قنص الأحلام "تسجيل دخول" مسرحية الحياة الافتراضية والواقع المفقود
مجلة الفنون المسرحية
شريف الشافعي - الجديد
مشهد من المسرحية.. مواقع التواصل الاجتماعي وحوش تهاجم الشباب
تَسْخَر الكوميديا المسرحية “تسجيل دخول” التي عرضت في القاهرة مؤخرا، من مواقع التواصل الاجتماعي، رامية إلى تفجير طاقات الشباب الخلاّقة من أجل بلوغ الواقع الحقيقي المفقود وقنص الأحلام المهدورة في حياة عبثية لا يُعوّل على مساراتها الافتراضية. يعاني البشر خلال السنوات الأخيرة من الاغتراب والاستلاب وغياب البوصلة وفقدان الهوّية في ظل التفوق المعلوماتي والهيمنة الرقمية وطغيان المادة والآلة وانحسار الروحانيات، الأمر الذي دفع الكثيرين إلى ارتياد مسالك الحياة الافتراضية ومتاهاتها اللانهائية بحثا عن بديل، عبر بوابات الشبكة البينية ومواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، فزادت حدة المشكلة وتفاقمت حالة الفصام.
يأتي العرض المسرحي “تسجيل دخول” ليناقش هذه الأمور الضبابية وغيرها من القضايا المجتمعية الراهنة في مصر والعالم العربي بأسلوب كوميدي مثير، ويرصد العلاقة بين الثورات التي شهدتها المنطقة العربية وثورة التقنيات الاتصالية.
يصوّر العرض المسرحي الذي افتتح به مركز الهناجر للفنون إنتاجه في الموسم الشتوي، مواقع التواصل الاجتماعي بوصفها وحوشا تهاجم رؤوس الشباب وتفرغها من محتواها الإنساني، فالداخل إلى هذا الفضاء هو في الحقيقة خارج لأنه يصير منفيّا مغيّبا عن عالمه.
تنطلق المسرحية، التي ألفها إسماعيل إبراهيم وفادي سمير وأخرجها هاني عفيفي، من قناعة مؤداها أن الحياة الافتراضية والواقع المعيش على طرفي نقيض، فلا يمكن أن يجمع بينهما شخص سويّ، فإما أن تكون حركة الإنسان متّزنة على الأرض، وإما أن تتخطفه الندّاهة الإلكترونية فيحلق في تهويمات خيالية ويسبح في متاهات وأوهام، وتسوقه الشائعات إلى الهاوية.
تستثمر المسرحية الكوميدية طاقات الشباب الخلاقة وابتكاراتهم الأدائية من خلال الفكرة الجديدة والثيمة غير النمطية والارتجالات المسموح بها فنيّا من أجل هدف تسعى إليه، هو تقريب المجتمع من واقعه الحقيقي المفقود، والقبض على الأحلام المستحيلة بقوة الإرادة وطاقة المثابرة.
يستفيد العرض من إمكانات مسرح العبث، خصوصا مسرحية “المغنية الصلعاء” للكاتب الفرنسي الروماني يوجين يونسكو (1909-1994)، ويشكل العرض بمعالجته المدهشة وتقنياته المتطورة محاولة جادة لتحريك المياه الراكدة في المشهد المسرحي بمصر، فضلا عن نجاحه في إلقاء الضوء على حصاد الثورات العربية، وأبرز القضايا المجتمعية الملحّة.
اصطياد الحقيقة
يتقاطع عرض “تسجيل دخول” مع مسرحية “المغنية الصلعاء” في أمر جوهري، هو تعثر كل محاولات القبض على الحقيقة، ففي نص يوجين يونسكو، تصير كل الأشياء والبديهيات أمورا محتملة غير مؤكدة بالنسبة لزوجين يتقدم بهما العمر وهما يعيشان معا، وكذلك يغدو الناس جميعا غير متيقّنين من معنى وجودهم وهويتهم.
تطرح المسرحية أيضا قضية المعرفة النسبية، إذ لا تيقُّن، ولا حقيقة مطلقة، فالزمن يمضي متعجّلا (هناك ساعة في خلفية المسرح تدور عقاربها بسرعة فائقة على مدار 75 دقيقة كاملة، هي مدة العرض)، والأصدقاء الستة “أبطال العرض” يتشكك كل منهم في الآخر، وفي نفسه، وفي طبيعة المكان والزمان المحيطين، وذلك بعد اختلاط أحداث الواقع بالشطحات الافتراضية.
تتناول المسرحية مشاهد من العلاقات المتوترة التي تجمع ستة أصدقاء من الشباب (ثلاثة ذكور وثلاث إناث) في الأيام القليلة التي تسبق ثورة 25 يناير 2011 في مصر، فهم مقربون من بعضهم البعض، يلتقون بصفة دورية، ويكادون يعيشون معا، لكنهم صناديق مغلقة، لاستغراق كل واحد منهم بشكل منفرد في الإبحار الإلكتروني في الشبكة العنكبوتية، وتغليب مواقع التواصل الاجتماعي والاهتمام بالشكليات على حساب أبجديات الاندماج الحقيقي مع الأهل والأقران والمجتمع.
يصوّر العرض كيف ينسلخ الشباب من ذواتهم، وينأون عن مشكلات وطنهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بسبب حُمّى السوشيال ميديا والهوس بـ”التريند” والوسائط الإلكترونية، وبالتالي يتم نفيهم خارج المكان والزمان، ويتوقفون “محلك سر” في موضعهم الذي يلتقون فيه، ولا تصلهم “وجبة الديليفري” التي طلبوها في بداية العرض من أحد المطاعم، رغم مرور سنوات وهم ينتظرونها.
هكذا، تضيع أعمارهم سدى، وتتعطل حواسهم عن العمل والاستشفاف، ويفتقدون القدرة على متابعة ما يجري حولهم، من قيام الثورة وما أعقبها من تغيرات سياسية واجتماعية كاسحة في البلاد، وتقلبات في سلوك البشر والعادات والتقاليد.
وتتعرض خصوصيات هؤلاء الأصدقاء المنعزلين إلى الانتهاك من خلال هذه الوسائط غير الآمنة، ويغرقون في طوفان من التشويش والشائعات والأخبار والمعلومات المتناقضة، فتصير الحياة في عيونهم مغلوطة، تتألف من دوامات عبثية متلاحقة، وتغيب تماما إمكانية معرفة الحقيقة.
الفانتازيا والجنون
يلجأ العرض إلى حشد كبير من مكونات العصر الرقمي |
هذه الحالات الرمادية للأصدقاء الستة، المشحونين بالمخدر الإلكتروني، وفّرت بيئة ملائمة تماما لكوميديا اللامعقول القائمة على هلوسات الغيبوبة والتخريف والارتجالات والحوارات الثنائية المليئة بالجنون والفوضى والانتقال من موضوع إلى آخر للتعليق عليه، والسخرية منه، دون منطق حاكم.
في نقلات سريعة، تمكن العرض من خلال لغة الشباب العصرية والتعبيرات المتداولة في الإنترنت من التهكم بأسلوب كوميدي على الكثير من المظاهر والأمور السلبية في المجتمع، منها: انتشار الفساد في سائر القطاعات وبين الدخلاء على الثورة، الاتّجار بالدين والسياسة، الإعلام الدعائي الانتهازي، الدعاة الجدد في الفضائيات العشوائية، التحرش، الزواج العرفي وعلاقات “التيك أواي” بين الشبان والفتيات، وغيرها.
يرسم العرض مسارا عامّا للحكاية والمشاهد الكوميدية القصيرة من خلال قماشات عريضة، مطلقا العنان للممثلين ليصنعوا التفصيلات كلها بأنفسهم من خلال الارتجالات، التي هي ثيمة فنية وتدريبات مطولة وليست مجرد عبارات و”إفيهات” خارج النص كما في عروض أخرى.
يلجأ العرض إلى تقنيات مساعدة أيضا، منها الأفلام التسجيلية ونشرات الأخبار، وتتيح شاشة السينما توثيقا لأبرز الوقائع والعبارات والأقوال التي صارت أيقونات للسنوات الماضية، في أثناء وأعقاب ثورة يناير 2011، من قبيل: “جمعة الغضب”، “الشرعية للميدان”، “دولة البرلمان”، “الانتخابات الرئاسية”، وغيرها.
اتسم أداء الممثلين الشباب: أحمد السلكاوي، أوسكار نجدي، شادي الدالي، عمرو جمال، محمد الشافعي، منة حمدي، ندى نادر، وهبة الكومي، بالتلقائية والبساطة، فجاء مقنعا نابعا من شخصياتهم الحقيقية، كأنهم لا يمثلون، خصوصا مع إفساح المجال واسعا للارتجال (البطل الحقيقي للعرض) ليعبّر كل واحد عن نفسه بطلاقة.
رسمت ديكورات مي كمال، وأزياء مروة عودة، صورة ملائمة للعرض الذي يدور كله في مكان واحد، هو بيت أحد الأصدقاء الستة الذي يلتقون فيه ويتفقون على الخروج معا أكثر من مرة، لكن ذلك الاتفاق لا يتم أبدا لتشككهم دائما في بعضهم البعض.
هذا البيت مجهز إلكترونيّا، كبيت عصري يتسع للتكنولوجيا والاتصالات والأرقام، لكنه يفتقد دفء العائلة وحميمية العلاقات الإنسانية. وجاءت ملابس الأصدقاء (الجينز المقطّع والتيشيرتات الغربية) ملائمة لاهتماماتهم وقناعاتهم الداخلية بأسلوب معين لممارسة الحياة الفوضوية.
في النهاية، تصل كوميديا “تسجيل دخول” إلى ذروة السوداوية، بإعلان حلول اليوم العالمي للصمت، حيث يتلاشى الأبطال جميعا بعدما فرّطوا في فطرتهم الإنسانية، ويبقى “المانيكان” وحده على المسرح منتظرا أن تتلبسه روح متوثبة لتدب فيه الحياة بعد التجمّد.
مواقع التواصل الاجتماعي تلتهم رؤوس الشباب ارتجالات كوميدية في “الهناجر” تحرك المياه الراكدة في المشهد المسرحي بمصر. معالجة فنية إلكترونية لحصاد الثورات العربية وأبرز القضايا المجتمعية الراهنة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق