المسرح العراقي والمنعطف الآلي
مجلة الفنون المسرحية
المسرح العراقي والمنعطف الآلي
المسرح العراقي والمنعطف الآلي
عبد الامير السماوي
بدأ مسرحنا العراقي سياسياً، وهذا ما يعرفه الجميع. وكانت الأعمال المسرحية في البدء قليلة وتباعدت من حيث الزمن. لكنها كانت مؤثرة تبقى في ذاكرة المتلقي. كونها تطرح مضامين انسانية يعيشها المشاهد العراقي. وعندما اقول المشاهد العراقي: لا اقصد النخبة الواعية المثقفة فقط. وانما الطبقة المسحوقة من ابناء شعبنا المتعطشة لمعرفة ما يدور حولها. والتي تئن تحت نير السلطات الحاكمة المشبوهة المرتبطة مع قوى الاستعمار آنذاك. وبما ان المسرح يشكل خطراً مباشراً وغير مباشر من خلال التوعية والأحتجاج والتنوير والتثوير احيانا كما في (مسرح برشت) و(بيتر فايس) لذا فإن رموز السلطة آنذاك كانت مدركة تماما بخطورة هذا الفن الذي يطلقون علية (المسرح). ورغم كل هذا فقد كانت هناك مبادرات مسرحية قبل تأسيس (قسم المسرح) في (معهد الفنون الجميلة) تأثر بها بعض فنانينا (الرواد) بعد زيارة فرقتي (فاطمة رشدي) و(جورج ابيض) الى بغداد وبعد تأسيس معهد الفنون وقسم المسرح سافر (الرعيل الاول) من الطلبة الذين اكملوا دراستهم في هذا المعهد الى الخارج لدراسة التجارب الجديدة في هذا الفن. وبعد عودتهم الى الوطن حدث انعطاف كبير في المسرح العراقي. وذلك بما درّسوه لطلبتهم (الرعيل الثاني) الذي تفجرت طاقاته مع تفجير ثورة الشعب في 14 تموز الخالد. حيث فتحت ابواب البعثات والزمالات لمعظم الطلبة الذين انهوا دراستهم في (معهد الفنون)، الذي لعب دورا رياديا في تاسيس الحركة المسرحية في العراق. وذلك من خلال برنامجه السنوي في انتاج ثلاث أو أربع مسرحيات من الادب العالمي يقوم باخراجها الأساتذة الرواد ويمثلها طلبة المعهد بفرعيه (الصباحي والمسائي) الذين أخذوا مساحة فنية واسعة حتى الآن بالنسبة للحركة المسرحية العراقية في مجال (التأليف والتمثيل والأخراج) اضافة الى تطور (النقد المسرحي) الذي كان مقتصراً على نقد القصة والقصيدة والرواية والبحوث الأدبية الأخرى.
ومثلما لعب ( معهد الفنون) دوراً اساسياً في (الريادة) كان تشكيل وتأسيس (الفرق الأهلية) دورها في تطوير حركة المسرح العراقي. حيث شكل العديد من الفرق المسرحية التي اشرف عليها (الرعيل الاول) من الرواد. مثل فرقة (المسرح الشعبي) و(المسرح الحديث) و(المسرح الحر) و(مسرح اليوم) و(مسرح اتحاد الفنانين) و(مسرح الرسالة) و(مسرح 14 تموز). وكان لبعضها فروع في بعض المحافظات (كالبصرة والموصل) حيث قدمت هذه الفرق العديد من المسرحيات التي تحمل مضامين فكرية وجمالية بقيت في الذاكرة حتى الوقت الحاضر. وبلغ المسرح العراقي عصره الذهبي في (الستينيات والسبعينيات) حيث أضاف تأسيس (مؤسسة السينما والمسرح) رافداً فنياً آخر وذلك بتفرغ الفنان لعمله الفني من اجل التطور والأبداع. وبالرغم من الأمكانيات المادية المتواضعة للفرق الأهلية فقد كانت تقدم أعمالاً يأتي لمشاهدتها ليس جمهور بغداد وحسب بل من خارج بغداد. لكونها تطرح هموم وتطلعات المتلقي التي يطمح في تحقيقها. اضافة الى ان الفنان الذي يعمل في هذه الفرق (مؤلفاً أو ممثلاً أو مخرجاً) كان يريد ان يقول شيئاً ما في داخله.
كان يترجم صرخته الداخلية الى (كلمة أو حركة أو أيماءة) يعبر من خلالها عن (قضية ما) يعيش من اجلها. ولذا فقد كان الحاجز (المالي) غير وارد في حساباته بل كان لديه الاستعداد لأن يدفع من مصروفه االخاص من اجل ان يظهر العمل للناس بشكل متكامل رغم قسوة الظروف المعاشية التي يعيشها الفنان. ورغم قلة (العنصر النسوي) الذي كان يعاني منه المسرح العراقي بشكل عام. بسبب الأفكار الرجعية البالية. والتقاليد الآجتماعية. ورغم هذا كله فقدتألقت باقة خيرة وجميلة من الممثلات في الفرق الأهليه ومنهن الفنانة الراحلة (فخرية عبد الكريم - زينب) و(ناهدة الرماحي) و(آزادي صموئيل) و(مي شوقي). ومما لاشك فيه فأن المسرح يزدهر في زمن السلم. وتأريخ المسرح العالمي يشير الى التدهور وأغلاق المسارح اثناء حدوث الحربين (الأولى والثانية) الا أن النظام الدكتاتوري شذ عن هذه القاعده وحول المسرح العراقي شيئاً فشيئاً الى (مسرح تعبوي) في البداية ثم الى بوقٍ اعلامي يمجد الحرب ويتغنى بالبطولات الزائفة التي ذهب ضحيتها ملايين الأبرياء وبشكل مقصود لتحجيم الآلة العسكرية الكبيرة التي كان يخاف منها (الدكتاتور) نفسه.
في الثمانينيات ظهر الكثير من الاعمال المباشرة على صعيد (التأليف والتمثيل والأخراج) وحاول بعض الفنانين وبدوافع مالية صرفة أن يكتبوا الأساطير البعيدة عن الواقع والتي تظهر الجندي العراقي منتصراً في جميع المعارك (الصغيرة منها والكبيرة) مع اخفاء الكثير من الحقائق المأساوية التي وقعت اثناء سنوات الحرب.
ولم ينعكس هذا الانعطاف على (وزارة الثقافة والأعلام) فحسب وانما أمتد الى ( وزارة التربية) التي ألفت مهرجاناتها السنوية في (المسرح والأوبريت) التي شارك فيها جميع الفنانين في العراق من (كتاب وممثلين ومخرجين) جندوا جميعاً لتقديم (رقصة أطفال) متهافتة تقدم في عيد ميلاد (الدكتاتور الدموي) من اجل الحصول على مبالغ مالية كبيرة لكل مشارك. وبهذه الخطوة ذهب احد المنابع المهمة التي ترفد الحركه الفنية في العراق. وأختفى الى الأبد (مسرح التربية) الذي كان فيه الكثير من الطاقات الشابة الواعدة على صعيد (التأليف والتمثيل والأخراج) وكما هو معروف فإن التدهور الأقتصادي في كل بلد ينعكس على كل الأنشطة المعرفية والفنون الأنسانية وبضمنها (المسرح) وهذا ما حدث في السبعينيات حيث تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي والفني وحوصر الفرد العراقي من كل جانب وخاصة شريحة (الموظفين) منهم. وارتفعت الاسعار بشكل خيالي. واصبح العراقي فيها (مذهولاً) لايعرف ماذا يفعل سوى بيع الأشياء الحميمة الى نفسه من اجل إطعام أطفاله وفي هذا الوضع المزري الذي يعيشه البلد الذي اصبح فية (التفاوت الطبقي) حاداً بين الأقلية المتخمة بالملايين. والأكثرية المسحوقة والمقيدة بالبطاقة (التموينية) أنعكس هذا الوضع الإنساني على أكثرية الفنانين الذين حوصروا من كل جانب. فمنهم من هاجر خارج الوطن ومنهم من بقي تحت المطرقة. وفي هذه الفترة ظهرت مجموعة من (المنتجين الأمّيين) الذين يمتلكون (رأس المال) كسبوا بعض رموز النظام السابق (بالرشوة) وسيطروا على مسارح (الدولة) ومن أجل الربح السريع هبت على المسرح العراقي (عاصفة الغجر) وقام هؤلاء المنتجون بأشراك الراقصات والمغنيات المعروفات في النوادي الليلية وحفلات (المزارع الخاصة) من اجل جذب أكبر عدد ممكن من المتفرجين واصبح العمل المميز هو الذي تشترك فيه (غجرية) معروفة. وأبتعد الجمهور الواعي عن المسرح وحل محله جمهور المراهقين والذين خدمهم الوضع الأقتصادي اللامشروع. وانخرط عدد كبير من الممثلين المعروفين في الساحة الفنية من اجل الأجور الخيالية التي يدفعها هؤلاء المنتجين والتي تصل أحياناً الى عدة ملايين.
وأصبحت الأعمال (اللامسرحية) تجذب الشريحة المنتفعة من الوضع الاقتصادي التي تاتي الى المسرح وهي مستعده مسبقاً لكي تضحك على النكات المبتذلة التي يلقيها الممثلون وهم يقلدون المطربين والمذيعين. وتحول المسرح الى سيرك للمهرجين. يسوده من الرقص المبتذل. اضافة لظهور مصطلحات فنية في الوسط المسرحي مثل (نجم-نص نجم-ربع نجم) أوجدها (المنتجون الأميون) وأصبح الفنان سلعة خاضعة (للعرض والطلب) وعلى هذا الأساس اتخم بالملايين العديد من المهرجين والغجريات إضافة للمنتجين. وهذا السبب الذي جعل العديد من المسرحيين الجادين يفضلون العزلة والأبتعاد عن الوسط المسرحي رغم انهم يعانون من العوز المالي وهم تحت وطأة المطرقة الهائلة التي أوجدها النظام التسلطي مما أدى الى ان يصبح البعض منهم (حرفيين) بعيدين عن المسرح من اجل لقمة اطفالهم. ومن العدل ان نقول: لم يضطهد فنان ما في بلد ما، مثلما اضطهد الفنان العراقي بعد اغتصاب السلطة من قبل الدكتاتور الدموي. حيث وضع الفنان في قالب ضيق بين (المطرقة والسندان) من اجل تصفيته فكرياً وأن لزم الأمر (جسدياً) وبشكل مدروس ومخطط له مسبقاً. وذلك في غلق جميع الأبواب في وجهه أينما يذهب بعد أن حول الدكتاتور جميع المؤسسات المدنية الى مؤسسات عسكرية من أجل الحفاظ على هذا النظام الفاشي والمتآكل من الداخل الذي تهاوى بشكل كارتوني أذهل الشعوب جميعأ. والآن وبعد هذا العرض (الموجز) لمسيرة مسرحنا العراقي، من حق الفنانين العراقيين أن يتساءلوا (هل يبقى المسرح العراقي كما اراد له النظام السابق؟. أم هناك انعطاف ايجابي يقوم به الفنانون الاصلاء ليعود مسرحنا العراقي الذي يطرح مضامين انسانية وفكرية وفلسفية. ويطرح هموم وطموح هذا الشعب العريق بحضارته وتأريخه الطويل في النضال ضد قوى الشر والظلام؟. ان الزلزال الكبير الذي حل بنا نحن العراقيون كفيل بأن يخرج للعالم (مئات الكتب والروايات والقصائد والمسرحيات) هذا الزلزال الذي أذهل الشعوب ليس حديثاً عابراً أو حرباً خاطفة وأنما هو اختراق كامل لكل الأخلاقيات المتوارثة عبر الأجيال التي قامت على تضحيات كبيرة قدمها هذا الشعب بكامله متحدياً كل قوى الشر. نحن نعرف ان التحولات الكبيرة في المدارس الأدبية وظهورها في بلدان متطورة جاءت بعد الحربين (الأولى والثانيه) أفرزت الكثير من الكتاب والشعراء والروائيين الكبار. فكيف يتعامل الكاتب والفنان العراقي مع هذا الزلزال الكبير؟ هل يبقى يتعامل مع (قشور الواقع) كما كان في العهد المقبور؟ أم يعرض الواقع المعاش بشكل موضوعي؟ مع الأخذ بالأعتبار القيم الجمالية والتقنيات الحديثة المتطورة؟ ان الخطوة التي قامت بها (وزارة الثقافة) ورغم الفوضى وغياب الامن وابتعاد المتلقي عن المسرح كانت خطوة جريئة وذلك بأقامة (ثلاث مهرجانات مسرحيه) ( مهرجان بغداد / مهرجان مسرح الطفل/ مهرجان المونودراما) ورغم قلة الجمهور تعتبر خطوة رائده وحزمة ضوء في طريق الأنعطاف القادم لمسرحنا العراقي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق