ماذا لو لم يمت في المنفى؟
مجلة الفنون المسرحية
ماذا لو لم يمت في المنفى؟
خالد الرويعي
يقترح عرض الصديق الاستاذ غنام غنام (سأموت في المنفى) بضعة مفارقات أو ربما جدليات ماثلة أمامنا في المسرح العربي، وقد تناكف آراء عدد من المسرحيين الذين يضعون المسرح المفاهيمي ضمن دائرة السخرية، وعندما أقول المسرح المفاهيمي لا أقترح بالضرورة درساً في النظريات أو المفاهيم، ذلك أن المسرح بشكل عام له مفاهيمه الخاصة ونظرياته منذ أن بدأ النقد يتعقب المسرح وبالتالي انفتاحه على المناخات الفكرية والفلسفية.
يقترح عرض (سأموت في المنفى) المفارقة بين السرد وعلاقته بالمسرح وكونه مسرحاً ينتمي إلى المونودراما وخلافه، فالمونودراما ليست بالضرورة تقترح السرد جزءا من تكوينها وهي بخلاف أن نقول يجوز للمونودراما ما لا يجوز لغيرها، وهنا تكمن المفارقة في ما يقترحه العرض، فالعرض ليس قائماً على التشخيص او التمثيل أو حتى فنون الحكي.. العرض قائم على أن هناك شخص اسمه (غنام غنام) يقترح علينا أشيائه، وبالطبع يستفيد من خبرته في فنون الحكي والقص والسرد وكونه ممثلاً أيضاً، لكن العرض لم يكن تمثيلاً، إذ أنه يملك روحه الخاصة.. روح السيرة الذاتية والطرق المقترحة لعرضها أمام الناس. روح السرد التي بني عليها النص، روح التمثيل الخارجة عن إطار التمثيل، فالنص هنا يتماهى مع الممثل الذي هو في الأصل صاحب النص صاحب القصة، ولذلك تخرج المسألة من نطاقها التمثيلي الاعتيادي وتذهب إلى منطقة أخرى، فنياً سيعتبر الحديث عن فلسطين ذريعة، لكنها أيضا ذريعة الفنان الذي سيضع أمامه كل الأوراق ويخلطها مع بعضها البعض. وهي ربما الحيلة التي أراد (غنام) أن يجربها مع نفسه أولاً.. إذ كيف سيفصل نفسه ويقسم تاريخه وذكرياته وعوالمه النفسية والحياتية وتكنيك التمثيل الذي يعرفه وخبرته في التعامل مع الجمهور مع نص يقوم على الذاكرة والسيرة الذاتية وسردها من تمثيله وإخراجه هو؟
إذا نحن الآن نتعامل مع مسرح قريب جداً من مسرح السيرة الذاتية والسرد
وملامسة - من الناحية النصية - لمسرح ما بعد الدراما.
ولنقلب الطاولة على عقب، ماذا سيحدث لو أن مثل هذه التقنيات استخدمت كمسرح خارج عن النسق المونودرامي؟ هل حالة التلقي ستكون مثلما اقترحها غنام في عرضه؟ أزعم أن (سأموت في المنفى) ومن حيث لا يشعر المشاهد قد ذهب في اتجاه يخلخل فيها العناد للمسرح المفاهيمي الحديث وعليه فالذين وقعوا في فخ (غنام) هم بالضرورة الآن عليهم مراجعة أنفسهم مع العروض التي تحمل ذات الطابع. بغض النظر عن معايير الجودة.
اعتقد أن عرض (سأموت في المنفى) قد كسر قواعد اللعبة، فهو خارج من الاشتباك الذاتي الى الاشتباك المسرحي او الفرجوي فهو يلعب في منطقة التمثيل واللاتمثيل، مفارقة الممثل والعارض، السرد وتشابكه مع منطقة الحكي، التمثيل بوصفه تشخيصا أو بوصفه تقمصاً.. كل ذلك يقترحه عرض (سأموت في المنفى) كشكل فني معاصر.
يقترح غنام قبل بداية عرضه وفي استهلال يستطلع فيه رغبات الجمهور ان المشاهد مدعو للتقاطع معه في أي وقت يشاء من زمن العرض، وهذا التقاطع يعني أن يكون المشاهد فاعلاً - ربما - في مجريات العرض. لكن ذلك غير ممكن لاحكام الممثل - غنام - قبضته على الجمهور، فالانتقال بين السرد والمفاصل التشخيصية للحدث أو حتى القبض على الذروة كفيلة بأن تبدد تلك الرغبات العالقة في ذهن المشاهد الذي يسعى أن يكون جزءا من العرض بإرادته، لكنه لم يعلم أن (غنام) قد أشركه في ثنايا العرض مرات عدة عندما سحب الكرسي من بين الجمهور، وكأن هذا الكرسي بات جزءا من مسلمات العرض وبالتالي أصبح الجمهور غارقا في الحدث يديره (غنام) كيفما يريد.
يدرك غنام من اللحظة الأولى إلى خطورة ان يستفرد بك الوحش - الجمهور - أمام عينيه وفكيه. ولذلك كان قادراً على مسك خيوط اللعبة عن طريق قراءته للجمهور الحاضر، وبهذا انقلب السحر على الساحر (الجمهور) ، فالدعوة الى الشراكة ما كنت سوى دعوة للانتباه والتبصر أمام ما يحدث.
0 التعليقات:
إرسال تعليق