قراءة في مسرحية “سأموت في المنفى” للمسرحي الفلسطيني غنام غنام
مجلة الفنون المسرحية
قراءة في مسرحية “سأموت في المنفى” للمسرحي الفلسطيني غنام غنام
جمال عبد الناصر الفزازي - جسور
قراءة في مسرحية “سأموت في المنفى” للمسرحي الفلسطيني غنام غنام
جمال عبد الناصر الفزازي - جسور
عرض المبدع غنام غنام مسرحيته ” سأموت في المنفى” في ذكرى استشهاد المناضل المثقف والسياسي الكبير غسان كنفاني، وختما لعروض المهرجان الدولي للمسرح الجامعي لابن مسيك 8 يوليوز 2017 بمركب ستيديو الفنون بالدار البيضاء- المغرب ، في قاعة مستطيلة طوعها لتكون فضاء لعبيا لفرجة حكواتية دائرية استغرقت ساعة من الزمن لكنها امتدت بعيدا في مفاصل التاريخ ومجازات التخييل. ثلاثة مفاتيح لعرض ناجح :
أولا :
النص المسرحي : … نص يحفر عميقا في الجسد الفلسطيني المهجر أشتاتا بعيدا عن الارض –الموطن- التي تم تشتيتها بين الاحتلال الاسرائيلي والمملكة الاردنية الهاشمية و المملكة الخديوية المصرية والنظام السوري وبإرادة من بريطانيا المستعمرة “وعد بلفور2017” والغرب عامة.
…في هذا المسرح العالمي تمت مصادرة تركة الشهيد صابر ..صابر من كفر عانا ، انتزع الاستيطان ارضه و مات محروقا كمدا على ابنه المثقف والمناضل المنفي في الاردن ،إثر مكيدة مبيتة من ذوي القربى…
أما غنام غنام الذي يصغره سنا ، فلم يغنم سوى التهجير القسري باسم النزوح او اللجوء.. مثلما غنم ماسي الاسرة وتراجيديا فلسطين ترابا ورمزا .. ولم تتبق لديه سوى حقيبة كانت تحتفظ بتراب وحجر فجرده حرس الحدود منهما، لتصير تلك الحقيبة هويته المجروحة و قبره المفترض.
بهذا سيضع الجمهور أمام غنامين: أحدهما الأصل الذي كان يمكن أن يحيا حياته الطبيعية في وطنه الأم وقريته كفر عانه ، ومدينة مولده أريحا ..وغنام البديل “بدل فاقد” الذي بات يتجرع إهانات المطارات،وجحيم المنافي في إنتظار إسترجاع النسخة الأصلية. لينتهي العرض إلى إستضمار السؤال الوجودي الشكسبيري : “أكون أو لا أكون” أيهما غنام الكائن؟ ..أهو الطبيعي أم الممسوخ بالإحتلال ؟ .. هل هو الميت في وطنه أم في بلاد الغير؟ هل هو الإنسان الذي كان سيكون حرا كريما في وطنه لو لم يوجد إستيطان ..؟ أم هو ظله وقرينه ونسخته المشوهة. قيمة النص الدرامية لا تتأتى فقط من مرجعية النص وقضيته : فلسطين ..بل من إعادة إنتاج فلسطين النصية بشكل جمالي ..ألم يصرخ محمود درويش في الذين يستغلون القضية الكبرى بما دون الفن : ” أنقذونا من هذا الحب القاسي ” ..وهذا النص يمنح للقضية زخما فنيا بعد أن توارت خلف الكوارث العربية بإسم “الربيع العربي”.
وفي الواقع لا يوجد نص مكتوب تم إعداده و الإشتغال عليه ..لأن العرض يوحي إلى أن النص تم التفكير فيه “منجزا فرجويا” ومشروعا مسرحيا تجريبيا منفتحا على الفضاءات العامة…
وبالتالي فهو مشروع عرض يحتوي نصا ملفوظا، يتم تعديله في كل عرض بحسب طبيعة الفرجة والمتلقي ، وإن كانت بنيته العميقة، و الأساس هي تمثيل الأنا الفردية (غنام غنام) والعائلية (صابر) والجماعية (فلسطين)…باعتبارها موضوعا قابلا للقراءات المتعددة ..النفسية والاجتماعية والتاريخية …
إنه نص محبوك بإتقان يجعل المعقد بسيطا لإمتاع المتلقي وأفهامه ، بل وإرباكه أيضا بدءا من لازمة الإستهلال :” الله يمسيكم بالخير ويمسي الخير فيكم، لأن الإنسان بيحلى بالأيام والأيام بتحلى بالإنسان. و أحلى الناس هم البني آدم، و أحلى البني آدميين هم الناس، ومساء الخير عالبني آدميين.” . و هي التي ختم بها العرض، وما بينهما كثافة نصوص متداخلة : نصوص شعرية -خاصة شعر محمود درويش – و أسماء أعلام فلسطينيين : كإميل حبيبي وسميح القاسم و إدوارد سعيد وناجي العلي وغسان كنفاني … و أماكن: كالقاهرة وجرش وكفر عانه والشارقة… بالإضافة إلى نصوص حكم و أمثال و أخبار تنحت مادتها من السياسة والتاريخ و أحوال المجتمعات. ومن ميزات النص العرضي إنتقال سلس من اللهجة العامية الفلسطيني إلى المصرية ..ثم إلى العربية الفصحى؛ ومن الخطاب الفقهي إلى المحكي المتداول لدى العامة؛ إلى خطاب الرقيب والحاكم أو العالم، بحيثيات القضية و أسرار الشخصيات .
كما أن قيمة النص تعود إلى التلاعب بالزمن من خلال الإسترجاع غير المنتظم للتواريخ و الأحداث، ووو والإستشراف من خلال إستباق الموت…موت الشخصية في المنفى …
النص يجعل الشخصية معلقة بين- بين…بين الحاضر والماضي و المستقبل .. بين الحياة و الموت ..بين الجسد في فلسطين وفلسطين المحتلة ..بين المنفى بإعتباره وصلا لإحياء فكرة الأرض وبعثها في الأجيال الصاعدة والمنفى بإعتباره فصلا للإنسان عن موطنه الطبيعي .
وبلا شك يتميز النص بل يمتاز بقيمة درامية تفتحه على امكان تجسيده فرجويا ، لأنه يتمحور حول DRAMA الفعل الدرامي أي ما يمكن انجازه هنا والآن مسرحيا، وليس فقط الإكتفاء بالتعبير الإنشائي ذي النزعة البكائية، كما في كثير من المسرحيات التي تزعم الدفاع عن فلسطين ، أو النزعة المدحية التي تمجد الأسطورة الفلسطينية إلى حد التقديس…
ثانيا :
– التشخيص: يستثمر التشخيص تقنيات الحكواتي التي تقوم على انجاز الفعل الدرامي هنا هو ما نشاهده عبر حفر القبر او حمل حقيبة او صفع الشخصية واستنطاقها او ندب صابر لمقتل ابنه بحركة اليد وترنح الجسد او التحرك الدائري الذي يشير الى الترحال المستمر دون مغادرة الفضاء المغلق ..انه نص يفتح باب الابتسام والضحك كما يفتح باب المأساة التي نراها في عيني غنام وملامحه كالتركيز على المشاهدين بنظرات حادة والالتفات اليهم باستمرار لانتشالهم من كراسيهم المترهلة وادماجهم في فن الحلقة بفرجة تروم تكسير الجدران وفتح مساحة التباعد بين الشخصية وموضوعاتها بل خلق مسافة نقدية بين الذات الحية وذاتها الميتة. ويهيئ الفرجة للتغريب بحيث تتم اعادة بناء المشهد لفضح منطق الاشياء وربط المعلول بالعلة لكن بلمسة فنية مسائلة ..مما يوفر مساحات للنقد والسخرية والادانة وجعل المشاهد/الجمهور مندهشا بوعي من عالم متوحش ولا مبال او متنكر في صورة انسان متحضر. كما انه تشخيص لا يروم تقمص الشخصية كما عند ستانسلافسكي لأنه لا يعرضها للاندماج فيها بشكل كلي بل لقراءتها بوعي و تجاوزها .وهو لا يعرضها امام العقل كما عند بريخت لان الممثل هو ذاته الكاتب والشخصية والمخرج والانسان الفلسطيني: غنام غنام الذي يحمل مأساته الوجودية في جسده ويتعذر عليه تمثيلها وسلخها من جلده .. وهو لا يحكي كما في تراث الحكواتيين من اجل التفكه او سرد سير الامم الغابرة او البطولات الخارقة واساطير الاولين للسمر والسهر بل يتجاوز فرجة الحلقة التقليدية لأنه يمسرح الفرجة الشعبية ويعيد انتاجها من زاوية اخرى متمثلا الارث المسرحي الجمالي عالميا …
ثالثا :
الإخراج.. هذا الخيط الذي يتماهى فيه صوت المؤلف وحركة الممثل ورؤية المخرج ، ناسجا ايقاعا حركيا بصريا وسماعيا، اشتغل عليه الاخراج بإضاءة اعتيادية وظيفتها الكشف ..وهو ما سيضطلع به الخطاب المسرحي ،لإبلاغ الجمهور بحقيقة القضية الفلسطينية وتنسيب العلاقة معها ، وفي نفس الان عرض الجسد الجريح بكل ماضيه وندوبه واحلامه واسئلته ..سواء بالصمت والصراخ او باختيار اللون الابيض والاسود في اللباس او من خلال توظيف اكسسوارين : مقعد وكوفية فلسطينية ..وكأننا امام مسرح فقير ل “غروطوفسكي” يغتني بمنح الأشياء الفرجوية القليلة، امكانات فنية بوظائف جمالية ومعرفية شتى، تفترضها الحكاية كأن يتحول الكرسي الى قبر أو نعش ولحد أو أداة استنطاق أو حقيبة، وتصير قطعة ثوب كوفية فلسطينية او خريطة لفلسطين ورمزا .وعلى امتداد العرض ظل الجمهور مأخوذا بالحكاية مندمجا فيها نفسيا لكنه لم يغن الفرجة الحكواتية دراميا وعرضيا بتشخيص او انشاد او رقص او محاورة للحكواتي ،مادام العرض تشاركيا اذ لا شيء فيه خفي ولا كواليس. بهذا تكون الفرجة قد انغلقت في المكان الدائري مثل انغلاق الحدود في وجه الشخصية ..وانفتحت على الجمالي والانساني بإرادة في التحرر من المأساة . انها نداء انساني لتحرير الانسان من التاريخ الممسوخ.. نداء فني يضيء الحقيقة التي تدين الضمير العالمي ..إن كان للعالم ضمير.
0 التعليقات:
إرسال تعليق