العيادة المسرحية ومقاربات الفلسفة
مجلة الفنون المسرحية
العيادة المسرحية ومقاربات الفلسفة
د. جبار خماط حسن
يعرف (( ارسطو )) مفكر دولة المدينة ، مزاج المواطن اليوناني ، وحبه للديمقراطية ، فانتبه إلى ، أن الفن أقرب إلى تلك الروح الايجابية التي تجمع المواطنين ، فانتج لنا كتاباً يعد مفتاحاً للمواطن الصالح ، الذي يعمل الفن الدرامي على تطهيره من نوازع الاخطاء الماساوية ، التي قد تمزق النسبج المجتمعي ، بسبب اخطاء بعض الافراد . إن الدراما تصنع حياة ايجابية من بين الصراعات السلبية التي تعمل في داخلها ؛ ولذلك لا مكان للشفقة والخوف على مصائر الناس التي تعمل على تهديم روح المواطنة في المدينة . لقد اوجد لنا ارسطو في كتابه فن الشعر ، بعداً علاجياً منهجياً ، يصنعه النظام ويسعى اليه بالفعاليات الاجتماعية ، ومنها فن المسرح، لانه طاقة ايجابية يحتاجها الشعب . ويمكن القول ان ارسطو حين وضغ تعريفه الشهير للتراجيديا ، بانها محاكاة لفعل نبيل ، فانه بهذه الكلمات قد لخص منظورا ارسطو واقلاطون على حد سواء ، اذ نجد ارسطو يقول كل شي نافع هو جميل ، وهذا يتطور في درجته ، وصولا للافعال الاخلاقية ، التي تكون نافعة قي تدعيم النسبج المجتمعي ، وبالتالي ينبغي ان تكون نبيلة براي افلاطون الذي راى ، أن ما نراه في حياتنا اليومية ، قابل للاندثار والفساد ، ما عدا تلك الأفعال التي في جوهرها ، نصيب من الحق الاخلاقي الذي يتفاعل معه الناس وتحترمه ، ولهذا نقول ان الفعل البيل لدى ار سطو ، حاصل جمع الخير السقراطي النافع اجتماعيا ، بالحق الافلاطوني الاخلاقي ، الذي لا يصل اليه الا من امتلك القدرة على تجاوز المحدود ، والدخول في نوع من التميز الانساني ، ولهذا ، قال ارسطو أن متطقة الدراما ، ما ينبغي ان يكون ، وهنا يكون راي ارسطو متمحوراً حول خطاب الدراما في افق المستقبل الذي يتماشى مع الدهشة واللامالوف . يمكن القول ان أرسطو اقترب من البعد العلاجي الذي تسعى اليه العيادة المسرحية، التي تسعى ألى فعل تكوبيي يقترحة المعالج ، يكون قابل للتداول مع تنوع الزمان والمكان . إن العيادة المسرحية تمثل مقترحا علاجياً لهموم الناس والوطن ، اثبت نجاحه بالتجربة ، وبرهن على ارادة الانسان وقدرتها على صنع مستقبل جديد ، يغادر الماضي ، ويؤسس من حاضر التجربة العلاجية ، مستقبلا قابل للتداول بين الناس ، يمثل المجتمع العراقي بطبقاته ومكوناتة ، طاقة العيادة المحركة التي تبني بالابتكار والقدرة على صناعة مستقبل جديد ، تصنعه العيادة المسرحية . لقد اوجد لنا الفيلسوف (( شوبنهاور )) تفسيرا للوجود والانسان ضمن مفهوم العالم إرادة ، اذا مثلما هناك ارادة قاسية وعمياء تخلق الفوضى في العالم ، من حروب ومجاعات وتهجير ، ثمة إرادة الانسان ، التي تعيد التناغم الموجود في الذات والمحيط . لذلك حين نواجه الحياة الاجتماعية بالبحث والتحليل ، نجد انها تعيش ثلاثة معوقات ، فكرية وسلوكية وتواصلية ،العيادة المسرحية مقترح علاجي لها ، قابل للتطبيق ، يهدف إلى إنتاج عروض مسرحية لها; القدرة على التداول والتفاعل; مع الجمهور باختلاف المكان والزمان ، ولهذا نجد فكرة العيادة المسرحية ، تقوم على معادلة الذهاب الى الجمهور في الاماكن التي تعاني ازمات ، يراد حلها ، بطرق تتكفل بعلاجها والتخفيف منها قدر المستطاع ، مثل السجناء والمدمنين ومصابي السلاح الكيمياوي ، وغيرها من الحال; التي ستذهب اليها العيادة ، وإذ نُسال ، من هم الممثلون ؟ وكيف يمثلون ؟ واين يمثلون ؟ الجواب ، هم اولئك المنسيين والذين يعيشون على هامش الحياة ، يعانون قسوة الظروف التي حولتهم الى بشر – بنظر الاخرين – لا يمكن الاتصال بهم ، بل واجب عزلهم مثل السجناء والمدمنين !! العيادة تتجاوز هذه النظرة النمطية ، وتعيد الثقة بهم ، وتتواصل معهم ، وتحولهم الى مبدعين ! كل هذا يحققه فن التمثيل ، الذي يتطلب مهارات وقدرات صوتية وجسدية ، فضلا عن الخيال والتركيز والاسترخاء ، واكتشفت العيادة المسرحية ، في تجربة السجناء والمدمنين ، ان المشاركين يؤمنون بالتمثيل ويتفاعلون معه ، لانهم يكتشفون انفسهم من جديد ، وهذا يتطلب منهم الارادة على صنع خبرة مستقبلية ، يقومون بتاليفها ، وهذا يعني ، تحفيز قدرة الابتكار لديهم ، بمعنى يصنعون بخيالهم وتصوراتهم عجينة المستقبل المسرحية ، يؤلفون نصاً من واقع حياة الناس وليس حياتهم ، يقدمون خبرة جديدة للناس من خلال عرض مسرحي ، يقومون يتمثيل شخصياته المسرحية ، وهنا يتحول المشارك في العيادة المسرحية ؛ الى قائد رأي مسرحي ، وقد يسال احدهم ، ماهو النص الذي يمثله المشارك في العيادة المسرحية ؛ هل يكون جاهزا ، أم مكتوبا سابقا ؟ قطعا لا ، النص يكتب بطريقة جماعية ، السجناء كتبوا نصا ، والمدمنون كتبوا ايضا ؛ كذلك مصابي السلاح الكيمياوي ، كتبوا نصأً مسرحياً ، تفاعل معه الجمهور ، حين مثلوا في مسرحية ” أنا موجود ” في قاعة مديرية صحة حلبجة ، لانهم لأول مرة يروا اخوانهم واصدقائهم من المصابين ، يمثلون بمهارة ، ويقترحون حلولا لبعض المشكلات التي يعانون منها . ان الفيلسوف الالماني (( هيغل )) أشار الى عودة الذات بعد ضياعها ، في زخم وتراكم الاحباطات بسبب اكراهات الواقع المازوم ، لان الانسان له القدرة على ابتكار واقع جديد ، من خلال جدلية الاضداد بين الوعي و الوجود ، انه محاولة اكتشاف الذات في حالة جديدة ، يتفاعل معها الجمهور ، وكانها خبرة جمالية تحدث في الهنا والان ، تحقق تواصلا فاعلاً مع الجمهور .
تسعى العيادة الى ايجاد الممثل الحميمي في مختبرها العلاجي ، يمتلك التعبير اليسير ،الذي يتفاعل معه الجمهور ، الممثل في العيادة المسرحية هو الموجود في كل مكان ، يأخذ بصدق جرعة التدريب ، وينتمي الى مستقبل ، يصنعه علاجيا ، يبدا من الذات وينتهي بالاخر ، يؤدي بتلقائية وانتماء للحياة في تيارها المتنوع ، نجدها لدى المشارك في العيادة المسرحية ، لينتج عرضاً مسرحياً ، لا تعقيد فيه ولا مبالغة مفتعلة ، بل مزج عضوي بين صدق الاداء ، وتواصل الجمهور معه . لان العيادة لها فرضيات تحدد مسار اشتغالها مع المستفيد ، والتي تتمثل بالاتي : 1- لا تتكلم من دون معرفة ، ولا تكون لديك معرفة من دون فهم . 2- التعبير طاقة لدى الجمبع ، نتقنها بالايمان والمثابرة . 3- الجسد ثقيل ، يكون مرنا حين تكون الطاقة الايجابية عالية . ان للعيادة المسرحية عناصر اساسية ، تتحرك بوساطتها نحو التفعيل الجمالي المشترك الذي يستقبله المستقيدون منها ، باطار المعرفة والشعور والاداء الجديد في حياتهم ، ويمكن حصر العناصر المكونة للعيادة المسرحية بالاتي : 1- المعالج المسرحي : وهومدرب مسرحي في العيادة المسرحية ، ويشترط فيه قدرته على التاليف والاخراج والتمثيل ، حتى يكون مقنعا ومؤثرا في تواصله مع المشاركين في العيادة المسرحية . 2- المستفيد : هو المشارك في العيادة المسرحية من الحالات التي تسعى العيادة المسرحية الى علاجها . 3- الجرعة المسرحية : هي مجموعة من التدريبات الصوتية والحركية وقدرات ابتكار النص المسرحي ، فضلا عن التمثيل المسرحي . 4- الممكنات الموقفية : تشمل مفردات البيئة التي تجري فيها التدريبات ، وامكانية استثمارها في العرض المسرحي الذي يكون في نفس مكان التمثيل . وهنا يمكن إثارة استفهام يختص يالمسرح العلاحي، هل يكون ضرورياً في وقت الازمات والحروب ؟ المسرح العلاجي له طرقه وادواته ، منذ ارسطو في مفهوم التطهير وتقنياته في التخلص من الاثار السلبية التي تمر بها الشخصية الدرامية ، كذلك قدم لنا المفكر ديدرو ، مفهومه عن التطهير العقلي الذي يسمح لنا بالمراقبة والمتابعة العقلية لما يجري من الاحداث على خشبة المسرح . ثم جاء الطبيب جاكوب مورينو في فينا ، وقدم لنا ( السايكودراما ) التي طبقها في مصح للامراض النفسية ، اذ قام بمحاولة معالجة بعض الامراض النفسية ، مثل القلق والمخاوف المرضية ، وبعض حالات الكابة ، اذا يحاول ان يمثل حالة المريض واسترجاعها امامه ، من قبل بعض الممثلين المحترفين ، ومساعدة بعض المرضى ، لكنه وجد ان استرجاع حالة المريض التي تمثل ماضي مخزون في ذاكرة المريض ، تؤدي الى تعزيز حالته المرضية.ولذلك تجد العيادة المسرحية ان تمركز المسرح العلاجي حول ماضي الخبرة المرلمة من دون تحويلها الى خبرة جمالية جديدة ، قد لا تحقق العلاج الجمالي الذي تسعى اليه العيادة المسرحية، بل ينبغي فتح نوافذ فكرية وجمالية للمشتركين ، حتى تتم تلك النقلة الابداعية من السلبي الى الإيجابي، وهنا تتحق فرضية المسرح في تعزيز الثقة المجتمعية وبناء التواصل الايجابي بين مكونات المجتمع.
0 التعليقات:
إرسال تعليق