أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الأحد، 1 أبريل 2018

مونودراما "الشاعرة والفاجعة "تأليف طالب همّاش

مجلة الفنون المسرحية





المنظر: حديقة منزل شبه مهدّمة . أعلى يسار الخشبة تظهر شجرة غريبة الشكل
يحط عليها غراب . أعلى يمين الخشبة شجرة يابسة  يمتد سلك غير مرئي بين الشجرتين ليطير بواسطته الغراب من اليمين إلى اليسار وبالعكس.  وسط الخشبة تظهر ثلاثة قبور مرتبة بانتظام . وفي أسفل يسار الخشبة حجر رحى وسط كومة من التراب . أما في الخلفية فتظهر أطلال بيت عليها أثار القذائف والشظايا، تنهض من وسطه نافذة يمكن أن تتحول إلى شاشة عرض .
الشخصيات : شاعرة كانت فيما مضى تعمل مدرسة ، في الأربعين من عمرها ترتدي ملابس حداد قديمة .


الشاعرة : ( جالسة تطحن ترابا بحجر الرحى وصوت الهرير يملأ المكان )
دُرْ يا حجر الرحى لأكتب أحزن القصائد وأوجع المراثي على صوت هريرك الجريح ! (تضع حفنة تراب على الحجر وتتابع الطحن) لقد أصبح دورانك صعباً وبطئياً (تدفعه بصعوبة) دُرْ.. در ! لم يعد لي من تسلية غيرك منذ أن دارت رحى هذه الحرب المجنونة.. هل تسمع صوت الهرير يا أبو صالح ؟ إنه يميت القلب ! كم كنت تحبُّ هذا الصوت المجروح لأنه يذكرك بأغاني الفقراء ! آه يا أبو صالح ! لوكنت حيّا لسألتني لماذا تقعدين للبكاء أمام حجر الرحى كل مساء ؟( برهة) وماذا أقول ؟
منذ ذلك اليوم، منذ تلك الساعة المشؤومة صار الألم المبرّح يعاودني كلّ مساء (يزداد دوران حجر الرحى) فيظلّ قلبي يحترق ويحترق ويحترق حتى أقصّ حكايتي الرهيبة..
أقصّها وأنا أطحن الهموم، وأسحن العذابات.. وعلى صوت السحيف أسرّي الحزن عن روحي المريرة !
أقصّها على الريح والأشجار والقبور كي أستريح . ولكن كيف أستريح.. وثقل الأيام المحطمّة يجثم على صدري ؟
( يزداد الدوران) كيف أستريح ولسان الحرب الضاري يمتد لاعقا البيوت والأزقة والحارات  ليطفىء رغبته الجائعة ؟ كيف أستريح يا أبو صالح وقد انكسر ظهري بعد رحيلكم ؟
(يتوقف حجر الرحى ، تتحرك الشاعرة باتجاه القبور وتبدأ بهزّها)
لماذا لا تجيب.. لماذا لا تجيبون.. هل نمتم جميعا ؟  
استيقظوا واسمعوا المراثي التي تقال في حال الفراق..لا تتركوني فريسة للظلام والوحدة القاتلة !
(تشعل عود ثقاب وتبدأ بإيقاد الشموع المتموضعة على القبور الثلاثة)
استيقظوا بالله عليكم ! أنتم لا تعرفون كم هو الليل موحش بدونكم . الليل وحش كبير.. الليل غراب كبير يغرز منقاره الجارح في قلبي !  
(ينعق الغراب : غاق، ويخفق بجناحيه متنقلا من جهة إلى أخرى)
أرجوكم (غاق)
أتوسل إليكم  (غاق)
استيقظوا !(غاق)
استيقظ يا حبيبي الصغير، لا تنم بعيدا عن حضن أمك ! أحسّ بقلبك ينتفض بداخلي . استيقظ وأسمعني صوتك الذي كان يتردد من أغنية إلى أغنية ! وأنت يا سعاد يا صبية الصبايا ! استيقظي وقولي لأمك لماذا سكنت الأرجحة الرائعة لشعرك الطويل ؟ لماذا انطبق فمك كزهرة ذابلة  ؟ إنّ قوة القلب على احتمال العذاب لا تطاق ! أمّا أنت يا أبو صالح.. آه كم أنا مشتاقة لأن أسمع صوتك في صبيحة الدار !
(متذكّرة): أبو صالح.. أسرع القهوة جاهزة !
(متحسّرة) كانت صباح الخير من فمك العذب تجعل الحياة ورديّة. أتذكر؟ كنت أصغي إليك وأستغرق في الإصغاء.. أسترخي على أريكة الرّاحة.. أصغي إليك وأنا أشرب صوتك مع القهوة الصباحية.. كانت سعادتي في أنقى صورها، وقصائدي مليئة بالطيور والغيوم والسواقي.. آه يا أبو صالح استيقظ وقل لي مساء القصائد الحزينة ..استيقظ من حلمك الطويل.. لترى كيف تجثم الأمّ قرب بنيها ، وكيف ترقد الأخيَّةُ قرب أخيها !
( تهب الريح مترافقة مع شرارات برق وانفجارات رعد، فتركض خائفة  في كل الاتجاهات وهي تصرخ)
أبو صالح.. أبو صالح  لقد جنّت وحوش الريح ! أنا خائفة.. خائفة
قذائف ..قذائف.. انتبهوا.. انتبهوا.. اهربوا.. احتموا ! (تلطأ قرب قبر) لقد أخذت مني القذائف أجمل أفراح حياتي . يقولون أن القذيفة التي ستقتلكِ لن تسمعي صوتها.. ولكنني أسمع أصوات الانفجارات باستمرار وهذا ما يعذّبني.. أصوات تدوي في اليقظة والنوم.. انفجارات .. انفجارات (متذكّرة) كنت عائدة من المدرسة أتطلع للوصول إلى البيت مشتاقة إلى أسعد أوقات حياتي .. إلى العشّ الدافىء.. وفجأة اهتزّت الأرض هزّاتٍ عنيفة متتالية وتصاعدت غمامة من الغبار من الحيّ، غمامة تنذر بكارثة . ركضت بهلع وخوف.. ركضت ركضت.. سقطت الكتب من يدي تركتها وركضت ،خُلعَ كعب حذائي تركته وركضت كالعرجاء.. ركضت معي المخاوف والتوسّلات والعذابات وسط الصرخات وأصوات الهلع المرعوبة.. وعند مدخل ساحة الحيّ صرخت غير واعية وبأعلى صوتي : أبو صالح !  سعاد ! صالح ! صرخت وكررت.. وسط الركام والغبار ورائحة الحرائق والدخان . بدأت أسال الناس : (تركض في كلّ الاتجاهات وسط الدخان متخيلة الناس)
  • ماذا حدث ؟
  • اركضي
  • هل مات أحد؟
  • أسرعي لا تقفي هنا !
  • هل هناك جرحى ؟
  • اختبئي اختبئي !
تحجرت مشاعر الوجوه من شدة الخوف .اختبأت، جمدت في مكاني من الفزع كأنما أصابني الخرس للحظة . وبدون أن أدري اندفع قلبي راكضا، متلاحق الأنفاس إلى البيت :  أين أنتم ؟ هل من أحد في البيت ؟ أجيبوا .. أجيبوا ! ومن أعماقي الملتهبة ارتفع صوتي كعاصفة من الصراخ :
(يترافق صراخها مع نعيق الغراب بايقاع متصاعد)
لا .. غاق
لااا .. غااق  
لااااا .غاااااق   
لاااااااااا   غااااااااق
(تسقط) انكببت على الأرض في انتحاب مرير!( تزحف بين قبورهم ) لماذا تركتموني في حضرة الموت أناجيكم بأفجع المواجع والمراثي ؟ لماذا تركتموني أنقل آلام الأمومة من قبر إلى قبر.. أجثم في حنايا الدار الحزينة محرومة من المحبة التي تدفىء القلب ؟ بعد رحيلكم تمرّست بلعق العلقم والمرّ.. أصبحت مشاعري كالريح الهاربة في البراري المقفرة.. أنا المرأة المنهكة أحمل جسدي وأقاتل الأشباح متنقّلة من صبرٍ إلى صبر .  ( تقترب من قبره )
أتذكر يا أبو صالح ؟ قبل يومين من الحادثة المشؤومة.. كنت تجلس مهموما بصورة بائسة .. عيناك كانتا على وشك الدمع..أما أنا فقد رحت أمسح براحتيّ المرتعشتين الهمّ والغمّ عن وجهك البارد.. ثم سألتك بقلق :
(يعرض المشهد كفيلم على الشاشة يظهر فيه أبو صالح وظهره للجمهور بينما تقلد الشاعرة صوت زوجها )
-أيّ حزن ألمّ بك يا أبو صالح ، هل حدث شيء ما ؟
- (تنهيدة) ينتابني إحساس غامض ومخيف !
-(بهمس) غامض ومخيف ؟ استرنا يا ربّ! وما هو ؟
- إحساس يتململ في  جسدي كالأفعى السّامة.
- إنك تخيفني أكثر مما أنا خائفة .
-نحن نغوص في مستنقع أسود يا أم صالح ، إننا ملتصقون بالطين .
- أيّ طين.. ماذا تقصد بالله عليك ؟
- طين هذه الحرب .
(تتابع الشاعرة الحديث بينما يُعرض على الشاشة فيلم صامت يجسّد مشهد الرحيل  الجماعي)
يومها قلت لي : أخاف أن تلقي بنا المقادير إلى البراري الموحشة . كثيرون تشردوا.. وكثيرون هاجروا.. وكثيرون لاقوا حتفهم في القفار . ألا تذكرين كيف تهجّرنا في المرة الأولى.. مشينا على الدرب أرتالا طويلة مثل الجنازات.. كانت أمي ورائي تقطر العبرات، وأبي شارد البال يجرّ كهولته في السهول..أما الصغار فكانوا يسيرون في مشهد يكسر القلب ! يومها بكى أبي من الذلّ والتعب والإجهاد، وأجهش بين يديّ كالأطفال ! أخاف أن نُهَجّرَ من جديد . صحيح أننا عدنا بعد أن هدأت الأمور ولكن الوضع لا يطمئن.
(تظلم الشاشة . الشاعرة تحتضن قبر زوجها بفزع)
هل تذكر يا أبو صالح ؟ يومها غصتَ في صمت عميق، وبقيتَ جالسا تحدّق في الليل الماطر أشبه بعرّاف يَحْدُسُ بالأقدار السود . لقد حدث ما كنت تخشاه.. رحلتَ دون أن تعرف إلى أين .. دون أن تقول وداعا.. آه يا أبو صالح  ! كنت تملأ عليّ الدنيا فكيف تسكن اليوم في متر من التراب ؟
(تمسح دموعها) ما قيمة حياتي من بعدك يا سراج البيت المطفأ ؟ كانت سعادتي بوجودكم بلا حدود أما الآن فإنها تقبع سجينة في زنزانة حزنها ! (تتلمس القبر برقّة)  أيها الطيّب الحنون.. كم كنت حنونا معي ! كم كانت نظراتك مترعة بالطِّيبة ! رحلت نعم نعم.. (مبتعدة ) رحلت وتركتني أجرّ ألمي الأسود على الطرقات كالمتسوّلة ! جعلتني أتسوّل الشفقة من عيون الناس (تقلد المتسولة) يا ناس.. يا ناس بالله عليكم يا ناس  ! من يعطيني ضحكة مقابل كأس من الدمع ؟ (غاق) من يعطيني لحظة سعادة مقابل كوز دموع ؟ لمسة عطف مقابل بَكْوَةِ قلب، نفحة حبّ، قليلا من البهجة ؟
(تتخيل المارة وهي حاملة طاس الصدقات)
أنت يا أخي  قطعة فرح صغيرة من فضلك.. قليلا من الرأفة أرجوك.. أتوسل إليك.. الله يحفظ أولادك فقط قطرة سعادة.. ومضة أمل ! مشيت كناعورة عتيقة في شوارع الشتاء الموحلة وعنين قلبي يملأ الأسماع : من يعطف يا أهل العطف أنا المتسولة المكسورة أسألكم بكل غال أُعطيةً تُنسي هذا القلب مراراته !(غاق )
رحت أطوف وأطوف كالضائعة في الطرقات . أنظر في عيون الناس بحثا عن خلاص، فلا أرى غير الظلام يعشش في المحاجر المملوءة بالليل والسواد ! حينها فقط أغمضت عينيّ..نعم أغمضت عينيّ ورحت أمشي مشية العمياء..  (تمشي مادّة يديها كالكفيفة ) ناديت كرام الناس : وحيدة يا ناس ولكن ما عزّاني في حزني أحد !
(تبكي.. تنهض بقوة وتصميم)
ولكن لا.. قلت في نفسي : أنا امرأة قوية بعد كل شيء .. لن أستسلم بهذه السهولة.. يجب أن أتخلّص من هذا السواد الذي يجرّ روحي التعسة إلى الحزن الذي لا نهاية له..  يجب أن أنظف نفسي من كآبتها وقتامتها، من حزنها وثكلها ! أين هي شجاعتك يا امرأة ؟.. هيّا ! بدأت أجمع الحطب والعيدان والأوراق الجافة وأرميها في الموقد.. جمعت كومة كبيرة ، وأشعلت فيها النار .. ثم أتيت بالمرجل، وضعته على الموقد، ورحت أصب فيه الماء .. أغذّي النار وأصبّ الماء.. وأنا أرتجف وأتصبّب عرقا. كان يجب عليّ أن أغسل جسدي وعقلي وروحي من قتامة الحزن والكآبة والسواد والضعف . (تتراجع باكية) ولكن حين وصلت حرارة الماء إلى درجة الغليان.. وبغير إرادة مني يا أبو صالح رحت أسقّط في الماء المغليّ دموعي ! أنا التي كنت أدرّس طلابي فنون الأدب من يعلّمني اليوم فنّ الصبر ؟ من يرجع لي طمأنينة الدار المفقودة ؟ الماء يغلي وأنا أذرف الدمع !(تجلس وتبكي)  خمدت النار وبرد الماء ولكن بدل أن أغتسل.. رحت أرشّ الرماد على رأسي الملتهب كالمجنونة وأنتحب ! لقد اتحد الحبّ والحزن والماء والنار بقلبي في لحظة واحدة . أين سأجد العزاء والسلوان يا أبو صالح أين (ترشّ الرماد) أين (رماد) أين ؟
(هبّة ريح قوية تطفىء الشموع  فيعلو نعيق الغراب المخيف فتحاول متسرّعة إيقاد الشموع من جديد)
اشتعلي أيتها الشموع ..اشتعلي في عزلة السهر الحزينة على مراقد الموتى الجميلين ! أضيئي حديقة هذا البيت المهجور . (يطير الغراب ناعقا :غاق)  
(تتلفّت حولها) ولكن هل قلت أن البيت مهجور ؟ وكيف يكون مهجوراً يا أبو صالح  وصوتك مازال يرنّ فيه ؟ ما زلت أسمعه صباح مساء . كلكم هنا بقربي.. أنت وصالح وسعاد . آه يا حسرة قلبي عليك يا سعاد يا صبية الصبايا يا جميلة الجميلات ! فستان زفافك مازال مرميا في مكانه كجناح البجعة المكسور يحاول أن يطير ويطير ويطير . (تقذفه  إلى الأعلى فيسقط ثم تقذفه ويسقط ..) أنا التي كان عليَّ يوماً أن أموت بحسرتي متّ أنت بدلا منّي .أردت أن ترقصي بثوبك الأبيض قبل الأوان .رقصت ورقصت.. بدأت بالدوران حول نفسك شيئا فشيئا.. رقصت بهدوء ثم أسرع فأسرع أخذتك النشوة ..رقصت ورقصت ورحت تحلقين عاليا.. ترقصين وتحلقين ترقصين وتحلقين  
(مع استمرار الرقص يرتفع الفستان في فضاء الخشبة)
نظرت إليك فأصابني الرعب .. صرخت: سعادُ عودي إلى الأرض لقد ارتفعت كثيرا ! يا سعاد انزلي لقد أصبحت قريبة من الغيوم يا سعاد ، يا سعااااد. لكنك لم تسمعي صوتي.. (تتكىء على القبر وتبكي بمرارة) أصبحت غيمة بين الغيوم يا حبيبتي.. نعم غيمة
(تنظرللأعلى كالحالمة) انتهت حفلة الرقص وضاع موعد الزفاف ولكنك ما زلت تترقرقين بالدمع فوق أمك الجريحة كلما هطل المطر !
(تتخيل هطول المطر وهي تتطلع للأعلى مسترسلة في غيبوبة حلمية ثم تنحني لتوشوش القبر)
نامي يا صبيتي يا أحزن الصبايا الصغيرات ! لقد بدأ المطر يهطل..  (تغطي قبرها بغطاء أبيض) نامي نوم بحيرة وقت الغروب.. ولتتفوّح الرياحين بقربك على الدوام ! آه يا روحي المجروحة ! كبرتِ وترعرعتِ أمام ناظريّ كزهرة موشحة بشروق الشمس وذبلت مع المغيب !( تنتقل يداها من قبر لآخر) لقد ضاعت ابنتنا يا أبو صالح.. يا نائما نوم غابة متعبة في الليل ! أتعرف ماذا حلّ بقلبي بعد ذلك اليوم.. ذلك اليوم الذي انفتحت فيه أبواب الجحيم علينا أول مرة..في بداية هذه الحرب المجنونة  ؟ لا بد أنك سمعت صوتي يستغيث من مكان ما.. لقد تحول جسدي إلى دريئة تتلقى آلاف الشظايا .. شظايا البرق .. شظايا الصراخ.. شظايا الرعود التي كانت تتناثر في أربع جهات الأرض .. صراخٌ ودويّ وانفجارات وأصوات رصاص ..
(تركض متلاحقة الأنفاس خوفا ثم تهدأ كي تستوعب ما حصل)
حينما سمعت انفجار القذيفة الأولى صرخت : أبو صالح ! فارتطمت صرختي بالجدار وارتدت إلى جسدي الخائف كالخنجر . وحينما سمعت انفجار الثانية صحت : اركضي يا سعاد ! فركضت إلى قلبي سبع تنيهدات وغرقت في شهقة واحدة . وحينما سمعت الثالثة انطلقت من صدري عاصفة من الصراخ :  أين انت يا صالح ؟ وحينما سمعت الرابعة (تجثو) والخامسة (تنام على وجهها) والسادسة والسابعة ..
(تسقط من على الخشبة أمام المقاعد ، ثم تنهض ببطء وهي تحدّق في الوجوه مستغربة)
ألا تصدّقونني وأنا أقف أمامكم هذا الموقف الفاجع ؟ هل تريدون مني أن أقسم لكم بدموعي حتى تصدّقوا ؟ مشيت في شوارع ضاعت ملامحها  (تصعد إلى الخشبة) فتشت بين الأنقاض والركام سألت الرائح والغادي ولكن.. كأنكم ما زلتم غير مصدّقين ؟ هل تريدون مني أن أملأ أرجاء الدار بالمراثي والبكائيات التي عمرها مئات السنين حتى تصدّقوا ! هذا بكائي في أوجع أصواته يشهد عليّ ! هذه ثيابي الممزقة تشهد.. هذه مرآتي الملطخة بالدم تشهد انظروا إليها
(تتناول مرآة ملقاة على الأرض وتستلقي على ظهرها ورأسها باتجاه الصالة وتتحدث مع وجوه المشاهدين المعكوسة على المرآة)
انظروا إليّ ! أنا المرأة المكلومة الملوّعة المغلوبة  أسألكم هل تعرفون ما هو الموت ؟ من يعرف.. ها ؟ (تضحك ضحكة هستيرية) إنه حياة مقلوبة تماما كهذه المرآة (تدير وجه المرآة الأسود إلى الصالة ثم ترده ضاحكة والمرآة ترتجف بين يديها) أتعرفون ما هو الضحك.. ها ؟ الضحك بكاء مقلوب.. مقلوب. (تبكي) هل تعرفون ما هو القبر.. نعم..القبر ؟ إنه مهد مقلوب على طفل ميت.. طفل ميت.. ميت !
(تغني باكية والمرآة بين يديها تتحرك على إيقاع الأغنية)
يلا تنام  يلا تنام
لدبحلك طير الحمام
(تنتقل إلى قبر صالح  وتهزّه كالمهد)
روح يا حمام لا تهدي بضحك ع صالح تينام . ما أشد هدوء قبرك يا صغيري ! إنني أسمع سكونه بحواسي الحزينة (تضع أذنها على القبر)
صالح .. صالح ! هل تسمع صوتك أمّك المعذّب ؟ أجبني يا حبيبي (تدق على القبر)  ها .. ماذا ؟ أنت خائف ؟ لا تخف بالله عليك ! إن روحي تطوف حول قبرك كالحمامة كي تحميك . (يخيل إليها أنها تسمع بكاءه) إهدأ يا حبيبي ! إن صوت بكائك ينغرز كالمسمار في صدري الممزق ! أنا التي تركتك تسقط كالتفاحة على سكين الموت أرجوك الآن نَمْ !
نَمْ بهدوء يا طفلي الضائع نَمْ ..عصفوراً تحت عرائش هذا الغيم !
نَمْ بهدوء يا طفلي نَمْ..  في محضن هذي الأرض الموحش نمْ !
نَمْ بهدوء يا طفلي نَمْ..  واترك قلبي يذرف الدمع في كأس دمْ
(تضع غطاء أبيض على القبر)
آه يا أحلامي الممزقة ! كم  كنت أحبّ أن أسمعك وأنت تلثغ بالراء على طريق المدرسة ! كنت تحمل إلي بعودتك دنيا من العصافير والزقزقات والآن تعض بأسنانك البيض على الحصى والتراب .. الآن مئة أغنية في قلبي تترقرق بالدمع على صوتك المقتول ! أه ياحبيبي لمن تركتني ؟ لهذه الحديقة، أم للقبور التي تنام في ليلها الأسود، أم للغراب الذي ينعق في الظلام المتوحش ؟
( تعصف ريح قوية فتطفىء الشموع مترافقة مع نعيق غراب وشظايا برق وانفجارات رعد والتي تستمر طيلة المشهد)
الظلام الظلام ! أين عيدان الثقاب.. أين وضعتها ؟ ربّاه ! أشعل الشموع  فتطفئها الريح .. أتقي عصف الريح فينعق الغراب.. أسدّ أذني فيلمع البرق .. أغمض عينيّ فينفجر الرعد.. أين عيدان الثقاب.. أين وضعتها ؟ لقد كانت هنا .. أني لا أبصر شيئا.. الظلمة شديدة.. إنها  ليست هنا . قد تكون بقرب حجر الرحى..ولكن أين مكانه ؟
(تصطدم بقبر فتتعثر وتحدث ضجّة) قبر من هذا ؟  هل هذا قبرك يا أبو صالح ؟ ماذا تريد أن تقول ؟ إني لا أسمعك جيدا .(ضجيج) أعتقد أنه قبر سعاد .أرجوك يا ابنتي قولي هل هذا قبرك أم قبر أبيك ؟ (ضجيج) إذن أين قبر أبيك ؟ لا بد أنه قبرك يا صغيري نعم نعم قبرك . ولكن حبيبي بالله عليك قل لي هل تعرف أين هو قبر أبيك ؟ (ضجيج) ارفعوا أصواتكم ! (ضجة) لا أريد أن أبقى وحيدة في الظلام .. الظلام خانق.. أشعر بوحشة رهيبة.. أرشدوني إلى عيدان الثقاب ! (غاق) لقد بدأ نعيق الغراب يرهب القلوب (غاق) من يراني منكم ؟  أنا لا أراكم.. الظلمة شديدة . أين عيدان الثقاب ارفعوا أصوتكم .. ارفعوها ! وجدتها وجدتها..هذه هي عيدان الثقاب.. وجدتها
(تشعل متسرّعة عدّة عيدان فتنتطفىء وأخيرا تنجح في إشعال شمعة)
اشتعلت .. اشتعلت  . آه هذه هي قبوركم.. إنها  بقربي ، معي .. إنني أفضل الآن.. تجمّعوا حولي يا أحبّائي..لا تبتعدوا عني !
( تنام وسط القبور ملتحفة غطاء أبيض وهي ترتجف)
عندما كنت صغيرة يا أحبّائي كنت أخاف جدّا من الظلام .. كنت أدفن رأسي تحت الغطاء طلبا للنوم فيخنقني الضيق ..أرفع الغطاء وأنا أرتعد فتطبق عليّ العتمة ويهرب النوم . كنت أشعر بالضيق والاختناق.. بالضيق والاختناق وأنا أحدق في العتمة المطبقة.. ومن شدة اختناقي وخوفي وهلعي كانت عيناي تبحثان (تتحرك نقطة ضوء على الجدار فتقف وتتبعها)عن إصبع ضوء صغير، عن نقطة نور قادرة على طرد الأشباح والكوابيس التي تتراءى في الظلمة الموحشة.. لقد تربّيت على العتمة في صغري ولم أنجُ منها في كبري ..فها هي تعود أشدّ قتامة بعد فراقكم..(تتنهد) آه فراقكم أحرق روحي  يا أبو صالح !
هل تعرف ماذا أفعل كل مساء حين تنطرح العتمة على أرض الدار  وتخرج الأشباح من أوكارها ؟ مؤكد أنك لا تعرف.. لا تعرف مقدار ما أعانيه . لقد عانيت حتى يئست..عانيت وعانيت وأنا أرى أمواج العتمة تتلاحق فوق هذا البيت.. لذلك وفي لحظة حرجة قررت أن أغمض عينيّ وأهجر عالم الضوء.. نعم أغمض عينيّ هكذا وأغوص في ذاتي العميقة ، المعتمة.. في بئر حزني الغائر في الأعماق القصيّة طلباً للنسيان . وكالمرأة المتوحدة أسدلت ضفائر شعري على وجهي كيلا أرى أحدا ولا يراني أحد . أسدلت شعري وأطبقت أجفاني هربا من أفكار لا رحمة فيها .
ولكنني ورغما عنّي – وبغير إرادة منّي تذكّرتُ يا أبو صالح.. نعم تذكّرت ثم بكيت ! ولو كنتَ مكاني لبكيت !  ملتُ برأسي لليمين وهززته لأتخلص من الأفكار المرعبة التي تسكن فيه.. ولكنني عدت وتذكّرت يا أبو صالح.. عدت وتذكّرت . فملت برأسي لليسار وارتعشت.. ارتعشت ثم هدأت  ولكنني سرعان ما تذكّرت فبكيت.. ولو كنت مكاني لبكيت ! ماذا أفعل بكل هذا الثقل الذي يطبق على صدري ؟ إذا ملت برأسي للخلف تنهّدت وتحسّرت ! وإذا ألقيت رأسي المتعب على صدري انتحبت  ! كأن لا جدوى من كلّ هذا..لا جدوى.. لذلك رحت أهزّ رأسي المتشنّج كالمنخل كي أطرد أفكاره السود حتى صار شعري كالأرجوحة في مهبّ الريح
(تحرك رأسها وشعرها الطويل وكأنها ترقص)
أحرّكه لليمين..   لليسار.. للوراء.. للأمام .. لافائدة
لليمين..   لليسار.. للوراء.. للأمام
يمين (غاق)  يسار (غاق) وراء (غاق) أمام (غااااق) (تتكىء على القبر وتبكي مستسلمة)
فلماذا رحلتم وتركتموني أحتمل كل هذه المرارة ؟
أيّ شقاء تركتموني أقاسيه، أيّ ضجر مميت ؟
من كثرة ما غرقت في التفكير يا أبو صالح أصبح رأسي كالجمجمة الملتهبة.. وراح الدخان يتصاعد من صدغيّ.. لم أعد أحتمل نفسي.. كيف سأعيش بمفردي في بيت بلا سكّان ؟ أيّة شيخوخة ستكون شيخوخة حياتي.. كيف سأقهر كآبة الموت الكبيرة في عقلي الضعيف ؟ لا أحد أقول له صباح الخير .  لم أعد أطيق الوحدة والوحشة والانفراد والعزلة وموت الآخرين ؟ وصلت المراثي إلى نهاياتها . كيف تطيق الوحدةَ امرأةٌ فاقدة ، امرأة ثاكلة ؟(تخاطب الجمهور ) من حقي أن أرى جثّة زوجي ، وأبكيها ، وأطمر المرارة في التراب ! من حقي كأمّ أن أكفّن ريحانة روحي ، وفلذة كبدي وأبكيهما ما طاب لي البكاء ! ما عدت أطيق صبرا وأنا أتحدث إلى هذه القبور الفارغة !
(ترفع القبور واحدا بعد الآخر وتقلبها رأسا على عقب فيتبيّن أنها فارغة.. ثم تبدأ بتبديل أماكن القبور فتضع قبرا مكان آخر وكأنها تلاعب الموت على رقعة شطرنج)
أين أنت يا صغيري هل أنت في هذا القبر أم ذاك ؟
أم لا أنت في هذا ولا ذاك ؟
أين أنت يا سعاد.. هل أنت على يمين أبيك أم يسار أخيك ؟
أم لا أنت على اليسار ولا على اليمين ؟
وأنت يا أبو صالح هل أنت هنا أم هناك.. أم لا أنت هناك ولا هنا ؟ أين أنتم .. أين أنتم ؟ أكاد أجنّ..  لقد وصل ألمي إلى حدوده القصوى ! أعرف أنهم ماتوا.. نعم ماتوا في ذلك اليوم المشؤوم بتلك القذائف الغادرة كما مات الكثيرون
(تبدأ برشّ التراب المتراكم حول حجر الرحى في الهواء)
بعضهم تناثر إلى أشلاء صغيرة ( تراب ) والبعض لم يبق منهم شيء (تراب) لكن من حقّي كزوجة وأمّ أن أدفنهم هنا هنا في بيتهم إلى جانبي.. في حديقة الدار . إني أكاد أجنّ .. أكاد أختنق (تراب) أختنق (تراب) أختنق (تراب.. تراب.. تراب.. تسقط وسط القبور الثلاثة ويتضاءل صراخها شيئا فشئا)
أرجوكم أهيلوا عليّ التراب  !
أهيلوا عليّ التراب !
أهيلوا التراب !
التراب !
غاق .
إظلام



طالب  همّاش

talebhammash@gmail.com

0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption