قراءة نقدية لنص مسرحية "المشهد الاخير لوداع المهاجرة " تأليف ابراهيم الحارثي
مجلة الفنون المسرحية
الكاتب ابراهيم الحارثي |
كاظم نعمة اللامي
((من الذي يستطيع أن يترك طفلا وامرأة في هذا المكان الذي تقف على أبوابه شياطين الوحشة و الخوف)).
تميزت توهجات الأديب المسرحي العربي إبراهيم الحارثي بسعة الأفق الدرامي الجدلي المتمحور فلسفيا، وهو يناصر الحرية أينما كانت، مستحضرا الواقع باستثمار الميثولوجيا ومتعلقاتها، ناقرا جدارها بمثقب البحث والكشف لكل مستعص شائك، مهاجما بمعول الحضارة العادات والتقاليد البالية الموغلة في اعماق النفس البشرية وسلوكياتها، باعثا رسائله المشفرة من بين طيات سطوره بطريقة التحليل السريري لشخصياته، من خلال بوحها وتنامي وجودها المعرفي الفاعل من ناحيتها، المنفعل من ناحية الآخر، وفقا لنظرية الفعل ورد الفعل، وبكل مرجعياته بطريقة الكشف عن المسكوت عنه واقتحام الممنوع، وذلك بخلق نصوص تنبض بالحركة الداخلية الدافقة الخالصة نحو السيرورات والظواهر النفسجسمانية، مع توثيقه للحقيقة التي لا يريد البعض لها ان تكون حقيقة. لذلك نرى الحارثي مع كل نص يعيش إرهاصات الكاتب الواعي بمحيطه الاجتماعي والمعرفي.
تميزت أغلب أعماله المسرحية بمعالجات ذكية بطريقة (التحليل الرجعي)؛ ونقصد هنا بالتحليل الرجعي: أن هناك حدثا، بل أحداثا جرت قبل بداية العرض النصي، والتي تبنت مسؤولية ما سيجري لاحقا. وهي منهجية كتابية أُعْتُمدت لتُعطي الزمن سيرورته الطبيعية في منح القارئ أو المتفرج الفرصة في التفاعل وتبني القناعات الجديدة، مع منحه القدرة التأليفية لصياغة ماضٍ غيبي من الأحداث يتكئ عليه النص الناشئ.
ولو ألقينا نظرة مقتضبة على عنوان النص الذي نحن بصدد تحليله (المشهد الأخير لوداع المهاجرة) لوجدنا ما يعضد هذه القراءة بخصوص جزئية التحليل الرجعي. أي أن هناك مشاهدا كثيرة سبقت هذا المشهد المعروض في بنية النص افرزت حيوات أخرى في مكان آخر، هي من خلقت هذا المشهد الأخير وهي من دفع بالشخصيات لأن تتواجد في ثلاثية موحدة: الزمن، والمكان، والموضوع.. وهذا ما سنفصله لاحقا في قابل تحليلنا.
((من الذي يستطيع أن يترك طفلا وامرأة في هذا المكان الذي تقف على أبوابه شياطين الوحشة و الخوف))
انطلق بنا الحارثي من هذه الخانة الِمحْنَويّة والتي تعكس ردة فعل امرأة بِنْت ذاك الزمن وكل زمن، عانت الاستلاب الشخصي، والركن في زاوية البيت كقطعة أثاث مهملة، حيث وجدنا أن وجود هذه السيدة في أي وسط اجتماعي يثير إشكاليات عدة، ترتبط إحداها بحيز التهميش القسري للعنصر النسائي في تاريخ الأديان، وبرؤية استعلائية دينية قاصرة للمرأة بنعتها بالأمَة المنبوذة.
وهذا الأمر دفع بالحارثي إلى تحفيز مشرطه الجراحي وتسليط أضواءه الكاشفة اتجاه بعض الأخطاء الشخصية الذاتية في الميثولوجيا التي وجدت طريقها لأن تكون مقدسة يتعبد بها الناس في واقعنا الحالي حيث أصبحت تابوهات مغلقة شأنها شأن رفات القديسين، محاطة بسور عال من الميناتورات المفترسة لكل من يحاول تسلقها، ولا يُسمح بمناقشتها أو التشكيك بصاحبها.. وهنا يأتي دور المسرح عموما، والكاتب إبراهيم الحارثي خصوصا في طرق وفتح هذا الباب المُلَغَّم على مصراعيه وإزالة جميع الأسوار المنتصبة بلا وجه حق أو مبرر فكري من أجل الخروج بحقيقة ناصعة.
يتواجد اليوم بين أيدينا نصٌ متوهج للحارثي بعنوان (المشهد الأخير لوداع المهاجرة) وهو النص الحائز على المركز الثالث في مسابقة الهيئة العربية للمسرح/نصوص الكبار. تَعَرّض هذا النص لحادثة تاريخية دينية، بطلاها هاجر وزوجها إبراهيم النبي، بالعرض والطرح والمناقشة كما هي، حادثة يعرفها الكثير، تواجدت بقوة في الميثولوجيا العربية والعالمية ودياناتها المختلفة .. حيث قَدِمَ إبراهيم بزوجته الثانية هاجر بصحبة ابنهما الرضيع من فلسطين الى الحجاز وتركهما هناك لمواجهة مصيرهما بحجة أوامر إلهية أقنعتها كأنثى ساذجة وأقنعت عديد المتعبدين بمثل هذه الروايات. طرح النص هذه الحكاية التاريخية الدينية كما هي مع بث حقيقي لاعتراضات واضحة لهاجر، التي سماها الحارثي بـ (الممثلة) في مقابل تسمية ابراهيم بـ (الممثل)، بانت وتوضحت تلك الاعتراضات من خلال الحوار والمساجلة بين هاجر وزوجها وهي تستشكل عليه هذا القدوم المخزي بقولها ((من الذي يستطيع أن يترك طفلا وامرأة في هذا المكان الذي تقف على أبوابه شياطين الوحشة و الخوف)) .. واستطاع الحارثي بهذه التسمية أي الممثل والممثلة أن يأخذنا بعيدا عن أصل الحكاية ليقول لنا: أنها حكاية مر بها أكثرنا وليست واقعة اختص بها إبراهيم وهاجر، بل هي حكاية كل زمن، ولابد لكل زمن من إبراهيم جديد و هاجر جديدة.. إبراهيمٌ لا يجد غضاضة في رمي زوجته في مهب الريح، وهاجرٌ صابرة محتسبة قد أدمنت الاستسلام للآخر .
ومن طرف خفي أشار الكاتب لحقيقة رائدها عبارة (إياك أعني واسمعي يا جارة) وكأن الحارثي يريد القول : هذا نبي يحظى بقبول الجميع وهو لا يجد حرجا في ترك امرأة ورضيعها في أرض موحشة لم تطأها قدم، فكيف برجال معاصرين مثلكم لا يملكون من الحصانة ما يؤهلهم ليكونوا حضاريين؟ لذلك تميز فعلكم بالتناسل وتحري الموروث الإستعلائي فكنتم نسخا متعددة بهوية واحدة رغم ان أكثركم يحملون لافتات بألوان براقة وحروف فسيفسائية يجوبون بها الأمصار تناهض العنف والاستلاب النسائي لشخصياتهن.
حقيقةٌ اجتماعية أراد الحارثي توكيدها في هذا الزمن ملخصها: أن المرأة مجرد دمية لدى السلطة الذكورية وهذا ما كان موجودا في الثقافة التلمودية التي سارت على منوالها الديانات الأخرى في جزئية حقيقة مكانة المرأة لدى مجتمعها، ومنها ذلك التوجه السلبي المطرز بالغرور، فكانت هذه الحقيقة الاجتماعية تدعو الرجل ليقول في صلاته اليومية: الحمد لك يا رب أنك لم تخلقني امرأة، فتردِّد المرأة وراءه في صلاتها خانعة: الحمد لك يا رب أنك خلقتني بحسب مشيئتك!..
المرأة في نظرهم لا تصلح إلا للحب والشهوات رغم كفاحها وملازمتها للرجل في إثبات الذات ومسؤوليتها الكبيرة في البناء الأسري. حتى ان البعض يربط حسن سلوك الإنسان من عدمه بأمه، فيصف سلبيته وإيجابية من خلال القول (رحم الله/لعن الله حليب امك)، وهو قول دفع الكون بأجمعه على أن يُحَمِّلَها هذه المسؤولية العظيمة، وفي نفس الوقت يحجب عنها شمس القيمة الانسانية الحقيقية التي تستحقها كلبنة أساسية في البناء.. ومن هذا المنطلق تعامل الممثل وبفوقية ازدرائية مع زوجته الممثلة وابنه الرضيع، والدليل على هذا التعامل الفوقي للممثل وحسب التحليل النفسي لطبيعة الشخصيات نجده في طيات هذا الحوار:
الممثل : كيف تريدين مني أن أكون كما تريدين و أنت..
الممثلة : دخيلة؟؟؟؟؟؟؟!!!!! , قل بأني دخيلة جئت بيتك حتى أنجب لك ذكرا ..
فضلا عن هذا الحوار ادعاء الممثل أن القوى الغيبية الإلهية هي من أمره بالقدوم ماثلا بالممثلة وابنهما وزرعهما في أرض لا خضرة فيها، ولا ماء.. وهذا استهتار بالبعد الفيزيقي للمرأة وطبيعتها التكوينية وتعريضها لهذه المعضلات التي تفوق طاقاتها بحجة صناعتها تدويريا وإنتاج امرأة أخرى عظيمة الشأن تحت يافطة الاختبار و الابتلاء، فضلا عن قدرة عجيبة على المواربة وتزييف الحقائق تمتع بها الممثل قفزت فوق الحقائق بإكروباتيكية عجيبة. ونزولا عند التحليل الرجعي للأحداث، والقدرة الفوقية لزوجته الأخرى التي بقيت هناك في المدينة الآهلة بالحياة والنعيم والمسؤولة عن كل ما ترتب في هذه الظروف، فبعد يأسها من الإنجاب يتأكد لنا بأنها هي من ألزم الممثل بالزواج من جارية مهيضة الجناح تكون كالدمية بينهما لتنجب لهما طفلا، وهي من أشار عليه بنفيها حيث الوحشة بعد شعورها بتهديد الكائن الجديد لطبيعة وجودها كسيدة للمنزل.. نعم هي من ارادها دمية يلهوان بها ساعة ويركلانها امتعاضا ساعة أخرى..
من الثوابت العقلية والنقلية في الحكاية الأصلية و نتيجة للمسخ الكلي للمرأة في طيات الرجل وفي ثنايا جبته- كان واضحا أنَّ هاجر لم تعترض، ولم تحاور أو تناور بل استقبلت الأمر برحابة صدر، لكن ومن باب درامي إشكالوي مسرحي أخرج الحارثي لنا صوتها المبحوح على لسان الممثلة، الصوت المعترض الجدلي، صوت الإنسانية، صوت كل القوى المغيبة، وذلك حينما بدأ بعرض المشكلة والعقدة وأسبغ علينا المناقشة بالرأي والرأي الآخر الذي نشّط جوانب الحكاية ليتحول الخبر المرسل إلى بناء دراماتيكي متقن، ورصين، توهج بشكل تفصيلات وهواجس وسرد ارتكزت بقوة على حجج الممثلة التي أتت دامغة تحكي لسان حال الكثيرات من بنات جنسها، ومنها هذا الحوار:
الممثل : بيننا الرب , يراكم و يضعكم نصب عينيه
الممثلة : ( بحزن و بصوت يقطعه لحن البكاء ) يا دليلي في هذه الأرض , رحماك و أنت تراني هنا أطوف في ذاتي , أدور كما تدور الرياح التي تُسكن غضب النار , أتلاشى كما تفعل النار التي تحتضن الماء، رحماك و أنت تراني من البعيد ..
هنا أعطى الحارثي إشارة المشاهدَة لهذه القوة العظيمة لحال الممثلة وابنها مع تحديد مكانها بالبعد الذي أتى فوقيا، لكنها لا ترى ساكنا يتحرك ولا متحركا يواصل حركته، فقالت شبه ساخرة (رحماك وأنت تراني من البعيد) بنفس استفزازي وكأنها تحكم على دعائها بالهامشية واللاجدوى، فهي تطلب الرحمة من بعيد يرى، لكنه يتلذذ بهذا الحال في تعكير حياة امرأة وابنها الرضيع تحت شعار الأوامر الإلهية
الممثل : الشيطان يتنفس عجزك , و يمرر لك رسائله لتفشلي
الممثلة : الرب يحميك أنت، أما أنا فلست ضمن الأمور التي تكفل بحمايتها، أنا فقط مجرد سامعة طائعة، لو حاولت أن أعترض فأنت ستكون لي بالمرصاد، تقف في وجهي ..
وهنا استطاع الحارثي، و بطريقة الوخز العلاجي، أن يمرر لنا أفكاره وأفكار المتحررين من ربقة الفكر الديني المتشنج الذي جعل الرجل سيفا يرهب فوق رقاب النساء حتى أصبح خضوع، وخنوع المرأة أمام الرجل تعبدا. لذلك نَخْلُص بالقول: وفقا للقسرية البغيضة التي تعامل بها الممثل، ومن خلفه القوى الفوقية الغيبية، مع الممثلة، يتفجر تساؤل بقصدية معرفية و بحدس صوفي من أعماق الممثلة ..
((لماذا لم يبقى الممثل مع ابنه ويتكفل برعايته ويعفو الممثلة من هذه المسؤولية الكبيرة او على الأقل يتواجد معهم في نفس المركب لمواجهة أمواج البحر الهائجة؟))؛ لكن الجواب يأتي تحت عنوان الالتزام بالأوامر دون نقاش. ونتيجة لهذه الأوامر العليا و وجوب احترامها و تنفيذها حرفيا، تتولد الحسرة والحسد لدى الممثلة و بزوغ جزئية حسد القضيب التي ابتليت بها العديد من النساء في أن الرجل هو المفضل لدى القوى الغيبية، ومن جميع النواحي، وما يميزه عنها، خصوصا، وفي كثير من الأحيان هو ذلك الشيء الماكث في منتصفه، وكما وصف فرويد الحالة بـ (حسد القضيب) لتعيش الأنثى في جحيم مستعر من الظنون، وخواء بنات جنسها نتيجة لهذه القسمة الضيزى، وتمنيات واهية بامتلاك هذا الشيء بطرق مختلفة تعكس في النهاية مدى تأثير هذا الواقع على نون النسوة في قمع امكانياتهن العقلية والبدنية من خلال الموروث الديني والاجتماعي البغيض والذي حاول الكثير من المتحررين، ومنهم الحارثي، أن يبددوا الظلمة عن الحقيقة، وإنصاف المرأة .. كما أن الحارثي مرر إلينا حقيقة معتد بها وبطريقته السيميائية في توهج المعنى من خلال العلامات الحثية، تمثلت باعتراض وجودي مفاده (لِمَالمرأة هي من يجب أن تختبر و تجرب و تعاقب بالإزدراء في حال فشلها في التجربة؟ ولِمَ كتب عليها أن تنسى كلمة (لا)، بل يجب أن تكون لاؤها نعم في كل الأحوال لإرضاء الكيان الذكوري العابث؟)
الممثلة : كل هذه الوحشة ستجعل مني أنثى مختلفة؟
فعلا نجح الكاتب في تضمين هذه الاعتراضات ليقدم لنا وثيقة مهمة تطالب بالحرية، الحرية التي ذُبحت على محراب التدين و الحفاظ على التقاليد.
تموضعت بعض الثيمات الدلالية في النص منتصبة بقوة كطقوس و فعاليات لشعيرة الحج المتعارف عليها كشعيرة طقسية إسلامية والتي أتت تاريخيا من مخرجات ناتجة عن الحادثة نفسها والتي أكدها الكاتب بإمعان واضح لاجتلاب فكري في توثيق هذه الفعاليات الدينية و تواجدها حقيقة في زمن أصل الحكاية. وهي، وإن بدت زحزحة للشمولية وللعمومية الواجب إتيانها في مثل هذا النص المتمرد باتخاذها من الموروث نقطة انطلاق لا نقطة نقاش وختام، أتت بجمالية حوارية قريبة من الشعر نشّطت المعنى بشكل ونسق دلالي ممتع، حيث استطاع الكاتب تعديل رؤيته كفرد، خالقا متغيرات وسط تلك الثوابت الموروثة و بمجرد ذكرها في النص، فهو يؤكد سخريته منها لينتقل المفهوم لديه من كونه رؤية ذاتية وإطلاق اصطلاحي إلى معالجة كونية، مع تعدد التبنيات السيميولوجية، والانتقال من مجرد موقف خاص إلى تصور معرفي مشترك. هنا تتأكد القراءة السيميولوجية للموروث، التي تبناها الحارثي بتقصي الإشارات وتحليلها لينتج نصا متسقا مع المتعة و الجمال و اكتشاف الحقائق مع انقلاب على الموروث في المضامين بتمرد موضوعي هويته الوعي وإن بدا للبعض مروقا فكريا... كما أن هذا التحول المفاهيمي لدى الحارثي أكد سيرورة فلسفية راجحة عنده مفادها هاجس الانتقاء الموضوعي بإثارة إشكاليات وإن خرجت عن النسق المعرفي لأصل الموروث، لكنها تعضد الواقعة بما يدعمها فكريا؛ كما يظهر جليا في التالي...
الممثلة : ترمي بالحجارة حولك , سبعة أحجار انطلقت من يدك، ألم يجيء في عقلك ولو خطأ بأن تأخذ حجرا و تهديه لرأسي (تصرخ) أرغب في الخلاص.
وهي إشارة لأحدى فعاليات الحج برمي الحاج لجمراته السبع باتجاه الشيطان، لكن الممثلة المحت إلى أن هذه الطقوس لا تغني من الأجر شيئا كونك قد اخطأت بحقنا قولا وفعلا فأتت حجاراتك السبع في رأسي وأنت ترميني هذه الرمية المريرة.
انفصل النص في خطابه الجدلي عن محاكاة الموروث متحولا إلى خطاب الفعل والحركة، وجدلية الوجود الأنثوي القلق وسط الهشيم الذكوري والرجعية المستدامة بكل ألوان الظلم.. هذا الانفصال أتى من خلال هذه القدرة الواعية لدى الممثلة التي أوهنت دفاعات الممثل فكانت ندا قويا له.. وهي من ساعد النص على السير بمساق دلالي متنوع لتتأكد قيمته كنص مهم فيما أحدثته توهجاته السيميائية من أثر في إنضاج الحدث وتشكيل ملامحه الدرامية لغاية فكرية عبر تطوير التجربة الحية الملفوظة سلفا ليدفع كل ذلك في إتجاه تطوير تجربته ككاتب يجيد التحدث بلغة المعالجة الحية باقتناص اللمحة بمفهوم التجديد والمعاصرة ليثبت صحة فرضياته التفسيرية من خلال تسليط الضوء على الزوايا المبهمة في شخصية الممثل والممثلة.
ومن هذه الإلتقاطات التي نفذ بها الحارثي إلى المقدس بانسيابية مميزة لمناقشة جواز قدسيته من عدمها، هو الوقوف عند عتبة الإعجاز، و الكرامات، و القدرة السوبرمانية، وحصرها في شخصيات معينة دون غيرها، حيث استثمر الماء الشحيح الموجود في القربة التي أتى بها الممثل معه ليتركها للممثلة وابنها بعد مغادرته، مما دعا الممثلة لأن تثأر لكرامتها، التي أهدرها الممثل بتصويرها ساذجة حد الغباء بأن لا تقلق من وجع سياط الوحشة وشحة المياه التي في حوزتها.. لذا ردت علية بإثارة مشكلة نصية بقيم دراماتيكية أججت حدة الصراع فأنتجت محنة أخرى شديدة الوطء، وظلا ثقيلا على الممثل وهو يتقلقل بين فكي كماشة زمانية تراثية وزمانية معاصرة أتت بنسق الضرورة والاحتمال.
الممثلة : قربة الماء الصغيرة باتت شحيحة , لم تغمرها الكرامات التي قلت لي عنها ..
وفقا للتراجيديا النموذجية، نرى وعلى الدوام الكاتب إبراهيم الحارثي يقفز عاليا في صناعة توليفة رائدها الخيال بين زمن تراثي وزمن عصري أكدتهما إرادتان: الإرادة الاولى للممثل ببعده التراثي، وهي ما ترتب عن المقدس؛ والإرادة الثانية للممثلة ببعدها العصري، وهي ما ترتب عن وعي الكاتب وإحساسه بمظلومية المرأة.
الممثلة : ماذا سأقول له حينما يسألني عنك !!
ولمنع التوتر الناتج من الصراعات النفسية الداخلية للممثل تراه يلجأ الى ميكانزمات الدفاع النفسي او الحيل العقلية (النكوص / الابدال / التبرير) من خلال أنماط سلوكية حاولت أناته استخدامها للدفاع عن مرجعياته الفكرية في سبيل إعادة التوازن لشخصيته التي اختل توازنها أمام سيل حجج الممثلة؛ لذلك واجهها بالكذب الجامع للـ (النكوص / الابدال / التبرير) محاولا إقناعها نتيجة لمناعة طبيعية في نفسه بمواجهة الكثير من هكذا مشاكل قبلا وقد خرج منها بنجاح متخذا إزاء ذلك السلوك المناسب للخروج من قضبان الأزمة.
الممثل : قولي له سيعود، اجعلي لسؤاله اليابس جوابا يبلله
الممثلة : لا أعرف هل يمكن أن يستوعب عقله حجم المسافة بيننا خصوصا حين أقول له : تركنا هنا، و سيعود مجددا، لا تقلق يا صغيري !!
هنا ردت الممثلة بصرخة مدوية إتجاه الممثل وفقا للحوار السابق لها وكأنها تقول (وهل تريد ان تجرني لتعلم مواهبك في المواربة والتدليس حينما أقول له تركنا هنا، وسيعود مجددا، لا تقلق يا صغيري).
الممثل : لن يسأل سؤالا شائكا، هو يعلم بأنني سأعود لاحقا
الممثلة : أسئلة الأطفال مصائد للكبار
لتُنهي هذه الجزئية من الصراع بقولها وهي تصف كل ما جرى منذ أن حطت رحالهم عند هذه الوحشة (خدعتنا بحلمك يا سيدي). وللعلم، كثيرا ما نراها تردد كلمة سيدي للممثل، وهو ما يؤكد الصراع النفسي الذي تعانيه الممثلة في سقوطها في براثن الازدواجية بين القبول، والرفض، وهي مساحة توقع للكاتب وفق مبدأ الضرورة والاحتمال أوجدها لعلمه بطبيعة المرأة الفيزيقية السايكلوجية.
في رغبة بدت باردة، وتأكدت من سياق الحدث ونتائجه من قبل الممثل، في طلبه لتوديع طفله، والذي حدا بالممثلة لمواجهته بتشكيك ساخن يدين كل رجل يحاول تلميع دوره في الحياة من خلال الكذب والتدليس.. لذلك أجابته بصفعة تحسَسْتُ أثرها على خدي أنا، والكثير من جنسنا الذكوري:
الممثلة : ودِّعْه دون أن تخبره بكذبة أخرى، ليس الوقت صالحا لخديعة أخرى
الممثلة : أنتم الرجال قادرون على الكذب
المُعَوِّل الأساسي على اشتداد الأزمة ونضوجها هو تشظي الشخصيات بتمظهراتها المتحولة في انتاج خط درامي آخر يقود لانفراج تلك الأزمة أو استمرارها بعمق أكبر يتيح للمتفرج صياغات فكرية من صنعه. ومن بين هذه التشظيات الشخصية، وبعد خسارة الممثل لكثير من دفوعاته في مواجهة الممثلة التي ولَّدَتْ وألحقت به الكثير من الآثار السلبية المروعة و الكوارث الروحية المؤلمة، تحول بعد اليقين بما سيؤول إليه حال الممثلة وابنها في البداية، إلى شاكّ يخاف الخذلان بعد ذلك، لذا ألَحَّ بالدعاء في محاولة منه للخروج بأقل الخسائر الممكنة... كان في البداية مصرا على عقوبتها والامتثال لأوامر بشرية عليا، ثم تحول إلى الدعاء من أجل تبديد حيرته والنكوص عما أتى به من ظلم لها. ثم التحنن لهما، ثم المكوث معهما، وهنا المفارقة والتحول الكبير الواجب تواجدهما بما ينافي السيرة؛ لكن الحارثي استمر حتى النهاية بإتيان السيرة كما هي بترتيبها المعروف حيث جعل الممثل يكتفي بالدعاء وعودته أدراجه حيث القوى القمعية في فلسطين.. وفي رأيي أن الحارثي فضّل الشق الثاني من الحل كي يمعن في الإدانة للرجل وهي الحقيقة الغائية التي خلق من أجلها النص رغم أن نداء الجهد الدرامي يدعونا الى تحوير الحل والخاتمة في سبيل ارساء قواعد البصمة الادبية .. وهنا دعونا نرى التحول الذي لازم الممثل في لحظة الشعور بفقدان كل شيء ومحاولته لتلميع الذات أو على الأقل الهروب من إدانة الممثلة المستمرة:
الممثل : أقسم بك عليك أن ترحمها، و أن تغفر لها سخطها، فأنا الذي أوصلتها إلى هنا
الممثل : يا رب أرجوك ارسل لي صوت ملائكتك
الممثل : رب اجعل هذا بلدا آمنا
في المقابل ما زالت الممثلة ترزح تحت تأثير الممثل رغم انجلاء الغمة وكشف الحقيقة معتقدة حتى آخر لحظة بعد أن غادرها الممثل من غير وداع ولم يستجب لندائها الإنساني معتقدة بأنه سيتراجع عن قراره وسيمكث معهم، وهي نقطة سلبية لاحت شخصية الممثلة بسبب هذا القلق المحبط الذي جعلها تعيش هذه الازدواجية التي هي من سمات المرأة عموما وفقا للتجربة العامة.
الممثلة : انتظرني فقط، أبحث عن والدك، ربما اتجه ليجلب لنا ماء نستطيع أن نشرب منه ..
الممثلة : لا تبك، قلت لك لا تبك، سيعود والدك سريعا، لن يتركك دون ماء ، لا يعقل أن يتركنا دون ماء
المفارقة في الختام أرادها الحارثي دينية بحتة. حيث أن الممثلة طيلة زمن السرد كانت تتوسل من الممثل إسعافها وهي تحايله للبقاء معها، فضلا عن عديد إشاراتها بشِحّة الماء، لكن دون جدوى، حيث لم تجد أذنا صاغية بالتراجع عما أضمره وأراده و لكن، ومع دعائها ورجائها لله، لاحت تباشير الفرح بإنقاذها فأتت النجدة وانبجس الماء من جوف الصخر؛ كل ذلك لدفع المتلقي إلى الإعتقاد بجدوى الإله و أن لا مشيئة إلا مشيئته:
الممثلة : يا رب السموات ، يا من يسمع دعائي، أقسمت بك عليك أن ترحمني و ترحم طفلي , يا رب .. يا رب ضائعة أنا، ضائعة فدلني لأقرب باب أستطيع الدخول منه إلى الحياة، يا رب أعني أن أحمي نفسي و طفلي ، يا رب و ابعد ما يؤذينا و آتنا من لدنك رحمة.
عند هذه الإنعطافة الدرامية لم يخرج الكاتب عن مسار الحكاية التاريخية فإبراهيم النبي والممثل كلاهما تركا بضعة منهما عند تخوم هذه الوحشة، و الإنقاذ والنجدة أتيا من رب رحيم وبقدرة غيبية .. كما إن الكاتب لم يدع أو يترك للممثلة خيار الاعتراض في الختام على كل ما جرى لها لتكون بصمة للعنصر النسوي في توثيق الحقائق في الرفض لواقعها المزري، كما في مسرحية بيت الدمية لهنريك آبسن التي وافقت ظروفها بمقاربة نسبية مع ظروف الممثلة والتي أنهت حكايتها بصفق الباب كجملة سيميائية تلميحية بدلالات واعية وإعلان رفضها لهذا الواقع حتى تردد صدى هذه الصفقة في أرجاء أوربا. وفي رأيي ووفقا للقول المأثور (الأعمال بخواتيمها) وهي ما يتمثل في وعي الأنسان والمتلقي ويحارب من اجل المكوث ثابتا في جماليات الذاكرة.. لذلك يجب الاهتمام بجدية بأن تكون الخاتمة غير تقليدية ومغايرة شكلا ومعنى.
في النهاية أجد وبكل ثقة أن الكاتب إبراهيم الحارثي قيمة جمالية كبيرة وهو يقدم لنا ابداعاته الممتعة بنصوص تتحدث عن صاحبها من خلال الألفة التي تجمع القارئ، وأنا أحدهم، مع كافة فرضياته المسرحية والتي تجلت كثيرا طيلة معرفتنا به. كما أنه وبصناعة محترمة وباستحقاق متميز نحت اسمه وسط القامات الفارعة في الوطن العربي تأليفا وإبداعا وأصبح رقما صعبا يزين بيبلوغرافيا الأدب الرصين.
0 التعليقات:
إرسال تعليق