مسرحية”هاملت بعد حين”…تمرد الفن…والتحرر من السلطة
مجلة الفنون المسرحية
مسرحية”هاملت بعد حين”…تمرد الفن…والتحرر من السلطة
رسمي محاسنة – ميديا نيوز
مع افتتاح الموسم المسرحي 2019،مع عرض مسرحي ناضج” هاملت بعد حين”، تأتي عودة النجمة الاردنية – العربية “عبير عيسى” للمسرح،فكانت اطلالتها من خلال مهرجان قرطاج المسرحي، كواحد من المهرجانات العربية العريقة، ومع مخرج متميز وثقافته ورؤيته وايمانه بدور المسرح في الحياة، بكل ماتحمل هذه العودة من اهمية تواجد فنانة بحجم” عبير عيسى” على المسرح، هذا الحضور الذي حتما سيكون له انعكاسات ايجابية على الحركة المسرحية،لان وجودها يعطي مزيدا من الزخم للمسرح والمسرحيين، كما ان شخصيتها بنجوميتها الجذابة، قادرة على التأثير على الجمهور،وبالتالي كسب جمهور جديد يرتاد المسرح،
من بين آثار “شكسبير” الخالدة، تبقى مسرحية” هاملت” هي العمل الأكثر غواية للمخرجين،بما تكتنزه الشخصية من ثراء الاسئلة الوجودية،والمراوحة ما بين طلاسم السؤال، والبحث عن إجابات لها، وعن مجموعة العلاقات المتشابكة بين الشخصية وبين من حوله، من أم خائنة، وعمّ قاتل، واب قتيل، ويتعاطفون مع شخصية تراجيدية مترددة، كل هذا يجعل من “هاملت” رافعة استثنائية لطرح قضايا لها خصوصيتها في كل بلد، ولكنها في إطار دواخل ونوازع واسئلة” هاملت”.
المخرج ” زيد خليل” يقتحم الشخصية،لكنه لايعتمد النص الاساسي، ولا نص” ممدوح عدوان” ” هاملت يستيقظ متأخرا” فقط، وإنما يتداخل مع النصين، ليقدم عملا جديدا، برؤية محكومة بشخصية” زيد” وقناعاته، وكما ان العرض فيه مستويات متداخلة، فانه ايضا يذهب بعيدا في حلقات متداخلة عن الدور، والوعي، وتراكم الثقافة،فهو يرى في المسرح قدرة هائلة على التغيير والتنوير،والتحريض ، ليس ذلك فقط، إنما يرى ان من مسؤولية المسرح ان يواجه، ويقول كلمته، وفق رؤية جمالية واعية وعميقة، تلامس الوجدان، وتستفز العقل باسئلة مقلقة،تبقى عالقة – رهن الاجابة – بعد مغادرة المسرح.ونتوقف عند المشهد “المسرحي” الذي يطلبه هاملت من الفرقة لتقديمه أمام الملك الجديد، ليقرأ تعابير وجه الملك، وردة فعله على أداء الممثلين،حيث توظيف المسرح للكشف،وحسم حالة الشك والتردد بداخله حول مقتل أبيه.
“هاملت بعد حين”، لفرقة” مسرح عالخشب”، “هاملت “المؤامرة والخيانة والتردد والتبرير، والتلويح بالقوة، هي واحدة من المستويات التي يقدمها ” زيد” في العرض، وهي ثيمات صالحة ومناسبة لاسقاطها الى الراهن العربي، في مواجهة مع عدو معروف. لكن ” زيد” يجعل من المسرح الذي حمل هاملت على مر السنين، يجعل منه عنوانا للمواجهة،في اسئلة ليست بعيدة عن اسئلة” هاملت”، فالواقع العربي فيه الخيانة، وخذلان الاخ والصديق،واستخذاء البعض، و” المراوغة” باستخدام الترغيب والتهديد، والاستعلاء بالقوة، و الاصطفافات والتحالفات المريبة.
ينفذ ” زيد خليل” من الوجوه المتعددة ل” هاملت” التي تفتح على أبواب التأويل، وتعطي المخرج مساحة لتقديم رؤيته،وهنا تتداخل دوائر الصراع مع السلطة، ومع العدو، ومع المسرح، وإذا كانت الصراع الأول والثاني أصبح معروفا،ومكررة في ” هاملت”، فإن الصراع الثالث هنا هو المحور الرئيسي، في علاقات الشخصيات ببعضها البعض، سواء تلك الشخصيات الواقعية، او التي تقوم بالتشخيص على المسرح،ويطرح ” زيد” من خلال ذلك الكثير من القضايا المتعلقة بالإرادة والتردد، بالخوف والجرأة، وثنائيات يعاني منها المسرح العربي، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، من السلطة بكل مفاهيمها، بما فيها السلطة” الانتهازية” عند البعض، او ذلك الرقيب الساكن في أعماق الكثيرين المتماهي مع رغبات السلطة.
ان هذه المراوحة سواء على المسرح، او مسرح الحياة” واقعنا الراهن”، هي التي تحتاج الى ثورة تقلب الموازين، وتخرجنا من برودة المربع الأول، للانطلاق في آفاق من الإرادة والوعي.
هذا الطرح الواعي، قدمه” زيد خليل” في إطار فني متماسك، بدءا من النص،ومن لحظة رفع الستارة، يضع المتلقي في أجواء العرض،حيث خيال الظل الذي يجسد الخيل بكل عنفوانها،أو بتلك القطعة الموسيقية الثقيلة”البيانو” الذي يستحضر حقبة مهمة من التاريخ الإنساني،وعازفين يتوزعون في الثلث الأخير، في اختيار ذكي للآلات الموسيقية والعازفين، بما يحملونه من دلالات خلال العرض، الموسيقى الحية التي أبدعها “مراد دمرجيان”،تشكل عنصرا رئيسيا من العرض، سواء بالظهور كجزء من السينوغرافيا،فهي اّلات لكل واحدة شخصيتها المستقلة،أو كأداة تعبير عن مواقف الشخصيات، و تداخل وتشابك العلاقات فيما بينها.
ويصمم الفنان”محمد السواقة” سينوغرافيا العرض بابداع، حيث المشهد البصري المشبع، وتغييب قطع الديكور،لتحضر الازياء والاكسسوارات والمكياج،بكل دلالاتها عن الموقع الاجتماعي والرسمي والطبقة التي تنتمي لها الشخصية،لتشكل مع اضاءة “عبدالله جريان”،الذكية والمعبرة عن الحالات المتبادلة بين الشخصيات،في تقاربها وتنافرها، والمستويات التي تم تقديم العمل بها، اضاءة تحدد المسارات، وتضع الشخصيات في إطار محدد،لا تستطيع تجاوزه،
وفي الأداء التمثيلي، فإن المخرج مع الممثلين يقدم مقترحات للأداء، تحافظ على الإيقاع العام، وتوزيع الممثلين على الخشبة، والتناغم وسرعة البديهة،لان الحوارات لاتتحمل اي هبوط او فراغات، في عمل يحمل الكثير من الانعطافات الحادة، سواء الايقاع الداخلي للشخصيات، او الايقاع العام للعمل، ونتوقف عند هذا الأداء والحضور للنجمة “عبير عيسى” في شخصية مركبة تتنازعها مشاعر الامومة، وغرائز الانوثة،بان تعيش بما تبقى لها قبيل غروب العمر،ومعاناتها طوال الوقت للوصول الى توليفة، او معادلة ، يعيش فيها الجميع بسلام، حتى لو كان هناك تنازلات على حساب آخرين،فكانت هذه الاضافة على شخصية الملكة في النص،مساحة أعطت فيها الممثلة فضاءات إضافيا أظهرت فيه قدرتها،وفهمها العميق للشخصية.
ويتحمل الفنان ” منذر خليل مصطفى” عبء شخصية مركبة، ما بين هاملت “الأمير” وهاملت “المسرحي”،تحمل أسئلة العرض الشائكة،والتعامل مع كل الانهيارات حوله، و السقوط المتتالي، ووقوفه وحيدا في ميدان التنازل والخيانات، حيث كان يتصاعد اداؤه كلما تقدم العرض الى الامام.
الفنانة”نهى سمارة”، عفوية الأداء، والحيوية،وفهم الشخصية،وايقاعها المنسجم مع تحولات العرض، كل ذلك بأداء احترافي وحيويتها وفهمها للشخصية والتحولات التي تمر بها، بأداء ملفت، و”بشار نجم” صاحب الحضور الجيد، وبقية فريق التمثيل” ماري مدانات، زينة جعجع، باسم الحمصي،هيراغ مراديان، “حيث الجميع كان حاضرا ذهنيا وجسديا،حملوا رسائل العرض الظاهرة والمضمرة،ملأوا فضاء المسرح،بأدواتهم التعبيرية والحركية.
“هاملت بعد حين”… نأمل ان يكون عنوانا للموسم المسرحي الاردني 2019
0 التعليقات:
إرسال تعليق