المخرج المسرحي التونسي صالح الفالح يطلق صرخة معاصرة في 'حين رأيتك'
مجلة الفنون المسرحية
المخرج المسرحي التونسي صالح الفالح يطلق صرخة معاصرة في 'حين رأيتك'
*محمد ناصر المولهي - العرب
حكايات رغم تباعدها واختلاف تفاصيلها وانفصالها عن بعضها، تندرج تحت ثيمة واحدة، هي ثيمة التحقيق، وموضوعه الحب والعلاقات العاطفية.
عندما اجتهدت المخيلة البشرية في خلق أسطورة للكون كانت بدايتها الحب، الحب بين الآلهة التي كانت تذكّر وتؤنّث، الحب بين آدم وحواء، فالحب والتقاء الذكوري بالأنثوي هو ما يخلق الحياة وجوهرها الأول. لذا تبقى قضايا الحب حية ومؤثرة لا تموت أبدا. والحب كان محور العمل المسرحي الجديد للمخرج التونسي صالح الفالح بعنوان “حين رأيتك”. من إنتاج المسرح الوطني التونسي.
تبدأ المسرحية بدخول فتاة بتنورة سوداء، حاملة سيجارة، تعبر الركح لتنتحي مكانا قصيا، تدخن صامتة فيما يدخل يوسف، الأستاذ الجامعي متوجها إلى الجمهور بخطاب مباشر يبدأ بجملة “إيمان مرتي” (أي إيمان زوجتي)، هنا لا يعدد يوسف خصال إيمان، بل يعدد صفاتها ما بعد الزواج وإنجاب ابنهما. زوجة رتيبة لم تعد تعتني بمظهرها ولا تجديد في علاقتهما التي باتت مجرد واجب، وحركات مصطنعة.
تدخل إيمان إلى الركح، لتفنّد ما قاله زوجها بكلمة واحدة “يكذب”، هنا يشتد الجدال بينهما حتى يأتي طلبة يوسف ليكملوا التحقيق الذي بدأوه رفقته حول الحب والعلاقات العاطفية، حيث يتحول من يقود التحقيق إلى موضوع درس هو بدوره.
تحقيق عن الحب
يجلس يوسف وإيمان على كنبة، وأمامهما على كرسيين شاب وشابة بصدد طرح الأسئلة عليهما، فيما يصوّر شاب آخر الحوار، أسئلة كثيرة يطرحها الطالبان على الزوج والزوجة، حول ممارسة الحب وتفاصيل الممارسة، حول متعة ذلك، حول الحياة اليومية وتأثير الوضع العام الاجتماعي والمادي على علاقتهما، حول كثير من التفاصيل التي تبدأ من علاقتهما لتتناول العلاقات بصفة عامة، ومن خلفها الروابط المتآكلة التي تربط أفراد المجتمع بخيط العادات المهترئ، لتلمس أسئلتهم حتى الواقع السياسي والاقتصادي. حيث تتحول الأسئلة إلى إضاءات على مناطق مختلفة، تلمسها المسرحية بذكاء.
مشاهد مقطعة وحكايات منفصلة تتكامل مع بعضها لتعطينا صورة كلية، ينظمها التحقيق الذي قامت عليه المسرحية، وموضوعه الحب والعلاقات العاطفية
ينتهي المشهد بخصام بين الزوجين اللذين لا يمكننا أن ننحاز إلى واحد منهما على حساب الآخر، ونحمّله مسؤولية فشل العلاقة. يدخل طالب وطالبة، في مشهد انزواء عاطفي، يتلامسان، يتعانقان، فيما تطالب الفتاة بالحرية الجسدية وبحرمة الجسد، تطالب بالتحرر والانعتاق من العادات التي تدّعي حماية المرأة فيما هي تجعل منها شيئا يُمتلك، يقبلان بعضهما في مشهد حميمي، ويرافقها الشاب في آرائها، مطالبا بحرية العلاقات الجنسية والعاطفية، وبعتق الجسد من المحرمات التي يفرضها المجتمع والتحريمات والممنوعات، بينما ينتهك أفراده حرمات الجسد في الخفاء.
شابة أخرى تدخل لتقدم اعترافاتها أمام الكاميرا، التي تسجل تفاصيل التحقيق، تروي حكايتها مع شاب أوهمها بالحياة والحب وكسر روحها، ليتركها وحيدة، بلا تفسير أو تبرير، وكأنها مجرد شهوة انتهت بنهاية شهوته، وكأنها ليست ذاتا لها أحلامها وفكرها وشخصيتها، بل هي وعاء رغبة فحسب، هذه النظرة الذكورية المتكلسة التي لم يغير المستوى التعليمي والثقافي منها شيئا.
تدخل فتاة أخرى لتعبّر بدورها أمام الكاميرا في ما يشبه كرسي الاعتراف عن علاقتها بشاب استمرت طيلة سنوات الجامعة، اقتسما خلالها الجوع والفقر والفراش والأحلام، ليتخلى عنها مباشرة بعد التخرج، معتبرا أنهما لا يليقان ببعضهما، وكأنه يلقي خلف ظهره سنوات “الحب” التي لم تكن سوى سنوات تفريغ للكبت.
كما تحكي عن فساد ينخر الجامعة من قبل بعض الأساتذة الذين يستغلون علويتهم لاستغلال الطالبات جنسيا، مقابل الأعداد والنجاح، حيث المرأة، في نظر الرجل مهما كان مستواه الثقافي والاجتماعي، هي فقط وسيلة جنسية وجسد ولا ينظَرُ إلى كفاءتها أو ما يمكن أن تقدمه في اختصاصها التعليمي والعلمي. قضايا كثيرة تناولتها الفتاة لتخلص إلى أنها ستلتجئ للزواج بأيّ رجل، فلا داعي للحب في علاقات الارتباط التي يشرعها المجتمع.
بعد الفتاتين اللتين قدمتا عينة عن الذكورية التي مزقت حيوات كثيرة لشابات يافعات يدخل شاب لنسمع وجهة نظره حول الحب، فيما هو طالب يعمل في جمع القوارير البلاستيكية، ويعبر بصراحة أن مشكلته هي الكبت، هي العلاقات العاطفية، رغم حالته الاجتماعية المتردية، إلا أنه يقر أن الإشكال الكبير ليس اقتصاديا أو سياسيا، كما تعتقد الحكومة أو الشعب، بل هناك مشكل عميق اجتماعي بالأساس، هو العلاقات العاطفية.
يدخل هذا الشاب في علاقة مع الفتاة التي تخلّى عنها حبيبها، ولكنه يفشل في أن ينسى ماضيها العاطفي، وخاصة الجسدي.
لا منقذ سوى الحب
هنا يطرق صالح الفالح قضية الوقوع بين قطبين، بين المجتمع المتكلس وتأثيره على ثقافة ونظرة الفرد، وبين الانفتاح والتحرر الجسدي الذي نتبناه كحصيلة لمستوى ثقافي وفكري لنا. التناقض الذي نجده فعلا في نسبة كبيرة من الطبقة المتعلمة، حيث ينادون بالحرية الجسدية ولكنها غير متجذرة فيهم، بل أحيانا ينادي أحدهم بالحرية طمعا في الإيقاع بفتاة ما إلى سريره. إنه التضاد بين الفكرة والواقع الذي مزق مجتمعاتنا في أعمق أبعادها، حيث دائما ما يظهر ليس ما هو مستبطن، ولنا أن نقيس هذا حتى على الفعل السياسي الذي يظهر الإصلاح ويستبطن الانتهازية.
مشهد آخر يتخاصم فيه شابان أحبا فتاة واحدة، وهي قضية غالبا ما تحصل، هنا تتحول الفتاة وهي غائبة عن الركح إلى موضوع، بين نظريّتين، واحدة تحترمها والحب عندها تحرر وأخرى تحب امتلاكها وترفض تحررها. وكأن مصير الفتاة رهين ما سيفضي إليه الشابان.
نعود إلى الشخصيتين المحوريتين في المسرحية، التي تحول فيها الطلاب وأستاذهم إلى باحثين في تحقيقهم عن الحب، تحقيق رفض أغلب المتدخلون فيه التصريح بالحقائق خجلا أو رفضا للغوص فيما يعتبر محرّما، هنا يتحول المحققون إلى مادة درس بدورهم، نطالع كيف تعرف يوسف وإيمان على بعضهما، في اجتماع نقابي، هي صحافية أخرجت من عملها لاحقا، وهو أستاذ جامعي ونقابي.
تطورت علاقتهما، لتكلل بالزواج، وهنا يستحضران لقاءاتهما الأولى كيف كانت مشحونة بالعواطف المجنونة، وبشاعرية غابت الآن، من بداية على الشاطئ في الغروب حتى الليل، إلى علاقة خلف جدران بيت في عمارة. حتى أن ممارسة الحب تحولت بينهما من الشغف إلى موعد أسبوعي، هو السبت، علاقة كما يصفانها مليئة بالألم البارد والصامت.
هي تشك أن له علاقات أخرى وتتهمه بذلك، وهو يفضح أن اعتناءها بابنها أنساها فيه وفي نفسها، أنساها الحرارة التي فقداها.
في مشهد آخر تقرأ إيمان من كراس المذكرات التي تركها يوسف على الطاولة، تقرأ نظرته إليها، وإلى علاقتهما التي انهارت رغم الحب. دون أن يكون هناك مذنب منهما، فلا يمكننا أن نقف في صف الرجل أو المرأة، بل كلاهما ضحية، ضحية العلاقة التي جعلت منها رتابة الحياة وتكلس العادات علاقة مفرغة من الروح، بلا معنى.
قضايا عميقة
يتوسل صالح الفالح، ثيمة الحب، لا كعاطفة فحسب، بل يدخل من خلالها إلى أكثر المناطق الاجتماعية تشابكا، فيلمس قضية البطالة والعمال المهمشين في جمع البلاستيك، قضية التمايز بين الطبقات، وتهميش الطبقة الفقيرة بل و”المسحوقة” كما ورد على لسان أحد الشخصيات. ويلمس القضايا الاجتماعية المختلفة في عالم سيطرت عليه المادة حتى باتت العلاقات العاطفية والزواج يحددان بالقيمة المادية والأرقام لا الشخصيات، فالزواج “راتب يتزوج من راتب” ما جعل الروابط الإنسانية تغيب تماما عن هذه العلاقات.
مشهدان من العر ض: الانكشاف أمام الكاميرا |
من خلال العلاقة الأساسية بين الزوج والزوجة، ومن خلال العلاقات الشابة الأخرى بين الطلاب، يبيّن الفالح أن هناك خللا فادحا في نظرتنا إلى الحب، نظرة خالية من الاتزان، وبعيدة عن أن تكون سوية، حيث الحب لم يتطور في مجتمعاتنا إلى قيم تحررية لها جذورها في التربية والتنشئة ولها انفتاحها.
لا تقترح الشخصيات على اختلافها حلولا، بل تطرح الظواهر كما هي، بكل تجرد وصدق، ينطلق كل واحد منها في سرد مناطق وأحداث من حياته وعلاقاته، يعرّي ما يستطيع تعريته، وكأننا به يعرّي المناطق المخفية من جسد المجتمع، الذي يرفض إقرارها. ما يجعل الكثير من المتفرجين وكأنهم يسمعون أصواتهم التي كبتوها داخلهم، وكأنهم يسمعون قصصهم أو جزءا منها، وكأنهم يرون ما أخفوه متجسدا على الخشبة.
تنتهي المسرحية بمشهد راقص بين كل اثنين إلا شخصية واحدة ظلت بينهم وحيدة، وتنتهي الرقصة بأن يترك يوسف يد زوجته، في إيحاء ربما بأن نهاية العلاقة باتت وشيكة.
نلاحظ في مسرحية “حين رأيتك” بصمة المخرج والكاتب المسرحي صالح الفالح جلية، وهذا هو عمله المسرحي الخامس، سواء في النص المشحون بالشاعرية، أو في تصوره الركحي، حيث لا تسير المسرحية في خيط نمطي، بل هي أقرب إلى “الكولاج” في مشاهد مقطعة، وحكايات منفصلة، تتكامل مع بعضها لتعطينا صورة كلية، صورة ينظمها التحقيق الذي قامت عليه المسرحية، حيث الحكايات رغم تباعدها واختلاف تفاصيلها وانفصالها عن بعضها، هي تندرج تحت ثيمة واحدة، هي ثيمة التحقيق، وموضوعه الحب والعلاقات العاطفية. هذه الثيمة التي لمس من خلالها الفالح مناطق اجتماعية وسياسية واقتصادية ودينية، حيث موضوع الحب في ذاته كليّ. وهو رابط المجتمع الأساسي، إذا غاب، تفكك المجتمع وتفكك كل ما يتعلق به.
لكن في النهاية نتساءل مع ما قدمه لنا العمل المسرحي الذي كرر جملة “الوقت غروب” الوقت ليل، الوقت متأخر، في دلالة واضحة على أن حالة مجتمعاتنا المتأخرة والتي تكاد تنهار يلزمها الحب، “ألم يحن الوقت لنراجع مسألة الحب؟”.
نذكر أن العمل المسرحي من إنتاج مؤسسة المسرح الوطني التونسي، نص وإخراج صالح الفالح وتمثيل كل من بسمة العشّي، بشير الغرياني، رحمة فالح، أيمن السّلّيطي، رامي زعتور، طلال أيّوب، غسان الغضاب، بسمة البعزاوي وهبة الطرابلسي.
*كاتب من تونس
0 التعليقات:
إرسال تعليق