مسرحية "فلاش - باك أو حين يتحول الحلم إلى حقيقة مرئية
مجلة الفنون المسرحية
د.عبد الرحمن بن إبراهيم :
"إن الحلم مسرح يكون فيه الحالم نفسه المشهد والممثل والمنتج والمؤلف والجمهور والناقد" يونج
إذا كان معلوما عن أي نص درامي أنه يتكون من نصين متكاملين: نص الحوار بين الشخصيات، ونص الإرشادات المسرحية؛ فلا يجب إغفال العنوان والمقدمة اللذين يمكن اعتبارهما نصا موازيا. هذا في حالة تبني النص الدرامي والاحتفاظ بالعنوان الأصل. أما في حالة الاقتباس أو الإعداد فغالباً ما يتم التصرف في النص العنوان جزئيا أو كلياً؛ بحيث يصبح النص المقتبس أو المُعدُّ قائم الذَّات، مستقلاًّ بمواصفاته التقنية ومقوماته الرؤيوية وأبعاده الفكرية. وإذا كان نص الحوار والإرشادات المسرحية يَهُمّان الدراماتورج والمخرج والممثل في المقام الأول؛ فإن أول ما يستوقف من هُمْ بصدد مشاهدة العرض هو العنوان الذي يمثل مدخلاً مفترضاً إلى عالم المسرحية.
اقتضت الضرورة المنهجية هذه التوطئة في أفق قراءة العرض المسرحي: "فلاش باك" الذي أنجزته فرقة "مسرح أبعاد" بالدار البيضاء. إعداد وإخراج الفنان المقتدر الدكتور عبد المجيد شكير، وعُرض بالمركز الثقافي محمد المنوني بمكناس يوم السبت 20 أكتوبر 2018، الساعة السابعة مساءً.
مسرحية "فلاش باك" في الأصل مسرحية ألفها يوسف الريحاني. ناطقة بلغة عربية فصحى راقية. أبان الممثلون الثلاثة، وخصوصا الذي مثل دور عبد الصبور عن قدرات رهيبة وطاقات هائلة في التعبير وفي مخارج الحروف، ارتقت معها إلى مستوى اعتبارها مكونا أساسيا من مكونات العرض، من دون أن يسجل عليهم خطأ نحوي أو لغويّ واحد؛ وهو ما كان محط إعجاب ومحل إكبار؛ في وقت يسجل بذهول واستهجان جنوح الغالبية الساحقة من العروض المسرحية إلى عامية على درجة من الإسفاف والابتذال. وقد أحاطني المخرج عبد المجيد شكير أن "نص الإعداد" يكاد يختلف تماما عن النص الدرامي الأدبي. وفي هذه الحالة، فنحن بصدد عرض مسرحي لا أحد يمتلك عنه فكرة قَبْلِية سوى ما يوحي به العنوان.
إذا اعتبرنا أن الأصل في العرض المسرحي هي اللذة البصرية Le plaisir de voir بالدرجة الأولى، فهل مجرد المشاهدة بصفحة ذهنية بيضاء كافية لبلوغ درجة الإشباع الجمالي؟.
وفي حالة امتلاك فكرة أو تصور أو حتى مجرد رأي من نوع الدردشات التي تتردد على ألسنة المتفرجين قبيل العرض، والتي غالبا ما تكون محض انطباعات سريعة، ومجرد وجهات نظر تخص صاحبها فقط ؛ فهل يمكن اعتبار ذلك تشويشا على سلامة تفاعل عفوي وصادق بين ذاتٍ متشوقة لما هو مثير، وعالم متخيل وظيفته دغدغة مكامن الإحساس بالجميل لدى المتفرج، والارتقاء بخياله إلى مدارج الشعور بالجمال؟.
وعلى افتراض أن المتفرج على معرفة سلفاً بالنص الدرامي الأدبي، وله اطلاع على ما كتب عنه من مقالات نقدية أو ما شابه ذلك. أو أنه ناقد متخصص، أو من المهتمين بالشأن المسرحي، أو من ذوي التراكم في المشاهدة؛
فهل يمثل ذلك عاملا مساعداً على إدراك دقيق ومعمق لمكونات العرض ولأبعاده؛ على أساس أن الفعل المسرحي ممارسة فنية جمالية تنهض على مجموعة من العلامات المترابطة والمنسجمة في إطار لغة مسرحية قوامها ما هو مرئي: (قطع الأثاث، الإنارة، )، وما هو سمعي: (المؤثرات الموسيقية، اللغة الكلامية) يؤديها الممثلون في فضاء متخيل من أجل إبداع عرض يستجيب لأفق انتظار الجمهور؟،
أو قد يكون ذلك سببا في تحميل العرض فوق ما لا طاقة له به؟.
غير أن الذي ليس محل جدال هو عدم إمكانية تصور متفرج يدخل قاعة العرض من دون أن يكون قد كَوَّنَ فكرة ما عن العرض؛ لأن مجرد التفكير في مشاهدة عرض يولد حيوية ذهنية تأخذ شكل تصورات وتساؤلات وانتظارات معينة.
دلالة العنوان: العنوان عبارة عن لفظتين أعجميتين تحيلان على حدث/أحداث، أو ذكرى/ ذكريات... في الماضي القريب أو البعيد. وهي حالة نفسية تتم خلالها عميلة استرجاع ذاتي مرغوب فيها إذا تعلق الأمر بحدث جميل ومحبب. وقد يكون كابوسا/كوابيس أخذت شكل وسواس/وساويس، تمارس ضغوطا نفسية رهيبة لا سبيل لتخفيف وطأتها سوى بـ "لجوء اضطراري" إلى حالة نفسية حالمة، قد تكون في الماضي، أوفي الآتي، كما يمكن أن تكون في الحاضر. ولو أن الاسترجاع الذاتي Falsh-Back تفيد الزمن الماضي.
الشخوص: انطلق العرض بتقدم رجل من الخلفية المستوى الثالث - troisième plan إلى مقدمة الركح المستوى الأول -premier plan . كهل، متقدم في السن بثياب رثة، متقاعد على ما يبدو، يتحرك فوق كرسي متحرك، منظره المثير للإشفاق ينم عن حالة نفسية مهزوزة على شفا من الانهيار، تكالبت عليه الأمراض المزمنة التي أفقدته القدرة على الحركة. ازدادت معاناته بسبب عزلته القاسية بعد أن هجرته زوجته التي ما فتئ يحبها. يعيش حالة هذيان من العشق والوله لدرجة الجنون. أعمى، يضع على عينيه نظارتين سوداوين سميكتين. شَرِهٌ في التدخين ومدمن على شرب الخمر. لم يتوقف عن شرب لفافة أخذ منها أكثر من نَفَس ويطفئها ليعود إليها عند الحاجة. وكثيراً ما طلب وألح على صاحبه عبد السميع أن يناوله من قنينته بعض جرعات النبيذ بعد أن أتى على آخر قطرة من قارورته. تتألف السينوغرافيا من منضدة إلى اليسار فوقها كرسي ومنظار موجه إلى شقة طليقته، وفي الجهة المقابلة ينتصب باب يتوسطه شباك يتيح رؤية ما وراءه. الشخصية الثالثة عبد العليم انخرطت في الحدث الجارية أطواره بين عبد الصبور وعبد السميع، لكن من دون أن يحدث حضورها تحولاً في مجراه.
معاناة عبد الصبور، هكذا يسمى، تتمثل في كونه استأنس بأمراضه العضوية (الشلل والعمى). وجد في معاقرة الخمرة، وفي التدخين تنفيساً عن حالة الإحساس بالضياع المعنوي وتعويضا عن الفراغ العاطفي، وحِدَّةِ الشعور بالوضاعة والمهانة. هجرته زوجته، وتخلت عنه لترتمي في أحضان رجل آخر، أو أشخاص آخرين. مأساته معنوية عاطفية أكثر منها جسدية عضوية. لذلك، كان كثير الصراخ بصوت مجلجل وهو يتحدث إلى صديقه وخادمه عبد السميع، الذي اكتفى على مدى كل العرض بمجرد بالاستماع إليه، وتلبيه طلباته التي كثيرا ما أثارت امتعاضه واستهجانه، لولا أن عبد الصبور كان يغريه بالمزيد من المال الذي كان يسيل له لعابه، وتلك كانت نقطة ضعفه. لم يستسلم عبد الصبور لواقع حاله، كان شبيهاً إلى حد بعيد بدون كيشوت الذي ظل يحارب طواحين الهواء اعتقاداً منه أنها الفوارس التي هب ليقارعها. كان أضعف من أن يتحمل هجر عشيقته. لذلك، اشترى منظاراً لمراقبتها طوال الوقت في شقتها في الطابق الرابع. وعلى مدى كل العرض (الحلم/الكابوس) ظل عبد الصبور مشدوداً إلى موضوع العشيقة الهاربة منه والبعيدة عنه (الطابق الرابع). لذلك، كان يطلب من عبد السميع أن يدقق النظر أكثر في غرفة النوم التي تقع في النافذة الثالثة إلى اليسار، وأن يتتبع حركاتها وسكناتها، وأن يحدد ملامح وعدد الزوار، وأن لا يتردد في وصف ما يجري بأدق التفاصيل. وقد أبان عبد الصبور عن قوة ذاكرته لأنه كان يتعرف على أسماء الأشخاص من خلال أوصافهم الجسدية.
الحدث/الأحداث: العرض – كل العرض- كان حلماً، لأن معاناة عبد الصبور كانت فظيعة. وزاد من فظاعتها أنها دفينة في أغوار النفس. ولا يمكن والحالة هذه تجسيد "مكبوتات دفينة" على الخشبة أمام الجمهور إلاّ في لحظة / لحظات لا شعورية (الحلم). وقد جرت المشاهد ليلاً كما ما دلت على ذلك سينوغرافية فضاء اللعب. كانت الألوان داكنة وخافتة (هيمنة اللون الأزرق الحالم على مجمل أركان الركح، وبقع حمراء على المنظار كدلالة على ما يجري في شقة طليقته، باستثناء بعض البقع البيضاء الملازمة لعبد الصبور والمصاحبة له في تحركاته على قلتها).
لا جَرَمَ أن المتفرجين تعاطفوا شعوريا مع عبد الصبور في حالته المأساوية، ولا ريب أيضا أنهم انخرطوا لا شعوريا في أجواء العرض من خلال تساؤلاتهم الملحة التي ليس من السهل التماس أجوبة شافية لها:
ما سر انشغال عبد الصبور بمعرفة أدق التفاصيل عما يجري في شقة العشيقة؟،
ولماذا كان يصر ويلح على عبد السميع على أن يصف له أفعالا فاحشة وفاضحة لا تحتاج إلى افتضاح أكثر؟،
وما الفائدة في سماع ما لن يزيده سوى مزيد من التألم التجريح؟.
الحبكة الدرامية: الشخصيتان الرئيستان متناقضتان. فعلى مستوى كل الحيز الزمني للعرض انحصرت مهمة عبد السميع في سماع الأوامر وتنفيذ الطلبات، ولم يكن يملك عبد الصبور سوى الصبر على تداعيات الصدمة العاطفية التي ترتب عنها وضعا سيكولوجيا معقدا سار في اتجاه مزيد من التعقيد. فالفعل الدرامي الذي يراد به صنع حدث ما لا أثر له في هذه المسرحية، ويكاد ينحصر بالنسبة لعبد السميع في الجلوس وراء المنظار للتلصص على ما يجري في غرفة نوم الطليقة. ولا يكاد يتجاوز حدود التدخين وبعض جرعات الخمرة بالنسبة لعبد الصبور. وإذا كان البناء الدرامي ينهض في المعتاد على حدث يتطور من البداية في خط درامي تصاعدي يتطور من البسيط إلى المركب في الوسط (العقدة) لينتهي نهاية ما قد تصدم أفق انتظار المتلقين أو تستجيب لانتظاراتهم؛ فإن الحبكة الدرامية في مسرحية "فلاش باك" وإن بدت رتيبة وفاقدة للإثارة من خلال سكونية المشهد/المشاهد التي تعكس حالة اللاحدث على (الركح) بسبب انهزامية عبد الصبور ، وشلل جسده وشرود فكره الذي يتبدى في اكتفائه بـ "رد الفعل"؛ فإنها ألهبت الركح الذهني للمتفرج الذي وقف على "الفعل" (الحدث) الذي جرت أطواره على المستوى النفسي. فما كان يراه عبد السميع بالمنظار المكبر، كان يتخيله المتفرج ويحوله لا شعوريا إلى عرض مواز في مخيلته.
لقد خرقت مسرحية "فلاش باك" البناء الدرامي السائد. فلا بداية تذكر، كما أن عقدتها التي امتدت على مدى "عالم الحلم" (العرض) ظلت قائمة إلى أن استفاق عبد الصبور في الأنفاس الأخيرة من المسرحية، واستوى واقفا وقد عاد إلى "عالم اليقظة". لقد استعاد استواءه بعد أن تخلص من إعاقته العضوية (الكرسي المتحرك)، و صرخ في وجهي عبد السميع وعبد العليم اللذين اعتقدا أنه مات:
أنا لم أمت، أنا ما أزال حيّاً !.
ولكنْ، هل استعاد توازنه المعنوي والعاطفي؟ قطعاً لا. فالعشيقة ما زالت في أحضان رجل غيره !. فقد خرج من حلمه كما كان قد دخله أول مرة صاغراً مدحوراً. وبذلك، فعقدته التي كانت ستكون. وأنّى له أن يتخلص منها !؟.
البناء الدرامي للحلم في "فلاش باك": إن البنية السيكولوجية للحلم تقتضي التعامل معها من منظور العقدة النفسية. فحين تتراكم الشحنات النفسية وتترسب تتحول إلى مكبوتات مسكوت عنها. وفي مثل هذه الحالات يجب ترتيب التصورات الذهنية بناء على مبدأ التطابق والتجانس، أو الاختلاف والتناقض، لأن << الحلم في حد ذاته، نتاج للعمليات اللاشعورية واللاعقلانية في داخل الفرد، إلا أننا ونحن نضع الملاحظات والحوارات الذهنية مع الحلم لجذبه إلى شعور اليقظة، نميل غالبا إلى تذكره في بنيته الدرامية. إنه يأخذ شكلا مسرحيا بينما العقل يواجه ما قبل العقلاني.>>1 فقد تولدت لدى عبد الصبور بنيات سيكولوجية متناقضة وُجدت أناه - الحالمة son rêve-ego في عالم غير العالم الذي ترضيه: كابوس مرعب. وهو ما يخلق تصورات صادمة على المستوى السيكولوجي. لقد بدا الحالم (عبد الصبور) منفصلاً وبعيدا عن أناه في الحلم (العشيقة)، ولا رابط بين الحالم وأنا الحالم إلا المنظار.
في وسع السينما أو الدراما التلفزية – مثلاً- أن تقدم أفلاماً أو مسلسلات تتضمن مشاهد لاشعورية اعتمادا على آليات التصوير السيكولوجي؛ ويكون البناء الدرامي في الغالب الأعم ذا بداية معلومة تمهد مباشرة إلى الموضوع الرئيس الذي ينتهي نهاية مأمولة أو صادمة. أما في الحلم
<<1- فيمكن أن تتداخل أجزاء التتابع أو تتكاثف مع بعضها.
2 - وقد تمتد بعض العناصر في حلم، وتنكمش عناصر أخرى أو تأتي في صورة ممزقة أو كبقايا عناصر.
3- وقد يكون الوضع موجزا أو مصحوبا ببعض التفضيلات. وقد يتم التغاضي عن التطور أو يندمج مع الأزمة.
4- وقد تحتل الأزمة معظم النشاط أو تكون مجرد تلميح. وقد يغيب الحل أو يحل محله كارثة أو طريق مسدود؛ ولكنه سيكون من المفيد إلى حد بعيد، لفهم الحلم، أن نفصل بين هذه العناصر البنائية الأربعة وتحديدها.>>2
مبدئيّاً، كل عمل مسرحي تكون بدايته: طرح الإشكالية لوضع المتفرج في الصورة. وتحديد المكونات الثلاثة: الشخصيات، الزمان/الأزمنة، والمكان/الأمكنة؛ لكي تعلن المسرحية عن بداية تشكل موضوعها، وضبط إيقاعه، واتجاه أحداثه. غير أن الأمر يختلف إذا تعلق الأمر بحلم؛ فنحن لا نعرف كيف يبدأ الحلم، وسيكون من الصعوبة بمكان التفكير في بداية لاشعورية ولاعقلانية لعمل مسرحي . وفي هذه الحالة تتم الاستعاضة برسم معالم الشخصية/الحالم في ارتباطه بالزمان والمكان. فقد كان أول ما كشف عنه عبد الصبور هو الزمان (الثامنة والنصف)، حين صرخ في وجه عبد السميع الذي جاء متأخراً بنصف ساعة:
لقد تأخرت نصف ساعة، الساعة الآن التاسعة ليلاً؟! .
والمكان (قريبا من شقة طليقته). وقد سارت الأحداث – تبعاً لذلك- في اتجاه استكشاف الدلالة السيكولوجية لوضعية الحالم على المستويين المعنوي – العاطفي، الجسدي- العضوي.
على المستوى المعنوي- العاطفي: لقد بدا عبد الصبور مأزوماً منذ البداية، وهي الحالة التي لازمته إلى أن صحا من نومه، من دون أن ينال ما كان يحلمه في حلمه.
على المستوى الجسدي– العضوي: بدا عاجزا على صنع الحدث بسبب الإعاقة، وهي الحالة التي لم يتخلص منها إلا في عالم اليقظة.
وبناء عليه، فالسياق السيكولوجي لمسرحية "فلاش باك" تمثل فيه الأزمة بؤرة الحلم. فقد بدأت بأزمة وانتهت إلى أزمة. وإذا كان عبد الصبور قد نجح في كسب تعاطف جمهور المتفرجين لا شعوريا باعتباره ضحية أزمة؛ فإنه لم يفلح في إقناعه شعوريا.
صرخة عبد الصبور التي آذنت بنهاية الحلم (المسرحية) كانت بمثابة صرخة الحياة، تماما كصرخة الوليد ساعة يولد. إنها صرخة التحدي والإصرار على مغامرة جديدة، على حلم جديد يستعيد فيه استواءه المعنوي العاطفي، يستعيد فيه عشيقته إلى حضنه.!
هوامش:
- إدوارد ويتمونت، البناء الدرامي للحلم، ترجمة عبد المقصود عبد الكريم، مجلة سطور، العدد 29، السنة 1999، ص43
2- نفسه، ص 43
0 التعليقات:
إرسال تعليق