مسرح عالمي : فرنسا تستعيد وهج السخرية عند ساشا غيتري في مسرحية 'جنون'
مجلة الفنون المسرحية
------------------------------------------------
المصدر : ابو بكر العيادي - العرب
يشهد مسرح البولفار في الآونة الأخيرة عودة قوية -هذا المسرح الذي يقوم على عناصر تكاد تتلخص في علاقات الزوج أو الزوجة بالعشيقة أو العشيق- سواء من خلال أعمال مبتكرة لجيل من المؤلفين الجدد مثل فوريان زيلر وجان ديل وجيرالد سيبليراس، أو كلاسيكية لأعلام أشهرهم فايدو ولابيش، وساشا غيتري مؤلف “جنون” التي تعرض حاليا على خشبة “الضفة اليسرى” بباريس.
ساشا غيتري (1865/1957)، واسمه الحقيقي ألكسندر غيتري على اسم عرّابه ألكسندر الثالث قيصر روسيا، فنان متعدد المواهب، جمع بين المسرح والسينما تأليفا وتمثيلا وإخراجا؛ غزيرُ الإنتاج، في رصيده مئة وأربعون مسرحية وستة وثلاثون فيلما سينمائيا. اكتشف غيتري مواهب عديدة أمثال جاكلين دولوباك وداري كول وميشيل سارّو ولوي دو فونيس الذي سوف يصبح في ما بعد نجم الكوميديا السينمائية الفرنسية، وتعامل مع ممثلين سينمائيين مشهورين أمثال جان كوكتو وجان غابان وجيرار فيليب وبريجيت باردو وأورسون ويلس، مثلما تعامل مع مشاهير الفنانين والفنانات كإديت بياف وإيف مونتان وأرليتّي..
وانتخب عام 1939 عضوا في أكاديمية غونكور، رغم أنه فشل في دراسته وانقطع عن التعليم في سنّ مبكرة.
فنان متكامل
ولد غيتري، مثل إخوته الأربعة، في سان بطرسبورغ، بعد أن تعاقد والده لوسيان غيتري (1860 /1925) مع “مسرح ميشيل” لتقديم عروض في عاصمة الإمبراطورية الروسية خلال موسم الشتاء لمدة تسع سنوات. بدأ حياته الفنية ممثلا في فرقة “النهضة” التي كان يديرها أبوه، ثم مؤلفا لنفس الفرقة، قبل أن يشق طريقه بأعمال مسرحية كان يكتبها ويخرجها بنفسه ويقوم فيها بأدوار البطولة أيضا، ثم بأفلام سينمائية استوحى بعضها من مسرحياته، وكان فيها كعادته كاتب السيناريو والبطل والمخرج، ما جعل فرنسوا تروفو، الذي تتلمذ عليه، يَعدّه فنانا متكاملا على غرار شارلي شابلن.
“جنون” التي تعرض حاليا على خشبة “الضفة اليسرى” بباريس والتي يخرجها فرنسيس هوستر، عرضت أول مرة عام 1951 على خشبة مسرح المنوعات بباريس، عن نص أصلي كان غيتري ألفه عام 1938 بعنوان “عالم مجنون”، هو عالم الأزواج حين تحتدّ الغيرة وتنتأ الشكوك ويحتدم الصراع بحثا عن أفضل السبل للتخلص من الطرف الآخر، خصوصا في فترة كان الطلاق بالتراضي خلالها غير قائم، إذ كانت المحاكم تشترط أدلة على سوء سلوك الزوج أو الزوجة، وتطالب كليهما برسائل شتم نالت منه كي تنطق بحكم الطلاق، أو دليلا عن اختلال مداركه العقلية، أي أن الشخص في النهاية مجنون في نظر من كان يشاركه حياته، إن لم يكن سلوكه مطابقا لما ينتظره منه.
بطل المسرحية، الدكتور فلاش، هو عالم تحليل نفسي ذائع الصيت، كان يستعدّ لإحالة نفسه على التقاعد، والانسحاب إلى الساحل اللازوردي لقضاء بقية حياته، بعيدا عن مكالمات لا تنتهي، من رجال ونساء يعانون أمراضا نفسية وعقلية، وينجح غيتري في خلق شخصية طريفة لا تقل جنونا عن مرضاها من جهة تفكيرها ومنطوقها. عاده مرة جان لوي كوزيزنيه وزوجته ميسيا، وقد جاءا يشكوانه معا جنون الطرف المقابل، وإذا كل واحد يعدد مساوئ الآخر، ويدعوه إلى متابعة طبية، بحضور الممرضة فالنتين، التي هي في الوقت نفسه راعية بيت الدكتور وعشيقته، وليوبولدين المتخصصة في تغليف الأثاث بالأنسجة.
ساشا غيتري فنان متعدد المواهب وغزير الإنتاج، في رصيده مئة وأربعون مسرحية وستة وثلاثون فيلما سينمائيا
ومن خلال ما ينتقده كل زوج لدى الآخر، تطرح المسرحية لحظة حاسمة من حياة الزوجين بصورة عامة، فبعد سنوات من الحياة المشتركة، تتبدى النقائص، والسلوك المريب، والحركات المزعجة، والعادات المبتذلة، والطريف أن نظرة كل زوج إلى شريك حياته لا تختلف عن نظرة الطرف الآخر إليه.
فعيوبهما توتر أعصاب كليهما، وتزعج حتى الطبيب نفسه، وكان يمكن أن يطردهما لولا أنه صعق بجمال ميسيا، فسعى حتى رضيت بأن تقتعد الكنبة في إطار حصة علاج نفسي خاصة، لا يحاول أن يعرف ما بها قدر ما يروم أن يعبّر لها عن افتتانه بها.
استعادة موليير
تبدو المسرحية، التي تدور في إطار مغلق هو عيادة الطبيب، حيث لا ديكور غير مكتب عليه تمثال نصفي لموليير وبعض الكراسيّ، كتصفية حساب بين الأزواج في ظاهرها، ولكنها في الواقع نقد لاذع لنفاق المجتمع البرجوازي، ودعوة صريحة إلى الطلاق بالتراضي، بدل حياة النكد التي يعيشها الأزواج، فـ”كم من الناس يحسبون كلَّ شيء مباحا في حياتهم الزوجية، بدعوى أنهم أوفياء”، كما يقول على لسان الدكتور.
ولئن بدا موضوعها محسوما في المجتمع الفرنسي الآن، فإن طرح ذلك “التابو” كان جريئا في تلك الفترة، ولا سيما أن غيتري عاشه أكثر من مرة، وكانت له من الزواج والطلاق مواقف ساخرة، حيث قال عن الزواج في بعض مسرحياته “الزواج في نظر المرأة سجن، والزوج سجان، ولكنكن لا تتصورن أبدا، سيداتي، أن السجانين أيضا يقضون حياتهم داخل سجن”.
وقال أيضا “الزواج هو أن يحل اثنان مشاكل ما كان ليتعرض لها المرء بمفرده”، وقال عن الطلاق “الطلاق أعقل من الزواج، ففيه نعرف ما نصنع”. وقد نجح هوستر وكذلك الممثلون في التعبير عن روح مسرح غيتري الموسوم بالعبارة الرشيقة والطرفة الصائبة والنقد الساخر الذي يستعيد مسرح موليير في البعض من أوجهه.
المصدر : ابو بكر العيادي - العرب
0 التعليقات:
إرسال تعليق