التحول من الماهيات الى الكيفيات تصفير السؤال الفلسفي
مجلة الفنون المسرحية
التحول من الماهيات الى الكيفيات تصفير السؤال الفلسفي
د . جبار جودي العُبُودي
التحول من الماهيات الى الكيفيات تصفير السؤال الفلسفي
د . جبار جودي العُبُودي
انتقل الفكر تدريجياً من التأمل الكيفي الى التفكّر الكمي الرياضي عن طريق التحولات المعرفية الأساسية للعصر العلمي ، بأنتقال العلم من البحث في الماهيات والكيفيات والغائيات الى معالجة رياضية منهجية للطبيعة ، فثقافة الحداثة التقنية أضحت نقيضاً للمنظومة التقليدية للفكر ، إذ تصاعدت هذه الثقافة طردياً في الزمن وبشكل متناسق لعناصر الزمان والمكان تسودها قيم أخلاقية تقوم على التعدد والإنتشار والتسامح ، وتصبح فيها مكانة الفرد متسيدة عن طريق الإنجاز والإستحقاق بعيداً عن قيم الوراثة والإنتماء ، إذ ساد العقل كأساس للقيم العاملة في مضمار التقدم والتغيير والتحرر والتسيير الإجتماعي العقلاني تمجيداً لمستقبل جديد تنشده الإنسانية وتتوق اليه ، ولاتنشغل بالنظر الى الماضي ، فالعلم التقني الحديث حقق تغييرات بنيــوية فكرية كبيرة في كافة المجالات ، وغيّر من علاقة الإنسان بالطبيعة وبالكون الى حدود بعيدة ، وتوالت إرهاصات المفكرين والفلاسفة في اتجاه استشرافهم للتحولات الكبرى التي لاحت بوادرها عن طريق انتشار العلم التقني الحديث ، فما كان يبدو سابقاً سحرٌ وطلاسم أضحى مقدرةً وطاقةً متجددة على الدوام غيّرت وجه الإنسانية من بدائية الى أمم متحضرة بالإنجازات الإيجابية ، على الرغم من الإختلالات التي حدثت في الطبيعة ومن تسخير قوى الدول الكبرى المتقدمة علمياً وصناعياً لإمكاناتها في السيطرة والهيمنة على الشعوب الأدنى تطوراً ، فالعلم لم يعد اليوم ترفـــاً معرفياً بقـــــدر ماهو النموذج الأمثــــــل والأعلى لكل معـــــرفة ممكنة ، وربما أضحى العلــــم الذي قوامه الفكر الحاسب لا الفكـــــر المتأمل ، هو المتسيد في كل الثقافة الإنسانية وعلى مدى عصورها (1) .
ولايمكننا هنا مناقشة الفكر التقني الحداثوي دون الإشارة الى طروحات الفيلسوف الألماني هيدغــــــر الذي اعتبر التقــــــنية جوهر الحداثة والميتافيزيقيا جوهـــــر التقـــــنية إذ خصّ الحداثة بخمسة مميزات أساسية أو ظواهر ثقافية تمهر العصور الحديثة كلها بمهرها وخاتمها وهي (2):
1- العلم بإعتباره بحثاً دائباً واسقاطاً للتصورات القبلية على الطبيعة من أجل ادراك مفاتحها كمياً ورياضياً .
2- التقنية من حيث هي جوهر العلم ذاته .
3- دخول الفن في أفق علم الجمال ، أي تحوله من واقع انعكاسه لنظام العالم الى التعبير عن الذات الإنسانية المتمتعة بالذوق .
4- النظر الى الأفعال الإنسانية بأعتبارها نسقاً يمثل ثقافة وحضارة .
5- غياب المقدس وحضور التاريخ .
فهو يرى ان الحداثة عصر الميتافيزيقيا الذي يتحدد بموقفه الكائن وبتصوره للحقيقة ، وهو يفرد مكانة متميزة للتقنية ويعتبرها ماهية الحداثة ذاتها ، فالعلم الحديث في جوهره تقني أي انه خاضع للمتطلبات والمقتضيات النظرية والعملية للتقنية ، على ذلك فالعلم تقني في جوهره ، والتقنية اطار الحداثة إن لم تكن هي جوهر الحداثة نفسها ، فالتأمل في ماهية التقـــــنية يقودنا الى فهــم الحداثة من حيث أنها العنصر المحدد لها تحديداً كلياً ، إذ كانت التقنيات القديمة عبارة عن آلات وأدوات بسيطة في يد الإنسان يتحكم بها كيف يشاء ، لكن التقنية الحديثة بفضل قدراتها الهائلة والكبيرة أصبحت وكأنها خارجة عن سيطرة الإنسان وقدرته في التوجيه والتحكم بها ، لقد أصبحت التقنيات الحديثة مجموعة من المقدرات الضخمة التي تخضع لمنطقها الداخلي وتتطور بفعل حاجاتها هي لا كما يشتهي الإنسان ويريد ، بل انها تنفلت منه بشكل مستمر وربما تنقلب عليه ، فالتقنية – حسب هيدغر- ليست هي مجموعة الأشياء والإختراعات التقنية والآلات بقدر ماهي ذلك الموقف التقني ، انها موقف وميتافيزيقيا ، نمط لعلاقة الإنسان بالأشياء التي تحيطه ، ولاتطلق عبارة العصر التقني لأنه يحفل بالآلات وبالتقنيات بل لأن الأشكال التقنية تأخذ دلالاتها من الماهية التقنية للعصر(3) ، إذ يؤكد هيدغر دائماً على أن جوهر التقنية هو ميتافيــزيقيا ، إذ ان هذه الكينونة التقنية الميتافيزيقية شيء لايستطيع الإنسان التحكم فيه ، بل أصبح منبهراً أمام قوة التقدم التقني الذي يحاصره من كل جانب وكأنه شيء مستقل عنه ويتجاوز ارادته .
التكنولوجيا :
لقد بدأت الدراسات الجمالية التمييز والفصل بين شكلين من الإنتاج الإنساني يخص الموضوع الجمالي والموضوع الصناعي أي الإنتاج الفني والإنتاج الصناعي لأن الغاية من الأول هي اللذة الجمالية بينما تكون المنفعة هي خيار الإنتاج الثاني ، ومع التقدم والتتابع المستمر للتكنولوجيات المعاصرة بدأت الفروقات تضيق مابين ( الفني / الصناعي ) خاصة عندما ارتبطت الجمالية بالتكنولوجيا عن طريق المادة الفنية الوسيطة إذ أسهمت الوسائط الجديدة في تطوير قطاعات مهمة مثل الطباعة والإستنساخ للأعمال الفنية وشرائط الموسيقى والسينما ، وساهم ذلك في انتشار الأعمال الفنية بشكل واسع إستهلاكياً ، وقد أدى الى خوض مضمار النقاش والجدل بين فئتين احداهما يمثلها أدورنو الذي يجد في الندرة والتفرد الأساس للإنتاج الفني ، وثانيهما فالتر بنيامين الذي يجد في التكنولوجيا وسيلة لتعميم الإنتاج الفني على المجتمع (4).
تبعاً للعلاقة المستحدثة بين الفن والتكنولوجيا عند بنيامين فأن وظيفة الفن قد طرأ عليها تغييرات فبعدما كان الفن مرتبطاً بالدين والأيديولوجيا في العصور الماضية أصبح مرتبطاً بالسياسة وبمساعدة أجهزة الإتصال والنسخ الحديثة ، كذلك فأن طروحات أدورنو بشأن الندرة والهالة التي ينشدها للعمل الفني فأن فيها نتيجتين اثنين : الأولى سلبية لأنها تُحدث إفقاراً للتجربة ولايراها الا القلة القليلة بناءاً على التقاليد الفنية ، والثانية إيجابية لأنها تيسّر تسييس الثقافة ودمقرطتها ، لذلك فأن ظهور أشكال جديدة للفن يبيّن عدم تعارضه مع التكنولوجيا ولكن الفن نفسه كفكرة تاريخية كانت عرضة للتحولات ، لذلك نجد بنيامين يعرّف العمل الفني في ثنائية إذ يضمّنه قيمة سحرية وفي الوقت نفسه قيمة استعراضية (5) .
ان التطور الكبير الحاصل في مجال التكنولوجيا قد أثّر إيجاباً في الحقل المسرحي الى حدود كبيرة ، إذ مهّد الطريق لأكتشاف طرق وآلات وإمكانيات جديدة في التقديم الإبداعي والخلق الفني ، إضافة الى تحسين ظروف التلقي ، إذ أصبح بإمكان المُشاهد أن يرى العرض المسرحي في ظروف انسانية أفـضل في ظل الإمكانات والتجهيزات الحديثة للمسارح وعلى كافة الأصعـــــدة مثل الصوت والصورة والمسافة وبما يتوائم مع روح العصر (6) .
قام البعض من الباحثين بإدراج التقنيات التكنولوجية التي شهدتها المسارح في العصور الأولى من تطوره في خانة التقنيات السهلة والبسيطة ، أما ماجرى لاحقاً من تطور تكنولوجي في المسرح الحديث فهو من النوع المعقد ذي السرعة والإيقاع الشديدين ، حتى أنه أصبح من الصعب مواكبته ومجاراته من قبل المسارح الصغيرة والمتواضعة ، إذ أصبحت التكنولوجيا هي الأداة الرئيسية التي تستطيع تحقيق الأحلام الفنية والخيالات والرؤى التي يحلم بها المخرج المسرحي والسينوغراف ، إذ أصبحت التقنيات الحديثة في جوهرها تحقيقاً لخيالات ورؤى المسرحيين الأوائل ممن كانوا يسعون الى تجديد المسرح شكلاً ومضموناً (7) ، فالتكنولوجيا هي العصا السحرية الآن لما تستطيع تحقيقه من خلق عوالم سرمدية حلمية كانت خيالاتها تشابه السحر أحياناً ، إذ أن العامل الغالب في القرن العشرين هو نهضة التكنولوجيات الكبرى والراقية فقد كانت الفترة المبكرة من العلم الحديث مسبوقة ببداية الرحلات حول العالم واكتشاف العالم الجديد ، ونهضة العلم بوصفه معارف متميزة مصحوباً بعصر الآلة في الثورة الصناعية ، بينما يشاهد القرن العشرين العلم وقد أصبح علم تقنية ( Technoscience ) بشكل مكتمل ، حتى أصبح علم التقنية هو المحرك الذي يقـود التكنولوجيا الحـديثة ، ويطورها على نحو متميز عن أيــة تكــــنــــولوجيات تقـليدية أو قديمة (8) .
ان بوابة التطور التكنولوجي قد انفتحت على مصراعيها في المائة سنة الأخيرة من عمر العالم عبر العديد من العلماء والمفكرين الذين نذروا أنفسهم في سبيل تقدم البشرية الى مراحل علمية متقدمة ومن أجل فرض السيطرة المنهجية على الطبيعة وفك الشفرات والطلاسم الكونية ، ولقد كان غاليلو من أوائل الأوربيين ” الذي جعل العلم متجسداً تكنولوجياً ، وفي استخدامه للأدوات والآلات لإجراء التجارب ولم يكن غاليلو متأملاً يونانياً ولكنه كان نموذجاً حديثاً لعلم التقنية “(9) .
لقد دأب على تصميم واختراع آلات ومعدّات حديثة لقياس أبعاد الكون وكيفية تشكّل العالم ، وهذا لم يأتِ من فراغ وإنما بالتفكّر المستمر في أبعاد الطبيعة وأسرارها ومحاولة ترويض مدياتها التي كانت غامضة وعصية على الفهم ، وكل هذا جاء من الخيال الواسع المتأمل في الماهيات والمتحول من فعل التأمل الكيفي الى الجانب المنهجي والرياضي ، إذ يشير وايتهيد في كتابه العلم والعالم الحديث بأن ” السبب في كوننا على مستوى من الخيال الرائع لايرجع الى اننا لدينا خيال متوهج ، ولكن لأننا لدينا آلات جيدة ، والشيء الأكثر أهمية في العلم الذي حدث في الأربعين سنة الأخيرة هو التقدم في التصميم الآلي أو الأداتي “(10) ، وأصبح خيال العلماء والمفكرين مصحوباً بجودة مختراعاتهم مما أدى في المحصلة الى حصول البشرية على الرفاهية التكنولوجية التي تسببت بالسيطرة الكاملة على الكون والطبيعة الى مديات كبيرة .
هذا التقدم في التصميم وفي المستوى المتطور للآلات جاء بفعل التفكير الإنساني المتميز الذي يحاول السعي الدؤوب لأجل سعادة الإنسان بأستخدام المعرفة ، ولقد ابتدأ الإغريق ذلك الفعل من أجل تطوير آلات الحرب خاصتهم وأيضاً آلات وأدوات المسارح التي كانت على قدر كبير من الأهمية لديهم ، وهم لم يكونوا يتمتعون بمهارات تكنولوجية أو هندسية متطورة أو ضخمة إذ أنجزوا عدداً من المخترعات المرتبطة غالباً ، كما أسلفنا ، بالحرب وبالمسرح مثل آلات رفع الآلهة وخفضها وتطييرها في الفضاء ، وكانت غالباً معظم رؤاهم التكنولوجية مرتبطة بالإحساس الجمالي لديهم (11) .
لكن مايود المؤلف التأكيد عليه هو أن هنالك وللوهلة الأولى تقاطعاً فكرياً وعقلياً مابين التصورات الفلسفية عن التقنية وماتصدره هذه التقنية من هيمنة وسوء وسيطرة ومابين عظمة الإكتشافات التكنولوجية التي يسرت سبل الحياة الإنسانية بأتجاهات الرفاه والحضارة والمدنية ، ومن الممكن التوصل الى ان المخاوف التي طرحها البعض من الفلاسفة والمفكرين تجاه القدرات الكبرى للتقنية المهيمنة على عالم اليوم فيها جانبين أحدهما السلبي الذي يتمثّل في تصدّر مشاريع السيطرة والهيمنة التقنية على العالم وتسييره وفق مشيئة الدول الصناعية الكبرى ، بمعنى تصدير الحــــــــروب والكوارث والأزمات الإنسانية الى الشعــــــــــوب الأدنى تطوراً ، وهذا نوع جديد من الإستعمار يتمثــــــّـــل في السيطرة على اقتصاديات تلــــك الشعوب مثلاً والجانب الآخــــر هو الإيجابي الذي يتمثّل في الوجه المشرق للمخترعات التكنولوجية للتقنية التي أسهمت في تقدم مسيرة البشرية تجاه تفكيك أسرار الكون ومعرفته وتيسير سبل العيش فيه وتحقيق رفاهية المجتمعات الإنسانية ، إذ أسهمت التكنولوجيا المتطورة في اعلاء الجانب الفني للتقنيات المستخدمة في المسارح المختلفة في كل دول العالم ، إضافة لتطوير مختلف قطاعات الحياة الأخرى .
الهوامش:
(1) يُنظر : الحيدري : الحداثة ومابعد الحداثة ، مصدر سابق ، ص124 ومابعدها .
(2) يُنظر : محمد سبيلا : الحداثة ومابعد الحداثة ، مصدر سابق ، ص48 .
(3) يُنظر : المصدر السابق ، ص50 .
(4) يُنظر : جمال مفرج : استطيقا أدورنو أو الفن بوصفه نقداً ونضالاً ، في كتاب ثيودور أدورنو من النقد الى الإستطيقا ، مجموعة مؤلفين ، الرباط – الجزائر : ( دار الأمان – منشورات الإختلاف ) ، 2011 ، ص 106 .
(5) يُنظر : المصدر السابق ، ص 108 .
(6) يُنظر : فاضل الجاف : المسرح والتقنيات الحديثة ، شبكة المعلومات العالمية ( الأنترنت ) :
http// maakom.com/site/erticle/3448 ] [
(7) يُنظر : المصدر السابق .
(8) يُنظر : دون إد : مدخل الى فلسفة الكنولوجيا ، مصدر سابق ، ص 58 .
(9) المصدر السابق : ص68 .
(10) Alfred North Whitehead : Science and the Modern World ( NEWYORK ): Harperand Row , 1972 , P. 107 .
(11) يُنظر : دون إد : مدخل الى فلسفة التكنولوجيا ، مصدر سابق ، ص65 .
0 التعليقات:
إرسال تعليق