "كي دومور Guy Dumur بيتر بروك، ذات يوم، عن رأيه بمسرح راسين، فأجاب: ( أنني لا أستطيع أن أحس واشعر بالقرب من راسين إلا ثقافيا) … وهذا الجواب ليس بالغريب أو المفاجئ، لان تاريخ المسرح بالنسبة "لبيتر بروك" يمر عبر ثلاث قمم: الإغريق، شكسبير، وتشخوف.
ولنرجع إلى المسرح المميت، ذلك المسرح الرديء، والفن غير النقي، الذي يمكن وصمه بأنه "مومس". لانه يشبه إلى حد كبير المومسات عندما يأخذن الثمن ويقضين اللذة لفترة قصيرة، أي إنه حتى المتعة فيه قاصرة، فاشلة، قائمة على منطق تجاري، البيع والشراء، وهذه العلاقة بحد ذاتها مجردة من العمق الحقيقي للتواصل. بحيث صار بإمكاننا أن نجد المسرح المميت اليوم، وبسهولة في الأوبرا الفخمة وفي الأعمال الكلاسيكية مثلما يمكن العثور عليه أيضا في مسرحيات كل من: موليير وبرشت وشكسبير، وليس هناك مرتع له اخصب من مسرحيات شكسبير تلك التي تمثل من قبل ممثلين محترفين، داخل ديكورات مدروسة، وأزياء فاخرة وموضوعات محلله، تصاحبها الموسيقى، ويبدو داخلها الممثلون، نشطين وممتلئين بالتنوع، ولكن مع ذلك، نقول لأنفسنا لحظة المشاهدة، بالسر والعلن، إن هذا مضجر، كل شئ متوفر فيه إلا الحياة، انه ممل ويبعث على الرتابة، لهذا يجب عدم الرفع من قيمته، لأننا عندما نرفع من قيمة شئ رديء فإنما نخدع بذلك أنفسنا.
يقول بيتر بروك أيضا، عندما نعثر على شكل مسرحي معين، فإن علينا أن لا نقوم بإنتاجه مرارا وتكرارا والى الأبد كما أننا لا نستطيع ذلك أصلا . ويعطي أمثلة على ذلك بحديثه عن عروض الكوميدي فرانسيز، الأوبرا الصينية، مسرح موسكو الفني، لتكرارهم لعروضهم في كل موسم لدرجة إنها ترهق السامعين والمشاهدين بكل ما هو مزيف وحقيقي على حد سواء، لان تكرار الانتاجات المسرحية القديمة بنفس جمودها وقالبها لا ينتج إلا الموت والضجر. إن بيتر بروك يعتقد إن فن المسرح فن زائل، وقتي، عابر: ( في المسرح فأن أي شكل جديد سيحمل مع ميلاده عناصر موته ولا بد من إعادة استيعاب كل الأشكال الجديدة والتي تحمل مضامينها الجديدة علامات تأثيرات المحيط.)
هل يسمح لنا هذا أن نقول بأن المسرح يجب أن يُفهم بأنه فن عابر وتافه إلى هذه الدرجة؟ بالنسبة لبيتر بروك، إن السرعة التي تجري بها التمارين وتقدم فيها العروض، لأسباب اقتصادية، هي أيضا خطرة وعاجزة أقصى حدود العجز مثلها في ذلك مثل البطء الذي يميز بعض الانتاجات الإخراجية الروسية التي تسئ استعمال الزمن فتقضي اشهرا طوالاً بل سنتين كاملتين احياناً في المناقشات والارتجال والدراسات الأرشيفية دون أن تعطي في النهاية نتائج افضل مما تعطيه تلك الفرق التي تتمرن ثلاثة أسابيع. ويذكر في هذا الصدد: ( لقد قابلت ممثلا تمرن على دور هاملت لمدة سبع سنوات ومع ذلك لم يقدمه لان المخرج توفى قبل أن ينهي التمرينات.) لهذا يجب أن يكون فن الإخراج مرناً بشكل كاف لكي يقبل أن تطرأ عليه تحولات وتغيرات دائما وبلا انقطاع. إن العرض المسرحي ليس هدفاً بحد ذاته: انه يجب أن يعثر لدى كل متفرج على صدىً خاص. إن إخراج مسرحية معينة يمكن أن يؤثر على المتفرج الإنكليزي في حين يترك الإخراج نفسه ولنفس المسرحية المتفرج الأمريكي في حالة من البرود والذهول. وهذا يعني إن القناعة التي كانت أمرا صائبا بنفس الإخراج لنفس المسرحية في إنكلترا لم تكن كذلك في الولايات المتحدة الأمريكية بحيث لم يعد لها معنى. إن كل ما يقوله لنا "بيتر بروك" عن الممثل- وخاصة في الجزء الأخير من الكتاب- يكاد أن يكون شيئا نادرا في المعيار الذي يتجاوز فيه وبفاعلية، جميع " المناهج" الأساسية المستعملة في مجال فن المسرح منذ بداية هذا القرن: مدرسة ستانسلافسكي، التي أخذها وطورها أستوديو الممثل، التغريب البرشتي، تنسك غروتوفسكي، وما حملته السينما والتلفزيون من ثمار، الخ … .
يقول "بيتر بروك":( في الحياة تبدو الفوارق بين ما هو حي وما هو ميت واضحة، غير إنها في حقلنا تختفي وراء الحجب). في فرنسا، مثلا، يوجد نوعان مميتان لتقديم المسرحيات الكلاسيكية، الاول: تقليدي يعتمد على كل ما هو خاص في السلوك، وتفخم بالصوت وفي النظرة والوقفة أو البوز. والثاني: غير تقليدي لكنه سلفي يقلد الإيماءات الملكية والقيم الإمبراطورية التي اختفت من الحياة اليومية. بالتأكيد إن هذا التقليد الأعمى الذي يضطلع فيه هذان النوعان من المسرح المميت لا يمت بصلة، لا من قريب ولا من بعيد، بما يفعله ممثل النو [3]No الياباني الذي يرث المعرفة المسرحية من أجداده. فهناك مدلول تستمر صلته بالماضي وأخر تنقطع صلته بالماضي. وممثل النو من النوع الذي تبقى صلته بالماضي مستمرة، لانه لا يقلد المعرفة المسرحية التي ورثها عن أجداده تقليدا أعمى وخارجياً مثلما فعل ذلك الممثل الشاب الذي شاهد، بيتر بروك في إحد تمرينات " الكوميدي فرانسيز: (وقف شاب أمام ممثل عجوز وراح يقلده صوتا وحركة بشكل متقن وكأنه صورة طبق الأصل منه وهنا يجب أن لا نخلط هذا الاتجاه مع ما يفعله ممثل النو.) ثم عكس التعبيرات التي كانت تستخدم في المسرحيات الكلاسيكية مثل : موسيقية، شاعرية، اكبر من الحياة، بطولية، تعظيم، ورومانسية، على المسرح هو بمثابة عكس وتجسيد وجهات نظر نقدية سلفية ظهرت في فترة زمنية تختلف عن هذه التي نعيشها، وان عملية بناء أي عمل مسرحي في الوقت الحاضر على تلك القواعد والطبخات الجاهزة، يعني القاء النفس في أحضان المسرح المميت الذي يجد ضالته في عامل الاستسلام، والخضوع لقواعد ونظريات بائتة أكل الدهر عليها وشرب.
إن المميت موجود كعنصر في كل مكان في الوضع الثقافي، في العمل الاقتصادي، في حياة الممثل، في الإخراج، في النص، في النقد، الخ … مثلما يوجد داخل المسرح المميت خفقات حياتية مقنعة إلى حد بعيد. لان المسرح المميت لا يعني المسرح الميت فعلا، وإنما هو مسرح فعال بشكل يبعث على الانقباض والغثيان، لهذا السبب بالذات، فأنه قابل للتغير ومواجهة الحقيقة البسيطة التي يدعوها العالم بأسره "المسرح" في كل زمان ومكان.
المسرح المقدس
ولكن كيف يمكن أن نموضع الاتصال؟ هل يتوجب علينا أن نبحث عنه في هذا المسرح الذي يطلق عليه بروك اسم "المسرح المقدس" أو غير المرئي؟ هل مازال موجودا حقا في حين يبدو لنا اليوم ( … إن مسرح الشك، مسرح القلق، مسرح الإعاقة، مسرح الضجة، أكثر صدقا من مسرح الهدف النبيل.) ؟ ذلك لأن العثور على المعنى المقدس لا يعني أبدا السقوط ثانية في هوة الأثريات ؟ لهذا فأن ما يتوجب على الممثل، هو أن يتمكن من إزالة الحركات المأخوذة، وبسيكولوجية الطابق السفلي، التي تعترض كل ما هو أساسي وجوهري.
إذن، يطلق بروك تسمية المسرح المقدس على هذا النوع من المسرح من باب الاختصار أو الإيجاز، لأن المسرح المقدس بالنسبة له هو ذلك المسرح غير المرئي الذي يصبح بفعل التجربة الفعالة والمكتشفات الجديدة وامتحان ما توصلنا إليه في السابق إلى مرئياً . إن عملية جعل غير المرئي مرئياً لا تختصر نفسها في حالة تمثال مغطى بقطعة قماش وبمجرد ما نزيلها عنه نكشف عن لا مرئيته، وبهذه الطريقة نكون قد حققنا ما نصبو إليه من مسرح مقدس. إن الأمر ليس بهذا التصور تماما ولا بهذه البساطة الساذجة، لأن تقديم ما هو مقدس لا يعني الكشف عن ما هو محجوب أو مخفي في الظاهر فحسب وإنما في عملية تقدم الظروف التي تجعل استيعاب كل ما هو غير مرئي أمرا ممكنا للمتفرج. يقترح بيتر بروك أمثلة على بعض التمارين السهلة جدا التي تمنح النص، والحالة المسرحية معناهما العميق. مشيرا بشكل خاص، إلى مسرح البايوميكانيك[4] Theatre biomicanique لمايرهولد الذي قدم مشاهد الغرام على الأراجيح- في عرض من العروض لمسرحية هاملت بحيث جعل هاملت يرمي بحبيبته أو فيليا قريبا من المشاهدين وتأرجح هو بحبل فوق رؤوسهم- ولقد تذكر بيتر بروك فعل التأرجح هذا في إخراجه الجميل لمسرحية (حلم ليلة صيف).
إن المسرح غير المرئي هو مسرح اللامعقول ومسرح الوحشية معا، وهو بموجب أرتو الذي يعتبر الحركة المسرحية "إشارة نقوم من خلالها بصنع اللهب/ الشعلة" هو دائما "مسرح القسوة". وربما الذي يقترب أكثر من المســــرح المقدس، هو "الواقعة Le happening "[5]، التي بدأت موجتها في الولايات المتحدة الأمريكية. هذه الواقعة التي تنبثق، مبدئيا، بشكل تلقائي، ويمكن أن تقع في أي زمان ومكان، لا يحدها الوقت بحدود، يمكن أن تستغرق أي وقت، ويمكن أن تختصر نفسها بدقائق محدودة، وباختصار مفيد، ليس هناك متطلبات محددة لحدوثها. مثلما ليس هناك ممنوعات، يجوز فيها كل شيء جائز، بضربة واحدة أو بانفجار واحد يمكن أن تتهدم الكثير من الصيغ البالية، مثلما تستطيع فيها أن تلتقي ماكنة للخياطة ومظلة مطرية حول طاولة للنقاش وتتحاوران لكي تؤثرا في استجابات المتفرج فيستثار فجأة ويصبح أكثر انفتاحا، وأكثر يقظة وأكثر تحفزا لأنها تجعله أكثر قدرة على تحمل المسؤولية التي يشترك فيها الممثل والمشاهد. ولكن هذه "اليقظة" التي يتمناها البوذي أيضا، هل هي كافية لتحقيق ما نحتاجه ؟ وجواب بيتر بروك (لا) بالطبع. لأن الواقعة تؤمن، وبسذاجة، بأن الصرخة التي تطلق بكلمة (استيقظوا) تكفي، وإن الدعوة التي يعبر عنها بكلمة (عيشوا) تمنح الحياة. إن ما نحتاجه في الحقيقة، أكثر بكثير من ذلك ولكن ما هو على وجه التحديد ؟ لكي نقف على حقيقة الأشياء، لا بد من البحث في جهة تكوينية و إعدادية أكثر تعقيدا. يجب البحث في : باليهات ميرس كيننغ هامMerce Cunningham [6]، حيث التدريبات العالية، والانضباط الصارم ليكون راقصوه أكثر إدراكا للتيارات الجديدة التي تتدفق داخل الحركة، وتبحث في مسرحيات صموئيل بيكت السوداء التي على سوادها فيها ضوء؛ وفي عروض جيرزي غروتوفسكي "ذلك المنظّر الحالم الذي يسعى لتحقيق هدف مقدس من خلال المسرح." إن الصمت لدى راقصي ميرس كيننغ هام الذي يحتوي فوضى أو نظاماً، تنسيقاً أو تخبطاً، يسكت الجميع ويتحول فيه المخفي إلى غير مخفي، ورموز صموئيل بيكت الصادقة، ومفهوم القدسية النقية لدى ممثلي غروتوفسكي[7]، تحرض وبشكل مستمر على التأليه والتسخيف في آن واحد. وتعتبر مسارح هؤلاء الثلاثة مسارح نخبة من ناحية ظروفها، وشروطها، لهذا نادرا ما تمتلئ صالة عروضهم بالمتفرجين. فغروتوفسكي مثلا، يقوم باختيار جمهوره بنفسه، ولا يزيد عدد متفرجيه على الثلاثين فرداً، لأنه مقتنع بان المشاكل التي تواجهه وتواجه الممثل عظيمة جدا بحيث لا يمكن معها استقبال جمهور واسع وآلا أدى ذلك إلى إرباك العمل.
إذا كان قد انتهى الفصل المكرس عن المسرح غير المرئي في الاستدعاء الجميل " للفودو[8] Voodo" الهاييتي، فأننا نشعر مع ذلك بأن بحث "بيتر بروك" عن المقدس عميق جدا بشكل غير متناهٍ، فالأمثلة التي استعملها مثل: الواقعة، ارتو، كيننغ هام، بيكت، غروتوفسكي، والمسرح الحي، بالنسبة له بمثابة مراحل لا اكثر ولا اقل، بحيث نشعر، أن المشروع، الذي سيصالح به بروك، بين الأرض والسماء، بين المشاهد والممثل وبدقة وتفصيل اكبر، بيننا وبين أنفسنا، واسع وكبير جدا.
المسرح الخشن
وهكذا ننتقل من المسرح اللامرئي، الذي يحدث في وقتنا الحاضر من خلال السخرية واللامعقول إلى المسرح الخشن الذي يتأسس على القذارات: ولا يقع بالضرورة داخل مسرح، وإنما داخل العربات، والناقلات أو على المنصات الخشبية. إن (القذارة والوحشية ظاهرتان طبيعيتان، مثلما يقول "بيتر بروك"، والغرابة عمل مفرح). بماذا يحلم بيتر بروك على وجه التحديد؟ انه يحلم بمسرح شعبي حقيقي، يقف ضد التسلط، ضد التقليد والفخفخة وضد التظاهر، وبكل تأكيد، انه يحلم، بالسيرك، والبهلوانية. ولكنه يحلم أيضا " بقصة الحي الغربي West side Story" ومسرحية " الملك ابو" للفريد جاري. انه يحلم أيضا بمسرح رافض، والذي يحتذي به كنموذج أدبي هو مسرح برشت- شرط أن لا يُجَمَدَّ بالمقابل من قبل أحد تلاميذه المخلصين جدا الذين يتتبعونه حرفيا. لقد صار مثال "جون ليتلورد" يتصاعد في هذه السنوات الأخيرة التي من خلاله تقوم هذه الكاتبة الفرنسية، بنقد لاذع لحرب عام 1914 عندما تقول في إحدى مقاطع مسرحيتها ( آه .. كم الحرب كانت جميلة!). ولم تكتفِ الكاتبة بهذا، بل ألبست، الجنود، في هذا العمل، أزياء المهرجين، وبهذه الطريقة أهدتنا إمكانات " تغريبية" لا حدود لها، ويمكن أن نجد هذه الإمكانات التغريبية أيضا في مسرحية " الستائر" لجان جينيه، التي يكون فيها الفعل المسرحي عبارة عن صورة مشوشة للحرب و(تشكل تلك الصورة على المسطحات البيضاء الواسعة والعبارات العنيفة القصيرة والاناس المشوهين والدمى الكبيرة الحجم نصبا للاستعمار ونصبا للثورة.)، وكذلك مسرحية " السود" لجينيه أيضا التي تتخذ مغزاها الكامل عندما تكون هناك علاقة متبادلة بين المتفرج والممثل. وكذلك نجد امكانيات التغريب في واحد من اجمل عروض بيتر بروك المسرحية " مارا-صاد" لبيتر فايس، التي تدعم وبقوة بيان المسرح الخشن، حيث الارتجال يقبض بتلابيب اكبر مساحة من العرض.
في هذا الفصل من الكتاب يتحدث بروك أيضا عن العلاقة بين "برشت" و"كورد كريك"
الذي فصَّلَ الصورة الرمزية على المنظر المرسوم للغابة الكاملة، لاعتقاده بل لإيمانه بأن التفاصيل الكثيرة غير ضرورية وتستحوذ على اهتمامنا بلافائدة. في حين أن برشت لم يستخدم هذه الطريقة في التعامل مع المنظر المسرحي فحسب وإنما راح ويطبقها على "عمل الممثل أيضا عندما ينظر إليه من وجهة نظر المتفرج". إن برشت ألغى العاطفة المصطنعة وتطور الشخصية وتنامي المشاعر لإدراكه بأن عدم إلغائها سيؤدي إلى عدم وضوح المغزى الذي نريد أن نصل إليه. ولقد جاء برشت بفكرة بسيطة مفادها إن " الكامل" لا يعني بالضرورة أن يكون " شبيها بالحياة " و " الإحاطة بها من جميع الجهات"، وان على الممثل أن يفهم المسرحية وان يعرف ماذا تخدم لكي يفهم الهدف الحقيقي من وراء عرضها وتأليفها وعلاقتها بالعالم الخارجي المتغير. فالممثل الذي ينادي به "برشت" يجب أن يكون ممثلاً واعياً ومثقفاً ملماً بتفاصيل الحياة المسرحية والمخلوق الغريب الذي يمثله. ولقد تمكن برشت من تحقيق ذلك بعد إن اخترع اصطلاح " التغريب distanciation " الذي يهدف مثلما يقول بروك إلى " ثقب فقاعات التمثيل البلاغي" مستشهداً، بالتضاد الشابلني[9] بين العاطفة الرقيقة والكوارث التي تصيب الفرد فما هي إلا نوع من أنواع التغريب. ولكن هذا الفصل بالنسبة إلى بيتر بروك هو أيضا، مناسبة جيدة لطرح مسألة "الوهم المسرحي" الذي يمكن أن يولد حتى في مخازن الغلال، وخارج كل مراسيم اللياقة وكل احتفال، مع تعاقب الشعر والنثر وجميع الألوان والأشكال المختلفة للأحاسيس والأفكار والمشاعر التي لم يستطع أن يصورها لنا إلا قلة من المؤلفين. ونعتقد إن هنالك واحداً، هو الوحيد بالنسبة لبيتر بروك، على الأقل.
إنه يحلنا بكل تأكيد، إلى المثال الأكثر قوة، وهو شكسبير ومسرحه الذي يعتبر( النموذج الذي يضم العناصر البرشتية والعناصر البيكتيه معانٍ بل انه يذهب ابعد منها). إن مسرحية " الملك لير" ومسرحية " الكيل بالكيل" قد سمحتا لبيتر بروك أن يكشف عن الحضور الممكن لشكلين مسرحيين كان يبحث عنهما- المقدس والخشن-. وفي هذين الشكلين اللذين يجدان تعارضهما المستمر في الاستبطان والميتافيزيقا الموجودة في مسرح شكسبير، يعثر بروك من خلال التجربة والتطبيق على اختلافات يمكن إيجازها: في إن للمسرح المقدس قوة واحدة، أما المسرح الخشن فله قوى متعددة أخرى. وإذا وجد في المقدس حنين إلى المخفي من خلال تجسيد المرئي فأن في الخشن محاولة ديناميكية للوصول إلى مثل اعلى، وإذا ما خلق المقدس عالما تصبح فيه الصلاة والعبادة اكثر واقعية من التجشؤ، ففي المسرح الخشن يكون الأمر معكوسا إذ يصبح التجشؤ هو اكثر واقعية من الصلاة التي يمكن أن تتحول إلى كوميديا. ثم إن المسرح الخشن ( لا يمتلك طرازا ولا تقليدا ولا حدوداً غير انه عند التطبيق يمتلك الثلاثة.) نفهم مما جاء، إن ما بين المقدس والخشن يوجد عداء مخفي. لان الإنسان في المسرح الخشن الشعبي، ملتصق بالأرض ويمنع لوازمه من الطيران والتحليق، فهو يرفض الطيران كإمكانية والسماوات كمكان مناسب للتجول، في حين إن المقدس يهتم بالمخفي، ويحتوي على كل المحفزات الخفية للإنسان .. إن الاول ، يهتم بالأفعال الإنسانية لانه اكثر واقعية، ولأنه يسلم بالشرور والضحك، ويبدو وجوده بالحاضر افضل بكثير من المقدس في الماضي.
ويلقي بروك الضوء، في هذا الجزء من الكتاب، على بعض الأعمال الشكسبيرية التي قدمها، محللاً إياها وفقا لتداخلها وتعاقبها في المقدس والخشن، ومن هذه: مسرحية " الكيل بالكيل" التي لم يقرر الخبراء بعد فيما إذا كانت كوميدية أم لا، لعدم تمثيلها كثيرا. وهذا الأشكال بحد ذاته، جعلها من اكثر مسرحيات شكسبير بوحا، إذ تكشف في شكلها ومضمونها، عن نوعين من العناصر، عناصر المسرح المقدس وعناصر المسرح الخشن، ومسرحية "هنري الرابع" التي تكشف عن مزيج من القدسية والخشونة في جزءيها: في مشهد الحانة من خلال واقعية النثر وشعرية الأجزاء الأخرى، ومسرحية "حكاية الشتاء" المقسمة أحداثها بشكل طبيعي إلى ثلاثة أجزاء، ومسرحية "الملك لير" التي لا يمكننا أن نراها ممثلة كسرد حكائي، لأنها عبارة عن شعر ضخم ملتحم مصمم لدراسة حزمة من العلاقات الإنسانية المتداخلة التي تتعاقب وتتعاكس بشكل موشوري مثل حزمة لونية، ومسرحية" العاصفة" التي يختلف أمرها عن باقي أعمال شكسبير، فهي من بدايتها حتى نهايتها تتحرك عبر مواطن روحية، وفيها يمكن أن نعثر على الأسلوب القدسي، الكوميدي، والخشن بكيفية ميتافيزيقية. ونستشف من جملة وتفاصيل هذه الشروحات التي يقدمها لنا بروك في هذا الفصل إن المسرح المقدس والخشن يتغذيان بشكل تلقائي ويوجدان في مناخات طبيعية ممتزجة ومتداخلة ببعضها البعض. إن المصدر الأول والأخير لهذه الحيوية الممتزجة بالطبيعية هو شكسبير الذي بفضله بإمكان الإنكليزي اليوم أن يفتخر بأصله. وفي هذا، تجذر تاريخي، وثقافي، يقود إلى العالمية التي لا يمتلكها أي بلد من البلدان الأخرى. موليير نفسه الذي ادهش أوربا كثيرا، لارتباطه " بالتطور" اللغوي، وبمستوى من تجريد اللغة الفرنسية، هو الوحيد الذي استطاع أن يبلغ هذه المنزلة بفضل دكتاتورية اللغة، خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر. إن شكسبير يختصر في كتاباته القرون الوسطى وعصر النهضة، أي نهاية العالم وبدايته من جديد. إن الطريق الذي قطعه شكسبير، من التراجيديات التاريخية حتى العالم الجديد الذي ينادي به "بروسبيرو"[10] في مسرحية العاصفة، طريق واسع جدا ممتلئ بالتجارب لدرجة انه يستطيع أن يجيب على الكثير من الاسئلة المستترة والمستعصية على العصر الحاضر المليء بالأزمات والعقد. نذكر هذا، من دون أن نتكلم عن الأشكال المسرحية التي اعتمدها، والحرية الكبيرة التي منحها إلى الممثل، المخرج، ومصمم الديكور، في تجديد وابتكار الحياة انطلاقا من نصوصه التي تشع من كل الجهات.
المسرح المباشر
يظل المسرح كمكان ليس كباقي الأمكنة الأخرى، انه يشبه إلى حد كبير المكبرة التي تكبر الصورة، ولكنه أيضا مثل العدسة البصرية التي تصغره, انه عالم صغير، ومهدد بأن يتقلص حجمه اكثر فاكثر. انه يختلف عن الحياة اليومية، لذلك هو مهدد دائما بالانفصال عنها. بهذه الطريقة تقريبا يبدأ الفصل الرابع والأخير من الكتاب. يبدأ بالحديث عن حياة المسرح، وعن الحياة في المسرح، وهذا المجتمع الصغير، المعزول في وسط عزل كبير وعام، ولكن كيف السبيل لان نجعله اليوم يعيش ؟ التجارة حله الوحيد: المال، النجاح وبأي ثمن … ليس من المؤكد والثابت،إن قانون البيع والشراء هذا، وهذا التبادل الحر في الفن يستطيع أن يبقى ثانية. إن برودوي، والبوليفار الباريسي، واللندني، يرى كل يوم هواء نشاطه وهو يتقلص. إن عبادة النجم مازالت باقية، ولكن دون مقارنة مع الوضع الذي كانت عليه قبل الحرب العالمية الثانية. نجوم السينما أنفسهم، عندما يمثلون في المسرح، لا يجدون بالضرورة الجمهور، الذي يفضل صالة السينما المعتمة على صالة المسرح الإيطالي، لان صالات المسارح، وبكل بساطة، مهجورة وغير مريحة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن جمهور السينما ليس بالضرورة هو نفسه جمهور المسرح حتى وإن كان الممثل نفس النجم أو النجمة. ولهذا السبب تبنى سينمات كثيرة ولا تبني مسارح … ثم بماذا تنفع المسارح التي تبنى على وجه التحديد؟ وتنفع من بالضبط ؟ لا أحد، وخاصة بيتر بروك، فهو غير متفق مع شكل الصالات التي تبنى في العادة. ولأجل التستر على أزمة الاستهلاك المسرحي هذا، اخترعنا نظام مسرح المساعدات المالية هذا، وهو معمول به في فرنسا اكثر مما في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي ألمانيا أقل بقليل. لقد اخترعنا " المراكز الدرامية " و" بيوت الثقافة "، حيث يمكن لبعض الفرق المسرحية أن تستمر، ضمن برنامج مسرحي، مثل، الكوميدي فرانسيز، مع نصابه الخاص جدا والوحيد من نوعه، ومثل المسرح الوطني، في لندن، وبعض الأشخاص، والمنشطين أو المخرجين، الذين تعطيهم الحكومة أو البلديات بشكل مباشر ما يمكن أن يساعدهم على التعبير. وهذا بحد ذاته عمل رائع وقد أعطى نتائج عظيمة، فبفضل هذا النظام استطاع رجال مثل: جورج شتيلار، بيتر ستين، روجيه بلانشون، باتريك شيرو،بيتر هول، غروتوفسكي، أن يضيفوا فصلاً جديدا إلى تاريخ المسرح، الذي لولاهم لبقى جامدا بمكانه، في نقطة موته.
ولكن لنرجع إلى موضوعنا ونطرح السؤال التالي: ما هو المسرح ؟ وما هو هذا "الفضاء الخالي" الذي يجب ملؤه ؟ والجواب، هو أن هذا الشيء الذي نتساءل عنه باستمرار، والذي لا يكفّ عن تصديع رؤوسنا بالبحث والتدقيق، شئ لا يستطيع الإنسان العادي ( أن يجده في الشارع، ولا في البيت، ولا في الخمارة، ولا مع الأصدقاء، ولا على أريكة الطبيب النفساني، ولا في الكنيسة، ولا في السينما.) إن المسرح فن يؤكد نفسه " في الحاضر" وهذا ما يجعله مقلقا. فالمسرح هو (الرقعة التي تقع فيها المجابهة الحياتية، إذ يخلق اجتماع مجموعة كبيرة من الناس في مكان واحد قوة كبيرة، وهي القوة التي في الحياة اليومية لكل فرد والتي يمكن فرزها واستيعابها بوضوح.) إذن هل يتوجب أيضا، من اجل أن توجد هذه المجابهة، أن تكون التظاهرة المسرحية ملكا لرغبة مؤلف، مخرج أو ممثل؟ يجب أن تتجمع حزمة من القوى والرغبات التي تتلاقى، وتتقاطع في الانفعال الجمعي ويقظة المشاعر، إن أمكن.
ولأجل بلوغ هذا الهدف، يجب أن يبقى التحضير للعرض " مفتوحا". فالمصمم هو من يطور عمله مع عمل المخرج خطوة خطوة، من دون أن يفرض على المخرج رؤية تشكيلية معينة، وان يكون قادرا على أن يعود حيث بدأ إذا اقتضى الأمر، فيجري التعديلات والتبديلات لكي تتبلور فكرته وتأخذ شكلها النهائي. إن الديكور والأزياء يجب أن لا تضاف إلى الإخراج وإنما تصاحبه، وان تعطيه معن مباشرا يمكن إدراكه حسيا وعقليا.
إن اختيار الممثل يجب أن يكون هو أيضا "مفتوحا". فبيتر بروك، لا يعتقد أن بإمكاننا أن نعرف مقدما فيما إذا كان هذا الممثل أو ذاك يليق بهذا الدور أو ذاك: أثناء التمارين نكتشفه، وهذا يخضع أيضا، لعلاقته بباقي الممثلين. فالممثل قبل أن يكون شخصية مسرحية هو رجل أو امرأة، وحينما يريد أن يدنو من نص مسرحي، لا يدنو منه فقط بما يمتلك من مقومات مهنته أو بإيمانه بفنه، وإنما مع توتراته الشخصية، مع مشاكله التي يمكن أن تكون عوائق كثيرة مثلما يمكن أن تكون عوامل مساعدة. في مقابل هذا المجتمع الصغير المعرض دائما للاختفاء، على المخرج أن يكشف شكوكه للممثلين وبالمقابل يجب أن تكون لديه الواسطة لوضع حد لتك الشكوك. فالمخرج موجود، مثلما يقول بروك: ( لغرض الهجوم والتراجع والاستسلام والتحريض والانسحاب حتى تتدفق المادة الدرامية بحرية.) والتمرين ثم التمرين ثم التمرين قد وجد لغرض تسهيل مهمة هذه الحرية النهائية التي ينتظرها فريق العمل بأجمعه. يمكن مقارنة عمل الممثل بعمل الموسيقي الذي يشتغل على آلته، ولكن الفرق ما بين الاثنين هو أن الممثل يستخدم مادة نفسه، تلك المادة المنكودة المتغيرة والغامضة أيضا … ونقرأ في هذا الصدد الوصف الجميل الذي يعطيه بيتر بروك إلى تمثيل " بول سكوفيلد"[11]:(انه آلة من لحم ودم، آلة تفتح نفسها على المجهول.) عند سماع الكلمات التي ينطقها وتردداتها الداخلية، نفهم جيدا أن ممثلاً كبيراً مثل بول سكوفيلد يبتدع كل مساء من مساءات العرض شخصية …
ولكن الآخرون ؟ كيف السبيل إلى تحريرهم من المسرح الجامد ؟ وهنا ربما، يتوجب علينا أن نتبع تعاليم وخطى بيتر بروك. آن نتبع التمارين التحضيرية التي ضمنها بروك في كتبه،-وبالذات كتابيه: "الفضاء الخالي" و"الضجر هو الشيطان"- والتي كان الغرض منها يشبه إلى حد كبير غرض الارتجال خلال عملية تدريب الممثل، والتطبيقات العملية التي تعني في كل الأحوال: الابتعاد قدر ما يمكن عن المسرح المميت.
أولا وقبل كل شئ، يجب تخليص الممثل من العادات المكتسبة. وبالمعنى الدقيق والواضح: يجب تحريره. السماح له بالوصول إلى فهم النص والحالة المسرحية من خلال ذكرياته وصراعاته الخاصة.
قال "كوردن كريك" فيما مضى، إن على الممثل أن يكون " super-marionnette "، وغروتوفسكي ينادي اليوم، بضرورة أن يكون الممثل قديسا. في حين إن "بيتر بروك" يضع عمل الممثل في مستوى اكثر إنسانية من غيره، بشرط انه بالمقابل يجب على رجال المسرح- سواء كانوا مؤلفين، مخرجين أو ممثلين- أن يعرفوا انهم في مركز صراع ما بينهم وما بين هذا الذي يتجاوزهم أو هذا الذي لا يعرفونه.
فالمسرح مثلما يقول بروك" لعب في القوى". و"الفضاء الخالي" أو " الفضاء الذي يجب ملئؤه" هو حقل للتجارب، مكان للصراع والجدل. إن المرور من الذاتية – في حياة كل شخص بما فيهم المتفرج- إلى الموضوعية في المشاعر تفرض نوعاً من الإبداع والخلق الجمعي الحقيقي حيث لا يمكن أن يحتل لا المؤلف ولا المخرج مكانة متميزة، أو يشغل مكان الصدارة.
وفي مثل هذه الحالة، يصبح المسرح " طريقة في الحياة". إذن، لمّ التعجب والاندهاش من ذهاب "بيتر بروك" بعيدا، شيئا فشيئا في تشدده نحو فنه ؟ أليس هو نفسه الذي ترك إنكلترا لكي يستقر في باريس. ولقد فعل ذلك، لا لأجل أن يستمر في عمله كمخرج ويقدم بعض المسرحيات اللامعة، وإنما من اجل البحث مع مجموعة من الممثلين القادمين من زوايا العالم الأربع،عن أسرار الفن التي يعتقد، ولديه الحق في ذلك، إنها ضاعت.
الهوامش
[1]- مارتن اسلن، مقدمة كتاب الفضاء الخالي، تأليف بيتر بروك، ترجمة سامي عبد الحميد، مطبعة جامعة بغداد، 1983.
2- الفضاء الخالي، بيتر بروك، دار نشر Seuil ، 1977، صفحة 25.
3- النو No : مسرح ياباني، يحتوي على: الحركات الميم وليس البانتوميم ولكن هذا لا يمنع إن وجد أن يتخلل عروضه، الغناء والرقص، وتصاحبه جوقة وبعض الآلات الموسيقية. ولق عرف هذا النوع من المسرح في القرن الرابع عشر XIV بفضل جهود الممثلين والمعلمين كانت. آمي Kan.ami و زي مي Zeami اليابانيين اللذين لازال حتى يومنا هذا يعملان في حقله.
4- البايوميكانيك: نظرية مسرحية وضعها الممثل والمخرج الروسي فيزفولد ما يرهولد 1874-1904) ) لتدريب جسم الممثل.
5- Le happeninghالواقعة: عمل تمثيلي أمريكي الأصل يتطلب اشتراك الجمهور فعليا في التمثيل، وتكون الغاية منه إثارة أحداث تؤدي إلى خلق اثر فني مرتجل.
[1]-ميرس كيننغ هام Merce Cunningham: راقص ومصمم بالية أمريكي معاصر.
6-غروتوفسكي jerzy Grotowiski : مخرج مسرحي بولندي معاصر نادى بنظرية المسرح الفقير التي أسسها على أساس الرجوع إلى جوهر المسرح، إلى اصل نشوئه حيث لم يكن العنصر الأساسي فيه إلا الممثل.
7- الفودو Voodo: ديانة يعتنقها في العادة أهالي جزر هاييتي.
8- الشابلني: نسبة إلى الممثل العملاق شارلي شابلن
9-بروسبيرو: شخصية من شخصيات مسرحية العاصفة، آخر مسرحيات شكسبير المسرحية.
10- بول سكوفيلد: ممثل إنكليزي متقدم حاز على شهرة واسعة في السينما أو المسرح عام 1960 .
بقلم: محمد سيف
02/02/2000/باريس
مقدمة
التقى "بيتر بروك " بتاريخ 9 و10 آذار، في مشغل شودرون Chaudron المسرحي الواقع في الكرتوشغي Cartoucherie بمنطقة فنسن Vincennes، مع معلمين وفنانين مسؤولين عن دروس "المسرح والتعبير الدرامي" للمرحلة الإعدادية في العديد من الثانويات الفرنسية.
أن الهدف من هذا اللقاء الذي نظم من قبل إدارة المسرح والعروض في وزارة الثقافة هو إلقاء نظرة تأملية حول كتاب "الفضاء الخالي" الصادر عن "دار نشرSeuil "، المسجل في البرنامج الدراسي للبكالوريا.
كيف نعيد كتابياً هذا الدرس المسرحي لبتر بروك، بمحافظتنا على غياب الدُغماتيّة والابتهاج بفكرة مازالت تعيش حركة مستمرة ؟ لقد حاولنا، وبكل بساطة، أن نحافظ على طابعها الحيوي- الاندفاع الحيوي- باحترامنا تسلسل وإيقاع هذا اللقاء، وترقيم التمارين الصغيرة، وأسئلة المشتركين وبعض الاستراحات. بهذه الذهنية تتنزه هذه الكتابة في الفضاء المسرحي محافظة على تلقائية التبادل.
اليوم الأول
بيتر بروك
لقد اكتشفت من خلال التجربة التي مررت بها، إلى أي مدى هي مهمة العلاقة التي نعيشها في هذه اللحظة، ما بين شخص يتحدث ومجموعة تستمع. في أحد الايام، عندما كنت القي محاضرة، في إحدى الجامعات الإنكليزية، تدور حول كتابي "الفضاء الخالي"، وجدت نفسي واقفاً على منصة أمام صالة مليئة بالظلام. أحسست عندما بدأت بالكلام بأن كل ما أتفوه به من كلمات كان خارجاً من فمي دون فائدة تذكر. مثلما، نتكلم هنالك دائما آذان تصغي، كنت أنا مكتئباً وحزيناً اكثر فأكثر! لم استطع أن أجد طريقي إلى اللغة، إلى الصورة، إلى الكيفية الطبيعية التي من خلالها يمكن تمرير بعض الأشياء. لقد رأيت أمامي أناس مثلما لو كانوا في مدرسة، في جامعة، حيث الصرامة المبالغ فيها، جالسين أمام شخص، يجد نفسه بطلا لأنه كان واقفاً أو جالساً على منبر مرتفع أمام أشخاص مسالمين، بائسين، ضجرين من غير أن يعلموا، ومع ذلك فهم منصتون.
لحسن الحظ، كانت لدي الشجاعة لان اطلب منهم أن نتوقف وان نبحث لنا عن صالة أخرى. ذهب الجميع يبحثون عن صالة أخرى في جميع أنحاء الجامعة حتى عثروا في نهاية المطاف على صالة صغيرة، ضيقة، غير مريحة مقارنة بالصالة الأولى، ولكننا عثرنا فيها على علاقة قوية، منشرحة. وعندما أخذت بالكلام ثانية في هذا المكان، وجدت نفسي قد تغيرت تماماً. هذا التحول الذي طرأ عليّ فجأة لم اكن أنا مصدره، ولم يكن الفضل لي أنا فيه، وإنما لطبيعة العلاقة الجديدة التي نشأت بيني وبين الأشخاص الذين كانوا أمامي. وانطلاقا من هذه اللحظة لم يعد بالإمكان الحديث بطريقة افضل واحسن فحسب وإنما أيضا بنوع من التبادل. بحيث صارت الأسئلة والأجوبة تأتي بتلقائية اكثر فأكثر.
وهنا تعلمت واحداً من أهم الدروس حول الفضاء، والذي عمقته في تجاربنا التي حققناها ، بشكل متأخر، بفضل المركز العالمي للإبداع المسرحي، الذي تأسس في باريس عام1970 .
لقد بدأنا خلال السنوات الثلاث الأولى، القيام بتجاربنا خارج المسارح. لقد مثلنا اكثر من مائة مرة، مثلنا في كل مكان إلا في المباني المخصصة للمسرح: في المقاهي، في الصالات التي يجتمع فيها الجمهور أثناء الاستراحة، في الشوارع. مثلنا في إيران في الأماكن الخربة المتهدمة، في القرى والمدن الأفريقية، في الساحات العمومية في أمريكا، في البارات ... لقد تعلمنا أشياء كثيرة ولكن، كانت التجربة، في ذلك الوقت، بالنسبة للممثلين، بمثابة اكتشاف إذ شعروا باختلاف كبير وهم يشاهدون رؤوس المتفرجين أثناء تمثيلهم. ولقد كان قسم كبير من هؤلاء الممثلين يعملون في مسارح كلاسيكية كبيرة بالنسبة لهم، العمل على سبيل المثال في أفريقيا وعقد علاقة مباشرة مع الجمهور، وتقاسم المصدر الضوئي الوحيد معه، الذي هو الشمس، نوع من الصدمة الكبيرة. أتذكر جيدا ما قاله لي بروس مايرBrouce Myers: لقد قضيت عشرة أعوام من حياتي وأنا اعمل في مسرح محترف دون أن أرى رؤوس المتفرجين الذين من أجلهم أقوم بمثل هذا العمل، وفجأة ها أنذا أراهم. ولو قالوا لي ذلك قبل عام من هذا التاريخ لأصابني الهلع ولانتابني الإحساس بـأني عارٍ، ولتولد لدي الشعور بأنهم(أي الجمهور) قد جردوني من أهم أسلحتي الدفاعية التي تتمثل بالتركيز على العمل، وعلى شركائي فوق الخشبة، ولقلت: أية فظاعة هي رؤية هؤلاء الناس، الجمهور). لقد أدرك فجأة، هذا الممثل المحترف عكس ما كان يعتقد، بأن رؤية الآخرين قد غيرَّت معنى التمثيل نفسه. ولكن ربما سنعود إلى هذه القضية فيما بعد. ولنبدأ بالأحرى من البداية.
ترجمة عنوان
أريد أن أقول لكم، أولا وقبل كل شئ، بأنكم لا تستطيعون أن تتصوروا مدى تأثريّ بتجمعكم هذا حول كتاب "الفضاء الخالي".
إن كل ما حاولت التعبير عنه، في هذا الكتاب يتضمنه عنوان الكتاب. وإذا أردنا أن نتفق جميعا على أسس الكتاب نفسه، فلا بد لنا أن نتفاهم على العنوان وإيحاءاته، بمعنى أخر، أن نتفق حول شئ نوعي يحدثه العنوان، ومن اجل تحقيق ومعرفة، نوعية بعض الأشياء التي يحدثها، يجب أولا أن يخلق فضاءاً خالياً يسمح لمظهر جديد أن يستمد حياته منه. ولو نظرنا إلى جميع مجالات العرض، لوجدنا إن كل ما يمس المضمون، المعنى، التعبير نفسه، الكلام، الموسيقى، الحركات، العلاقات، التأثير، الذكريات التي يمكن أن نحتفظ بها في داخلنا .. كل هذه الأشياء التي قمنا بتعددها لا يمكن أن يكون لها وجود ما لم توجد إمكانية التعبير الطريّ والجديد أيضا. غيرَّ، إن إمكانية الحصول على هذا التعبير الطريّ والجديد لا يمكن أن توجد ما لم يكن، أولا وقبل كل شئ، فضاء عارٍ، بكر، نقي، من اجل استقباله.
بعض الكلمات حول هذا العنوان ... لقد أعطيت قبل صدور هذا الكتاب بسنوات سلسلة من المحاضرات في جامعات عدة. وعندما قدمت الكتاب للطبع، اقترحت على الناشر العديد من العناوين المعقدة، لقد بقينا نتبادل الرسائل بهذا الخصوص لعدة شهور. وفي يوم من الايام الجميلة، أرسلت إليه ثانية مجموعة من العناوين المعقدة، الغريبة والرومانسية. ولقد تستلّمت منه كلمة صغيرة مؤدبة جدا- من طبيعة الناشرين الإنكليز انهم لا يتدخلون نهائيا- يقول لي فيها: لماذا لا تطلق على الكتاب العنوان الذي تحمله محاضراتك "الفضاء الخالي" ؟ اندهشت كثيرا لهذا الاقتراح، لأنني لم أفكر في ذلك نهائيا. ان هذا، بطريقة من الطرق يكشف لنا مرة ثانية عن الشيء نفسه، يعني، كيف وبأية سهولة، نحاول أن نزحم هذا الفضاء بأي شئ.
لقد نشرنا الكتاب بنسخته الإنكليزية بعنوان "الفضاء الخالي The Empty Space "، وحينما قررت دار نشرSeuil طبع ونشر الكتاب باللغة الفرنسية، ظهرت مشكلة الترجمة. لقد قدم لي الناشر مترجماً ظريفاً، متحمساً جدا، علمت من محاورتي الأولى معه، انه كان روائيا. ولقد كتب رواية ولكن دار نشر Seuil لم تنشرها، وبطريقة من الطرق، بدا لي، إن دار النشر، أسندت إليه ترجمة كتابي هذا ترضية ومواساة له لعدم نشرها لروايته. وعندما التقينا، أول ما علمته انه لا يتحدث ولا كلمة إنكليزية، "ولكن هذا لا يعني شيئاً"، مثلما يقول هو، "سنترجمه كلمة كلمة" ولقد سألته: " ولكن المسرح، هل تحب المسرح ؟ " كلا، ولم ادخله يوما في حياتي نهائيا، ولا افهم منه شيئاً … ولكن هذا عظيم، أن تغوص في مجال أو بحر لا تعرف العوم فيه، لا تعرف لا لغته ولا مرجعيته ومع ذلك تلقي نفسك في أمواجه .. إن هذا خارق وعجيب بحد ذاته!".
بعد ستة اشهر على هذا اللقاء، جاءني بترجمة للكتاب. قلت: إن هذا رائع، إن هذا السيد قد جاء خالٍ مثل فضاء، وهذا بحد ذاته "مذهل"! لقد كان سعيدا جدا لان يكون في مجال لا يعرف عنه أي شئ، لقد غير جميع الاطروحات التي يحتوي عليها الكتاب إلى مبادئ "دوغمات"، من خلال فروقات اللغة، غير إن كل المقترحات الإنكليزية الموجودة في الكتاب لها إيحاءاتها، وكل إيحاء من الإيحاءات يحتوي على قليل يناقضه أو يتعارض معه. لقد قام هذا السيد بهذا العمل بحرص شديد، أراد أن يكون مخلصا للكتاب ولمؤلفه، ولقد وجدت في كل جملة من الجمل المترجمة حقيقة مطلقة، حقيقة مؤكدة، خالية من أي احتمال غامض أو ملتبس.
الكلمة المتقنة
كانت هذه الترجمة التي قدمها السيد مستحيلة وذلك لان هدفي لم يكن عمل كتاب يعطي أنظمة عن المسرح أو حوله، بل على العكس انه وجد من اجل أن يخلق فضاءات خالية في كل مكان، حيثما استطاع القارئ نفسه أن يراجع بنفسه أحاسيسه وانطباعاته، أفكاره الخاصة، أن يجدد منظورا ته ورؤاه بطرحها للمناقشة، بتعريضها للمسائلة والتحقيق. إن هذا الأمر قد صار لنا بمثابة نوع من الدروس العظيمة، التي على أساسها يتوجب علينا أن نبحث عن مترجمين آخرين. ومع ذلك كنا دائما نصطدم بنفس المشكلة. إن الذين يجيدون اللغة الإنكليزية من بينكم يعرفون إلى أية درجة يصعب ترجمة هذا الكتاب إلى الفرنسية لأننا في الإنكليزية نبحث دائما عن كل ما يمكن أن يكون غامضاً أو ملتبساً اكثر من بحثنا عن ما هو ممكن. إن الكلمة المتقنة في اللغة الإنكليزية هي الكلمة غير المتقنة. غير إننا حينما نترجمها إلى لغة جميلة، واضحة، ونقية، وشفافة وصافية حيث الكلمة المتقنة التي تعبر عما نريد أن نقول، نجد أنفسنا دائما نواجه صعوبة كبيرة في اللغة الإنكليزية، نستطيع أن نسمح لأنفسنا باستعمال "أنصاف الكلمات"، بل قد نستعمل لغة عامية أو لغة اصطلاحية. أن الجملة المكتوبة تستطيع أن تنتهي بأسلوب كلامي من غير صعوبة. وهذا ما يمنحها بعض الخفة والسلاسة ويزيل تماما اللهجة الجازمة عن المقترحات. إن هذا مما يصعب جداً تحقيقه في الترجمة.
وهكذا، فقد قمنا بالعديد من المحاولات على الترجمة، ولقد وجدت من خلال ذلك تجربة شيقة وساحرة تخص المضمون. فقد قال لي أحد المترجمين: (لا تستطيع أن تقول في اللغة الفرنسية "الفضاء الخالي" وذلك لان الفضاء هو دائما خالي). وإن هذا سيكون له وقع مضحك؛ إن كلمة "فضاء" تعني "الشيء غير المزدحم". وإذا طفح أو ازدحم لم يعد فضاءا. إذن، يجب أن نطلق على كتابك عنوان "الفضاء"!)، ولقد أجبته: (بالتأكيد ولكن ليس هذا ما أريد أن أقوله تماما، وسيكون ذلك فظيعا، لو أخذت باقتراحك). فردّ عليّ: (إذن، تستطيع أن تسميه "الخالي) …
ومن كثرة الجدل في هذا الموضوع استطعت من جديد أن اعرف الجوهر نفسه الذي يختفي خلف مفهوم الفضاء الخالي: بحديثنا ونقاشنا في كل مرة، كنا بهذه الطريقة، نملأ من جديد هذا "الفضاء الخالي" الذي هو في الحقيقة ذو معنى استدلالي مباشر، واضح يفهمه العالم بأجمعه. ومن كثرة التحليل والتنقيب فيما وراء بعض النقاط ملحين في محاولتنا لان نكون عادلين في ترجمتنا ودقيقين في اختياراتنا للكلمة والجملة، بدأ المعنى يتبخر ويفقد نفسه. غير إن المعنى كان هنا، يستعرض نفسه بطريقة بسيطة جدا لا تحتاج إلى تعقيد وتنقيب وبحث وراء ما هو خفي ومستتر. على كل حال، قبلنا في نهاية المطاف بهذا العنوان "الفضاء الخالي". وهكذا، بقلبنا للصفحة، يطالعنا الفصل الاول من الكتاب " deadly theatre" الذي ترجم إلى اللغة الفرنسية "بالمسرح البرجوازي".
محزن، مزعج واخضر مُزرق
إن الفصل الأول من الكتاب له هدف بسيط، هو زعزعة بعض المفاهيم. يبدو لي، إن من المستحيل الذهاب بعيدا ما لم نَهزًّ جميع أنواع المفاهيم الشائعة؛ وما لم نضع، وبشكل صارم وقوي، كل ما في المسرح الخالي من الحياة، موضع مساءلة وامتحان. أن التبرير الوحيد للشكل المسرحي هو الحياة. ماذا سيكون عليه المسرح من غَيرْ الوثُوب الحيويَّ ؟ وهل يمكن أن يوجد المسرح من غير حياة ؟ الشواهد والبراهين تثبت، وللأسف الشديد، أن هذا النوع من المسرح موجود ومنتشر في كل مكان. كنت أريد أن امنح هذا النوع اسماً ليس عدوانياً وذلك لان الهدف من الكتابة هو خلق "مصلحة" بكل هدوء، اكثر مما هي عملية شَنِّ هجوم وحشي. في اللغة الإنكليزية، توجد كلمة محكية، منطوقة وهذه الكلمة ليست بالأدبية بشكل خاص. إنها كلمة "dead "، وهي كلمة مذمومة تُدين بعض الأشياء ولكن بتساهل.
لقد حاولنا في البداية، أن نترجمها بكلمة "مُحْتَضَر" "فانٍ" ولكن هذه الكلمة تجمع في ذات الوقت شيئين معاً، هذه الكلمة هي الموت " dead/mort" ولكنه موت حي، تقريبا، ليس تماماً، ولكن هكذا، ولكنه أيضا ليس هكذا تحديدا … وعلى كل حال، يجب القبول به ! وفي نهاية الأمر خرج الكتاب إلى السوق بترجمة رديئة وهي: "المسرح البرجوازي" بدلا من deadly/theatre . يجب أن أحذر هنا من أن كلمة "برجوازي" من الناحية النظرية يمكن أن تُسمع كصفة رمزية تستنطق بعض الحالات النفسية التي نستطيع فعليا، أن نصفها بالحزين، بالتبلد، بالثقل، بالمنقطع عن العالم، المُرَفّه بإفراط، بلا حيوية، فاتر، خامل، ناعس. ولكن في سنوات 1968-1970، حينما خرج الكتاب إلى النور أصبحت كلمة البرجوازي صفة سياسية بالمفهوم الضيق للكلمة.
لقد عثرنا منذ ذلك الحين على ترجمتين، بدتا لي اكثر تكيفا. الترجمة الأولى: لا يحتمل " insupportable ". في اللغة الفرنسية، يمكننا أن نقول عن الشيء، انه لا يحتمل، ولا يطاق وفي نفس الوقت، نتحمله ونطيقه! وهذا يشبه إلى حد كبير أو تقريبي كلمة إنكليزية، نشير من خلالها إلى الشيء ونقيضه، في ذات الوقت. في المسرح، على سبيل المثال، نستطيع أن نلتفت إلى الشخص الجالس بالقرب منا، وخاصة إذا كانت فتاة جميلة ونقول لها، إن هذا العرض "لا يحتمل"؛ وتجيبنا هي بنعم، انه لا يحتمل، ولكن مع ذلك نبقى في مكاننا ولا نغادر! أما الكلمة الأخرى فأنها تحتوي على النوعية معا، على الخفة والثقل في نفس الوقت، وهذه الكلمة هي " كئيب، محزن lugubre ". وعندما نسأل، كيف كان هذا العرض؟ يأتينا الجواب: "محزناً أو كئيباً" ولكن كلمة "محزن أو كئيب" هذه لا توحي لنا في نفس الوقت بأننا على استعداد لإحراق المسرح. واليوم نستطيع حتى القول إن "المسرح اخضر مزرق". وبما إن هذه الاحتمالات لم تأتِ على بال أحد، فأن المترجمين الثلاثة للكتاب اتفقوا على تسمية الفصل الاول " بالمسرح البرجوازي".
ضد المقدسات
لقد كان الهدف من الفصل الاول من الكتاب هو الوقوف ضد كل ما يسمح لقدسية مسرحنا أن تحاكم قدسية مسرح آخر، مثلما لو أن الحيوية ملك لهذا الفريق دون غيره.
في اللحظة التي كنت اكتب فيها كتاب "الفضاء الخالي"- واعتقد أن هذا لم يتغير- كان مدراء بعض المسارح الشعبية يعتقدون إن كل ما هو ذو طابع شعبي يمتلك الحيوية بشكل أوتوماتيكي، على العكس، تماما من "المسرح النخبوي" المحروم من الحيوية. وكل المسارح التي تقدم مسرحاً فكرياً، واقصد المسارح الصغيرة، التي تعتمد على نصوص صعبة، تشعر بتفوقها الفكري والذهني الذي يتناقض وبشكل قوي مع مسرح البوليفار المشرف على الموت والخالي من الحيوية. وبنفس الطريقة، هذا ما تفعله المسارح التي تعتمد في عروضها على النصوص الكبيرة، والنصوص الأدبية الراقية، زاعمةً وبشكل مطلق أن الأدب الراقي قادر على أن يبعث الهيجان والغليان في صفوف المجتمع اكثر مما يمكن أن يحدث لجمهور أمام مسرحية كوميدية مألوفة أو متداولة. غير أن التجربة التي خضتها خلال العديد من السنوات، علمتني أن هذا ليس بالصحيح.
لحسن الحظ، حينما بدأت العمل في المسرح كنت جاهلا تماما. لقد عملت في بلد لا توجد فيه مدرسة، ولا معلم، ولا يوجد فيه مثل اعلى. لم يكن المسرح الألماني معروفا بعد، وستانسلانفسكي يكاد أن لا يكون معروفا إلا قليلا، وبرشت قليلا جدا، في حين أن ارتو لم يكن معروفا نهائيا. لم تكن هنالك نظرية متبعة، الناس يقومون بعمل المسرح بالانزلاق من نوع لأخر بشكل عفوي وطبيعي. الممثلون الكبار يقومون بتمثيل شكسبير مرورا بمسرحيات البوليفار الهزلية، أو الكوميدي ميوزيكال.
وكان الجمهور والنقد يتتبعهما بكل بساطة، ومن دون تعقيد، أو تفكير بأنهم يرتكبون خطيئة بانتقالهم من لون مسرحي لأخر. لقد كان هذا التنوع والتلون بالنسبة لنا شيئا إيجابيا.
إكسبُرسو بونكو Exprsso Bongo
هنالك حكاية طريفة بخصوص هذا الموضوع … لقد ذهبنا في إحدى السنوات إلى موسكو لأجل أن نمثل مسرحية هاملت، وكان على رأس فريق العمل "بول سكوفيلد Paul Scafild " الذي كان في ذلك الوقت ممثلا كبيرا مسبقاً. ولقد مثل هذا الممثل أدواراً كثيرة وكبيرة، على مدار اكثر من عشر سنوات، بحيث كان يعتبر في إنكلترا واحداً من المع الممثلين الشباب لذلك العصر. لقد ذهبنا لكي نمثل هاملت، في روسيا التي كانت فيما مضى منغلقة ومغلقة، حتى إنني اعتقدت أننا أول فرقة إنكليزية تقدم نتاجها هناك. لقد كان ذلك حدثا كبيرا، ولقد حقق "بول سكوفيلد" في أدائه نجاحا عظيما يضاهي نجوميته وشعبيته في الوقت الحاضر.
عند عودتنا إلى إنكلترا، استمرينا نشتغل معا بعض الوقت، على مسرحية للشاعر "أليوت"، وعلى مسرحية أخرى "لكراهام غرين". وفي أحد الايام بعد أن كان قد انتهى الموسم المسرحي، عرض على "بول سكوفيلد" أن يمثل دور مدير مسرح " Cockney" في كوميدي ميوزيكال، كان عنوان العرض يحمل اسم "إكسبرُسو بونكو Exprsso Bong "، ويعتبر أول كوميدي ميوزيكال قبل الروّك. لقد جاء بول لرؤيتي وهو في قمة الحماس وقال لي: ( بدلا من أن يعرضوا عليّ مسرحية أخرى لشكسبير، عرضوا عليّ Exprsso B ong، أن هذا رائع، سوف أستطيع أن امثل Exprsso Bong). شجعته على القيام بالدور، وقد حققت المسرحية نجاحا لا بأس به. وفي أثناء عروض هذه المسرحية، وصلت من موسكو وبشكل مفاجئ، بعثة رسمية تتكون من عشرين شخصاً من بينهم، ممثلون مسرحيون، ممثلات مسرحيات، ومدراء مسارح. ومثلما استقبلونا هناك، بحفاوة وتقدير، عندما ذهبنا لعرض مسرحيتنا في موسكو، ذهبت أنا شخصيا لاستقبال الفرقة في المطار. أول سؤال طرحوه عليّ كان يتعلق ببول سكوفيلد: ماذا يفعل ألان؟ هل نستطيع أن نراه؟ ولقد قلت لهم، بكل تأكيد، انه يمثل حاليا مسرحية Exprsso Bong" . وقد قمنا بحجز مقاعد وذهبوا لرؤية المسرحية.
إن الروس، بشكل عام، وبالذات في ذلك الوقت، قد تعلموا أن بالإمكان التخلص من أي إحراج أو ورطة مسرحية بكلمة واحدة: " مثير". لقد حضروا العرض، والتقوا ببول سكوفيلد. وكانوا سعداء جدا، والعرض "مثير"، وبعد ستة اشهر على هذا التاريخ، تستلمت كتابا كتب فيه حول الرحلة من قبل رئيس البعثة، وهو أستاذ متخصص بشكسبير في جامعة موسكو. في هذا الكتاب رأيت صورة سيئة لبول سكوفيلد وهو يضع القبعة التي مثل فيها الكوميدي ميوزيكال Expresso Bongo على رأسه مذَّيلة بالتعليق التالي: ( لقد تأثرنا جميعا لحالة وواقع الممثل التراجيدي في المجتمعات الرأسمالية. لم نستطع أن نتخيل حالة الذل والإهانة التي وصل إليها اكثر ممثلي عصرنا، فمن اجل أن يعيل زوجته وطفليه، قزم نفسه هذا الممثل العملاق ومثل مسرحية Expresso Bango"".
المسرح هو الحياة
إنني أقص عليكم كل هذا من اجل أن اكشف لكم عما كان يشغلني في محاضراتي التي سبقت تأليف الكتاب. إن ما كان يعنيني، هو أن أتقاسم مع محاوريّ هذه الفكرة الجوهرية: أن المسرح، يعني أولا وقبل كل شئ الحياة. هذه هي نقطة الانطلاق اللازمة والحتمية ولا شئ آخر غيرها يستطيع أن يثير اهتمامنا حقيقة دون أن يكون جزءاً من الحياة بالمعنى الكبير والممكن للكلمة. فالمسرح هو الحياة. ولكننا في نفس الوقت لا نستطيع أن نقول ليس هناك فرق ما بين المسرح والحياة.
لقد رأينا في عام 1968 أشخاصا تركوا العديد من المسارح الكئيبة، المشرفة على الموت، المميتة، لأسباب كثيرة جيدة وأخرى استفزازية… لكي يؤكدوا على أن "الحياة هي المسرح" وليس هنالك حاجة لفن اصطناعي، غير طبيعي، ومرتب. يقولون نستطيع أن: "نمارس المسرح حيثما نكون، المسرح في كل مكان، كل واحد منا ممثل، إذن، نستطيع أن نفعل أي شيء أمام أي إنسان، هذا هو المسرح" ما هي مواضع الشك والريبة في هذه الفكرة ؟
من إحدى النواحي، إن هذه الفكرة تبدو صحيحة وعادلة فنحن نذهب إلى المسرح من أجل أن نعثر على الحياة من جديد، ولكن إذا أنعدم الاختلاف ما بين الحياة خارج وداخل المسرح، عندئذٍ أيّ معنى يبقى للمسرح ؟! ما الفائدة التي ترجى من وراء القيام به ؟ ولكن إذا قبلنا بأن الحياة داخل المسرح مرئية ومقروءة أكثر مما هي خارجه، فسنرى إنها في آن واحد هي نفسها وفي الوقت ذاته مختلفة عنها قليلا.
انطلاقا من ذلك نستطيع أن نعطي العديد من التفسيرات، وأولها أن الحياة داخل المسرح تكون مرئية ومكثفة وأكثر تركيزا، ذلك لان تقليص الفضاء، والتقاط الزمن نفسه يخلق نوعاً من التركيز.
في الحياة نتكلم، نثرثر، وهذه طريقة طبيعية جدا للتعبير عن انفسنا تأخذ دائما وقتا أكبر بكثير مقارنة بالمضمون الحقيقي لما نريد أن نقول. ولكن يجب أن نبدأ هكذا، بالضبط مثلما في المسرح، نبدأ بالارتجال، مع نص طويل جدا. ولكن ما هي حركة الضغط والتقليص إذن ؟ إنها تعتمد على حذف كلما هو زائد وبلا فائدة، ووضع نعت قوي مكان كل صفة باهتة، مع الحفاظ على طبيعة التعبير بكامله. وإذا حوفظ على هذا الانطباع، عندئذ سنصل إلى ما يلي: إذا كان شخصان يحتاجان في الحياة اليومية إلى ثلاث ساعات لكي يقولا شيئا معينا، ففوق خشبة المسرح يأخذ هذا الأمر ثلاث دقائق. ونستطيع أن نلحظ ذلك بشكل واضح في أساليب كل من بيكت، بنتر، وتشيكوف.
إن النص لدى تشيكوف يعطينا الانطباع بأنه قد سجل على آلة تسجيل؛ وإنه قد أخذ جميع الجمل والمفردات من الحياة اليومية. غير أنه، لا توجد هنالك جملة واحدة من جمل تشيكوف لم يشتغل عليها، ينحتها، يخضعها للحذف والتغيير، ولكن بكيفية فنية بحيث تعطي الانطباع للممثل بأنه يتكلم حقيقة "مثل ما لو كان في الحياة اليومية ". ومع هذا، إذا شئنا أن نمثل ذلك مثلما في الحياة اليومية، لا نستطيع أن نمثل تشيكوف. إن على الممثل، والمخرج أن يتبعا نفس خطوات المؤلف، الذي يدرك أن كل كلمة، حتى لو بدت بريئة، فهي ليست بريئة. إنها تمتلك بحد ذاتها، وفي الصمت الذي يسبقها، والذي يأتي بعدها، مشهدا كاملاً، وشحنات معقدة ما بين الشخصيات. وإذا استطعنا أن نتوصل إلى ذلك، وإذا بحثنا بالإضافة إليه عن السبل الفنية لإخفائه، حينئذ نتوصل إلى قول هذه الكلمات بكيفية سهلة بحيث تعطينا الانطباع بأن هذه هي الحياة. بالتأكيد، هذه هي الحياة ولكن برداء وشكل أكثر تركيزا، وأقل قصرا، ملتقطة من الزمن ومن الفضاء. و بهذه الطريقة نعود من جديد إلى مسألة الفضاء.
التألق، كل لحظة
المشكلة كل المشكلة تكمن في معرفة ما إذا كان هذا التألق موجودا، هذه الشعلة الصغيرة التي تتوقد لكي تعطي الكثافة لهذه اللحظة الملتقطة، أم لا. ذلك لأن الالتقاط والتكثيف غير كاف. نستطيع دائما أن نختصر نصا مسرحيا طويلا، مليئاً بالثرثرة، غير إننا نبقى أمام شيءٍ مملّ، مضجر. انه من المدهش جدا رؤية إلى أي درجة يبدو الشكل المسرحي مُتَطَلٌباً وذلك لأن هذا التألق والاشتعال الصغير للحياة يجب أن يكون موجودا هنا، لحظة بعد لحظة.
إن هذا لا يوجد إلا في المسرح وإلا في السينما. إن الكتاب يمكن أن يمتلك بعض التوقفات والفراغات ولكن في المسرح إذا كان المشهد غير دقيق أو مضبوط في توقيته، فإنه يمكن أن يضيع الجمهور من لحظة لأخرى. إذا توقفت الآن عن الكلام… سنسمع الصمت … الجميع متيقظ… ويكفيه تفاهة صغيرة لكي يفقد زمام هذه اللحظة من الترقب والانتباه. ويكاد أن يكون فوق قدرة البشر التمكن من تجديد المصلحة باستمرار، والعثور على هذه الحداثة، هذه الطراوة، هذه الكثافة، لحظة بعد أخرى. ولهذا السبب لا توجد، مقارنة بالفنون الأخرى، إلا أعمال درامية قليلة عظيمة في العالم؛ وذلك لأن الخطر موجود دائما في كل لحظة، يكاد فيها أن يختفي ألق والتماع الحياة. ولأجل أن يكون هذا الألف حاضرا، يجب، بدقة تحليل الأسباب التي أدت إلى اختفائه في اللحظات الأخرى. ومن أجل ذلك، لا بد من ملاحظة ومراقبة الظاهرة بنوع من الوضوح.
يبدو لي إذن، أن من المهم جدا، في هذا الفصل الأول، المرور باستمرار، من المسرح الكلاسيكي إلى مسرح البوليفار، ومن الممثل الذي يتمرن خلال عدة اشهر إلى الممثل الذي عليه أن يتمرن وينهي العمل خلال عدة أيام، ومن نقد بعض الأشكال المسرحية إلى إمكانية نقد أشياء أخرى، ومن ملاحظة الشروط الاقتصادية للإنتاج وهذا ما يمكن تحقيقه بالكثير من الأموال، وهو أيضا ممكن عندما تتوفر نقود أقل…
أتمنى أن استحضر جميع هذه المجالات معا، هذه التي لا تستطيع أن تتحقق إلا فوق المسرح، مع ديكور وإنارة، وهذه التي لا تتحقق دون إنارة وديكور، في الهواء الطلق… من أجل أن أبرهن على أن الظاهرة المسرحية الحية غير مرتبطة بالشروط والعوامل الخارجية.
يمكننا أن نذهب ونشاهد مسرحية عادية جدا، موضوعها دون المتوسط، ومع ذلك فهي قد حققت نجاحا كبيرا، وربحت أموالا كثيرة في مسرح تقليدي جدا، وفي بعض الأحيان نجد في هذا المسرح التقليدي، أن ألق والتماع الحياة يفوق في نسبته ما يحدث عند أشخاص تغذوا على تعاليم برشت وأرتو واشتغلوا في ظروف وبموارد جيدة منحت لهم من قبل مؤسسة كبيرة، مع دراسة سينوغرافية جيدة، وتحليل جيد لمحتوى المسرحية … يقدمون عملا مدعوما بكل ما يجعل عملهم في الوقت الحاضر جديرا بالاحترام.
أمام هذا النوع من العروض بإمكاننا أن نمضي بسهولة جدا ليلة "كئيبة" ونحن نرى كل شيء موجوداً ومتوفراً فيها إلا الحياة. إن من المهم جدا أن نستنتج هذا ببرود، وبوضوح، وبلا رحمة أو شفقة، خصوصا إذا أردنا أن نتجنب الوقوع تحت تأثير هذا التفاخر الذي نطلق عليه "ثقافة". لهذا السبب أراني أركز، في هذا الفصل الأول، على تقديم مؤلف كبير مثل شكسبير، أو عمل كبير مثل الأوبرا. أن بإمكان نوعية العمل الأدبي أن تقودنا نحو الأفضل مثلما بإمكانها أن تقودنا نحو الأسوأ. وكلما كان مستوى العمل كبيراً، عظم خطر الضجر إذا جاء العمل غير متقن.
المادة الإنسانية
انه من الصعب دائما أن يقبل أولئك الذين كافحوا مرارا وتكرارا بصعوبة، لأجل الحصول على إمكانيات إنتاجية من اجل اقتراح عمل ذي قيمة أدبية كبيرة، بالوقوف أمام جمهور غير مكترث. أننا مجبرين تقريبا على الدفاع عن المحاولة، ونصاب دائما بخيبة الأمل لان هذا الجمهور، في كل البلدان، يرفض هذه الأعمال ويفضل عليها ما نجده نحن اقل جودة ونوعية. ولو نظرنا هنا جيدا، لاستنتجنا أن العمل الكبير والرائع قد قدم فعلا، ولكن من دون أن تكون الحياة حاضرة فيه. علما، بأننا عندما نتأمل عن كثب، هذا التحليل، نلاحظ أن الشيء الوحيد الذي يمكن القيام به، انه يقودنا إلى الفضاء الخالي.
إذا أخذنا -بشيء من الآلية- فكرة أننا من اجل أن نقوم بعمل المسرح يجب أن نبدأ بخشبة مسرح، ونص، وإخراج، وديكور، وإضاءة، وموسيقى، وآرائك … إذا أخذنا بذلك بشكل بديهي، فإننا نتورط بسلوك طريق مغلوط. إن هذا يمكن أن يكون حقيقة وواقعاً في السينما، ففي السينما نحتاج على الأقل إلى كاميرا، إلى شريط سينمائي، إلى إمكانيات لتحميض هذا الشريط، ولكن لكي نقوم بعمل المسرح، ولكي نمتحنه، ونفهمه، فليس هناك إلا شئ واحد نحن بحاجة إليه: المادة الإنسانية. وهذا لا يعني أن البقية الباقية من الاحتياجات ليس لها أهمية كبيرة، ولكن فقط أنها ليس بالمادة الرئيسية.
ربما تكونون قد حضرتم في السنة الفائتة، في مسرح البوف دي نور Theatre les Bouffes du Nord [12] في الموسم المسرحي لأفريقيا الجنوبية الذي حققناه من خلال عروض سرافينا sarefina و وزا آلبرتو Woza Albert. أحد مؤلفي هذه العروض، قبل أن يعمل في المسارح البيضاء. في أفريقيا وفي آخر العالم، عمل مع فرقة مسرحية صغيرة لا تقدم أعمالها إلا في town-ship، في sowet[13] ، منذ عشرين عاماً. وكان هذا المؤلف يتعاون مع كبسون كنت Gibson Kente، أحد المخرجين المدهشين الذين خلقوا حركة المسرح الزنجي، وهو مسرح شعبي مليء بالأغاني وباقي عناصر الحياة اليومية… وقد كانوا يمثلون في كل مكان حيثما يستطيعون، لأنه لا يوجد مسرح في أي منطقة خاصة بالزنوج Township[14] لقد قال شيئا مثيرا ومؤثرا جداً: ( لقد قرأنا جميعاً "الفضاء الخالي"، وهذا ما ساعدنا جدا في حقيقة الأمر).
الجملة الأولى
ابعد من المتعة التي يمكن أن يحصل عليها مديح مثل هذا، تساءلت مع نفسي كيف يمكن لهذا الكتاب أن يؤثر على الممثلين الذين يشتغلون في مثل هذه الظروف ؟. بعد كل شئ، إن الجزء الكبير من هذا الكتاب قد كتب قبل تجاربنا في أفريقيا وفي باقي أنحاء العالم، التي تحيل إلى مسارح لندن، باريس، ونيويورك …
إذن، ما الذي استطاعوا أن يجدوه في هذا النص من نافع ومفيد؟ كيف استطاعوا أن يعتبروا هذا الكتاب هو أيضا ومفيداً لهم؟ لقد، طرحت عليهم السؤال وكان جوابهم:" الجملة الأولى" !
( يمكنني أن أتناول أي مكان خال، فأسميه مسرحا عاريا. وكل ما يقتضي الفعل المسرحي هو أن يمشي شخص عبر تلك الفسحة في حين يراقبه شخص آخر.)
لقد كانوا مقتنعين أن العيش والقيام بعمل المسرح في ظروفهم هذه كان بمثابة تعاسة وشقاء محتوم لا مفر منه لانه لا توجد أية بناية "للمسرح" في المناطق المخصصة للزنوج twnships في كل أنحاء أفريقيا الجنوبية. لقد كان لديهم الإحساس بأنهم لا يستطيعون أن يذهبوا بعيدا ولا أن يفعلوا الشيء الكبير طالما انهم لا يملكون مثلما يملك بيض Johannesburg، أو بيض المدن الخرافية، باريس، لندن، نيويورك … هذه المسارح ذات الألف مكان والستائر، والسقف المسرحي، الإضاءة والبروجكترات الملونة. كانوا مثل ذلك الموسيقي الذي مع نايه يحلم بأوركسترا برلين السمفونية الكبيرة! عندما وصل إليهم فجأة كتاب يؤكد في جملته الأولى قائلاً: إذا كان هنالك شخص، لم يصرح بمكانه، يعبر فضاءا ما، في حين يقوم بمراقبته شخص آخر، فإن هذا يحتوي على كل شئ. "وانه كل ما لديكم وما تحتاجون إليه لكي تقوموا بعمل المسرح." وهنا كان الارتياح الكبير.
النظرة واللقاء
لقد كتبت في بداية كتابي "الفضاء الخالي": "كل ما يقتضيه الفعل المسرحي هو أن يمشي شخص عبر تلك الفسحة في حين يراقبه شخص آخر وهذا كاف لان يفجر الفعل المسرحي". مع هذا فإننا عندما نتحدث عن المسرح فلا نقصد ذلك المعنى على الإطلاق. لقد ارتحت كثيرا لعثوري على كلمة " يفجر". وأضيف اليوم لما قلته سابقا في الجملة الأولى من "كتابي الفضاء الخالي": لا بد من شخص ثالث. إذا وجد شخص واقف، وآخر ينظر، فهذا يعني أن هناك فعل مسبقاً، موجود فيه كل شئ ، شرط أن يذهب هذا الفعل ابعد كثيرا. إذن، لا بد بعد ذلك من اللقاء. لا بد من توفر عنصر ثالث: شخص ما ينظر، شخص ما يمكن أن يكون وحيداً خلال بضع دقائق، ثم شخص ثالث لكي يدخل معهم في علاقة. هنا، يمكن أن تدب الحياة وتبدأ بالجريان و من المحتمل أن تذهب بعيدا إلى ابعد حد.
لهذا السبب بالذات، كنت نادرا ما اقتنع كمسرحية الممثل الواحد One man Show. نعثر في مسرح المنوعات ( تمثيل ورقص والعاب بهلوانية الخ …)، مثلما في فن الحكواتي، على علاقات مباشرة مع الجمهور. شخص واحد يتوجه مباشرة إلى أشخاص آخرين، وهذا بحد ذاته أخذ ورد، وتواصل حيث يحكى فيه ومن خلاله شئ ما، ويمكن أن يكون كل هذا عظيماً ومعمولاً بشكل جيد، ولكن مع هذا، أنا شخصيا لا اكتفي بذلك أبدا. هذه العلاقة لا اسميها علاقة "مسرحية" لأنها ليست استدعاءاً للحياة ولا استحضاراً لها. ينقصها دائما شئٌ ما. ينقصها هذا الذي يحدث ما بين شخصين متقابلين، وأمام جمهور.
لنأخذ مثلا: إذا التقي شخصان، دون أي نظرة خارجية، مثلما يحدث عادة في التمرين، حيث توجد المحاولة وخطر الاعتقاد بأن هذه هي العلاقة الوحيدة الموجودة. وهكذا، نستطيع أن نقع، في شراك التركيز الداخلي الذي يصبح نرجسياً وبلا معنى. وبهذه الطريقة، نرى كيف تفقد في النهاية المجاميع التي تقضي وقتا طويلا في التمرين، إمكانية العثور على الطاقة التي تولد في حضور العنصر الثالث: المتفرج. إننا بمجرد ما نحس أو نشعر بوجود هذا الشخص الثالث وهو ينظر إلينا، تتحسن تلقائيا شروط وظروف التمرين بشكل أفضل.
غالبا ما نستخدم البساط كفضاء في تمريناتنا، وباتفاق واضح جدا مع الممثلين: خارج البساط يعني أننا في الحياة اليومية، وبإمكاننا أن نفعل ما نشاء وما نهوى من أفعال وتصرفات، يستطيع الممثل أن يفقد طاقته، أن يقوم بحركات لا تدل على شيء معين أو خاص، يحك رأسه، ينام … كل هذا ليس له أهمية، ولكن حالما ما نجد أنفسنا فوق البساط، لا بد من توفر وامتلاك غاية واضحة، وأقول اكثر، نكون داخل حياة كثيفة. وهذا سهل جدا عندما يوجد الجمهور.
لنقم بتجربة: هل بإمكان شخصين من بينكم أن يعثرا على الفضاء وان يقولا لبعضهما
" نهار سعيد" ؟
(ينهض رجل وامرأة ويجدان لهما فضاءا أو مكانا لازما لتطبيق التجربة)
المرأة : نهار سعيد !
الرجل: نهار سعيد !
( قوموا بذلك ثانية)
المرأة : نهار سعيد !
الرجل: نهار سعيد !
كان ذلك رائعا وساحرا جدا، ولكن هل بإمكاننا أن نقول أن هذه الثواني الخمس كانت ممتلئة بهذا النوع من الصفاء، بهذا النوع من الجدة والدقة، وان كل لحظة من هذه اللحظات الخمس لا تنسى بل تبقى عالقة في الذهن وفي الذاكرة ؟ هل تحلفون، انتم، الجمهور، أن بإمكانكم الحفاظ على هذا المشهد في ذاكرتكم مدى الحياة ؟ إذا كنتم تستطيعون فأجيبوا "بنعم" وان استطعتم أن تقولوا في الوقت ذاته أن " هذا كان طبيعيا "، فهذا يعني إن ما حدث منذ قليل قد تحول إلى حدث مسرحي.
في مسرح النو “No”، يأخذ الممثل خمس دقائق لكي يقطع نفس المسافة ويصل إلى مركز أو وسط المسرح، مع ذلك فإن، هذا لا يبدو عليه انه أسلوبٌ طبيعي وإنما هو اتفاق. لماذا يقوم هذا الممثل، يقوم بفعل نفس الشيء الذي تقومون انتم بفعله، ولكنه أبطأ منكم بألفي مرة، هل لانه يثير الفتنة لدرجة أن يصبح فيها بعيدا عن المقاومة ؟ لماذا حينما ننظر إليه، نتأثر وننبهر؟ لماذا نكون مرغمين على متابعته ؟ واكثر من هذا أيضا، لماذا يكون معلم مسرح النو اكثر عظمة أيضا ؟ وخارقاً للعادة ؟ ماذا سيكون الفارق ؟
مازلنا حتى هذه اللحظة لم نتطرق بعد إلى المضمون واكتفينا وبكل بساطة، بالحديث عن الحركات. هنالك اختلاف جوهري ما بين هذا الذي يعطي الحياة توهجا وهذا الذي هو يومي. بإمكاننا[15]، كما لو تحت عدسة مكبرة، أن نعثر وان نرى كل شئ في هذا الشيء البسيط جداً، حيث ممثلان يقولان لبعضهما " نهار سعيد". إذا قام هذان الشخصان بفعل ذلك بطريقة متقنة، سنكون في لحظة من اللحظات أمام الحياة المرئية والواضحة للغاية.
لا تكن كيفما اتفق
إن هذا يتعلق بأشياء دقيقة جدا،خصوصا حينما نكون تحت الأنظار[16]. فإن نظرة الجمهور هي العنصر الاول الذي يساعد. إذا أحسسنا بهذه النظرة مثل حاجة ضرورية حقيقية تطالب في كل لحظة من اللحظات بأن لا يكون هنالك شئ مجاني، ولاشيء رخو وإنما الكل يجب أن يكون في حالة يقظة، عندئذ نفهم بأن الجمهور يمتلك وظيفة فعالة. انه لا يحتاج إلى "تدخل"، أو إلى إيضاح لأجل الاشتراك. انه مشترك باستمرار من خلال حضوره اليقظ. إن هذا الحضور يجب يكون محسوسا مثل تحدٍ إيجابي، مثل المحبوب الذي لا يمكن أن نسمح لأنفسنا بالمثول أمامه كيفما اتفق.
لقد اعتادت الحياة اليومية أن تكون كيفما اتفق. ولكننا إذا تعرضنا لامتحان أو تحدثنا إلى مثقف، فسوف لن نفكر أو نتكلم كيفما اتفق، بقدر ما سيكون الجسد كذلك. وفي حضرة إنسان مريض يتعذب، سوف لا يمكننا أن نتعامل في المشاعر والأحاسيس كيفما شاء واتفق، سنكون رقيقين، منتبهين، ولكن البال سيكون غامضاً وغير واضح، وكذلك الجسد أيضا. وعلى العكس من ذلك، إذا قمنا بعمل حرفي دقيق، مصلح ساعات، خياط، سيكون الجسد مستنفرا حتى أطراف الأصابع، أما الرأس فسيكون بإمكانه أن يحلم.
من اجل أن تكون واضحا على الوجه الأكمل في النوايا والمآرب الفكرية التي تتبادلها مع الشخص الأخر، دون لف ودوران في حقيقة المشاعر وان يكون الجسد مضبوطا ومتوازنا، مبينا ذلك بحساسية مفرطة ، نرى أنه ما من عنصر من العناصر الثلاثة التي تكوننا- التفكير، الشعور، الجسد- بإمكانها أن تكون "كيفما اتفق".
نفهم إذن، من مثالنا هذا " أن شخصا يجتاز فضاءا، يلتقي بشخص آخر تحت أنظار شخص ثالث "، هنا بالإمكان خسارة وربح كل شئ. لكي نربح كل شئ ولكي يكون بإمكاننا الحديث عن "الفن" يجب أن نكون قادرين أن نميز بكل دقة هذا الذي يخلق أو يكبح حركة الحياة في داخل هذا الاقتراح.
احب ألان سماعكم، وان نتبادل أطراف الحديث قليلا حول كل ما قيل حتى هذه اللحظة.
ألا تعتقدون إن الممثلين الغربيين لديهم صعوبات اكثر من غيرهم، واستحضر هنا على سبيل المثال ممثلين مسرح النو، في الحصول على امتيازات الحضور؟
إن الجسد هو العنصر الأساس. في جميع أجناس كوكبنا، وباستثناء المريخيين Les Martiens ،فأجسادهم هي نفسها تقريبا. بإمكاننا أن نلاحظ بعض الاختلافات في الطول، في اللون، ولكن بالنسبة للأساس، الرأس هو دائما فوق الأكتاف، الأنف، العيون، الفم، البطن، الأقدام … كلها في نفس المكان. إن أداة الجسد هي نفسها في العالم اجمع، والذي يختلف هو الأساليب، والثقافات.
اليابانيون وقادة الأوركسترا
حينما ذهبنا لأول مرة إلى اليابان، التقينا ببعض الفنانين اليابانيين حول موضوع " الفضاء الخالي". لم اكن أتخيل إلى أي درجة كان هذا الموضوع يشكل جزءا من الزين[17] Zen، من ثقافتهم المتأسسة على فكرة الفضاء، وفكرة الفراغ. نستطيع، في الغرب، أن ندرك ونثمن الفراغ ولكن بشكل مختلف عن أدراك وفهم وتقدير الشرقي له. يقول بعض متفرجي مسرح البوف دي نورد، عندما يشاهدون فضاءا،" آه ، أسلوب شرقي! ". أنا لا أبالي بما يقولون، ولكن هذا غير صحيح. لقد وجد هذا الفراغ لأسباب تجعله ضرورياً، سواء كنا وكان في الشرق أم في الغرب.
في اليابان نستطيع أن نلاحظ إن نمو جسم الطفل افضل بكثير من نمو جسم الطفل في بلادنا. فأبتداءاً من عمر الثانية، يتعلم الطفل الياباني الجلوس بطريقة متوازنة، معتدلة تماما؛ وبين سنتين وثلاث يبدأ بالانحناء بانتظام، وهذا بحد ذاته تمرين عظيم للجسد. في فنادق طوكيو، هنالك فتيات شابات جميلات جدا يبقين واقفات طول النهار أمام بوابات المصاعد الكهربائية، ثماني ساعات في اليوم، وينحنين في كل مرة يفتح فيه باب المصعد الكهربائي أو يغلق. إن هذا لمدهش، ولكن لو اختيرت واحدة من هذه الفتيات من قبل مخرج مسرحي لعمل مسرحي، كونوا على ثقة بأن جسدها سيكون متطورا جدا.
عندنا الأشخاص الوحيدون الذين، في عمر التسعين سنة، ولديهم جسدٌ نامٍ ومتطور اكثر حتى من الأفارقة، هم قادة الأوركسترا. إن قائد الأوركسترا، يقوم كل حياته بممارسة، الحركات التي تبدأ بانحناء النصف الأعلى من الجسم، دون أن يعتبر ذلك تمرينا. انه محتاج لان يمتلك، مثل الياباني، بطناً قوية، لأجل القيام مع باقي أجزاء الجسد بحركات معبرة بطريقة لا تصدق. إن هذا الحركات ليست بالحركات البهلوانية أوالجمناستيكية، الصادرة عن توتر وانسداد بل هي حركات العاطفة و التفكير الدقيق فيها مرتبطان. إن هذه الدقة في التفكير التي يحتاج إليها قائد الأوركسترا لأجل أن لا يفقد أي تفصيل موسيقي، وهذا الشعور الذي يجب أن يتبعه في جميع الحركات الموسيقية، وهذه العين اليقظة والساهرة على الأوركسترا بكاملها والجسد دائم الانحناء، والنهوض، واذرع تتحرك باستمرار مثل ذراعي سباح، كل هذا يسمح لقائد الأوركسترا في عمر التسعين أن يمتلك جسداً في غاية المرونة.
علما بأنه لا يقوم برقصات محارب أفريقي شاب، ولا بأداء التحايا اليابانية! إن إنكليزياً قائداً كبيراً لأوركسترا من بداية هذا القرن ادعى أن (قادة الأوركسترا، في القارة، مهيئون بشكل افضل لأنهم ، عندما يلتقون بامرأة، ينحنون لكي يقبلوا يدها). وينصح كل الشباب الإنكليزي بالانحناء وتقبيل أيادي جميع النساء اللواتي يلاقونهن …
إذن لديك الحق، هناك اختلاف في نمو وتطور الجسم الشرقي والغربي. عندما كنت اصطحب ابنتي وهي في عمر الثالثة أو الرابعة إلى دروس الرقص، أذهلت، فزعت، من حالة أجسام أطفال مجتمعنا. لقد رأيت أطفالا في عمر ابنتي أجسامهم قد تحجرت مسبقا، بلا إيقاع. إن الإيقاع ليس بموهبة خاصة. في سن الثالثة، نعثر عليه بشكل طبيعي بنفس الطريقة التي نتحرك بها بشكل طبيعي،مثلما في جميع المجتمعات التقليدية. غير إن أطفال المدينة يقضون حياتهم جامدين أمام التلفزيون، وفي سن الثالثة يذهبون إلى مدرسة الرقص بأجساد متحجرة يابسة.
الجسد الحساس والخصوصية
لا بد من الاعتراف بأن الجسد كأداة، غير متطور عندنا خلال مرحلة الطفولة والشباب ، كتطوره في الشرق؛ إذن فالحاجة إلى تمرين تعتبر شيئاً مؤكداً. يجب أن يدرك الممثل انه بحاجة لان يقلل من صعوباته، وان يعرف بأنه ليس براقص.
في مسرحنا، توصّل ممثل، من خلال التمارين الصعبة للغاية، إلى أن يمتلك جسداً مرناً مؤهلا مثل جسد أي راقص، لن يجعله بالضرورة أفضل ممثل. على الممثل أن تكون له خصوصية، وان يكون راقصا ولكن دون أن يظهر عليه ذلك. إن الراقصين – واقصد راقصي الباليه، والرقص الكلاسيكي- بحاجة لان يتبعوا ملاحظات مصمم ومعلم الرقص بطريقة خفية بشكل كاف. والأمر مختلف بالنسبة للممثل؛ انه من المهم جدا أن يمتلك الممثلون مواصفات جسدية دَامْغة، صغيرٌ وسمين .. طويلٌ ونحيف .. واحد سريع الحركة، وآخر ثقيل … إن هذا ضروري، وذلك لأننا- وهنا اكرر من جديد- إن ما نكشف عنه على المسرح ونظهره هو الحياة، الحياة الداخلية والخارجية، ولا يمكن أن تسير واحدة من دون الثانية. من اجل الحصول على دلائل الحياة الخارجية، لا بد من امتلاك شخصيات بمواصفات مختلفة، مثلما كل واحد منا يمثل في الحياة نموذجا من الرجال أو النساء. لكن من المهم جدا – وهنا العلاقة مع الممثل الشرقي يمكن أن تتحقق- أن يكون الجسم حساساً ومؤثراً للغاية، سواء كان متيناً عديم المهرة أو يقظاً شاباً سريعاً.
حينما نقوم بممارسة ألاعيب بهلوانية، نقوم بها لا من اجل المهارة والبراعة "في الفن"، ولا من اجل أن نصبح بهلوانين عباقرة ( وهذا أيضا يمكن أن يكون مفيدا)، وإنما من اجل التأثير. إن الممثل الكبير الذي لا يمارس تمارين نهائيا، يسمونه في إنكلترا " ممثل من فوق الأكتاف". انه من السهل جدا في الحقيقة، أن تكون مؤثرا ومحسوسا في اللغة، في الوجه، في الأصابع؛ ولكن الذي لا يوهب بسهولة، يجب الحصول عليه بالتمارين، ونفس الحساسية والتأثير يوجدان في باقي أجزاء الجسم: الأرجل، الظهر، المؤخرة … مؤثر ومحسوس يعني أن يكون الممثل في كل لحظة من اللحظات في علاقة مستمرة مع جميع أجزاء جسمه. فالممثل عندما ينطلق، يعرف أين سيعثر على جسده.
لقد قمنا خلال عرض مسرحية المهابهاراتا [18]Mahabharata بمشهد خطر جدا، في الظلام، حيث الجميع كانوا يحملون مشاعل. لقد كانت في المشهد نار حقيقية، الزيت يتساقط، الملابس كانت من الحرير. كنا نخاف وينتابنا الرعب في كل مرة من مخاطر الحادث. مما كان يضطرنا دائما للقيام بالتمارين مع المشاعل، لكي يعرف كل واحد أين مكان مشعله في أي لحظة من اللحظات. بالطبع، كان يوشي Yoshi الممثل الياباني منذ البداية، هو الأكثر جودة، لانه كان يعرف بالضبط أين يضع أقدامه، يده، عينيه، مهما كانت الحركة التي ينفذها. لا يترك أي شئ للصدفة والمصادفة. غير إننا، إذا طلبنا من ممثل غربي أن يتوقف فجأة، في وسط الحركة، ونقول له أين هما رجلاه، أو يداه، فستواجهه مشاكل كبيرة. إذن، أن هذا الذي يعتبر في الشرق وأفريقيا جزءاً من التربية الطبيعية يفترض أن يكتسب عندنا من خلال التمارين. وهذا ممكن جدا لان الأجسام هي نفسها.
هل تستطيع أن تحدثنا عن الخوف من الفراغ ؟ حتى لو كنا أصحاب تجربة في التمثيل، كل مرة نبدأ فيها، ونجد أنفسنا فوق طرف البساط، يحضر هذا الخوف من الفراغ من تلقاء نفسه، والخوف من الفضاء من جديد ألسنا مستدرجين لأجل ملئه كي لا نشعر بالخوف ثانية، ولكي نملك شيئا ما نقوله أو نفعله ؟
إن ملاحظاتك تعتبر مهمة وذلك لان من المهم بالنسبة لكل ممثل أن يتعرف على العوائق وان يشخصها. غير إن الأمر هنا يتعلق بعائق طبيعي و مشروع. عندما نسأل ممثلاً يابانياً عن تمثيله، فانه يَصّرْ على أن تمثيله في الواقع ينطلق من الفراغ. حينما يمثل جيدا، فان هذا لا يعني انه قد حقق بناءا ذهنيا قد أعده مسبقا وإنما هو مثل بشكل تلقائي منطلقا من نفسه
طقس االشاوو
لقد حضرت في قرية من قرى بنكلاديش طقساً قوياً جدا يطلق عليه اسم الشاوو.أن فيه ممثلين، أشخاصاً من القرية، يمثلون مشاهد حربية بتقديمهم، الأرجل مثنية قليلا ومتباعدة، قافزين في الهواء قليلا. ينظرون أمامهم، متقدمين قافزين، وتوجد في نظراتهم قوة عظيمة بشكل مطلق، وعزم وإصرار خارق. سألت المعلم عن سر "مهارتهم" لأجل سرقتها منه وتعلمها:( ماذا تفعلون انتم ؟ على ماذا تؤسسون تركيزكم حتى تحصلوا على مثل هذه النظرة ؟ طلبت منه أن يجيبني، فرد عليّ: ( إن هذا بسيط جدا، إنني أطلب منهم بأن لا يفكروا في أي شئ. وبكل بساطة أن ينظروا أمامهم وأن يحافظوا على عيونهم مفتوحة). كان هذا كافيا لكي يكون تعبيرهم قوياً وخارقاً وأؤكد لك أن لا وجود " لشيء" آخر غير ذلك. إن هذه الصرامة والقوة ستكون غير موجودة أبدا لو كان التركيز مبني على: ماذا يجب عليّ أن أفعل؟ لو ملأوا وزاحموا الفراغ بالأفكار.
ما هي العناصر التي تكدر وتقلق صفو الفراغ ؟ من جهة من الجهات إن الذي يقلق الفراغ ويعكر صفوه، هو الإفراط في التفكير، والأعداد المسبق. لماذا نهيئ الأشياء؟ أننا نقوم بذلك، تقريبا، من اجل الكفاح ضد الخوف من الفراغ. إن بعض الممثلين التقليديين يحبون أن نعطيهم كل التفاصيل الإخراجية منذ اليوم الاول للتمارين وأن نتركهم بعد ذلك دون إزعاج. إن هذا بالنسبة لهم السعادة المطلقة بعينها، وإذا صادف وإن أجرينا بعض التعديلات الطفيفة قبل خمسة عشر يوما من اليوم المحدد للعرض تثور ثائرتهم ويخرجون عن طورهم ! لقد عرفت مع الأسف الشديد، هذا النوع من الممثلين. أنا الذي يحب أن يغيرَّ كل شئ، وفي بعض الأحيان، أقوم بذلك، في يوم العرض نفسه، لهذا لم اعد قادراً على العمل مع هذا النوع من الممثلين. لقد عملت مع الممثلين الذين يحبون المرونة. ولكن حتى مع هؤلاء، هنالك من يقول في بعض الأحيان: " كلا، إن هذا متأخر جدا، ولا أستطيع أن أغير شيئاً"، يقولون ذلك لأنهم فقط خائفون. انهم مقتنعون بتشييدهم لبعض البنى، وحين نجردهم منها لا يبقى لهم أي شئ، وسيكونون ضائعين. في هذه الحالة، سيكون بلافائدة أن نقول لهم "لا تخافوا "، وهي أفضل طريقة لتخويفهم. يجب تعليمهم، بكل بساطة، إن هذا ليس حقيقياً. وحدها التجارب المحددة والمكررة تسمح لهم بإقامة الدليل على الإبداع، والإخلاص الحقيقي يمكن أن يظهر عندما لا نبحث عن الطمأنينة والأمان.
تطرح هنا مسألة الفنان. هل إن الكائن، هو فنان حقيقي ؟ بإمكاننا أن نقول إن الفنان الحقيقي مستعد لتقديم العديد من التضحيات من اجل الوصول إلى لحظة الإبداع. إن الفنان السيء والرديء يفضل أن لا يعرض نفسه للخطر، لهذا السبب سيكون تقليديا. وكل ما هو تقليدي، وكل ما هو رديء له صلة بهذا الخوف. إن الممثل التقليدي "حلقة" وفعل "غلق" الحلقة هو فعل دفاعي. ولكي أدافع عن نفسي، "فأنني ابني".
الشكل الحقيقي
إن المسألة تذهب بعيدا. فما نسميه تأليفاً، بناء شخصية، هو فعل بناء تدريجي. واعتقد، إن هذا النهج ليس بالطريقة الخلاقة. إن الطريقة الإبداعية الخلاقة هي القيام بفعل عدة تكوينات مؤقتة مع العلم انه حتى لو تكون لدينا الإحساس ذات يوم بأننا قد عثرنا على الشخصية، فأن هذا ما هو إلا مؤقت. إن هذا فقط ما نستطيع أن نقوم به هذا اليوم بشكل أفضل ، ولكن يجب أن نقول لأنفسنا بأن الشكل الحقيقي ما يزال غير موجود حتى ألان. إن الشكل الحقيقي لا يصل إلا في اللحظة الأخيرة، وفي بعض الأحيان يأتي حتى بعد هذه اللحظة الأخيرة بكثير. إنها عملية ولادة. الشكل الحقيقي لا يشبه بناء عمارة أو بيت، يخضع لسلسلة من الأفعال البنائية والمنطقية. بل على العكس، إن التطور الحقيقي للبناء هو في ذات الوقت نوع من الهدم. وهذا يعني أننا نتوجه اكثر فأكثر نحو الخوف، مثل كل هدم. نخلق فراغاً، فنقلل من تعكزاتنا، نقلل من دعاماتنا وركائزنا، وهكذا نكون اكثر فأكثر في خطر. تأكدوا أننا حتى لو نصل إلى لحظات إبداعية حقيقية، في الارتجال، في التمرين أو في العرض، هنالك دائما خطر في تحطيم هذا الشكل، وإفساده.
خذوا على سبيل المثال ردود فعل الجمهور. إذا قمتم بعمل ارتجال معين، أحسستم بحضور هؤلاء الذين ينظرون (وإلا فان هذا سيكون بلا معنى) وإن الناس يضحكون، إنكم تعرضون أنفسكم لخطر أن تنقادوا بسبب ضحكهم في اتجاه لن يكون بالضرورة هو نفسه الذي كنتم ستأخذونه من دونهم. جميع أنواع العناصر الذاتية يمكن أن تكون مثيرة مهيجة، مثل الرغبة في الإعجاب أو الخوف، الذي يمكن أن يحطم الإبداع.
إن الأساسي هو الأخذ بعين الاعتبار والشعور بهذه الظاهرة.وبمجرد ما تمتلك الشعور والإحساس بهذا الذي يبعث على الخوف، تستطيع أما أن تقبله، وأما أن تستقبله، وأما أن تحمي نفسك منه. ولكن لا بد من ملاحظة ومساءلة جميع العناصر التي تطمئن. وهذه مثلا، هي حالة الممثل الذي يصبح بفعل عدة عناصر "ميكانيك". وفي بعض اللحظات، بدافع الكسل، والتواني أو الخوف، يبدأ بتكرار نفس الشيء دائما دون أن يمتلك هذه العلاقة الحاذقة والحساسة مع الآخر. عندما ينظر، يتظاهر انه ينظر. تصبح ميكانيك لانه اطمئنان.
نفس الشيء ينطبق على المخرج أيضا. إذ توجد إغراءات كبيرة أمام المخرج الذي يهيء خطته الإخراجية قبل التمرين الاول. هذا طبيعي ولقد قمت بفعله دائما: إذ رسمت مئات الرسوم والتخطيطات للديكور وللأفعال. الشيء الوحيد الذي ساعدني هو معرفتي، بإن كل ما نقوم به من تخطيطات وتحضيرات قبل التمرين، لا شئ منه يجب أن يُحمل محمل الجد في اليوم التالي. غير إن هذا لم يمنعني عن القيام به لان هذا يعتبر تحضيراً جيداً، ولكن إذا طلبت من الممثلين أن يطبقوا التخطيطات التي وضعتها قبل ثلاثة اشهر أو ثلاثة أيام من التمرين، فسأقطع على نفسي طريق كل ما يمكن أن يكون حيويا وكل ما يمكن أن يظهر ويكشف عن نفسه أثناء لحظة التمرين ذاتها. إذن يجب القيام بهذه بالتحضيرات ولكن في نفس الوقت لا بد من التخلي عنها.
لماذا لا نتخلى عنها ؟ هل هو الخوف ! لأجل القبول بالقاعدة الأساسية التي تقول أن لاشيء لا يكتسب، يجب تحدي الخوف، حتى اللحظة الأخيرة، والوقوف أمامه بالمرصاد. يجب التحلي بالوعي في الاختيار الذي يقدم نفسه إلينا: في مواجهة هذا الخوف الذي لا مفر منه، أما أن تختار الطمأنينة أو ترفضها. وأن تعرف أيضا أن القرار المأخوذ لن يكون نهائيا أبدا.
ربما وصلنا الآن إلى مرحلة تكون فيها الاستراحة ضرورة ؟
هل نستطيع أن نعود إلى مفهوم الفضاء الذي بإمكاننا أن نسميه بالفضاء الكامن ؟ ألا يجب أن نلائم مفهوم التوتر، ومفهوم الأثر ؟ ألا يطالبنا المعلم الياباني بكل بساطة بمماثلتهم مع الفضاء بخلقنا هذا الفراغ الداخلي، لكي يولد التوتر الذي سيصبح أثرا ؟
أمام مثل هذا السؤال، يتأكد لنا، بأننا محتاجون إلى بعض الدقائق من التفكير..
( ضحك .. )
الاستراحة
1
نهار سعيد، يا سيد ليفنك ستون
إن غياب الديكور في فضاء خالٍ، يعتبر واحداً من الهيئات اللازمة التي لا مفر منها. وإذا كنت هنا لا احمل أي تمييز أو احتكام فليس من أجل القول بأن هذا أفضل أو أقل جودة، ولكي أكون اكثر وضوحا ، فإنني أؤكد بأن هذا الفضاء إذا كان فارغاً، فهذا يعني إنه لا يوجد فيه ديكور. وإذا وجد فيه ديكور واحد، فهذا يعني انه ليس بفارغ، وإنما مزدحم، حتى لو احتوى على عناصر غاية في الجمال. لانه في مثل هذه الحالة، ستكون مخيلة المتفرج هي أيضا مؤثثة أو مزينة مسبقا. إن المكان الذي نحن فيه الآن لا يقص أية حكاية. ونستطيع أن نسمي هذا فضاءاً خالياً، حتى لو وضعنا فيه بساطين، بساط على الأرض والآخر في العمق، لكي نجعل من المكان نظيفاً، مريحاً وأكثر حرارة من الحيطان السوداء الوحيدة للصالة. وهكذا فان الخيال، السمع، والتفكير الشخصي لكل واحد لا يربك.
عندما اقترحنا منذ قليل على شخصين أن يلتقيا وأن يقول أحدهما للآخر " نهار سعيد "، كان خيالكم حراً كلياً. ولو إن واحدة من بين الاثنتين[19]قد قالت " نهارك سعيد … يا سيد ليفنك ستون"، لكنتم تخيلتم أفريقيا حالاً، حيث النخيل … ولو حدث العكس، وقالت:" نهار سعيد … أين هو المترو؟ "، لأستحضر هذا القول صوراً أخرى. إلا إذا أجابت السيدة الأولى، بكل تأكيد :" المترو ؟ هنا ؟ في وسط أفريقيا ؟ عندئذ كل شيء جائز. إن الخيال يسمح بالتفكير بأن واحداً من الاثنين مجنون، وفقا لما أعتقده في أفريقيا أو في باريس، وهو يتابع الحوار:" سامحني، لقد كنت أفكر بشيء آخر، وكنت بصدد كتابة هذه المسرحية …" أو " هل يوجد طبيب في القاعة ؟ الخ … . إن غياب الديكور شرطٌ من الشروط التي تسمح بالخيال والتخيل. ضع ممثلين داخل فضاء فارغ، وهذا يشبه إلى حد كبير حالة وضعهم داخل مختبر: إننا نبحث عن شيء ما في الحياة ونضع الممثلين تحت ضوء قوي جدا من اجل أن نراهم بطريقة أفضل.
الخيال هو عضلة
إذا وضعتم، بكل بساطة، شخصين داخل هذا الفضاء، واحدا بجانب الآخر، ستلاحظون إلى أي درجة تصبح اقل التفاصيل حيوية. وهكذا نمتلك مسبقا عرضا كاملا. إن هذا لا يستطيع أن يستمر إلى ما لا نهاية، ولكنه منذ البداية كان يؤدي عمله. وهذا بالنسبة لي، الاختلاف الكبير ما بين المسرح، في شكله الأساسي، والسينما. إن الشخص في السينما، وبسبب الصورة، يكون دائما في سياق معين، ولا يستطيع أن يتخلص من سياقه أبدا. كانت هنالك محاولات كثيرة لإخراج أفلام داخل ديكورات مجردة، بدون ديكور، في عمق ابيض باستثناء فيلم "جان دارك" من اخراجDreyer[20]، الذي لم يحقق نجاحا أبدا. لو راقبنا افضل الأفلام الكبيرة التي صورت، للاحظنا إن قوة السينما تكمن في قوة الصورة والصورة هي " شخص واحد في مكان من الأمكنة". نفهم من هذا المعنى، إن السينما لا يمكن أن تكون إلا اجتماعية، لا تستطيع أن تتجاهل ولو للحظة السياق الاجتماعي الذي توجد هي فيه. إنها تفرض بعض الواقعية اليومية، فالممثل فيها جزء لا يتجزأ من نفس العالم الذي توجد فيه الكاميرا. في المسرح، بإمكاننا أن نتخيل بابا (حَبْر أعظم) يمثل من قبل ممثل يرتدي بلوفر "كنزه صوفية" بيضاء حمراء، مثل أي واحد منكم يرتديها الآن. في السينما، إن هذا سيكون مستحيلا. إذ يجب أن تتوفر الشروحات الخاصة التي من غيرها لا يمكن أن يكون هذا الاتفاق أو الاشتراط مقبولا. إن الخيال في المسرح يملأ الفراغ في حين أن في السينما الشاشة هي التي تعرض الكل، المرتبط بطريقة عضوية ومتماسكة.
إن الفراغ في المسرح يسمح للخيال بأن يملأ الثغرات. وبطريقة متناقضة في الظاهر، كلما أعطيناه أقل، كان أكثر سعادة وفرحاً. إن الخيال عضلة، إنها سعيدة جدا بممارستها للعبة. بإمكاني أن آخذ هذه القنينة البلاستيكية، على سبيل المثال واقرر إنها تمثل برج بيز Pise [21].
أستطيع أن العب معها، أن اجعلها تميل، أحاول أن أجعلها تسقط، وربما حتى اجعلها تنهار، أن تنفجر على الأرض .. بإمكاننا أن نتخيل ذلك في المسرح أوفي الأوبرا، وبمستطاع هذه القنينة البلاستيكية أن تخلق صورة اكثر قوة من الصورة العادية للمؤثرات الخاصة بالسينما التي تبنى برجاً حقيقياً وهزة أرضية بالمليارات الخ … . إن الخيال، هذه العضلة، ستكون اقل اكتفاء.
نرى من خلال ذلك ماذا تعني مشاركة الجمهور. في الستينات، كنا نتوق إلى "مشاركة" الجمهور. وبسذاجة كنا نعتقد، إن "المشاركة" تعني التظاهر بجسده، أن يقفز فوق المسرح، أن يثور، أن يصبح جزءاً من مجموعة الممثلين. إن كل هذا ممكن وفي بعض الأحيان يكون هذا النوع من التظاهرات مهماً جدا، ولكن "المشاركة" تعني شيئا آخر. إنها تشتمل على عملية دخول في نوع من التوطئ مع المسرح والقبول بأن تصبح القنينة البلاستيكية برج بيزا pI ise أو تصبح صاروخاً يذهب إلى القمر … إن الخيال يلعب هذه الأنماط من اللعب بمتعة ولكن شرط أن يكون الإنسان في "غير ما مكان". لو كان خلفي الآن مكتب أو مركبة فضائية، لرأينا تدخل المنطق السينمائي بأسرع ما يمكن. وبهذه الحالة، لا بد من مكائن وآلات لأجل تصوير وتقديم الصاروخ، الفضاء، والقمر.
في المسرح بإمكاننا، أن نتقبل في آن واحد، أن تكون هذه القنينة البلاستيكية صاروخا وأن تلتقي عن طريق الصدفة والمصادفة، بشخصية حقيقية، فوق كوكب فينوس. ويمكن أن تستمر القصة نفسها بتغيرها، برمشة عين، الفضاء والزمان. يكفي أن أقول" منذ كم قرناً وصلت أنا إلى هنا ؟ لكي نقوم بقفزة كبيرة ونتنقل في الزمن. وبنفس الطريقة بإمكاني أن أنتقل من كوكب فينوس إلى متجر كبير دون أي صعوبة، وأن اصبح حكواتي، وأن أذهب من جديد في الصاروخ الفضائي، الخ … . كل هذا ممكنٌ شرط أن نكون داخل فضاء حر. جميع الاتفاقات ممكنة ويمكن تخيلها، فهي متوقفة على غياب الأشكال.
كاربت شو CARPET SHOW
إن التجارب التي خضناها في هذا المجال تبدأ في السبعينيات مع هذا الذي نسميه كاربت شو carpet show. كنا وقتئذ، نقوم بعدة رحلات، إلى أفريقيا وأماكن آخر، وكنا نصطحب معنا بساطاً صغيراً لكي نحدد السطح الذي فوقه سنشتغل. من خلال قيامنا بهذه المحاولات استطعنا أن نكتشف التكنيك الحقيقي للمسرح الشكسبيري. لقد لاحظنا أن الطريقة الفضلى لدراسة شكسبير، لم تكن رؤية وإعادة بناء المسرح الاليزبيثي، وتخيل كيف كان عليه الضوء Le GLOBE آنذاك، وإنما القيام، وبكل بساطة، بالارتجال حول وعلى بساط صغير. لقد اكتشفنا كيف كان من الممكن أن نبدأ مشهداً ونحن جالسون، وإنهاؤه ونحن واقفون، والجلوس ثانية وأن نكون بعد عشر سنوات، في بلد آخر … إننا نجد بسهولة في مشهد من مشاهد شكسبير شخصان يسيران بكل وضوح في مكان مغلق، في الداخل، وفجأة يجدان نفسيهما، في الخارج دون ملاحظة أي انقطاع. جزء من المسرح في الداخل، وجزء آخر في الخارج، دون معرفة في أي لحظة من اللحظات قد تم فعل العبور والانتقال من الداخل للخارج أو العكس.
لقد كتب العديد من المختصين في شكسبير مجلدات حول هذا الموضوع، يتصدون فيها دائما إلى مسألة ازدواجية الزمن لدى شكسبير. " كيف يحدث في مثل هذه المسرحية، إن هذا الكاتب الكبير، لم يفهم الخطأ الذي ارتكبه عندما زعم إن هذا قد استمر ثلاث سنوات، غير أن مصدراً من المصادر يعطينا الانطباع بأن هذا قد استمر سنة ونصف، لكنه في الحقيقة لم يستغرق إلا ثلاثة دقائق ؟ يكتبون (كيف استطاع هذا المؤلف عديم المهارة أن يكتب في الجملة: "ناولني قدحا من الشاي" وهذا بحد ذاته يشير إلى إننا في الداخل، وفي الجملة التالية: "انظر إلى ورقة الشجر هذه" وهذا يشير إلى كوننا في غابة ؟)
حتى اكتشفنا فيما بعد بأن شكسبير كان يكتب مسرحا لفضاء غير محدد …
عندما لا نمسك بوحدة المكان، ولا بوحدة الزمان، وحينما يكون الفضاء غير واضح كليا، يتم التركيز وبشكل إجباري على العلاقات الإنسانية. فإن الذي يأتي بالمنفعة، هذا الذي يحدث ما بين شخص و شخص آخر؛ والسياق الاجتماعي، حاضر دوما، والذي أحضره هي الشخصيات الأخرى. إذا كانت العلاقة ما بين امرأة غنية ولص هي موضوع الفعل، وإن هذا الذي سيخلق هذه العلاقة سيكون لا الديكور ولا الإكسسوار وإنما القصة، والفعل نفسه. هو لص، وهي ثرية، ويصل قاض فيتدخل فيما بينهما: العلاقات الإنسانية بين المرأة، واللص والحاكم هي التي ستخلق السياق. إن الديكور، في المعنى الحيوي للموضوع، قد خلق بطريقة ديناميكية وحرة كليا من خلال فن التمثيل الذي حصل ما بين الشخصيات.إذ يجب أن يكون التمثيل بأكمله، بما فيه النص معبرا بطريقة مباشرة عن اكبر توتر ممكن واكثر كثافة.
إذا وجدنا أنفسنا داخل ديكور حقيقي، بنافذة، وصندوق فولاذي لاختزان المال وما يشابهه، وباب … حينئذ سنكون في السينما. وبهذه الطريقة سيكون الإيقاع والتوتر التمثيلي أكثر هشاشة. ولأجل العثور على البعد الحياتي لهما، لابد من أن يتدخل المونتاج.
القوة والطاقة
إن العلاقة في المسرح، ما بين جملة وجملة أخرى ليست بعلاقة طبيعية مثلما هي في الحياة؛ بل إن الأمر يتعلق بعلاقة شبه معمارية تقريبا ما بين قوة وأخرى. وهنا نرجع إلى نقطة البداية والانطلاق. من اجل أن يوجد هذا الاختلاف ما بين المسرح، واللامسرح، وما بين كل الايام والحياة داخل فضاء مسرحي، فأن هذا الضغط داخل الفضاء وداخل الزمن متلازم بتعزيزه للطاقة. فالطاقة هي التي تخلق العلاقة القوية جدا مع المتفرج. لهذا السبب وبشكل بديهي، توجد الموسيقى، في جميع أشكال المسرح الشعبي، وفي جميع مسارح القرى والأرياف.
لقد رأيت مؤخرا عرضا رائعا في Ouzbekistan، قد مُثلَّ مع قارع طبول. كان عرضا كوميديا يتألف من رجل، وعشيقته، وزوجته، وخادم، في سلسلة من مشاهد الغيرة، وسوء الفهم … لقد كان المسرح يتغذى باستمرار على علاقات الشخصيات جميعها مع الموسيقي قارع الطبول.
إن قارع الطبل لم يكن يتابع ويرافق الشخصيات فحسب، وإنما كان يتدخل بشكل دائم بكل صغيرة وكبيرة تخص العرض، فبالإضافة إلى عزفه وقرعه على الطبول كان يقوم ببعض التعليقات، ويجيب على بعض الأشياء التي تعني في قلب الحدث، الخ … لماذا كان هذا العرض جيدا إلى هذه الدرجة ؟ لانه كان يمنح الطاقة للمتفرجين، وهذا ما يجعله اكثر حيوية وفرحا.
من تقاليد هذا العرض، انه كان حرا، وهذا ما نسميه نحن بالأسلوب. إذن كل شئ كان ممكنا وجائزا. وهذا ما يطرح مشكلة المسؤولية الكبرى: إذا كان كل شئ ممكنا، فهذا يعني إن هناك مع ذلك دائما بعض الأشياء المتقنة وبعض الأشياء التي هي "أي شئ". نعود دائما إلى نفس السؤال !
لقد تطرقت منذ قليل إلى عرض الممثل الواحد LE ONE MAN SHOW بقولك إن هذا لم يعد مسرحا. لقد تطرقت إلى الحكواتي … فهل يعتبر واحداً من صنف أو طراز دار يوف Dariof[22] انه لا يمارس المسرح ؟
سأكون ضد جميع المبادئ التي أحاول أن اعبر عنها إذا تعاملت مع هذا الأمر بكيفية دوغماتية. بطبيعة الحال، هنالك آلاف الاستثناءات. وهنا يتعلق الأمر بانطباع شخصي جدا وباختيار ذاتي. إنني غالبا ما أجد في عرض الممثل الواحد نقصاً لبعض الأشياء. إن العلاقة مع الجمهور يمكن أن تكون قوية جدا، مثلما في حالة الحكواتي أو المغني، وإن الشيء الوحيد الذي يحسب له حساب هو المحافظة، على هذه العلاقة. لكن بشكل عام، ولهذا السبب ربما يعد المسرح واحداً من الفنون الأكثر صعوبة، وثلاثة أشياء يجب أن تحدث في نفس الوقت وفي هارموني ممتاز.
العلاقة الثلاثية
من جهة، إن الشخص يجب أن يكون في علاقة عميقة، سرية وحميمة مع مضمونه، مع حساسيته الداخلية. إن هذه العلاقة الأولى توجد أيضا لدى الحكواتي والمغني. إن كبار الحكواتيين الذين رأيتهم، على سبيل المثال، في بيوت الشاي في إيران، في أفغانستان، كانوا يقصون أساطير ضخمة بفرح كثير ولكن أيضا برصانة داخلية كبيرة. كانوا ينفتحون على الجمهور في كل لحظة من اللحظات، لا لكي يكونوا مركز الإعجاب ومصدره وإنما من أجل أن يتقاسموا معه فرح بعض الأشياء التي تبقى وبقيت نصاً مقدساً. في سالف الزمان كان كبار الحكواتيين في الهند، يقصون المهاباراتا في المعابد الدينية، دون أن يفقدون العلاقة مع عظمة الأسطورة التي هم في طريقهم لأحيائها. لقد كانوا يمتلكون طاقة استماع موجهة نحو الداخل والخارج في آن واحد، ومثل هذا يجب أن يكون لدى كل ممثل حقيقي. انهم داخل العالمين قي ذات الوقت.
إن هذا صعب جدا ومعقد. عندما يلعب ممثل، داخل علاقة أسميها "مسرحية" يجب أن يكون في داخل هذه العلاقة ذا رصانة داخلية. مهما كانت المسرحية، يتوجب عليه أن يكون مخلصا لشيء ما، وأن يفعل كل ما بوسعه وبمشاعر رقيقة جدا. إذا مَثَلَّ "هملت" أو " الملك لير" لشكسبير، يجب عليه أن لا يفكر بالتأثير فحسب، وإنما أن يصغي باستمرار، لكل ما يتحرك في داخله؛ أن يصغي إلى كل ما هو أسطوري مخفي داخل المناطق الأكثر خفاءاً، والأكثر امتناعاً في نفسيته الخاصة. إن جزءا من حياته الخلاقة- في اللحظة التي يمثل فيها- يجب أن يكون موجها نحو الداخل دون أن يقطعه هذا الأخير، ولو للحظة، عن الشخص الذي يوجد أمامه. إننا نرى دائما ممثلين- أحيانا حتى ممثلين كبار واعين جدا بشهرتهم- متجهين كليا صوب أنفسهم. انهم يوحون بالتمثيل مع رفاقهم إيحاءا فقط. إن هذا الذي يمثل شخصية الملك لير يوحي بأنه يمثل مع كورديليا، ويستطيع أن يدير لها ظهره ويستمر بالتمثيل. في هذه الحالة، سوف لا يكون وفيا لإحدى التزاماته الكبيرة التي هي تمثيل علاقة الاب/البنت بطريقة حقيقية.
من اجل أن يكون هذا متقناً بشكل حقيقي، يجب أن لا تنطلق مبكرا أثناء التمارين. أننا نرى ممثلين يظهرون عواطفهم بشكل مبكر جدا ولا يستطيعون أن يعثروا على العلاقة الحقيقية مع الآخر.
حتى لو كان النص قد كتب من أجل أن يكون منطوقا بقوة، يجب أن نبدأ التمرين عليه بحميمية كبيرة، كي لا نهدر الطاقة. يجب أن تكون حرا بشكل كاف لكي تشعر بالعلاقة، وأن ترتجل كلمات أخرى، وأن تقوم بحركات أخرى. وكل هذا، بطبيعة الحال، مجرد مرحلة مؤقتة لأجل الوصول إلى هذا الشيء الصعب جدا الذي يعمل على الاحتفاظ بعلاقة حيوية جدا مع المحتوى الداخلي أثناء النطق بصوت قوي. كيف يُسمح لهذا التعبير الداخلي أن يتحول إلى تعبير مترع بالطاقة لأجل ملء فضاء كبير، دون خيانة ؟ كيف الصعود أكثر فأكثر بالقوة الصوتية دون أن يشوه ذلك العلاقة مع الآخر ؟ إن هذا صعب على الممثل بطريقة لا تصدق.
أخيرا، العنصر الثالث، هو إن الشخصين اللذين يمثلان يجب أن يكونا في آن واحد شخصيات مسرحية وحكوا تيه. أن يكونا حكواتي مزدوج، حكواتي برأسين، وفي نفس الوقت يجب على اللذين يمثلان فيه أن يحافظا، على علاقة حميمية وخاصة فيما بينهما، ويتحدثا مباشرة إلى المتفرجين الذين هم زبائنهم. إن لير وكوردليا يقصان على زبائنهم: " كان يا ما كان في قديم الزمان رجل وأبنته" …
إذ لابد من امتلاك هذه العلاقة الثلاثية بشكل دائم وإلزامي، مع الذات، مع الآخر، ومع الجمهور.
بمقدورنا في عرض الممثل الواحد، أن نسمح لأنفسنا بكل شئ: الحديث إلى شخصيات متخيلة … لكن يبدو لي بأن هذا النوع صادر عن واقع ذي جذر اجتماعي تراجيدي، يعني أن ما هو آتٍ صادر عن الممثلين الذين لا يجدون عملا فيتمنون أن يمارسوا أي شئ، فيبنون عرضا واحدا، وهذا طبيعي جدا. غير أنه سيكون من الحيوي والمثمر جدا لو أنهم يقومون بنفس العمل مع شريك لهم. لهذا السبب غالبا جدا ما ينقص عرضهم الواحد هذا، ذلك التحدي الذي يفرضه الشخص الآخر، وهذا الكرم الضروري اتجاه الآخر. لكن بطبيعة الحال، إن جميع هذه الاستثناءات ممكنة، وتبعث على الفخر أحيانا.
وميض الضجر
إن اكبر دليل أعرفه في العمل، هو الضجر، هذا الذي اسمعه طول الوقت،. إن الضجر في المسرح، مثل الشيطان، بإمكانه أن يبرز وينبثق في كل لحظة. يكفيه أي شئ لكي يقفز عليك، فهو مترصد، شره! انه يبحث عن اللحظة التي يتسلل فيها بطريقة غير مرئية إلى الفعل، إلى الحركة، إلى الجملة. حينما ندرك ذلك، يكفي أن نمتلك الثقة بالنفس كي نعمل. يكفي أن تأخذ نفسك مقياساً أساسياً لتقويم هذه المَلَكَة التي نتقاسمها مع كل كائنات الأرض: الضجر ! أية أعجوبة ! أستطيع أن أشاهد تمريناً، تدريباً وأقول:" إذا انتابني الضجر، فهذا يعني أن هنالك سبباً". عندئذ، وبيأس، ابحث عن السبب. أعطي فكرة إلى الشخص الآخر، أو بالعكس ألومه، وألوم نفسي … وبمجرد ما يدب فيَّ الضجر أعلم إن هذا وميضاً أحمر.
منذ أعوام، ونحن نقوم بأشياء مهمة جدا طيلة فترة تمريناتنا، نذهب لتمثيل عمل قيد التحضير، غير مكتمل، أمام الجمهور. وفي أغلب الأحيان نذهب إلى مدرسة للتمثيل أمام تلاميذها، دون أن يكونوا على علم بالأمر، دون أن يعرفوا بموضوع المسرحية. نذهب هناك من غير إكسسوارات، من غير أزياء، من غير خطة إخراجية، لا نملك غير "الفضاء الخالي" الذي تألف من الصالة الصغيرة التي نوجد نحن فيها. في البداية لا نستطيع أن نقوم بذلك، لانه لا بد من توفر العمل، ولكن بمجرد ما يتم نصف أو ثلث التمارين، نضع ما اكتشفناه موضع البرهان لرؤية ما الذي يمس مصلحة الناس، ما الذي يبعث على الضجر. إن الجمهور بشكل عام، وخاصة جمهور الأطفال يعتبر هو المعيار الأفضل. فالأطفال لا يملكون أفكارا مسبقة، انهم أما أن يهتموا وأما أن يضجروا ويملوا، أنهم أما أن يتابعوا الممثلين وأما أن ينفذ صبرهم.
صمت وإيقاع
عندما نصل إلى الجمهور الحقيقي، فأن المقياس الكبير، هو مستوى الصمت. إذا استمعنا إليه جيدا نستطيع أن نعرف كل شيء عن العرض انطلاقا من مستوى الصمت الذي نشأ في صفوف مجموعة أشخاص منتبهين. أننا نشعر أحيانا ببعض العواطف التي تعبر الجمهور، وهكذا تتغير نوعية الصمت. وبعد ذلك ببضع ثوان، نستطيع أن نكون داخل صمت مغاير تماما. وهلّم جرا … نمر بلحظاتِ كثافة شديدة إلى لحظات أقل كثافةً.. فيضعف الصمت، أحدهم سيعطس، سيحك نفسه، سيتحرك. وإذا ظهر الضجر، يكون السعال، الضوضاء الخفيفة، سيقف أحد الأشخاص، وآخر يهمس، وأخيرا، يقع الأسوأ، أحدهم يفتح منهاج العرض!
إذن علينا أن لا ندعي أبدا بأن ما نقوم به هو مهم بالضرورة، وأن لا نقول مطلقا بأن الجمهور سيء. صحيح يوجد في بعض الأحيان جمهور سيء، ولكننا لا نمتلك الحق في قول ذلك لسبب بسيط هو أننا يجب أن لا ننتظر أن يكون الجمهور جيداً. يجب الاعتراف بكل بساطة بأنه يوجد جمهور سهل وآخر صعب. عندما يكون الجمهور سهلا، فهو هبة من السماء، ولكن الجمهور الصعب ليس بالعدو. إن هذا ليس بغير طبيعي. بل على العكس، أن الجمهور في حالته الطبيعية هو مقاوم، إذن يجب البحث باستمرار، عما ينشطه، دون فقدان أواصر العلاقة الحميمة بالمضمون وبالآخر، وهذا ما يجب التذكير به. كل هذا يجب أن يحدث دون محاباة أبدا، ودون بحث عن الإعجاب بأي ثمن.
في اللحظة التي يحدث فيها هذا، نلاحظ أن عنصراً فاتناً وساحراً، يقترب حد التلامس من إيقاع حركة العرض. في مسرح العلبة الإيطالية، عندما تقع التمارين دون أي علاقة مع الجمهور، وحينما ترفع الستارة للمرة الأولى، نادرا ما ينشأ اتصال ما بين الصالة وبين هؤلاء الذين بدأوا يحكون القصة من على المسرح.
يبدأ العرض دائما بإيقاع معين في حين أن الجمهور يكون في إيقاع آخر لا يشبه بالضرورة الإيقاع الذي بدأ فيه العرض. وحينما نحضر عرضاً أولاً فاشلاً، نرى أن الممثلين في إيقاع، والجمهور في إيقاع، وإن الحركتين لا تستطيعان أن تنسجما معا.
بالمقابل، في مسرح القرية، منذ ضربة أول طبل، يتقاسم ويشترك الموسيقيون، والممثلون والجمهور، نفس العالم، ونفس الفضاء. انهم طاقم واحد. إن الحركة الأولى، والإيماءة الأولى هي التي تخلق العلاقة وانطلاقا من هذا فإن كل تطور للقصة نما ابتداءً من إيقاع مشترك. هذا ما كنا نعيشه دائما في تجاربنا في أفريقيا وهنا أيضا، عندما نمثل في مجمع سكني أو في مكان من هذا النوع. إن هذا يعطي وبشكل واضح الإحساس بطبيعة العلاقة التي يجب أن تولد وبالبنى الإيقاعية للعرض.
- يبدو لي، إنكم تقومون بالتمييز ما بين مفهوم "الشعب"، ومفهوم مقدس مثلما عرفناه سابقا، وهو الذي يحقق التبادل، والتقاسم الجماعي، ومفهوم "الجمهور" الذي هو أكثر حداثة.إن الجمهور في الوقت الحاضر لم يعد يتقاسم شيئاً، أليست هذه هي كل مشكلة المسرح الحديث؟ ومفهوم الثقافة ألم يكن لدينا ، مجرد تنظيم، مصطنع جدا، نحاول من خلاله أن نعثر على أنفسنا معاً ؟
إنني أوافقكم الرأي تماما. لهذه الأسباب فإن المسرحية المُمَثلة غالبا ما تكون قليلة الوضوح. ونبرر ذلك ببساطة بقولنا:"إن هذه المسرحية قد عرضت لأن الثقافة تحتاج لأن نقدم مسرحيات من هذا النوع". لكن لأي الأسباب والأغراض تم تقديمها ؟ بمجرد ما نطرح هذا السؤال الأساسي، نهتدي وممن غير مقاومة إلى الجواب التالي: "إن السبب الوحيد المقبول شرعا لا يمكن أن يكون إلا العلاقة بالجمهور". إذا لم نطرح السؤال على أنفسنا، حينئذ آلاف الأسباب تظهر، مثل: إن لدى المخرج منظوراً خاصاً لهذه المسرحية التي يود إخراجها، وهنالك تجربة على مستوى الأسلوب لا بد من القيام بها، وهناك نظرية سياسية يراد توضيحها … تظهر آلاف الأشياء القابلة للتفسير ولكنها جميعها ثانوية إذا ما قيست بما هو أساسي.
التعزية وتكرار العرض
إن ما تقولونه يقود إلى التفكير بهذا الذي يحدث عندما نتناول عرضا تقليدياً ونجرده عن سياقه.
يوجد في إيران مسرح فعال للغاية، وهو المسرح الإسلامي الوحيد، ويسمى "التعزية ". إن هذا المسرح يتأسس على موت أوائل شهداء الإسلام ويمثل من قبل أُناس القرية، لسكان القرية، في وقت محدد من أوقات السنة. لقد منع هذا المسرح من قبل شاه إيران خلال عدة سنوات، ومع ذلك استمر يمثل سرا في ثلاثمائة أو أربعمائة قرية في آن واحد، مثل قداس أو احتفال. واحد من العروض المؤثرة جدا التي رأيتها في حياتي، كان في قرية صغيرة في إيران، وكانت أحداثه تدورا حول الإمام الثاني عشر. كنا الأجانب الثلاثة الذين كان لهم كل الامتياز والفرح لان يكونوا ضمن حلقة القرويين الذين يحضرون العرض. كان العرض يجري ويمثل، بطريقة شعبية بسيطة جدا، وكان مؤثرا جدا، لان الجمهور كان يعيش حالة تكرار "العرض" بشكل حقيقي، انه كان ملماً ببعض الأشياء التي وقعت منذ قرون والتي أصبحت بمجرد بفعل الإعادة حاضرة من جديد. إن الاستشهاد يقع أمام أعينهم من جديد وهم يبكون مثلما رأينا حديثا بكاء سكان أهالي بغداد بعد القصف.
إن المسرح كان هنا في شكل منمنم مزخرف جدا، ولكن في مضمون واقعي تماما. لقد كان العرض واقعا، وحياةً موازية. كانت حياة الماضي، حاضرة، هنا، متشاطرة من جديد مع جميع سكان القرية. لقد كان الناس متأثرين بعمق، كانوا يعرفون المعنى الذي أعاد أحياء هذا العرض والذي بدونه كان سيتحول إلى عقيدة، وإيمان وفكرة مجردة. غير أن الأمر هنا يتعلق بحقيقة إيمانهم اكثر مما يتعلق بشيء آخر.
لقد أثيرت حول " التعزية " ضجة كبيرة، وبشكل خاص بسبب المنع الذي أُلحٍقَّ بها خلال عدة أعوام. أخيرا، وفي اللحظة التي حاولت فيها إيران والشاه أن تعطي صورة جيدة وحرة للعالم عن البلد، قام مهرجان شيراز العالمي ببرمجة (الكنز الوطني الإيراني) أي التعزية. ولقد
أتيحت لي فرصة أن أشاهد كيف كان ممكنا وفي ليلة واحدة، تحطيم شكل بطريقة كاملة عن طريق نقل الناس من مئات الكيلومترات. ولما كان الأمر يتعلق، بمهرجان عالمي، وبحضور الإمبراطورة، فقد تم دعوة مخرج مسرحي. إن أول ما قام به هذا الأخير هو انه غير الأزياء، على سبيل المثال، استبدل الجزمات المطاطية التي كانت تعطي منتعليها من تجار القرية هيئة متكبرة، بجزمات جلدية. وقد هيأ مصمم الإنارة مؤثرات ضوئية، في حين إن العرض يقام عادة في وضح النهار. الإكسسوارات التي كانت مرتجلة من الأهالي حلت مكانها إكسسوارات مفبركة بشكل جيد، الخ … .
لقد كانت برجزة العرض كلية، لكن الذي كان أكثر كآبة ولا يحتمل ومميت هو الجمهور. كان هنالك، بدلا من الجمهور المؤمن، بإيمانه البسيط الذي يعطي لكل هذا معنى، جمهورٌ جاهز من جميع جنسيات العالم غير مبال تماما بالمحتوى المقدس للتعزية. لقد كان هذا الجمهور حاضرا هنا من اجل رؤية كيف كل هذا هو جميل وفلكلوري، وقد خرج هؤلاء سعداء ممتنون لحضورهم هذا العرض الرائع والفريد من نوعه. انهم لم يكونوا يعرفوا بأنهم قد خدعوا وانهم لم يشاهدوا التعزية. لقد شاهدوا شيئا عاديا، مضجرا، خال من أي فائدة حقيقية، ولا ينم عن تجربة خاصة. لم يكونوا يعرفوا لان ذلك كان بالنسبة لهم يعني "الثقافة" والفلكلور الرسمي. وبعد العرض توجه الناس جميعهم مفتونين نحو الكوكتيل !
نفس الظاهرة وقعت في لندن، بمناسبة مهرجان الهند، مع شون Chaun البنغالي الذي حدثتكم عنه أعلاه. إن هذا النوع من العروض هناك،أي في الهند، كان وما يزال يمثل في الليل، بمصاحبة الموسيقى، والأصوات، وصفارات جميع الأطفال وهم يحملون بأياديهم مصابيح لأجل الإضاءة. القرية تعيش على طول وعرض الليل حالة من الهياج والإثارة بشكل لا يصدق، الناس واقفون، وهناك قسم كبير منهم يمارسون ألعاباً بهلوانية، نقفز فوق الأطفال
الذين يندفعون نحو الأرض مطلقين العنان للصياح … إن الشون Le Chaun هذه المرة، هنا في لندن، قد عرض في مسرح Riverside Theatre ، ذي الفضاء الجميل، في الساعة الرابعة بعد الظهر أمام خمسين امرأة متقدمة في السن، مشتركات في مجلات انلكوا-انديان، مهتمات بالشرق. لقد كانوا يشاهدون بأدب هذا العرض القادم إلى لندن من كلكتا Calcutta. لم يكن هنالك مخرج، وكانوا الممثلون يفعلون بالضبط نفس الشيء الذي كان يقومون به في القرية، ولكن عقل المسرحية لم يكن موجودا هنا، وكذلك الروح أيضا هي الأخرى لم تكن موجودة، لم يكن هنالك شيء يذكر. لا يوجد سوى العرض، ولكن بالمعنى السلبي للكلمة.
ألهذا السبب بالذات لا تتركون إلا نادرا مسرح البوف دي نورد ؟
في الواقع إننا نسافر كثيرا. صحيح إننا بعد ثلاث سنوات من التجارب التي أتحدث عنها، كنا سعداء جدا لعثورنا، بفضل مشلين روزان Micheline Rozan على مسرح البوف دي نورد الذي يلائم حاجاتنا تماما. ولكننا ندور كثيرا، في فرنسا وفي العالم. وأستطيع أن أطلعكم هنا- وهذا يصب في اهتماماتنا التي نتطرق لها اليوم- خصوصا بما يتعلق بجولتنا في فرنسا بمسرحية الملك آبو.
طريقتان لملامسة المتفرج
إن المسالة التي سوف أتطرق إليها الآن تبقى بالنسبة لي مفتوحة جدا. فإذا أردنا أن نلامس المتفرج بقوة، وأن نساعده على الانفتاح على عالم مرتبط بعالمنا، وفي الوقت ذاته أكثر ثراء وأكثر اتساعا وأكثر غموضا من هذا العالم الذي نعرفه جميعا ونطل عليه كل يوم، فهناك طريقتان:
تشتمل الأولى على البحث عن الجمال. إن قسماً كبيراً من المسرح الشرقي يتأسس على هذا المبدأ: لكي يكون الخيال مندهشا متعجبا، علينا أن نبحث في جميع العناصر عن الجمال الأكبر.
خذوا على سبيل المثال المسرح الكابوكي أو الكاتاكالي Le kabuki ou Le kathakali، انظروا إلى هذا البحث في المكياج، والبحث عن الكمال في اصغر وأبسط الإكسسوارات، كل هذا لأجل أسباب تتجاوز علم الجمال. مثلما لو إننا من خلال البحث، النقي إلى ابعد حد، نريد أن نذهب بعيدا جدا، نحو المقدس. الكل في الديكور، في الموسيقى، في الأزياء … كل شئ معمول من أجل أن يكون مؤطرا بالجمال. أصغر وأقل الحركات مدروسة من أجل تحاشي أو تجنب العادية والسوقية.
الطريقة الثانية، على النقيض تماما، إذ تعتبر ان الممثل يمتلك الإمكانية العظيمة، عندما يتوصل، إلى خلق علاقة بينه و بين خياله الخاص والخيال المفترض للمشاهد وذلك بتحويله الشيء العادي إلى شئ ساحر. إن الممثل الكبير بإمكانه أن يحول هذه القنينة البلاستيكية، هذا الشيء البشع والكريه، إلى طفل جميل. لقد شاهدت في الهند راقصة عبقرية، تدعى بالى، كانت توحي من خلال حركة واحدة تؤديها إلى وجود كريشنا طفل. يجب أن يتوفر ممثل من هذا النوع حتى يتوصل إلى شكل مسرحي نقي، وإلى هذه الخيمياء حيث نحافظ فيها ومن خلالها على رؤيتين: جزء من المخ يرى أن الأمر يتعلق بقنينة ماء معدني والجزء الآخر من المخ ، من غير تناقض، ومن دون حدة ولكن بفرح، يرى في الوقت ذاته طفلاً ويرى وموقف الأم من الطفل. هذه الخيميائية تتبع طبيعة الشيء، الذي يجب أن يكون دون خاصية محددة مسبقا.
لقد تركت هذه المسألة مفتوحة وذلك لأننا ليس في مقدورنا أن نقول أيٌّ من هاتين الطريقتين أضبط، ومن هي الأفضل.
من جانبنا، لقد بحثنا في مسرح البوف دي نور ونبحث أيضا في أماكن أخرى عن الظروف التي تلائم هذا الذي نتمناه. لقد قررنا مع مسرحية الملك آبو Ubu roi أن نتجول في فرنسا وفي الأماكن الأخرى الأقل " سحرا "، في قاعات الجمناز، في صالات الرياضة، في الأماكن الكئيبة، والقبيحة للغاية. وقد كان هذا بالنسبة للمثلين بمثابة بحث حقيقي في الوصول إلى تحويل المكان، وجعله حيا. لكن هذا ليس بالشيء الممكن تطبيقه على ومع جميع المسرحيات، ولا يمكن فعله في كل الظروف.
- لقد شاهدت الملك آبو في هذه الظروف، في جنوب غربي فرنسا. فهل هذا ما تسميه " لا نقاء المسرح " ؟
النقي واللانقي
قطعا، إن الإشكاليات الحقيقية تكمن في المتناقضات، في هذا الذي من الصعب وغير الممكن حله ! هنالك لعب ما بين هذا الذي يجب أن يكون نقيا وهذا الذي يجب أن يصبح نقياً من خلال علاقته مع اللانقي. نرى إلى أية درجة لا يستطيع المسرح المثالي أن يشتغل، طالما هو يحاول أن يكون، وبشكل مستمر، خارج مادة العالم. إن النقي لا يستطيع أن يعبر عن نفسه في المسرح إلا من خلال شئ ما هو في الأساس غير نقي جدا. إن هذا هو التزاوج الخفي الذي هو بمثابة مركز التجربة.
نتحدث عن البوف[23] وعن اللانقي … فما هو رأيكم أن نذهب لنأكل !
الاستراحة
رقم 2
واحد من أكبر مبادئ مسرح النو No، التي تلفظ بها المعلم الكبير "زياميzeami "، منذ قرون، هو انه إذا مثلنا نفس المسرحية قبل وبعد العشاء، فإن هذا يغير كل شئ. لقد لاحظتم الآن إن الجو بيننا بعد الأكل قد تغير كثيرا. المبادرة الآن في ملعبك !
- لقد ذكرتم في كتابكم "الفضاء الخالي":( في المسرح كل شكل جديد يحمل مع ميلاده عناصر موته) غير أنكم تحدثتم منذ برهة عن مسرح النو الذي هو مسرح طقوسي جدا بشكل قطعي. مع ذلك إن هذا الشكل مستمر ومازال ذا تأثير قوي ويحمل كثافة كبرى. انتم بأنفسكم، وفي مسرح البوف دي نور، تستعملون دائما نفس الشكل: فضاءاً خالياً، حضور الموسيقيين،لا وجود للديكور، الكثافة مركزة على العلاقة بين الشخصيات … هل تستطيعوا أن تشرحوا ما هو قصدكم من وراء "الشكل" ؟ ولا أدري إن كان سؤالي واضحاً !
كل شكل هو فانٍ
إن سؤالك واضح جدا ! وانه يذهب بعيدا. سأحاول أن آتيكم بأمثلة ملموسة.
عندما قابلت لأول مرة في عام 1968 ممثلنا الياباني يوشي Yoshi، قال لي: (لقد درست وتعلمت في اليابان وفي مسرح النو، وكان عندي معلم نو، ولقد عملت في البنراكو Bunraku وفي النو، ولكنني أحسست بان هذا الشكل العظيم لم يعد له اتصال حقيقي مع الحياة اليومية. وإذا بقيت في اليابان فسوف لا أتمكن من العثور على حل لهذه المشكلة. إنني احترم كثيرا ما تعلمت، ولكنني في نفس الوقت بحاجة للبحث عن مكان آخر. ولقد أتيت إلى أوربا على أمل أن اعثر
على الكيفية التي اخرج بها من هذا الشكل العظيم الذي ما عاد يخاطبنا في الوقت الحاضر).
المثال الثاني:
كان تجربة معاشه بمناسبة "مؤتمر العصافير". لقد كنت اكره دائما الأقنعة التي كانت تمثل بالنسبة لي شيئا ما أكثر من الموت، شيئا محتضراً حقيقة. غير انه في هذا العرض بدا لي أن من المهم جدا استعمالها، بعد إن رأيت سلسلة من الأقنعة البالينيزbalinais القريبة جدا من صورة الإنسان والبعيدة جدا عن الوجه الجنائزي، غير السليم، الذي كنت أحس به دائما. دعونا ممثل بالينيز يدعى "تابا Tapa"، للعمل معنا. لقد كشف للجميع في اليوم الأول كيف نمثل مع القناع، كيف تتحرك كل شخصية. كان الممثلون ينظرون إليه باهتمام، واحترام ولكنهم أدركوا، مع ذلك، بأن لا أحد منهم كان بمقدوره أن يفعل ذلك. لقد أرى تابا القناع مثلما كان يعيش في التقاليد البالنيزية قبل ألف سنة ماضية. غير أن، محاولة أن نكون على غير ما نحن عليه يعتبر لوحده تقليداً اخرق.
إذن، لقد طلبنا منه ما كان يمكن القيام به." في النهاية الأمر، كان المهم، بالنسبة لنا هي اللحظة التي نتقلد فيها القناع" وهذا ما قلناه له. أي لم تكن، ولم تعد التعليمات التي تتعلق بالأسلوب مهمة بالنسبة لنا بقدر أهمية التوضيحات الجوهرية. (أن نأخذ القناع، ونظل ننظر إليه خلال فترة طويلة حتى نشعر بتعبير هذا الوجه الذي نتوصل معه إلى مرحلة التنفس معا. في هذه اللحظة فقط، نستطيع أن نضعه فوق وجوهنا.) انطلاقا، من هذه اللحظة، حاول كل واحد منا بما فيه الممثل البالينيزي "بابا" أن يعثر على علاقته الخاصة مع القناع، وهذا كان بمثابة تجربة مذهلة، أن ترى، خارج نطاق الحركات المشفرة من قبل التقاليد والأعراف،أن هناك آلاف الأشكال، وآلاف الحركات التي تتلاءم مع حياة القناع. كان ذلك في متناول الجميع لانه وبكل بساطة لا يمر من خلال القوانين والرموز الجامدة المتسمرة في مكانها نتيجة التقاليد.
الصورة الثالثة:
العرض الأول لمسرح الكاتكلي [24]kathakali الذي حضرته في كاليفورنيا. وقد
تم ذلك داخل مدرسة للفنون الدرامية، وكان العرض مكوناً من قسمين. في القسم الاول، كان الممثل ممكيجا، متنكر اللباس، يقوم بعرض الرقص الكاتكلي التقليدي، مثلما لو انه كان في عرض حقيقي، تصاحبه اسطوانة موسيقية، الخ. لقد كان هذا التقديم جميلاً وغريباً جدا.
فاصل !
لدى رجوعنا بعد الفاصل، كان الممثل قد مسح المكياج من وجهه، وارتدى بنطلون جينز " كأبوي"، وقميص عادياً، وبدأ يعطي بعض الشروحات. ولأجل أن يجعل شروحاته حيوية اكثر، صار يوضحها، ويمثل الشخصيات ولكن من دون أن يكون مرغماً هذه المرة على القيام بالحركات التقليدية بشكل مضبوط. فجأة، بدا لنا، أن ما يقوم به يفوق بكثير الشكل التقليدي الذي قدمه قبل الفاصل.
الخاتمة هي انه بشكل عام، وفي المعنى الذي نستعمل فيه هذه الكلمة، فأن التقليد يعني الجمود. وإن هذا الشكل الجامد يولد بكيفية آلية لا إرادية، وهو تقريبا محتضر، مع بعض الاستثناءات الكبيرة، عندما تكون النوعية رائعة للغاية فإن الحياة تقيم فيها، كما هو الأمر عند بعض الأشخاص المتقدمين قي السن الذين يظلون حيويين ومؤثرين للغاية. غير أن جميع الأشكال هي فانية. ولا يوجد شكل، ابتداءً من عندنا، لا يكون خاضعاً لقانون العالم الأساسي: الذي هو قانون الاختفاء والتواري. وهذا بحد ذاته رائع. فجميع الديانات، وجميع المعارف، وجميع التقاليد، وجميع العقلاء يقبلون بمنطق الولادة والموت.
LE "SPHOTA"
الولادة، هي وضع الشكل، عندما نتحدث عن كائن إنساني، عن طفل، عن جملة، عن كلمة، عن حركة. إن هذا يرجع إلى هذا الذي يسميه الهنود" le spohota". إن هذا المعنى المجرد عظيم وذلك لان المعنى نفسه يكمن في رنين وموسيقية الكلمة. في سيل من الطاقة الخالية من الشكل، هنالك "فجأة" أنواع من الانفجارات التي تلائم هذا المعنى: "le spohota". هذا الشكل نستطيع أن نطلق عليه اسم التجسيد L incarnation"".
أحد الأشخاص لديه فكرة ما، وبسرعة فائقة تأخذ هذه الفكرة شكل ما، وتدوم الوقت الذي تدومه. بعض الحشرات تعيش يوما واحدا، وبعض الحيوانات يطول بها العمر بضعة الأعوام،
وبعض الناس يعيشون عمرا طويلا جدا، والفيلة أيضا تعيش عمرا أطول … نفس الشيء ينطبق على الفكرة، أو على الذاكرة.
تمتلكون في داخلكم الذاكرة التي لها بالضرورة شكل ما. وبعض أشكال الذاكرة (" أين ركنت سيارتي ؟") يستمر بالكاد يوما واحدا. بعد غد، تتوارى لكي تترك مكانا لشكل جديد. وهناك أشكال أخرى للذاكرة تُعَمِّر وقتاً أطول: رقم هاتف يمكن أن يحفظ عدة أيام، وعدة أعوام. وأخيرا ! هناك الذكريات الحقيقية، والتجارب التي تترك آثارها بقوة على طول الحياة وعرضها. وهذا المظهر نفسه يسري على جميع الأشكال. عندما تذهبون لمشاهدة مسرحية ساذجة، فيلم، وفي الغد لا تعودوا تعرفون أو تذكرون حتى ماذا كانت تريد أن تقول هذه المسرحية وهناك أشكال أخرى تدوم لوقت أطول.
عندما تخرجون مسرحية، فإن هذه المسرحية، في البداية، لا تمتلك شكلاً. إن الحادث أو الواقعة هي وضع الشكل. وإن هذا الذي نسميه العمل، هو البحث عن الشكل المتقن. إذا حقق هذا العمل نجاحا، فإن العرض، على سبيل الاحتمال، يمكن أن يدوم بضع سنوات لا أكثر.بالنسبة المسرحية "كارمن" فان عرضها دام حوالي أربع أو خمس سنوات قبل أن نشعر بأننا قد تجاوزنا الحدود القصوى، على الصعيد الداخلي والخارجي في آن واحد. إن الشكل الخارجي، وفرقة الغناء بأكملها، لم يعودوا يمتلكون نفس الطاقة.
الشكل المنجز
لأجل ذلك يجب أن لا يخلط الشكل المفترض مع الشكل المنجز. إن الشكل المنجز هو هذا الذي نسميه العرض. انه يأخذ شكله الخارجي بعمل جميع العناصر التي تكون حاضرة في ولادته، مثلما في علم التنجيم. والتنجيم في المسرح، هو اليوم واللحظة التي يجري فيها العرض المسرحي. إن نفس المسرحية تقدم اليوم في باريس، في بوخارست، أو في بغداد ستكون بكل تأكيد مختلفة جدا في شكلها. إن المكان، المناخ الاجتماعي، السياسي، الجو، التفكير كل هذه العناصر تمارس تأثيرها على الشخصيات.
يسألونني في بعض الأحيان عن العلاقة الموجودة ما بين عرض مسرحية "العاصفة" التي قدمتها منذ حوالي ثلاثين سنة في Stratford وبين هذا العرض الذي قدمته "للعاصفة" مؤخرا في مسرح البوف دي نور. بكل تأكيد إن هذا السؤال ساذج وبليد ! كيف سيكون ممكنا أن يوجد ابسط الشبه وأقله في الشكل ما بين مسرحية قدمت في وقت آخر، وفي بلد آخر، مع ممثلين كانوا جميعا من نفس العرق وما بين المسرحية التي أقدمها اليوم في باريس مع مجموعة من الممثلين المختلفين في الأصول والجنسية، عازفين يابانيين، إيراني واحد، مجموعة أفارقة ؟
لحسن الحظ، إن الشكل ليس بشيء يمكن اختراعه، من قبل المخرج، انه " Le sphota" مع بعض الروابط. إن هذه Le sphota تشبه إلى حد كبير النَبْتة التي تنمو، تتفتح، تأخذ وقتها، ثم تذبل فتترك مكانها إلى نَبْتةٌ أخرى. إنني ألح كثيرا في هذا الأمر لانه يوجد الكثير من سوء الفهم الذي كثيرا ما يعرقل العمل في المسرح، وسوء الفهم هذا يرنو إلى الاعتقاد بأن ما سطره المؤلف وملحن الأوبرا على الورق، هو شكل.
إذا فكرنا أو اعتقدنا بهذه الطريقة والكيفية، فإننا ضائعون لا محالة.
الشكل المفترض
نتطرق هنا إلى سوء فهم حول شكسبير الذي أشاهده منذ أعوام كثيرة. يزعم البعض بأنه "يجب تمثيل المسرحية مثلما كتبها شكسبير". إن هذا شيء سخيف ومناف للعقل تماما ! لانه لا أحد يعلم أيّ الإشكال المسرحية كانت موجوداً في رأس شكسبير عند الكتابة. وكل ما نعرفه، انه كتب سلسلة من الكلمات التي تمتلك هذه الإمكانية على توليد أشكال دون أن تتوقف عن التجدد. لا توجد حدود في الأشكال الافتراضية الموجودة في نص كبير. إن النص الضعيف لا يستطيع أن يعطي ولادة إلا لبعض الأشكال في حين إن النص الكبير، والقطعة الموسيقية الكبيرة، أو التوليفة الأوبرالية الكبيرة هي مراكز حقيقية من الطاقة. إن الطاقة نفسها لا تمتلك شكلاً معيناً، فهي مثل الكهرباء، ومثل مصادر الطاقة، إنها تمتلك دفة القيادة، والقوة.
بإمكاننا أن نلاحظ أن في أيّ نص من النصوص يوجد هناك بناء. لكن لا يوجد أيّ شاعر حقيقي لا يفكر بأولوية هذا البناء، وعلى الرغم من انه قد عزز في داخله بعض القوانين، فلديه الدافع القوي جدا الذي يدفعه لان يزرع الحياة في بعض الأشياء. وفي أثناء بحثه عن هذا الذي يجعل هذه العناصر حية، يلتقي بالقوانين وحين ذاك يندمج هذا في بنية الكلمات. وبمجرد ما يطبع، يوجد الشكل الذي هو كتاب.
إذا كان الأمر يتعلق شاعر أو روائي، فإن هذا يكفي. ولكن بالنسبة للمسرح، فنحن في منتصف الطريق. إن هذا الذي كتب أو طبع لم يصبح بعد هذا الشكل الذي يمكن أن يخرج في يوم من الايام هذه الكلمات، في شكل درامي. إذا قلنا إن " هذه الكلمات يجب أن تلفظ أو بالأحرى أن تلقى طريقة من الطرق، ويجب أن تمتلك لوناً من الألوان، موسيقى … " للأسف، أو ربما لحسن الحظ، نخطئ دائما. إن هذا يقود كل ما هو سيء وقبيح من التقاليد، نحو المعنى السيء في الموضوع.
إننا دائما نندهش من كمية الأشكال الغير منتظرة أو التي تستطيع أن ينبثق من نفس العناصر ومن ذات النزوع الإنساني الرافض دائما لتقويض العالم.
إننا هنا في قلب المشكلة. لا يوجد شيء في الحياة، من دون شكل؛ نحن مرغمون في كل لحظة، لا سيما عندما نتحدث، على أن نبحث عن شكل. غير أننا، يجب أن نضع في الحسبان أن هذا الشكل يمكن أن يكون –وبالضبط- العائق المطلق للحياة، والذي ليس له شكل. لا نستطيع أن نتخلص من هذه الصعوبة والكفاح الدائم: إن الشكل ضروري ولكنه ليس كل شئ.
إزاء هذه الصعوبة، لا شئ سيأخذ موقفاً صافياً منتظراً سقوط الشكل المتكامل من السماء، لان معنى هذا، إننا سوف لا نفعل شيئا يذكر. إن هذا الموقف سيكون غبياً. هنا تظهر من جديد مسالة النقي واللانقي. إن الشكل النقي لا ينزل من السماء. إن وضع
الشكل أو ولادته هي دائما نوع من التسوية التي يجب قبولها، مع قولنا لأنفسنا " إن هذا مؤقت، ولا بد من تجديد". وهنا نتطرق إلى واحد من الاسئلة الديناميكية التي لا تنتهي أبدا.
إن هذا لا يحل مشكلتي التي هي إعطاؤكم أجوبة صغيرة !
- إن ما يتعلق "بكارمن Carmen" يبدو لي إن الحافة ما بين الشكل الافتراضي والشكل المنجز كانت رهيفة أو رقيقة. الأجل هذا السبب حققتم بعض الإعداد من خلال التقطيع ؟ وهل إن التقطيع يسمح بالتقرب من هذا الذي تسمونه نوعية ؟
كارمن في هوليود
عندما بدأت العمل في كارمن مع "جان كلود كاغير*-Jean-claud carrier وماريوس كونستانMarius constant **-"، كان الشيء الوحيد الذي كنا متفقين عليه هو إن الشكل الذي أعطته “ بيزه”Bizet***- لكارمن لم يكن ضروريا لهذا الذي سيكون عليه اليوم. لقد كان لدينا الانطباع بأن جورج بيزه كان مثل سيناريست في السينما كلف اليوم من قبل شركة هوليودية لعمل فيلم كبير ناجح عن موضوع جد جميل. إن السيناريست الذي يعرف قوانين اللعبة يعلم أنه، مهما كانت طريقته الخاصة التي يرى بها الأشياء، فهو مرغم على أن يلعب مع المعايير الكبيرة للسينما التجارية العالمية، الموسومة أو المشار إليها كل يوم من قبل المنتج: قصة الحب غير الشرعية، النهاية السعيدة، الخ. إن هذا ليس له أية علاقة مع فيلم لتاركوفسكي****حيث كل ما يوجد فيه يقوم بعمل انعكاس عميق، وكله بجملته وتفصيله ضروري بشكل مطلق.
لقد كان لدينا الإحساس بان جورج بيزه كان قد تأثر بشكل عميق بقراءة حكاية كارمن لمؤلفها "ميريميه"، التي هي قصة دقيقة بطريقة لا تصدق ومكتوبة بأسلوب غير مزخرف، بلا تعقيدات ولا أيّ اصطناع. إن هذا بعكس المؤلف الباروكي[25]، إن أسلوبه بسيط ودقيق جدا. انطلاقا من هذه القصة القصيرة، كان جورج بيزه مرغماً على القيام بأوبرا كوميك في عصره الذي كان فيه ما يشبه هوليود اليوم، بالضوابط والمعاير التي لا بد من احترامها. إذن، ها نحن ننطلق من مبدأ تطرقنا إليه منذ قليل: الضجر. لقد طرحنا أسئلة حول طبيعة الضجر الذي أثارته عندنا، بشكل عام، عروض "كارمن"، لأجل الوصول إلى خاتمة، مفادها مسرح فارغ، يُقتحم فجأة من قبل ثمانين شخصاً يأتون يغنون ومن ثم يولون الأدبار، كان هذا مضجرا بعمق.
بالمقابل، إن الموسيقى لم تكن بالنسبة لنا وبالنسبة لماريوس كونستان، هي أفضل ما في الأوبرا. الأكثر أهمية، كانت الموسيقى التي تعبر عن العلاقات ما بين الشخصيات. ولهذا فلقد اتخذنا القرار، الذي كان يمثلنا، وربما كان سيتعذر تحقيقه تماما، وهو أن نحاول رؤية ما إذا كنا نستطيع أن نستخلص من هذه ساعات الأربع ما سميناه عن رضا ورغبه بتراجيديا كارمن، معتمدين في مرجعيتنا تلك على التراجيديا الإغريقية. هذا يعني إننا لم نحتفظ إلا بالعلاقات القوية والتراجيدية التي كانت بين الشخصيات. ولقد أحسسنا هنا بوجود المقاطع الموسيقية ذات النوعية الكبيرة، التي تأتي من الخصوصية. عندما نمثل أوبرا في مسرح كبير، وبمعايير وإمكانيات كبيرة، يمكن أن تمتلك حيوية كبيرة ونشاطاً كبير، ولكن ليس بالضرورة أن تمتلك نوعية كبيرة. إننا حاولنا أن نبحث عن كل هذا من خلال الموسيقى التي تستطيع أن تغنى بهدوء، وبخفة، وبدون إفراط وبدون إسْتِعرائيّة*، وبدون مهارة كبيرة. إن القيام بذلك، يعني الذهاب نحو الخصوصية، لأننا نبحث في الأساس عن النوعية.
مَطْرَقَةٌ من أجل إغلاق الفم
أخيرا، أظنكم فهمتم، وأنا أنصحكم، في كل مرة تذهبون فيها إلى المسرح وتشعرون فيها بالضجر، بأن عليكم أن لا تخفوا ضجركم هذا، معتقدين بأنكم أنتم السبب في ذلك، وأنه كان خطأكم. يجب أن لا تقمعكم الفكرة الجميلة عن الأدب. اطرحوا تساؤلاتكم جيدا: هل هنالك شيء ما ينقصني، أم أن النقص يوجد في العرض ؟ فلديكم الحق كل الحق في أن تعترضوا على هذه الفكرة الشنيعة، التي هي اليوم مقبولة اجتماعيا، والتي تقول بان الأدب سيصبح متفوقا بطريقة أوتوماتيكية. بالتأكيد، إن الثقافة هي شيء مهم جدا ولكن الفكرة الفضفاضة التي لا تُمتَحَنْ، ولا تتجدد، هي فكرة تستعمل مثل مطرقة لمنع الناس عن فتح أفواههم.
إن هذا سيئ أيضا، ولحسن الحظ هو أقل في فرنسا إذا ما قورن بإنكلترا أو أمريكا، حيث تعتبر الثقافة مثلما لو إنها سيارة مرسيديس أو مطعم فاخر: فهي مظهر خارجي للنجاح الاجتماعي. هذه هي الفكرة القاعدية (الضامنة). إن مبدأ الضمان والكفالة شئ تراجيدي دخل إلى عالمناَّ. إن الفائدة الوحيدة التي يحصل عليها الحدث المسرحي من الضامن أو الكفيل، هي إمكانيته على القيام بجلب زبائنه ونسائه. وبناءا على ذلك، يجب أن يكون العرض مطابق أو ملائم للفكرة التي يكونونها عن الثقافة سواء كان العرض رفيع المستوى أو جميلاً ومليئاً بالضجر.
لقد أرادَّ مسرح صغير في لندن، ذو سمعة وصيت جيدان يدعى L Almeida، أن يستضيف عرضنا المسرحي لكارمن. ولقد طلبت مجموعة العمل إعانة مالية من واحد من اكبر المصارف، والتي كانت بدورها فرحة ومغتبطة بإعانتها للعرض: " تقديم كارمن، يالها من فكرة عظيمة!" وبعد إنجاز جميع التحضيرات المتعلقة بموضوع السفر، تلّقى مدير المسرح مكالمة هاتفية من المسؤول الثقافي للمصرف يقول له فيها : لقد حصلت للتو على برنامج العرض، وبعد إطلاعي عليه وجدته غريبا بعض الشيء … هو أن مسرحكم الذي سوف تقدمون فيه "كارمن" لا يقع في وسط مدينة لندن ؟ انه في الضواحي ؟ وإن أوبرا "كارمن" تقدم بمرافقة أربعة مغنين وممثلين ؟ وإن الأوركسترا قد تقلصت إلى أربعة عشر عازفاً ؟ وكذلك الجوقة ؟ لا توجد جوقة … ؟ ولكن ماذا تحسبوننا بالضبط ؟ هل تتخيلون إن مصرفنا سيأتي بأحسن زبائنه من أجل رؤية كارمن من دون جوقة، وبأوركسترا مقلصة ومختصره ؟ ثم اغلق سماعة الهاتف ؟ وهكذا لم نعرض "كارمن" في لندن نهائيا !
لهذا السبب أراني ألحُ على الاختلاف ما بين الثقافة الحية، وهذه الفكرة الأخرى عن الثقافة، الخطرة بشكل متطرف والتي بدأت تخترق العالم المتطور كله، وخاصة منذ أن تفشت هذه العلاقة بين العرض وضامنه أو كفيله.
- لقد تحدثتم كثيرا عن المسرح المميت، فهل تستطيعون أن ترجعوا إلى بعض المفاهيم الأخرى لكتابكم، "المسرح المقدس"، "المسرح الخشن"، "المسرح المباشر" ؟
المسرح المقدس
عندما يتعلق الأمر" بالمسرح المقدس" فإننا نعني بالدرجة الأساس اللامرئي المَرْدود إلى المرئي. في الحقيقة هناك كثير من طبقات اللامرئي. إن العالم بأكمله في القرن العشرين يقر ويعترف بالطبقة البسيكلوجية، هذه المنطقة المعتمة حيث، يوجد الكذب ما بين هذا الذي قيل وما بين هذا الذي هو حقيقة. أن كل المسرح المعاصر، تقريبا، يعترف بهذا العالم ألفرويدي الشاسع حيث، توجد خلف الحركة والحوار الظاهر، المنطقة اللامرئية، التي تتموضع فيها حوافز الأنا، والأنا العليا، والكبت، واللاشعوري … التي تخلق التفاوت بين هذا الذي قُدِّمَ كحقيقة وهذا الذي هو في واقع الحال شكل من أشكال الكذب.
أن هذا المستوى البسيكولوجي اللامرئي لا يتأتى قطعا من المسرح المقدس. إن "المسرح المقدس" يقول بأن خلف هذا توجد أيضا، تحت، وحول، وفوق، منطقة أخرى أكثر لا مرئية، واكثر ابتعادا وبعدا عن الأشكال التي نحن قادرون على قراءتها، وتسجيلها، والتي تمتلك مصادر طاقة بالغة القوى.
في مناطق الطاقة هذه المعروفة قليلا، توجد الحوافز التي تقودنا نحو "النوعية". إن كل حافز إنساني نحو هذا الذي نطلق عليه، بطريقة غامضة ورعناء النوعية، يأتي من مصدر نحن نجهل طبيعة بشكل كلي، ومعناه نفسه، ولكننا قادرون تماما على التعرف عليه عندما يتجلى فينا أو في شخص آخر. إن هذا لا ينتشر من خلال الضجيج وإنما يتفشى من خلال الصمت. وهكذا نحن نسميه، طالما يتوجب علينا استعمال كلمة " مقدس".
إن المسألة الوحيدة التي ينبغي معرفتها هي: هل إن المقدس هو شكل أم انه غير ذلك ؟ إن انحلال وفساد الأديان متأت من خلطنا للتيار، للضوء، الذي هو ليس إلا شكل مؤقت، مع هذا الذي نقوم بتسميته، أيّ المراسيم، الطقوس، العقائد (الدوغمات). بعض الأشكال التي كانت ملائمة تماما لبعض الأشخاص على مدى سنوات أو كانت ملائمة لمجتمع بحاله خلال قرن من الزمان، مازالت موجودة اليوم، ويتم الدفاع عنها باسم الاحترام. ولكن أيّ احترام نعني؟
لقد فهم الإنسان، منذ آلاف السنين بأنه لا يوجد شئ اكثر رهبة وهولا من عبادة الأوثان، وذلك لان الوثن ما هو إلا قطعة من الخشب. إذا كنا نبحث عن المقدس، وهذا بالطبع قرار شخصي جدا، فإننا لن نصل إلى توافق: لانه أما أن يكون موجود في لحظة، وإما انه غير موجود. لأننا لا نستطيع أن نمتلك مقدسا يكون حاضرا في أيام الأحد، وينام أو يختفي في باقي أيام الأسبوع. انه من غير المعقول الاعتقاد بأن المقدس موجود في قمة الجبل وليس في الهضبة.
اللامرئي في حياة البشر
إن المشكلة هي إن اللامرئي ليس ملزما لان يكون مرئيا، حتى يعجب به العالم بأسره. يعتقد بعض الصحفيين أو مقدمي البرامج التلفزيونية بأن ذهابهم إلى الهند، وطرق باب "الشارما [26]asharma" ومطالبة الشيخ الروحي بأن يحكي ، بان هذا كافٍ للكشف لهم عن المقدس: " صباح الخير، أنا صحفي من القناة التلفزيونية الفرنسية الثانية، أريد أن أرى المقدس !" بالتأكيد انه سوف لا يرى شيئا وعندما يعود سيقول إن المقدس ليس له وجود.
إذا كان اللامرئي غير مرغم على الكشف عن نفسه، ففي هذه الحالة يستطيع أن يوجد في أيّ مكان وفي أية لحظة، ومن خلال أيّ شخص، شريطة أن تكون الظروف متقنة. إذن، إنني أعتقد بأنه من غير النافع والمفيد أن ننتج من جديد الطقوس المقدسة للماضي التي تمتلك حظا قليلا في اصطحابنا نحو اللامرئي. إن الشيء الوحيد الذي بإمكانه أن يساعدنا، هو الإحساس بالحاضر. الإحساس بأن اللحظة الحاضرة محاطة بطريقة مكثفة خاصة وإن الشروط ملائمة في " Sphota"، هذا " الضوء" الذي ينبثق في لحظته المتقنة، في حركته المتقنة، في نظرته المتقنة، وفي تبادله المتقن. وبناء على ذلك، فإن بمقدور اللامرئي أن يظهر في آلاف الحالات والظروف غير المنتظرة جدا، ولكن بكل تأكيد، من خلال شكل. إذن، إن اقتفاء أثر المقدس هو بمثابة موقف، وبحث .
إن اللامرئي يستطيع أن يكشف وأن يظهر في الأشياء الأكثر عادية مادام التَحوُّل، والخْيمياء حاضرين. إن قنينة الماء البلاستيكية التي حدثتكم عنها سابقا تستطيع أن تتحول وتتخصب بظهور اللامرئي، طالما كان الشخص الذي يمسك بها في حالة استقبال، وذا موهبة مليئة وجيده. إن بإمكان الراقصة الهندية أن تقدس هذه القنينة البلاستيكية بطريقة عادلة ومتقنة جدا.
إن المقدس هو التحوْيل في نوعية هذا الذي لم يكن مقدسا في البداية. إن المسرح يمر وينتقل بواسطة العلاقات الإنسانية بين البشر الذين، هم بالضرورة ليسوا بمقدسين، وذلك لأنهم ينتمون لعالم الإنسان. إن اللامرئي يظهر ويتكشف للوجود من خلال المرئي الذي هو حياة البشر.
المسرح الخشن
إن " المسرح الخشن" و" المسرح الشعبي" شيء آخر.
انه احتفال بالمواد المتوفرة، وتدمير وإبادة كل ما هو ذو نظام جمالي. إن هذا لا يعني أن الجمال لا يدخل أو لا يشترك في هذه الاحتفالية، ولكنهم هؤلاء الناس الذين يقولون: " نحن لا نمتلك إمكانية خارجية، وليس لدينا نقود، ولا أية حِرفيّة ( صناعة الحرفي)، ولا كفاءة جمالية، ولا نستطيع أن ندفع ثمن الملابس الأنيقة ولا الديكورات، ولا نمتلك خشبة مسرح، ولا نمتلك شيئا آخر غير أجسادنا، مخيلتنا والمواد .. المتوفرة."
عندما عملنا مع فرقة " كاربت شو Carpet Show"، اشتغلنا وبالتحديد بالمواد المتوفرة فقط. في العديد من البلدان، كان من المهم الاستنتاج بأننا قد وجدنا أنفسنا نعيش نفس تقاليد المسارح الشعبية التي التقينا بها، وذلك لأننا أيضا لم نكن نبحث عن التقاليد. في الأماكن الأكثر اختلافا وتنوعا، في مثل سكان المناطق القطبية الإسكيمو، ومعهم في أماكن البالينيز، في الأماكن الكورية، نقوم نحن أيضا وبالتحديد بنفس الشيء. لقد تعرفت في الهند على فرقة مسرحية عظيمة، على مسرح قرية ملئ بالأشخاص الموهوبين والمبدعين جدا. إذا كان يتوجب على ممثلي هذه الفرقة والمسرح أن يمثلوا اليوم هنا، فإنهم سوف لن يتأخرون عن استخدام هذه الأرائك التي تجلسون عليها، وسوف يستخدمون على الفور هذه القنينة البلاستيكية، هذه الكأس، وهذين الكتابين … وذلك لأنها هي الأشياء الموجودة أمامهم وهي الوحيدة التي في حوزتهم. إذا كان الأمر يتعلق بالمسرح الخشن، فإن هذا هو الأساسي.
المسرح المباشر
عندما أتكلم عن "المسرح المباشر" فإنني أقصد وبكل بساطة، أن كل ما قلته حتى هذه اللحظة هو نسبي جدا. يجب أن لا يؤخذ أيّ شئ كمبدأ "دوغم" أو كتصنيف نهائي. فكل شئ مشكوك فيه، مثلما هو مشكوك في المواد المتوفرة. إن "المسرح المباشر" يعني انه، مهما كان الموضوع المُعَاَّلجْ، يجب العثور على احسن الإمكانيات أو المواد، هنا والآن، من أجل بعث الحياة في هذا الموضوع. نلاحظ على الفور إن هذا يتطلب بحثاً مستمراً، لكل حالة، وفقا للحاجات. عندما نعي ونكتشف ذلك، نجد أنفسنا أمام ثروة عظيمة وذلك لأن كل شئ ممكن. إن مواد المسرح المقدس توجد فيه مثلما توجد في المسرح الخشن مواده. في حين إن المسرح المباشر يريد أن يقول: " هذا الذي نحن بحاجة إليه".
إننا نتطرق هنا لموضوعا جد كبير. وذلك لان الأمر يتعلق في الصراع ما بين ضرورتين: من جهة، أننا نتطرق إلى هذه الحرية المطلقة في المقاربة، ومعرفة إن "كل شئ ممكن"، ومن جهة أخرى، نتطرق ونلامس الصرامة والانضباط اللذان يجعلان " الكل" ليس " أيّ شئ ". كيف التموضع ما بين "الكل ممكن" و" تجنب أو تحاشي أيّ شئ" ؟ إن الانضباط بحد ذاته، يمكن أن يكون سلبياً أو إيجابياً. إنه يستطيع أن يغلق جميع الأبواب، وأن يتجاهل الحرية، أو بالعكس، يبني الصرامة اللازمة للخروج من وَحَل (الأيّ شئ).
لهذا السبب لا توجد هنالك محصلات. إن البقاء وقت طويلا في عمق الأعماق يمكن أن يكون مضجرا. والبقاء وقتاً طويلاً في السطحي والظاهري يمكن أن يصبح وبسرعة فائقة عادياًٍ وسخيفاً. يجب أن نبقى في حركة مستمرة.
وبما انه لا يوجد شخص يطرح السؤال الذي يسمح بالإجابة القصيرة، فسوف أطرحه أنا بنفسي.
" ألم تجئ اللحظة المثالية الآن للتوقف ؟"
الجواب سيكون : نعم "
إلى اللقاء غداً !
اليوم الثاني
ها نحن نجتمع من جديد. وهذا اللقاء أو الاجتماع هو الحلقة التابعة في المسلسل ! سوف ألعب دور المعلم الذي يسأل صفه: ما هي الاسئلة التي ظلت معلقة ؟.
- لقد قلت " بالنسبة للديكور، سوف نتحدث عنه فيما بعد " … هل تستطيعون أن تحدثونا عنه؟
- لديكم جملة قرأتها ذات يوم تقول : ( لا أتمنى أن يكون التمرين مُحَنْطاً بالمسارات ) هل تستطيعون أن تشرحوا أو توضحوا ذلك ؟
- لقد تحدثتم كثيرا عن الممثل، مستعملين ذات الكلمة للإشارة إلى ممثلي مجتمعنا المحترفين وإلى هؤلاء – غير المحترفين- ممثلي القرى البعيدة. هل يوجد هناك اختلاف بالنسبة لكم، بين الممثل والشخص غير الممثل ؟ وإذا وجد الاختلاف، ما هو دور المعلومات ؟وهل هذا يُعَلَّمْ ؟
- جميع الذين يجتمعون هنا يمتلكون تجربة مسرحية في الوسط المدرسي. فهل بإمكانكم أن تعطونا بعض الأفكار حول التراجع التربوي الذي حدثتمونا عنه البارحة ؟
- لدي الإحساس بأن الطريقة التي تتحدثون بها عن المسرح يمكن أن تنطبق على فن يغالي كثيرا في براعته وتعقيده : فن الحياة. إن هذا "التألق والاشتعال" الذي نبحث عنه في " الفضاء الخالي" يمكن أن يُبتغى أيضا من الحياة وفيها لأجل الكفاح ضد العادية والسخف. إن الخوف من الفضاء الذي نزاحمه ونزحمه للاطمئنان يمكن أن يكون محسوسا أيضا في الحياة. هل نستطيع أن نطور فن المسرح، مثلما تتحدث عنه، من دون أن نطور هذا الفن الحياتي ؟
صنع أحذية صالحة للمشي
لقد لاحظت إنكم تطرحون أسئلة كبيرة، وأبدية، وإن كل واحد من بيننا يطرح التساؤل التالي: "كيف العيش ؟"، ومع ذلك، السؤال الأول، عن الديكور، كان دقيقاً وبسيطاً جداً. إن هذا مهم جدا، وذلك لانه لا توجد مثلما أحس واشعر، تناقضات بين الأسئلة الكبيرة والأبعاد المادية للأشياء.
تبقى الأسئلة الكبيرة وهمية ونظرية تماما إذا لم يتوفر لها قاعدة مادية، وتطبيقية عملية. إن العظيم في الآمر هو إن المسرح بالتحديد مكان للقاء بين الأسئلة الإنسانية الكبيرة، الحياة، الموت … والأبعاد الحرفيةّ العملية جدا. انه يشبه إلى حد كبير عمل الخزِافَة أو الفخار. إن الفخار، في المجتمعات التقليدية الكبيرة، هو الشخص الذي يحاول أن يعيش اكبر القضايا الأزلية في نفس الوقت الذي يصنع فيه إناءه أو وعائه. إن هذه الثنائية في الأبعاد ليست ممكنة في المسرح فقط، وإنما هي نفسها التي تمنحه قيمته.
إذن بإمكاننا مشاهدة وجهتي نظر، مجردة ومادية في آن واحد، ولكن من الخطأ الاكتفاء بالمقاربة المجردة جدا، حتى لو كان ذلك صحيحا. انه من المستحسن العثور على العلاقة مع الحياة بطريقة حرفية بحصْر المعنى.
إن قضية الديكور قضية عملية جدا: " هل هو جيد أم انه غير جيد ؟ هل أن هذا يملأ الوظيفة ؟ هل سينسجم ؟ " إذا كنا ننطلق دائما من الفضاء الخالي، فإن السؤال الوحيد هو الفعالية. هل الفضاء الخالي غير كافٍ ؟ إذا كان الجواب : "نعم"، في هذه الحالة، نبدأ نرى بوضوح أيّ العناصر هي ضرورية. إن أدنى ما يمكن أن يقوم به الإسكافي الحرفي في عمله هو أحذية صالحة للمشي، واقل ما يفعله العمل الحرفي في المسرح، انطلاقا من عناصر مادية جدا، هو أن ينتج مع المتفرج، علاقة صالحة ممكنة، تسير على قدم وساق.
الارتجال
من جهتي، اعتبر إننا قد توقفنا البارحة عند مسالة تشتمل على كل ما تصديتم له في أسئلتكم: يتعلق الأمر بضرورة أن تكون حرا تماما وفي الوقت نفسه صارما بشكل كافٍ من أجل تجنب المراعاة والمسايرة و "الأيّ شئ". إن المسالة التربوية في مركز هذا الاهتمام.
لنحاول أن نجرب هذه المسالة بطريقة مادية بواسطة الارتجال.
منذ وقت طويل، والعالم بأجمعه يتحدث عن الارتجال، انه واحد من كليشيهات عصرنا، في كل مكان "ونحن نرتجل". انه من النافع ملاحظة بأن هذه الكلمة تغطي آلاف الاحتمالات المختلفة، الجيدة والسيئة.
الحذر: في بعض الحالات، حتى "الأيّ شئ" يكون جيدا ! في أول أيام التمارين، مثلما قد يفعل بعض الذين بينكم من المعلمين مع الصف الجديد، انه من الصعب جدا ابتكار حماقة تكون حقيقة غبية، وذلك لان اقل فكرة يمكن أن تكون فعالة. لنجرب ! سأتلفظ بأول شئ يخطر أو يمر ببالي: " انهضوا، وخذوا الوسائد التي تجلسون عليها، وغيروا بسرعة جدا أماكنكم !"
( هرج ومرج. الجميع يغير مكانه.)
ابدأوا من جديد ولكن بسرعة اكبر .. من غير أن تتصادموا .. بصمت … بهدوء .. شكلوا حلقة !
(الكل، يتحرك بموجب التعليمات.)
لقد لاحظتم، أن بإمكانكم أن تبتكروا أيّ شئ. وهذا هو أول شئ قد خطر ببالي. إنني لم اسأل نفسي: " فيما إذا كان هذا غبياُ، غبياً جدا، أو غبياً جداً جداً ؟ " إنني لم أحمل فكرتي أيّ حكم من الأحكام لحظة عرضها عليكم. في هذه الأثناء، نلاحظ أن المناخ فيما بيننا هادئ ومسترخ جدا، وأننا نعرف بعضنا اكثر. وأننا مستعدون للقيام بشيء آخر. إذن، إن بعض التمارين ذو فائدة، مثل الألعاب، وبكل بساطة لان ذلك يبعث على الاسترخاء والارتياح.
لماذا الارتجال ؟ أولاً لابتكار مناخ، وعلاقة، ووضع الجميع في حالة من الاسترخاء المريحة، والسماح لأي شخص بأن ينهض وأن يجلس من غير أن يخلق ذلك مشكلة درامية. إننا نبحث أولا عن الثقة، من أجل الكفاح ضد الخوف الذي تحدثنا عنه آنفاً. إن الذي يكبح جماح الكثير من الناس اليوم، هو الكلام. إذن، يجب عدم البدء بالكلام، بالأفكار، وإنما ابدأوا بالجسد. إن حرية الجسد هي الخطوة الأولى.
إذن، لقد قمتم منذ قليل بالارتجال. والآن ابحثوا عن حماقة أو سخافة أخرى: " انهضوا .. أغلقوا الدائرة .. ارموا المخدات في الهواء ثم تلقفوها … ؟ "
(الجميع يحاول)
اقتراح تحدً
ادخلوا على الحركة قليلا من الصعوبة:" ارموا المخدات في الهواء … ودوروا حول أنفسكم … وتلقفوها."
(الجميع يحاول)
إنكم الآن تسيطرون تقريبا على هذه الحركة، ولابد من عنصر آخر اكثر صعوبة: "ارموا بمخداتكم في الهواء … تحركوا نحو اليمين … وتلقفوا مخدات جيرانكم … "
(الجميع يحاول)
إننا لا ندفع هذا التمرين نحو الكمال. لاحظوا أننا نشطون قليلا، وبدأ الجسد يسخن، مع ذلك لا توجد صعوبة حقيقية. مثلما في العديد من الارتجالات، تعتبر الخطوة الأولى هي الأكثر أهمية، ولكنها لا تكفي. يجب الأخذ بعين الاعتبار بفرح وفخ الارتجال في آن واحد. بإعطائنا إمكانية للحياة، للتعبير، للتحرك بكيفية أخرى مختلفة عن الحياة اليومية، يعني أننا على الفور في الفرح ولكن إذا، لم نقترح تحدياً ما، وبسرعة، فإن التجربة ستكرر نفسها. لقد فعلت هذه المعاينة لجميع أشكال الارتجال.
في الولايات المتحدة الأمريكية، عندما تقوم فرقة مسرحية بالارتجال يطبقون مبدأ عدم التدخل أبدا، وعدم مقاطعة الارتجال في حالته المستمرة.
إذا كنتم تريدون معرفة ما هو الضجر حقا، عليكم حضور ارتجال لممثلين أو لثلاثة تلبسوا أدوارهم "وبدأوا خطاباتهم". انهم سيجدون أنفسهم قد توقفوا بسرعة فائقة لا تقبل النقاش أو الجدل. إذن لابد من تغيير النبرة باستمرار.
التمرين الشهير للسيد بروك
إنني سوف اقترح عليكم ارتجالاً جديداً ولكن في بداية الأمر لابد من الإيضاح: لا تحاولوا أن تنتجوا من جديد ما نفعله هنا وتضعوه داخل سياق آخر. إن هذا سيكون تراجيديا حقا إذا قام في العام القادم أطفال جميع المدارس الفرنسية برمي المخدات في الهواء بحجة "الاحتفال بتمرين السيد بروك". توجد بلا شك أشياء أخرى لطيفة أكثر بكثير يمكن ابتكارها.
الأشخاص الذين أمامي، سموا أنفسكم، الواحد بعد الآخر، بالأرقام.
( تمرين: خمسة عشر شخصاً. كل واحد منهم يسمي نفسه بانتظام حيثما يوجد مكانه، بواسطة، رقم .. واحد .. اثنان .. ثلاثة .. أربعة … الخ.)
حاولوا الآن أن تعدوا من الواحد حتى الخامس عشر، ولكن من دون أن تحسبوا حساباً لأماكنكم.
يجب العد من الواحد حتى الخامس عشر من غير أن يتكلم اثنان في ذات الوقت.
( تمرين: واحد … اثنان … ثلاثة … أربعة … ثم شخصان يرددان الرقم خمسة في نفس الوقت ..)
لا. إن شخصين قد تكلما في نفس الوقت، لا بد من البدء من جديد.
( تمرين: المجموعة تعد من الواحد إلى الخامس عشر، الواحد بعد الآخر، من غير خلط وفوضى.)
سوف لا نذهب بعيداً. لا حظوا أن هناك في جهة من الجهات حرية مطلقة، كل واحد يسمي نفسه عندما يريد، ومن جهة أخرى هناك الشرطان اللذان يمليان الصعوبة، في المحافظة على التسلسل النظامي للأرقام وعدم الكلام في نفس الوقت الذي يتكلم فيه الآخر. إن هذا يتطلب تركيز أهم بكثير من المحاولة الأولى التي اشتملت بكل بساطة على إعطاء الرقم وفقا للتسلسل النظامي لها حيثما كنا في المكان.
طرفه: إن هذا التمرين قد أعطيّ لي من قبل مخرج مسرحي أمريكي في مقهى من المقاهي. قال لي: " إن الممثلين الذين يعملون معي دائما يقومون بتطبيق تمرينك الكبير." فقلت له:" عن ماذا يتحدث هذا التمرين فوصف لي هذا التمرين الذي طبقناه منذ قليل. لقد أخذته منه على الفور !منذ ذلك الحين ونحن نقوم بتطبيقه بانتظام. إن الناس غالبا ما يُخدَعُونْ بهذا التمرين. انه يستطيع أن يستمر عشرين دقيقة أو نصف ساعة، بحيث يصبح التوتر حاداً والنوعية الاستماعية للمجموعة تتغير. إنني اكشف لكم عن هذا كمثال على هذا الذي يمكن أن نسميه تمارين تحضيرية.
مثلما نستمع إلى الموسيقى
لنأخذ مثالا آخر خفيفاً لأجل توضيح وإبانة مبدأ من المبادئ. قوموا بحركة من ذراعكم الأيمن، واسمحوا له بأن يأخذ أيّ اتجاه، حقيقة أيّ اتجاه، من غير تفكير. عند الإشارة، اتركوه يذهب حيثما يشاء ثم أوقفوا الحركة. هيا !
(يحركون أذرعهم جميعا)
ابقوا ثابتين في أماكنكم لا تتحركوا. حاولوا الآن أن تشعروا بكلية حالتكم، أن تحسوا بهذا الذي تحاولون أن تعبروا عنه. أحسوا بالانطباع الداخلي الذي يصدر عن حالتكم، ولقد وافقتم منذ البداية على أن لا تفصحوا عن أيّ شئ عن طريق حركاتكم، ومع ذلك، إنني انظر إليكم الآن جميعا ، وإذا بي أرى إن كل واحد منكم يعبر عن شئ من الأشياء. إن لا شئ حيادي.
قوموا ثانية بالتجربة: قوموا بحركة الأذرع، من غير قصدية وتصميم مسبق.
(الجميع يحركون أذرعهم)
حاولوا من غير أن تتغير وضعياتكم، أن تشعروا بأن هناك علاقة ما بين الكف والذراع، والكتف … حتى عضلة العين. اشعروا بأن لهذا معنى من المعاني. الآن اجروا تطويراً صغيراً وطفيفاً على الحركة وتوقفوا من جديد.
(حركة خفيفة)
أحسوا بأن في هذا التغير الصغير والطفيف، شيئا ما قد تغير في شمولية الحالة. شكرا!
إننا ندرك إلى أية درجة، وبعيدا عن كل العاديات، بأننا باستمرار نعبر، شعوريا ولا شعوريا، عن آلاف الأشياء بكامل الجسد. وأن هذا يحدث، في اغلب الأوقات، من غير أن يكون لنا علم ومعرفة به.
الآن قوموا بتجربة أخرى. افعلوا ذات الشيء، ولكن بدلا من الأخذ بالحركة التي تعود لكم، خذوا حركة تمثيلية، وهي: أن تضعوا أياديكم مفتوحة على آخرها أمامكم، بحيث تكون راحة اليد نحو الخارج.
(الجميع يقومون بنفس الحركة)
إن الأمر يتعلق بما هو على العكس من الارتجال: منذ قليل كنتم تقومون بحركة نابعة من اختياركم، في حين أنكم الآن تقومون بحركة مفروضة. أريد أن اطلب منكم بأن تقبلوا ببساطة تبني هذه الحركة. لا تسألوا عن " معنى أو ماذا تعني هذه الحركة ؟" بطريقة فكرية وتحليلية، وإلا ستخرجون عن الموضوع. حاولوا أن تشعروا بهذا الذي تحرضه وتحثه لديكم. أنكم في حالة معايشة شيء ما قد مُنح لكم من الخارج، مختلف عن الحركة السابقة الحرة التي كنتم تقومون باختبارها ولكنكم إذا تبنيتموها كليا، تصبح مثل سابقتها، أيّ نفس الشيء.
حاولوا أن تشعروا بالكيفية التي ترتبط فيها هذه الحركة بتعبيرات العيون. لا تمثلوا، لا تقوموا بتكشيرة لأجل أن تبرروا حضور العيون والوجه، اتركوا العلاقة تنشا تلقائيا وهذا سيصبح قوي جدا.
حاولوا الآن متابعة، مثلما لو إننا نستمع إلى موسيقى، الكيفية التي تتحول فيها هذه الحركة إذا انتقلتم من هذه الوضعية الأولى، التي تكون فيها راحة اليد إلى الخارج، إلى الوضعية الأخرى، التي تكون فيها راحة اليد نحو السقف. إن هذا الذي نحاول القيام به ليس هو الشعور بما يجري بالحالتين فحسب وإنما الإحساس بالانتقال من الواحدة إلى الأخرى، وكيف يتم هذا التحول أو التغير.
(حركات)
ابحثوا الآن، من دون أن تلجأوا إلى النكتة، عن شخصيات مختلفة في هذه الحركة، وفصلوا الحركة مثلما تريدون، ابحثوا عن إيقاعكم الخاص الذي يخلق المعنى والدال والمدلول. لا تبحثوا عن فكرة أولية، وإنما ابحثوا عن فكرة معاشه. ومن اجل أن لا تفكروا يجب أن تكونوا مدركين بالحس والعقل رجع الصدى وتردداته، مدركين للرنين المُنتج من قبل الحركة في بقايا الجسد.
( حركات)
إن ما قمتم بفعله منذ قليل، هو "ارتجال" أيضا. إذن، يوجد شكلان اثنان للارتجال، ذلك الذي ينطلق من الحرية الكاملة للشخص، وذلك الذي تحسب حساب التعارض المفروض الذي، في العرض، يمكن أن يكون نص، إخراجاً … حتى في هذه الحالة، وفي كل عرض، يتوجب على الممثل "الارتجال".
الهواة والمحترفون
إن ما قمنا بفعله منذ بضع دقائق يمكن أن يستغرق تحقيقه بطبيعة الحال أسابيع واشهراً. إن تمارين مثل التمثيل مع المخدات، على سبيل المثال، يمكن أن تقترح على الأطفال لمدة عدة اشهر. بل إنني أقول انه من الممكن القيام بحماقات، وتمثيل شخصيات كوميدية لوقت طويل قبل الاعتماد وتبني اقل الأحكام وذلك لكي تزداد الثقة في النفس وتستقر خير استقرار. مع الممثلين المحترفين، نستطيع أن نتوصل إلى تحقيق ذلك بعد عدة أيام من التمرين، بتمثيلنا، ووضعنا للموسيقى، وبرقصنا … لأجل التحضير والأعداد لمسرحية "العاصفة"، ذهبنا وقضينا أسبوعا كاملا في منزل ريفي " دير الشار تري " الواقع في مدينة "Villeneuve-les-Avignon"، معزولين تماما، نقوم بتمارين عديدة ومختلفة في شتى الأنواع من غير أن نقترب من المسرحية أو نحاول ملامستها. يبدو لي أن بمستطاعنا في الصف أن نقوم بأشياء من هذا النوع أثناء فترة طويلة من الوقت. انه لشيء جيد إذا استطعنا من خلال الضحك، أن نتوصل إلى البداية، ولكن بشرط أن يوجد بالتالي انبساط. إننا نلامس هنا الاختلاف، الذي يخصكم ويهمكم، ما بين الهواة والمحترفين. إن بإمكان الهواة أن يقوموا بأشياء كثيرة بواسطة الاندفاع، والحماس، في حين يتوجب على المحترف أن يصل إلى درجة من السيطرة التي - في كل الظروف- تعطيه الانطباع بأن يكون طبيعياً.
إن افضل مثال على هذه الظاهرة يوجد في السينما. ففي السينما بإمكان الممثلين الهواة، وفي بعض الأحيان الأطفال، والشخص الذي نعثر عليه في الشارع، يمكن أن يمثل حسب الظاهر، مثل الممثلين المحترفين. مع ذلك فنحن لا نستطيع أن نقول إن جميع الأدوار الموجودة في كل الأفلام، يمكن أن تمثل على السواء بلا اختلاف أو تمييز من قبل الهواة أو المحترفين. أين يكمن الاختلاف ؟ إذا طلبتم من أحد الهواة أو المحترفين بأن يقوم بهذا الذي عادة ما يفعله في الحياة اليومية، أمام الكاميرا، فإنه سيقوم به على الوجه الأكمل. إن هذا يشبه إلى حد كبير فيلم " معركة الجزائر" حيث الجزائريون الذين عاشوا حقا وحقيقة معارك المقاومة السرية، والصمود استطاعوا أن يمثلوا، بعد عدة سنوات من انتهاء تاريخ المقاومة وحرب التحرير، ليس فقط بنفس الحركات التي كانوا يقومون بها آنذاك، وإنما أيضا أن يعيشوا نفس الحماس والعاطفة ذاتها. لكن بمجرد ما نطلب من شخص ليس بالمحترف أن يدخل في حالة عاطفية وحماسية لم يسبق له أن عاشها، فأن تحقيق ذلك سيكون صعباً جدا عليه.
إن بين يدي الفنان الحقيقي، كل شئ يمكن أن يبدو اصطناعياً أو كل شئ يمكن أن يبدو طبيعيا، وفقا للحالة. إننا نتخيل، وبشكل أوتوماتيكي، بأن حركات الحياة اليومية أكثر حقيقية وواقعية من الحركات المستعملة في الأوبرا أو الباليه. إن هذا ليس بالصحيح. ويكفي النظر إلى عمل أستوديو الممثل لفهم أن الطبيعية العالية يمكن أن تولد الانطباع أيضا بالاصطناعية مثل غناء أوبرا، والعكس بالعكس. . إن دور هذا الذي يمثل هو جعل أيّ أسلوب كان يبدو أو بالأحرى يكون طبيعيا. ونعود هنا إلى المبدأ الذي يقول: أية حركة يمكن أن أتبناها واجعلها طبيعية.
من أجل الذهاب بعيدا في الأمثلة، سيكون من المهم الآن أن نميل نحو مقطع من مقاطع مسرحية "العاصفة" ومعرفة الكيفية التي يتم فيها تحويل وتغيير جمل ليس لها أية علاقة بالكلام اليومي، وجعلها تعبير طبيعية.
لكن قبل اللقاء بشكسبير، اقترح عليكم قليلا من الهواء وكوباً من الشاي !
الاستراحة
رقم 3
ربما تكونون قد رأيتم، في الاحتفال الجديد لتوزيع جوائز " السيزار[27]" عبر التلفزيون، مقطعاً من الفيلم الذي يقول فيه "جان رينوار[28]" لأحد الممثلين: ( لقد تعلمت من ميشيل سيمون[29] - وهذا ما كان أيضا منهجا "لجوفه[30]" وبالتـأكيد ما كان منهجا لموليير وشكسبير- ما معناه، يجب محاولة فهم شخصيتكم دون امتلاك أيّ فكرة أو رأي مُسَبقْ. يجب التمرين على النص عدة مرات، بطريقة طبيعية جدا، كي يدخل في أعماقكم، وأن يصبح الفهم شخصياً وعضوياً تماماً.) إن هذا يلتحق بهذا الذي كنا نتحدث عنه البارحة فيما يخص القناع " الباليني balinais" وضرورة أن يُترك لكي يشبع نفسه بنفسه …
المسرح ليس بالعسكر
إن إشارة وإيحاء جان رينوار عظيمة، ولكنها مثل جميع الإيحاءات، إنها بالضرورية جزئية. لقد عرفت مخرجاً مسرحياً مختصاً بأعمال تشيخوف كان يتمرن على المسرحيات هَمساً لعدة أسابيع. كان يقرأ النصوص، مانعا الممثلين من تمثيلها، إذن، كان يلطخ النص بشتى أنواع الرغبات، مثل الكشف عنه، تمثيله، وتفريح فعل التمثيل نفسه. لقد كان يطلب من الممثلين أن يتمتموا بالنص، يهمسوا به خلال عدة أسابيع حتى تثبت الأشياء وتستقر في الأعماق السحيقة للممثل. إن هذا ربما يحمل ثمارا ونتائج جيدة بالنسبة لتشيخوف ولكنه في نفس الوقت طريقة ومنهج خطر.
فضلا عن ذلك، لقد التقيت بفرقة مسرحية أمريكية كانت تلف وتدور العالم بتقديمها واحدة من مسرحيات شكسبير. ولقد قصّ عليّ الممثلين، بأنهم أثناء مرورهم بيوغسلافيا، كانوا - بنوع من الزهو بطريقتهم بالعمل- يخرجون يتنزهون كل ليلة، في شوارع المدينة وهم يصرخون ( أكون أم لا أكون … To be or not to be) دون التفكير بأي شئ .. لدرجة أنهم ينتهون في نهاية المطاف هم أيضا إلى التأثر بنصهم الذي يصرخون ويلهجون به. ربما كان هؤلاء الممثلون مسؤولين بشكل جزئي عن حالة الاضطراب التي تعم بالبلد حاليا[31] وذلك لانهم لابد أن يكونوا قد تركوا ارتجاجات وذبذبات مؤذية وضارة ! بالطبع، إن الأمر هنا يتعلق بتطبيق عملي دُفِّعَ إلى نقطة غير معقولة.
إذن، لا بد من تنظيم مقاربة الاثنين معاً من أجل بلوغ مشهد من المشاهد، انه من المهم جدا، أن تنهض وأن تمثله، أن تكون واقفا وان تقوم بتمثيله ارتجاليا، أن تكتشف النص بطريقة ديناميكية ونشطه. أنا شخصيا لا اسمع ولا أرى كليا أمام التقنية الألمانية التي يعتمد في شكلها ومضمونها على طريقة الجلوس ولعدة أسابيع حول طاولة لأجل المناقشة. إن هذه النظرية تزعم بأنه قبل رسم وتثبيت نوع من الطرق الفكرية يمنع منعا باتا النهوض، أي الصعود على خشبة المسرح ومحاولة التمثيل واكتشاف النص مسرحيا، بحجة إننا ما زلنا لا نعرف بعد طريق العمل وتوجهاته. إن هذا المبدأ، ينسجم ويتكيف مع عملية عسكرية مثل " عاصفة الصحراء". إن الجنرال "شوارسكوف Schwarzkopf" حتما قد قام بفعل هذا العمل بذكاء وجمع أصحابه الحلفاء حول طاولة قبل أن يرسل دبابات الاقتحام لتحرير الكويت، ولكن المسرح شئ آخر …
الحدس أو البديهية والتحليل
لنعد لحظة لما كنا نقوم به قبل الاستراحة. هناك اختلاف واضح وقوي يستقر على الفور، منذ الخطوة الأولى، ما بين الهواة والمحترفين. عندما يتعلق الأمر بالغناء، وبالرقص أو الأكروبات، فان الاختلاف مؤكد وذلك لان التكنيك مرئي جدا. في الغناء إن الحركات إما أن تكون متقنة وإما أن تكون غير متقنة، وإن هذا لا يقبل لا الرد ولا البدل. إن الاختلاف بالنسبة لتمثيل الممثل مضبوطا أيضا ، والاقتضاء هو أيضا كبير ولكن من المستحيل تقريبا تحديد وتعيين العناصر التي هي في حالة لعب. إن بإمكاننا أن نشاهد هذا الذي هو غير متقن، ولكن هذا الذي يجب أن يدخل في اللعب لأجل أن يكون هذا متقناً حساس تماما ومعقد، وانه من الصعب الإشارة إليه وتمييزه بدقة صارمة. لهذا السبب، إننا عندما نحاول العثور على حقيقة العلاقة ما بين شخصين اثنين، فان الطريقة التحليلية العسكرية لا تساعد ولا يمكن أن تكون فعالة. أنها يمكن أن تخص وتهتم بالجزء "المرئي" من المشاكل ولكنها تجهل الجزء الكبير المخفي، في الظِّلْ. إننا إزاء هذه الإشكالية مرغمون على استعمال واستخدام عدة تكنيكات في نفس الوقت.
أنا شخصيا، احب أن أقرأ في نفس النهار أشياء متناقضة في الظاهر؛ في بداية الأمر القيام بتمارين تحضيرية عملية لا بد منها كل يوم مثلما نعتني بحديقتنا المنزلية؛ بعد ذلك، الاشتغال حول مسرحية، من دون فكرة مسبقة، بإلقاء النفس في الماء، وفي النهاية المرحلة الثالثة، القيام بالتحليل المنطقي والمطابق للعقل، وتوضيح هذا الذي أقدمنا على القيام به.
إن هذا التوضيح لا يأخذ أهميته إلا إذا كان ملازما لفهم حدسي. إنني أكره العمل حول الطاولة وذلك لأننا في مثل هذه الحالة نعطي أهمية قصوى التحليل، والفعل الذهني أكثر مما نستعمل أدوات الحدس. علما إن هذه الأدوات، اكثر حساسية، وتذهب بعيدا اكثر من التحليل. وللدقة، إن الحدس لوحده يمكن أن يكون أيضا خطرا ويقود في اكثر الأحيان الكثير من الممثلين الذين تعرفوا على هذا التناقض الذي يقول محتواه: "يجب أن يكون هذا جيدا وذلك لأنني أحس به !" يقودهم إلى الخطأ. إن هذا ما يبرر وجود المخرج، ويعني العين، تلك النظرة التي ترى الممثل وتسبق المشاهد بفعل الرؤية. هذه النظرة الناقدة والثاقبة، بالمعنى الواسع للكلمة وليس بمعنى الحكم والتحكيم، هذه النظرة الواضحة والصافية التي يمكن أن تسمح للممثل بالتقديم. بكل تأكيد، إن المخرج هو أيضا يمكن أن يخطئ !
بمجرد ما نصطدم بالمشاكل الصعبة في مسرحية من المسرحيات، نجد أنفسنا في آن واحد في صراع مع ضرورة الحدس والأفكار وانعكاساتها. ولا يمكننا أن نتجاوز لا الحدس ولا الأفكار وانعكاساتها. بإمكاننا أن نحاول العمل بشكل سريع على هذه المسائل، انطلاقا من مقطع صعب جدا من مسرحية "العاصفة". من لديه الشجاعة للمجيء إلى هنا وقراءة هذا النص بصوت عالٍ ؟
( أحد المشتركين ينهض ويأخذ النص ويبدأ بالقراءة)
بروسبيرو: يبدو عليك، يا بني ، انك مضطرب،
كأنك في حزن من أمر ما، هّون عليك، سيدي
حفلتنا هذه الآن انقضت … ممثلونا هؤلاء،
كما أنبأتك سابقاً، كانوا أرواحاً كلهم،
وتلاشوا هواءً، هواءً خفيفاً،
وكما النسيج الذي لا أساس له من هذه الرؤيا
هكذا لسوف تضمحل الأبراج المعمّمة بالغيوم،
والقصور الفخمة، والهياكل المهيبة،
وكرةُ الأرض العظيمةُ نفُسها،
اجل وكل ما عليها،
وكهذا المهرجان الموهوم الذي تلاشى،
لن تخلّف هباءة واحدة وراءها. إنما نحن مادة
كالتي تصنع الأحلام منها. وحياتنا الضئيلة
تحدّها نومة من طرفيها*… سيدي، أنى مبتلى.
اصبر على ضعفي، فذهني الشائخ غير مستقر.
أرجوك أن تتفضل وتأوي إلى كهفي،
وهناك استرح .. سأمشي مشواراً أو اثنين،
لأسكن فؤادي الخافق.
التقاليد والطبيعة
هل ترون، أن هذا النص مكثف ومعقد بطريقة لا تصدق؟ ما هو أول الواجبات ؟ إن على الممثل أن يتوصل إلى تمثيل هذا المقطع بكيفية يعطي فيها الانطباع بأن هذه الطريقة في الكلام هي طبيعية. سيكون احتقاراً مطلقاً لكاتب مثل شكسبير أن يفكر وهو يكتب آخر مسرحياته، إذ سيقول لنفسه على حين غِرَّة: " والآن، أنني أتوقف عن عمل المسرح، وسوف أقوم بكتابة الأدب. اجلسوا جيدا في أرائككم، أنا شكسبير، سأنظم لكم الشعر !" إنني أقول هذا مازحاً. إن التقاليد الفكتورية في إنكلترا ، التي هي سائدة حتى الآن، ظلت ولفترة طويلة تزعم بأن شكسبير يأخذ حبكة صغيرة غبية كحجة وذريعة لصنع "الأدب". إن هواة الأدب يذهبون إلى التذوق، قافزين حماقات الحبكة شاربين كأساً من النبيذ، لأجل الالتذاذ من وقت لأخر ببعض المقاطع الجميلة. إن هذا المقطع الذي أتينا على قراءته الآن هو من مجموعة المقاطع الجميلة، التي كانت عندما يؤديها الممثلون الكبار في ذلك العصر يضفون بأصواتهم الجميلة رنينا وجرسا على القيمة الشعرية لكلماتها. إن هذه الرؤية غير معقولة تماما.
في حين إن، الممثل العصري، كرَد فعل، يكون ضائعا تماما، ويتضاءل أمام هذا النص وهو يفكر: " إذا كان كل الذي قيل هو الحقيقة التي تعبر عن هذه الشخصية، فهذا يعني إنها شخصية حقيقية. إذن، ولأجل أن يكون هذا مقنعاً، يجب أن أتكلم مثلما لو كان الحوار طبيعيا، مثلما في أية محادثة. " غير إن هذا غير ممكن. فقط ربما الجملة الأولى. ردد الجملة الأولى.
" يبدو عليك، يا بني ، انك مضطرب،
كأنك في حزن من أمر ما، هّون عليك، سيدي. "
" كأنك في حزن من أمر ما، هّون عليك، سيدي. " إن الأمر يتعلق هنا بكائن إنساني يقول لشخص آخر: " ماذا بك، أنت ؟ " هّون عليك، سيدي! " إن هذه جملة بسيطة اقتطعت أو أخذت من الحياة فإذا الممثل، وبشكل آلي ولا إرادي، اخذ صوتا احتفاليا، صوتا " شكسبير يا "، لأجل أن يؤدي ذلك، فإنه سيسخف النص ويجعله مثيرا للضحك. ما هي أخر جملة من المقطع ؟
" … سيدي، أنى مبتلى "
هذه جملة تستعمل في جميع الايام. يمكننا أن نقولها وننطقها بآلاف الطرق وهذا ينضم لسلسة " صباح الخير " التي استنطقناها مسبقا. " … سيدي، أنى مبتلى " إنها لا يمكن أن تكون جملة احتفالية أيضا إلا إذا شئنا أن نسخف النص من جديد وأن نجعله مثيرا للضحك.
لقد تناولنا هنا اللحظتين الأكثر وضوحاً، والأكثر سهولة في التعامل، وذلك لان الجملتين تتلاءمان مع العلاقات اليومية. الآن يوجد سؤال جوهري يطرح نفسه: " هل كان بمقدور شكسبير أن يقول ما تبقى من الحوار بنفس الطريقة ؟ يكفي القيام بعمل الارتجال حول نفس المحتوى، لمعرفة انعكاسه على الحياة، وعلى الوهم، وعلى الموت، لملاحظة بأننا سنحتاج إلى كلمات أكثر بعشرة مرات.
لو نظرنا مليا إلى المفهوم الذي كنا قد تكلمنا عنه البارحة، حول الاختلاف ما بين المسرح واللامسرح الذي يتركز في الحياة، وفي الحقيقة، سنلاحظ إن الفن الكبير للكاتب الكبير قد وجدَّ، طريقة انتخابية مركزة لقول الأشياء من خلال وسائط وإمكانيات بارعة جدا. " إنما نحن مادة كالتي تصنع الأحلام منها. وحياتنا الضئيلة تحدّها نومة من طرفيها. " إن كل كلمة من كلمات هذا المقطع ترنُ بقوة جداً وذلك لأن شكسبير قد قام بعمل يتلاءم وينسجم مع عبقريته، في إيجاد الطريقة الأكثر اقتصادا في قول ما هو ضروري لفهم الشخصية والنص.
لاحظوا لو إننا نسينا المؤلف الآن، فإن شخصية بروسبيرو هي نفسها التي ستعثر من تلقاء نفسها، وبشكل إجباري، على الضرورة المطلقة لقول هذه الكلمات. لماذا يكون ملزما لبروسبيرو، لأجل الحديث إلى هذا الولد الذي لا تبدو عليه علامات السعادة والفرح، أن يبتكر، وأن يعثر على الكلمات المتقنة، وخلق هذا المقطع ؟ إن على الممثل الذي سيلعب هذا الدور أن يطرح على نفسه هذا السؤال، وسيكون هذا المسعى مختلف جدا عن مسعى ذلك الممثل الذي يعتقد انه هنا من أجل خدمة الشاعر. انه هنا من أجل الذهاب بالنص بعيدا جدا، انه هنا من اجل خدمته بطريقة اكثر عمقا وذلك بمحاولته لفهم لماذا يتوجب عليه، وعلى الشخصية، أن يبتكرا هذه الكلمات في اللحظة ذاتها.
قراءة النص
لأجل القيام بذلك، توجد مساعٍ ثنائية مهمة. من جهة من الجهات يجب، من خلال التمارين الطويلة، فهم ما هي الشخصية. إن جميع أنواع وأصناف التجارب يمكن أن تساعد: تجربة المسرحية الكاملة، تجربة النص الذي يحث على بعض الأشياء في كل مرة نمثله فيها، الأفكار والانعكاسات الخارجية، مضمون وسياق المسرحية … لكن يجب وبشكل خاص أن لا نتوقف عند هذه الأسئلة المحيطية - المتعلقة بالمحيط الخارجي-، وإن كانت مغذية أيضا، وذلك لأجل رؤية هذا الذي قد كتب. إن هذه الرؤية يمكن أن تكون موجهة من قبل الأفكار، وأيضا بالموسيقى نفسها للمقطع. لقد كتب جان كلود كاغير هذا المقطع مستخدما البحر الإسكندري*، وليس الإيقاعات، وهذا بحد ذاته معادل جيد لأبيات شكسبير الشعرية الحرة التي تتألف من عشرة مقاطع لفظية. إذا قرأتم هذه الأبيات الشعرية وراعيتم أثناء ذلك الشكل، فإن الشكل نفسه سوف يوحي لكم بأشياء أخرى كثيرة. هل بمستطاعك أن تعيد قراءة الجملة الأولى ؟
(قراءة مقطعة)
" يبدو عليك … يا بنيّ … إنك مضطرب … "
لقد قطعت الجملة. قطعتها مرتين، وهذا كثير جدا. ولأجل أن تبدأ من جديد، حاول أولا وقبل كل شئ أن تراقب هذا الذي قد كتب وهو جملة واجدة، قبل أن تجد الضرورة الحتمية للتقطيع عند الاقتضاء، والذي يمكن أن يقع فيما بعد.
(قراءة مستمرة)
"يبدو عليك، يا بنيّ، إنك مضطرب،
كأنك في حزن من أمر ما … "
إن " كأنك في حزن من أمر ما … " لا تنتمي إلى نفس الجملة. إن هذا البحر الإسكندريّ لكن ليس هو الشاعر الذي يقول: "سأكتب في البحر الإسكندريّ". انه بالضبط على العكس من ذلك. إن ما يريد أن يعبر عنه الشاعر مرتبط بكلمة " مضطرب". يجب جعل وترك هذه الكلمة تهتز. تناول الآن مقطع: " كأنك في حزن من أمر ما ".
" … كأنك في حزن من أمر ما "
حاول أن تتذوق بطريقة حسية جمال كلمة " حزن".
" … كأنك في حزن من أمر ما "
إن هذه الكلمة ليست ذات جمال مجرد وإنما توجد علاقة خاصة جدا ما بين الكلمة والشعور. حسناً فعل جان كلود كاغير عندما عبر عن المسعى الشكسبيري باختياره لكلمة - حزن chagrin- التي خلقت رنين مع أجراس الحروف اللفظية، مثل الحرف C لكلمة Chagrin”"، والحرف M لكلمة "comme le" إن " كأنك في حزن من أمر ما " مقطع يسمح للصوت بأن يكون مساوياً لحركة رقيقة، بالضبط مثلما لو، تقوم بحركة من حركات يدك، في باليه من الباليهات، أو هبوط بعض الجمل في أوبرا من الأوبرات. إن موسيقى الجملة نفسها تشرح لك لماذا هي قد كتبت هكذا. وليس لأجل أن تقوم بعمل الموسيقى، ولا لكي تكون جميلة، وإنما من أجل أن تكون العلاقات الإنسانية محمولة من قبل الكلمات. اقرأ هذه الجملة الأولى وحاول أن تشعر بهذا المقطع الصغير، بالضبط قبل … " كأنك في حزن من أمر ما ".
يبدو عليك، يا بنيّ، إنك مضطرب …
كأنك في حزن من أمر ما. "
نعم، ولكن كن حذرا من أن تترك نفسك عرضة الإيقاع الشعري، والاحتفالي. إن البناء ليس بالطبيعي ولكن الإيقاع يجب أن يكون طبيعيا تماما بحيث لا بد أن نعتقد إن هذه هي الطريقة الوحيدة والفريدة التي يتوجه بها الجميع في الكلام إلى شاب من الشباب.
والآن لنتجاوز هذا المقطع ولنمضِ خطوة أبعد.
" … ممثلونا هؤلاء،
كما أنبأتك سابقاً، كانوا أرواحاً كلهم،
وتلاشوا هواءً، هواءً خفيفاً،
وكما النسيج الذي لا أساس له من هذه الرؤيا… "
توقف واندفاع
يحاول شكسبير هنا، أن يعبر عن شئ جدُ معقد. " … ممثلونا هؤلاء،
كما أنبأتك سابقاً، كانوا أرواحاً كلهم " إن هذا كان بمثابة مقدمة ثم يتبعها لاحقا، " وتلاشوا هواءً، هواءً خفيفاً " لافتاً النظر إلى الموضوع الكبير ألا وهو الوهم، وتَجَرُّدية ومُفارقِية الأشياء. " هواءً خفيفاً " إن هذا ليس بالثرثرة. وذلك لان الهواء، هو دائما خفيفٌ، بطبيعة الحال، مثل الفضاء أنه دائما خالٍ. ولكن هذا المقطع من الأبيات الشعرية إرادي طوعي، ويوجد هناك سبب لكي يتم العثور عليه لا بد من البحث بعيدا اكثر.
" … ممثلونا هؤلاء،
كما أنبأتك سابقاً، كانوا أرواحاً كلهم،
وتلاشوا هواءً، هواءً خفيفاً… "
لا حظوا في كل هذا، أن الكلمة التي يجب أن تمتلك شيئا من الخصوصية، هي تلك التي ينطق به بروسبيرو وهي " أرواحاً ". إن كلمة "أرواحاً " بالنسبة له، تعتبر جزءاً من حياته. وبالنسبة للشخصية، فإن الأرواح بمثابة حقيقة معاشه، يوميا وليليا. في حين إنها بالنسبة لنا لا تعتبر كلمة مادية، ولكن بالنسبة للشخصية هي كذلك. وبناءا على ذلك، يجب عدم التقليل من قيمة الكلمة مثلما فعلت منذ برهة.
" وتلاشوا هواءً، خفيفاً، وكما النسيج … "
إن هذا مكتوب بمثل هذه الطريقة وليس بإمكانك أن تكبله أو تقيده. في العمل فيما بعد، بمقدورك أن تفعل بآلاف الأشياء ولكن في البداية، عند الدراسة الأولى، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار وبدقة بناء النص المكتوب وذلك لانه لم يكتب بمجانية أبداً. إن هذا البحر الإسكندريّ ليس بالبحر المقيد بشكل أوتوماتيكي. يوجد في جميع كتابات شكسبير، في اللحظة التي تتوقف فيها الجملة وتبدأ جملة أخرى، لا بد من دافع يتحرك. فمن اجل الاقتراب من النص، لا بد من الأخذ بالحسبان بأقل واصغر قطع وتقطيع، ولكن فيما بعد، أي عندما تغرق في كلية العمل، يمكن إهماله ذلك.
" وكما النسيج الذي لا أساس له من هذه الرؤيا،
هكذا لسوف تضمحل الأبراج المعّممة بالغيوم … "
هنا أيضا، الأنظمة تتغير. فالوقوف في منتصف بيت الشعر يعتبر مهماً جدا وذلك لسبب بسيط هو أننا نمرّ من مستوى عاطفي وحدسي إلى بعض الأفكار الواضحة. إن كلمة "الرؤيا " تأتي ببعد فلسفي حقيقي. غير أنكم، إذا بدأتم سريعا جدا بمقطع " وكما النسيج الذي لا أساس له " يصبح كل شئ غير مفهوم.
" وكما النسيج الذي لا أساس له من هذه الرؤيا
هكذا لسوف تضمحل الأبراج المعمّمة بالغيوم،
والقصور الفخمة، والهياكل المهيبة،
وكرةُ الأرض العظيمةُ نفُسها،
اجل وكل ما عليها،
وكهذا المهرجان الموهوم الذي تلاشى،
لن تخلّف هباءة واحدة وراءها."
تماثل مع الشخصية
إذا شئنا أن نتماثل مع شخصية بروسبيرو، الذي يرتجل في نفس لحظة هذا التفكير الجليل والعظيم، فعلينا أن نفهم إلى أين هذا سيقودنا. وبعد " وكما النسيج الذي لا أساس له من هذه الرؤيا "، لا نستطيع أن نُقطع الذي يأتي من بعد. إن هذا تمرين جيد خصوصا إذا تساءلنا في كل مرة: " هل نستطيع أن نُقطع الذي يأتي من بعد ؟ " بإمكاننا أن نقوم بذلك بعد مقطع: "هواءً خفيفاً "، ولكن هل نستطيع أن نقوم بنفس العمل بعد "من هذه الرؤيا " ؟ إن هاتين الكلمتين غير كافيتين لاستحضار ما يمكن استحضاره. إذا كان بروسبيرو يرتجل هذا النص حقيقة، مثلما في محادثة، فإنه سيرى أمامه وجهاً منتبهاً ولكنه ضائع قليلا المسكين فردناند الذي لا يفهم. انه سيكون من الواجب عليك الذهاب بعيدا والتدقيق من هذا الذي يفترض فهمه من وراء " وكما النسيج الذي لا أساس له من هذه الرؤيا "، ومن ثم أن تعطي قائمة ب: " هكذا لسوف تضمحل الأبراج المعمّمة بالغيوم،
والقصور الفخمة، والهياكل المهيبة "، والخ.
" … هكذا لسوف تضمحل الأبراج المعمّمة بالغيوم،
والقصور الفخمة "، .. كلا .. كلا ! انك تبتلع الكلمات ومخارجها. حاول أن تلقي صورة بعد صورة. لا تجعل سحر الكلمات يغرنك، بل على العكس حاول أن تستحضر كل صورة بطريقة واضحة جداً. إن بروسبيرو يتكلم وبالتحديد عن " الأبراج المعمّمة "، عن " القصور الفخمة "، وعن " الهياكل المهيبة "، إن كل هذا في حالة اتساع، اتساع حتى يصل إلى صورة كرة الأرض العظيمة، حتى يصل إلى جميع انطباعاتنا. هل تشعر بهذا الارتقاء ؟ أقرأ هذا المقطع بهدوء.
" الأبراج المعمّمة بالغيوم " …
أنت الآن حذر جدا. انك تقرأ ببطء قليلا. أعثر على الحركة التي تخرج بشكل طبيعي من الجملة. لا تعرض الجملة على الجمهور، لا " تقصها " عليه. فليس من واجبك أن تقدم عرضا " أدبيا ". حاول أن تكسر ذلك بقولك بكل صراحة وشمولية " الأبراج المعمّمة بالغيوم " وذلك لأنك تريد أن تقول مقطع " الأبراج المعمّمة بالغيوم "، على طريقتك الخاصة.
" … الأبراج المعمّمة بالغيوم،
والقصور الفخمة، والهياكل المهيبة " …
أحذر، انك الآن تسرع. لا تنسَ انك تتحدث عن أشياء مادية، ويجب على كل الذين يسمعونك أن يفهموا بأن الصورة غير متماثلة. إذا كان الآن بيننا " صيني " لا يفهم اللغة الفرنسية، فسيولد لديه الانطباع بأنك تردد " الأبراج المعمّمة بالغيوم " ثلاث مرات ". إن الأبراج، والقصور، والهياكل، في مكان من الأمكنة هي مختلفة. تستطيع أن تعثر على ذلك في حالة أن تسمح لنفسك أن تقاد من قبل الاختلاف الموجود مسبقا في الجملة. غير انك، تكبح جماح ذلك الاختلاف. حاول أن تقوم بذلك بتوجيهك الكلام إلى ثلاثة أشخاص مختلفين. إن هذا سيساعدك.
" … الأبراج المعمّمة بالغيوم،
والقصور الفخمة، والهياكل المهيبة " …
هل ترى، إن كل هذا ليس بالمجاني. إن هذا كله يساعد بكل بساطة على عجن النص الذي كان في البداية صلب وصعب. راقب جيدا إن " … الأبراج المعمّمة بالغيــوم، والقصور الفخمة، والهياكل المهيبة " عبارة عن صورة قصيرة ولكن فيما بعد يأتيكم عنصر اكبر بكثير يعبر عن نفسه من خلال جملة اكثر رحابة واتساعاً:
" .. وكرةُ الأرض العظيمةُ نفسُها، أجل وكل ما عليها " …
الوصول إلى قمة التفكير المجرد
إن بروسبيرو من أجل أن يصل إلى أقاصي ارتجاله الداخلي، عليه أولا وقبل كل شئ أن يذهب إلى ابعد بكثير من " وكرةُ الأرض العظيمةُ نفسُها " ويضيف " أجل وكل ما عليها " وهنا يستعمل شيئا شكسبيرياً خاصاً جدا، وهو عندما نصل إلى ذروة التفكير المجرد " وكرة الأرض العظيمة نفسها " يضيف شيئا صغيرا لكي يصبح هذا طبيعي. " اجل وكل ما عليها " ويضيف هذا المقطع الصغير لكي يهيء إلى الهبوط غير المنتظر. وسيقول بعد ذلك جملة جد بسيطة …
" وهكذا المهرجان الموهوم الذي تلاشى … "
نعم ! " المهرجان الموهوم " إنهما كلمتان بإمكانهما أن تحملا نفس المعنى، الذي يصطدم الولد المستمع إليهما. فنحن لا نلصق هاتين الكلمتين معا عندما نتحدث في كل الأيام. هانحن منذ عدة ساعات نتحدث عن العرض والشخصيات ومع ذلك لم نستخدم أبدا هذا التعبير الذي هو " المهرجان الموهوم ! " إذن، نحن لسنا بحاجة إلى تحديد هذا بطريقة اصطناعية. والآن قل الجملة التي تأتي بعد ذلك.
" … لن تخلّف هباءة، واحدة وراءها " …
الكل يؤدي، ومرورا بالأفكار، إلى هذه الجملة الغريبة الواضحة والغامضة التي تفقد كل خصوصيتها إذا أعطيناها في أدائنا أو في تعاملنا معها أيّ جانب فكري. لقد تحدث بروسبيرو عن العالم بأسره، وعن التجربة الإنسانية، وعن حياة الإنسان وفجأة ها هي جملة " …لن تخلّف هباءة، واحدة وراءها " التي توازن جميع الصور الجميلة السابقة. إذن، يجب أن تكون هذه الجملة حيوية جدا وخفيفة؛ أما إذا كانت ثقيلة، وتفسيريّة، فستفقد بعدها الهارموني مع " الهياكل المهيبة … "
نحن نرى، أن أيّ مقطع أو خطاب مسرحي شكسبيري بالنسبة للممثل هو صعب وذلك لان الشخصية لا تنتهي أبدا مما تريد أن تبوح به. وعلى الرغم من إننا قد وصلنا إلى هنا ومع ذلك فإن بروسبيرو ما يزال لم يقل كل ما يريد قوله. انه يريد أن يصل إلى خاتمته الخاصة، يريد من فردناند أن يفهم الآتي.
" … إنما نحن مادة
كالتي تصنع الأحلام منها. وحياتنا الضئيلة
تحدّها نومة من طرفيها. "
الشعور بغية الفهم
ومن أجل قول ذلك، فإننا لا نستطيع أن نطلب من الممثل الذي يمثل بروسبيرو أن يصل إلى مكنوناتها الشخصية حتى لو أستغرق التحضير عدة أسابيع. انه يتوجب عليه أن يعبرَّ ويتجاوز آلاف الأشياء في فهمه، أن " يتمرن "، " يتمرن "، " يتمرن " مثلما يقول جان رينوار. أن يشعر في دواخله نفسها، بغية أن يفهم الكيفية التي يقول فيها جملة تبدو جميلة وشعرية بحيث يكون التعبير فيها فريدا ونابعا من إيمانه الأكثر عمقاً.
إن ما ينطق به بروسبيرو بمثابة درس حياته الجوهري الذي تعلمه خلال حياة بكاملها، وإن هذا هو ما يريد أن ينقله إلى فردينا ند. فإذا عثر الممثل على الموقف المتقن، فهذا يعني إن الجملة سترن بشكل طبيعي، وذلك لان هذا هو ما يريد أن يقوله بروسبيرو ولا شئ آخر. أما إذا لم يتوصل لذلك، فسيكون بيتا شعريا جميلا، وجملة من جمل المؤلف وسنكون نحن من جديد داخل مسرح برجوازي مميت وغير محتمل.
إنني لا ازعم أن الممثل يستطيع أن يصل إلى هذا كل يوم ولكن الهدف هو هذه اللحظة حيث، من خلال الطرق، والأساليب، والجداول الدائمة التغيير والتقلب، سيكون هناك حقيقة طبيعية خلف هذا الذي يقوله.
إن الممثل يستطيع أن يصل، شرط أن يعثر على تلك العلاقة بين الحرية في البحث وصرامة الشكل الذي تصوره الورقة. إن هذا الشكل لا يدل ولا يشير إلى كيفية القول، ولا إلى كيفية التمثيل، وإنما هو يساعدنا ببساطة على الفهم.
إذا قمت الآن من جديد بفعل ما قمنا به منذ قليل ، فسيكون ذلك، على الأقل عمل طالب وليس تمثيلاً. يجب العثور على هذا الشكل الآخر الذي هو تمثيل الممثل الذي يخضع إلى فهمه العام للمسرحية، والذي يتطور تدريجيا على طول فترة التمرين …
قطع الأعشاب الميتة
يوجد في النص الذي نحن بصدد التقرب منه وملامسته، فخ تمكنا من اكتشافه أثناء التمرين، والذي يشتمل على توضيح ما يتعلق بالمقطع الحزين وذلك لان موسيقى الجمل في الظاهر هي عبارة عن إيقاع مسيرة جنائزية، لأنه في يوم من الأيام كل شئ سوف يذوب ويتحول إلى قطرات من ندى. " لن تخلّف هباءة واحدة وراءها، إنما نحن مادة كالتي تصنع الأحلام منها، وحياتنا الضئيلة تحدّها نومة من طرفيها ". إن هذا المقطع مغر جدا إلى درجة بحيث اسمعه دائما وهو يؤدى من قبل ممثلين بطريقة تبعث على الحزن والكابة. غير إن هذا المقطع وبكل بساطة يعني في سياق العلاقة ما بين بروسبيرو وفرديناند، بأن كل شئ سوف يختفي ولكن يجب عدم البكاء كثيرا.
إذن، إن دور المخرج لا يختصر نفسه في القول الممثل كيف يمثل، وإنما في خلق فضاء خالٍ حيث ستكون العوائق فيه غائبة أو بالأحرى منظفة. أن يقوم المخرج بعمل البستاني أو الجناينيّ، يقطع الأعشاب الميتة لكي يستطيع الممثل، خلال عدة أسابيع، أن يستمر في العثور على روابط خفية ما بين هذا المقطع والبداية، والوسط ونهاية المسرحية، حتى يعثر في أحد الايام الجميلة، مع الجمهور في لحظة من اللحظات على السبب الحقيقي الذي يختفي وراء قوله هذا. عندئذ سيكون العالم كله مقتنعا، وذلك لان الإيقاع سيكون متقناً، والشكل سيكون متقناً أيضا وسوف لا تكون له اية علاقة مع هذا الذي سوف نتكهن به أثناء التحليل البسيط حول الطاولة. إن هذا العمل حول الطاولة لا يمكن أن يكون إلا أداة لتنظيف الأرضية لهذه الأداة الأخرى التي تمتلك الحدس. إن التنظيف عملية ضرورية إذا شئنا أن نجنب الممثل عملية التورط العمياء، الخانقة للفوارق الدقيقة والخافية للمعنى الحقيقي.
تكنيك في خدمة الحيوية
لا حظوا إن شكسبير، بعد إن كتب كل هذا، يقود المتفرج إلى الحياة الطبيعية. بعد الجملة القوية جداً " وحياتنا الضئيلة تحدّها نومة من طرفيها " يضيف " سيدي، إني مبتلى " باللحظة، يعود إلى الحياة العادية مع تغير جديد في النهج.
إن هذا يسمح لنا بالعودة من جديد لتأمل الاختلاف ما بين هاوٍ ومحترف. ربما يستطيع الهاوي أن يتفهم جميع هذه العناصر ولكن في محاولته لاقتفاء أثرها يجد نفسه في حالة مشابهة لحالة عازف الكمان الذي عليه أن يتابع المتغيرات السريعة جدا، دون أن يملك المهارة المطلوبة.
من اجل اقتفاء اثر كل ذلك داخليا، وفي هذه المنطقة بالذات حيث مخيلة الممثل، وإبداعه يرتبطان بالصوت والجسد، فإن هذا يتطلب في الحقيقة، مرونة عظيمة، وخفة حركة لا يملكها الإنسان العادي. إن هذا في معظمه هو نتيجة من نتائج عمل التكنيك. ولكن التكنيك إن وجد هنا، فمن اجل أن يبقى الكل حيوياً، وطرياً، وجاهزاً، ومتهيئاً لان يضع نفسه في خدمة مأرب وهدف من الأهداف. انه على خلاف المغني الذي نطلب منه أن يؤدي بصوته، الذي هو أداة غير دقيقة، شيئا دقيقاً، فإن عمل الممثل يتطلب امتلاك الإمكانيات التي من المستحيل تعيينها، وترميزها، ولكنها، تستطيع أن تنتعش بواسطة سلسلة المحاولات التي تطرقنا إلى بعض أشكالها.
- أتمنى أن أعرج ثانية على " المسرح المقدس ". لقد تطرقتم في حديثكم إلى التجارب التي انطوت على نقل اكبر كمية ممكنة من الانفعال. بأقل ما يمكن من الإمكانيات. هل بإمكانكم أن تحدثونا عن ذلك ؟
التفصيل والنوعية
لقد تطرقنا إلى هذا منذ فليل في محاولتنا الصغيرة لكي نلامس الحساسية الأكثر رقة باقل حركة لليد. انه من الضروري جدا رؤية الكيفية التي يمكن أن تكون فيها اقل واصغر حركة خالية أو ممتلئة، مثل الجملة تماما. نستطيع أن نقول " يوم سعيد " لشخص ما من غير أن نقول لا " يوم " ولا " سعيد "، بل حتى من دون التوجه بالكلام إليه. نستطيع أن نصافح اليد بطريقة أوتوماتيكية أو بإخلاص … لقد كان لنا حول هذا الموضوع، عندما سافرنا، جدل ومحادثات كثيرة وكبيرة مع علماء يبحثون في اصل الجنس البشري وتطوره وأعرافه وعاداته ومعتقداته. بالنسبة لهم، إن الاختلاف بين حركة مصافحة اليد وحركة السلام على الطريقة الهندية، بضم الأيادي إلى بعض، هو اختلاف ( ثقافي). من وجهة نظر الممثل، إن هذا ليس له أية أهمية. نحن نعرف، انه من الممكن أن تكون منافقاً، أو مخلصاً، بحركة أو بأخرى. نستطيع أن نكون مطلعين جدا ومتمكنين من نوعية الحركة، حتى وإن كانت هذه الأخيرة لا تنتمي إلينا ثقافيا.
على الممثل أن يعلم، إن الحركة مهما كانت، فإنه يستطيع أن يجعلها شعوريا مليئة بالمعاني الحقيقية.
إن النوعية توجد في التفاصيل. وإن حضور الممثل، هو الذي يعطي النوعية والخصوصية مسمعه، لنظرته، شيئا غامضاً نوعا ما، ولكن في جزء منه فحسب. إن ليس هذا بخارج كليا عن إمكانيته الشعورية والإرادية. إن بإمكانه العثور على هذا الحضور انطلاقا من بعض الصمت الداخلي له. إن ما نطلق عليه " المسرح المقدس "، اللامرئي، ينطلق من هذا الصمت، الذي انطلاقا منه من الممكن ابتكار وخلق كل أنواع الحركات. في هذه الحالة. حتى الذي يسكن الإسكيمو سيفهم إذا كانت هذه الحركة هندية، أو أفريقية، هي حركة ترحيب أو حركة عدائية. بإمكاننا أن نشحن أيّ حركة كانت أو أية صوت كان بهذه الطريقة، أو نمتنع عن القيام به أو بها. إن كل شأن أو مسألة لها تفاصيل ! ونوعية !
هل أجبت على أسئلة هذا الصباح جميعها ؟
أرى إنكم تلتزمون الصمت الآن …
نحن نعلم إن العمل الحقيقي لمصارع الثيران في حلبات المصارعة، يكمن في السياق الطويل الذي يفضي إلى اللحظة المعينة التي نرى فيها الثور بلا حركة. وبما إننا لا نريد أن نذهب بعيدا، أيّ حتى الموت، بإمكاننا أن نتوقف هنا.
(صمت)
(تصفيق.)
محتويات الكتاب
الموضوع الصفحة
مقدمة المترجم ……………………………………………………………………
مقدمة ……………………………………………………………………………………….
اليوم الاول………………………………………………………………………..
اليوم الثاني………………………………………………………………………..
ملاحظة:
لقد تركت تحديد الصفحات لما بعد التنضيد واختيار حجم الكتاب. رجاءا مراعاة ذلك قبل طبع الكتاب، وشكرا.
الغلاف الخلفي.
في المسرح، الضجر مثل الشيطان .. بإمكانه أن ينبثق في أية لحظة. من اللاشيء يقفز إلى الوجه. إنه يراقب .. يترصد بشراهة .. يبحث عن اللحظة التي ينزلق فيها بصورة غير مرئية، إلى داخل الفعل .. إلى داخل الحركة، إلى داخل الجملة.
في المسرح، بمجرد ما يتسرب الضجر إلى داخلي، إشارة حمراء تشتعل !
بيتر بروك
*
التقى "بيتر بروك" بتاريخ 9 و10 آذار، 1991 في باريس، مع معلمين وفنانين مسؤولين عن دروس "المسرح والتعبير الدرامي" للمرحلة الإعدادية في العديد من الثانويات الفرنسية للتأمل في كتاب "الفضاء الخالي" الصادر عن "دار نشر " Seuil ". كيف نعيد كتابياً هذا الدرس المسرحي لبتر بروك، بمحافظتنا على غياب الدُغماتيّة والابتهاج بفكرة ما زالت تعيش حركة مستمرة ؟ لقد حاولنا، وبكل بساطة، أن نحافظ على طابعها الحيوي- الاندفاع الحيوي- باحترامنا تسلسل وإيقاع هذا اللقاء، وترقيم التمارين الصغيرة، وأسئلة المشتركين وبعض الاستراحات. بهذه الذهنية تتنزه هذه الكتابة في الفضاء المسرحي محافظة على تلقائية التبادل.
0 التعليقات:
إرسال تعليق