'غرام سوان' يخرج من بين دفتي كتاب ليعتلي خشبة المسرح
مجلة الفنون المسرحية
'غرام سوان' يخرج من بين دفتي كتاب ليعتلي خشبة المسرح
أبو بكر العيادي - العرب
“سوان ينحني في أدب”، التي تعرض حاليا على خشبة مسرح “بلفيل” في العاصمة الفرنسية باريس، هي قراءة مزدوجة لرواية مارسيل بروست “غرام سوان”، فهي من ناحية تصوير رائع للحب والغيرة، ووصف دقيق للصعود الاجتماعي كثمرة للإرادة والمسارات والغرائز الفردية من ناحية أخرى.
اختار نيكولا كيرزنبوم، مقتبس نص ومخرج مسرحية “سوان ينحني في أدب” التي تعرض حاليا على خشبة مسرح “بلفيل” الباريسي، أن ينزّل رواية مارسيل بروست “غرام سوان” في المرحلة الراهنة، كمرآة للمجتمع الفرنسي ما بين نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي، وترك الأحداث تدور في بعض الصالونات كما في النص الأصلي، صالون آل فردوران، وصالون مدام سان أوفيرت، وتنهض بها شخصيات ثلاث هي ألستير ومدام فردوران وأوديت، ولكن في صيغة جديدة تناسب الظرف الزمني الذي أراده المخرج.
وفي “غرام سوان” وهي جزء من رواية بروست الشهيرة “في البحث عن الزمن الضائع”، كان سوان، وريث أحد رجل الأعمال اليهود، يُستقبَل بالأحضان في الدوائر العليا لمجتمع “الحقبة الرائعة”، وهي الفترة التي شهدت فيها فرنسا ازدهارا غير مسبوق من نهاية القرن التاسع عشر إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى، وكان يرتاد تلك الصالونات لرغبته في استعادة ماضيه كفنان.
وهناك يحاول أن يحب أوديت، وهي امرأة شابة بين بين، لا هي بالبغيّ ولا بسيدة من سيدات المجتمع، وليست من النوع الذي اعتاد سوان أن يميل إليه، ولكنه سيغرم بها وينتابه ما ينتاب المحبين من ولهٍ وغيرة. وبذلك تكشف له رغبته عن الطريق المسدودة التي سيقوده إليها عشق أوديت، فتبدو الحكاية مثل قصة حب خائب، تسبق مكاشفة تتمثل في أن التأمل بعمق في واقع حياتنا يسمح لنا بإدراك جوهر الوضع البشري.
والنص يمكن أن يُقرأ بشكل آخر لوقوع أحداثه اجتماعيا في مفترق طبقتين: الأرستقراطية والبرجوازية الراقية، ففي اللحظة التي كانت فيها الأولى سادرة في نعيمها، واثقة من الحفاظ على تفوقها وامتيازاتها، غفلت عن صعود الثانية التي احتلت مكانها نهائيا، هي فترة فارقة، لم يكن العمل وحده خلالها كافيا لضمان القوت، ما يضطر الناس إلى اللجوء إلى ملكية أو إرث كضمان وحيد لعيشة هانئة، هو عالم طبقات لا تفضي إحداها إلى الأخرى، ولا يحلم فيه الفرد بالترقي الاجتماعي إلاّ عن طريق وسائل ثلاث: المخالطة الاجتماعية والفن والزواج.
الفرد في رواية بروست لا يحلم بالترقي الاجتماعي إلا عن طريق وسائل ثلاث: المخالطة الاجتماعية والفن والزواج
وخلف حكاية الحب تلك، يطرح بروست مسارات شخصيات ثلاث ترسم بمفردها أسباب النجاح، وتفلح في بلوغه، لتقلب المجتمع القوي الذي تتوق إليه، هذان الملمحان، أي تصوير الحياة العاطفية ووصف وضع المجتمع في لحظة ما، هما ما يشغل بعض المفكرين حتى يوم الناس هذا، ففي كتاب “رأس المال في القرن الحادي والعشرين” يبيّن الفرنسي توماس بيكيتّي كيف أن المنظومة الحالية في فرنسا تشبه إلى حدّ بعيد “الحقبة الرائعة” من حيث البنى الطبقية وأولوية ريع رأس المال على مردود العمل، وكيف أن مجتمع بروست، الذي يعدم أي مهرب سياسي، يشبه في نقاط كثيرة مجتمع اليوم، ومن ثَمَّ يتبدى “غرام سوان” كدليل معاصر لمحاولات الترقي الاجتماعي الراهن.
فكيف استطاع نيكولا كيرزنبوم أن يمسرح نصا يقوم على الوصف، وتمسح الجملة الواحدة فيه أحيانا صفحة كاملة، ويجسد سوناتة فانتوي، والجميع يعلم أنها من وحي خيال بروست؟
على الخشبة تظهر مدام فردوران وأدويت وألستير الملقب بـ”بيش”، وبدرجة أقل فورشفيل غريم سوان، أما سوان فقد عهد المخرج إلى الجمهور بأداء دوره ليشهد بنفسه معاناته، ولكل متفرج إمكانية إنطاق البطل على هواه، ولكن في حدود الشروط التي وضعتها الفرقة.
وفي عمق البلاتو صف من السطائح المتحركة، ونباتات مختلفة الحجم، تبدو فيها طيور محشوة بالقش، وتصطف خلفها مصابيح عمودية لامعة، تتلألأ بأضواء متناوبة، في محاولة لخلق مناخ “إكزوتيك” على غرار ما كان الأرستقراطيون يفعلون سابقا.
ولم يحتفظ المخرج بجمل بروست الطويلة إلاّ ما ندر، أما الباقي فقد صاغه بنفسه في شكل حوارات مقتضبة ذات إيقاعات شعرية، على أنغام السوناتة المتخيلة، التي اعتمدت هنا خليطا من الموسيقى الرائجة في عهد بروست، مثل جمنوبايدا لإريك ساتي (وهي موسيقى من أصول يونانية)، ومقطوعة من عزف فرقة بورتيشيد للرقصة الجنائزية لكميل سان سانس، أضاف إليها الموسيقار غيوم ليغليز أغانيَ حوّلت قصة بروست إلى ما يشبه كوميديا غنائية حزينة.
ورغم هذا الحشد من الأضواء والأنغام، تبدو المسرحية في جانب منها على الأقل متكلفة، خصوصا عند تناول المجال الاجتماعي، إذ أن الاتكاء على نظريات توماس بيكيتّي غير مقنع ولا يعطي العمل أي إضافة، وحديث ألستير عن الرأسمالية وصراع الطبقات جاء مسقطا بشكل يكاد يكون متعسفا.
وبخلاف المشاهد التي تروي عشق سوان لأوديت، أو تلك التي تدور في صالون فردوران، فماريك رينر نجحت في تقمص شخصية أوديت المركبة: إذ تبدو ساذجة عند الحديث، مجرد أداة للتسلية أمام الرجال، ثم مثيرة ومربكة حينما ترقص وتغني، كذلك صابرينا بلداسارا في دور مدام فردوران، فهي مرحة وشرسة في آن واحد، فيما يظهر توما لاروب، في هيئة ألستير، ميالا إلى اللهو والعبث.
0 التعليقات:
إرسال تعليق