أختيار لغة الموقع

أخبار مسرحية

آخر المنشورات في صور

الثلاثاء، 19 نوفمبر 2019

المفكر الحداثي وطيف الكلمات والأشياء "لا نظام الخطاب" عرض مسرحي يستعيد واحدة من محاضرات المفكر الفرنسي ميشيل فوكو

مجلة الفنون المسرحية  
l



عمارالمأمون - العرب

باريس - بدأت المخرجة والباحثة الفرنسيّة فاني دوكاية نشاطها المسرحي منذ منتصف التسعينات، إذ عملت ككاتبة ودراماتورج ومخرجة لعدد من المسرحيات التي تسائل فيها معنى حضورنا في هذا العالم، وما هي المتغيرات والخطابات التي تجعل الواحد منا “فردا” لتأتي العروض التي تقدمها مزيجا من المسرح وفن الأداء والمحاضرات، ووسيلة لانتقاد أشكال الأداء العلنيّ، ودورها في نقل المعرفة الجديّة أو اللاجديّة.

تستضيف جامعة باريس الثامنة في باريس، ضمن فعاليات مهرجان الخريف، عرض “لا نظام الخطاب” من تأليف فاني دوكاية وأداء الممثل والكاتب غيوم بايرات، وفيه نستعيد أطياف ميشيل فوكو  ومحاضرته “نظام الخطاب”، التي ألقاها عام 1970 في الكوليج دو فرانس، في محاولة للتعليق عليها وفهم “خطاب الخطاب” وآليات إنتاجه، بصورة يتداخل فيها الأداء الجدّي مع العمق الفكري والكوميديا لكشف عيوب الحقيقة والمؤسسات التي تنتجها وتشرعنها.

اختارت دوكاية مدرج الجامعة لتقدم العرض، لاستعادة أسلوب المحاضرة التي ألقاها فوكو، والتي يؤدّي فيها من “ينطق” الخطاب خارج نظام “العلبة السوداء” التي تتمثل بخشبة المسرح، والتي يكون المشاهد فيها متلصصا، في حين أنه في المحاضرة ينصت ويستمع ويشاهد الآخرين، وبل تُفتح أمامه فرصة للتعليق والسؤال، خصوصا أن نص فوكو نفسه يسائل مفهوم الأكاديميّة و”الحقيقة” التي توزعها وتسهم بانتشارها وترسخها.

ندخل المدرج لنرى بايرات جالسا بين الجمهور، يرتدي القميص الصوفي ذا القبة العالية الذي اشتهر به فوكو، والذي تحول إلى جزء من “زيّه” الرسمي، ومع امتلاء القاعة يضرب بايرات بيده على الطاولة أمامه، معلنا البداية، وأزمة بداية “الكلام” لينتقل إلى مساحة العرض، مسائلا مفهوم البداية بوصفها رغبة واندفاعا يفرضه طقس تلقي الخطاب، الذي أساسه جمهور ومتحدث ومساحة بينهما يحمل فيها الصوت المعرفة المقنّنة والمتوارثة.

لحظة إنتاج الخطاب
يتبنى العرض صيغة فوكو في محاضراته التي لم يكن يعلن عن عناوينها، بل يترك الأمر للحظة المحاضرة، ليكشف فيها أن الخطاب يظهر في لحظة تكوينه، هو أدائي يأخذ شكله ويُنتج أثناء طقس النُطق به، ليطرح بعدها بايرات الفرضية التي أطلقها فوكو حينها، وهي أن المجتمع الغربيّ قائم على أساس مؤسسات تقنن الخطاب، وتختار منه وتنظم إنتاجه، فما يُكتب يوجد كي يُنطق، هنا يأتي العرض ليعيد أمامنا تردد فوكو نفسه حول مفهوم “البداية بالكلام”، وخوفه من تحول كلامه نفسه إلى “خطاب” يحوي عنفا وقدرة على الاستثناء.

يتتبع العرض فرضيات فوكو ويقدم معادلا أدائيا لها للإشارة إلى “الخطاب” نفسه وأسلوب إنتاجه، إذ يتحرك بايرات على الخشبة بإشارات مبالغ بها، هو لا يقلد فوكو، بل يأخذ شكل المحاضر، القادر على “لفظ” شيء ما ضمن طقس تلقٍّ مضبوط، ليشير بداية إلى أساليب تقنين الخطاب، وسياسات المنع التي تمارس من قبل المؤسسات، والتي نلاحظها بعدم اقترابه من الطاولة وقراءة ما هو مكتوب عليها، لينتقل بعدها إلى ثنائية الجنون والعقل، بوصف الجنون خطابا منفيا، لكنه قد يحوي حكمة وبصيرة قادرة على اختراق كل “الواعين” ومؤسساتهم، نوع من القناع الذي يخفي الحقيقة، وهذا ما نراه حين يؤدي دور ممثل مقنّع باستخدام يديه، هذه العوامل ترتبط بمؤسسات خارج مضمون الخطاب، كالجامعة والمستشفى والقضاء، فهي التي تضع الحدود على ما يجب أن يقال وكيف يقال وأين يقال.

ضوابط الخطاب الداخلية
المجتمع الغربيّ قائم على أساس مؤسسات تقنن الخطاب، وتختار منه وتنظم إنتاجه، فما يُكتب يوجد كي يُنطق
المجتمع الغربيّ قائم على أساس مؤسسات تقنن الخطاب، وتختار منه وتنظم إنتاجه، فما يُكتب يوجد كي يُنطق
ينتقل بعدها العرض إلى المحددات الداخليّة التي ترتبط بالطقس، أو “كيف نقول ما نقول”، وهنا نرى بايرات يقف على الطاولة، أو يغني الراب، أو يقفز أمامنا، ليرسم ملامح طقسية للمكان، لينتقل بعدها إلى “المنهج” بوصفه التقليد العلمي المنطقي المتوارث الذي لا يمكن التحرك خارجه، والذي نراه في النصوص المؤسّسة للعقل سواء كانت فلسفية أو علميّة، فكلها تحوي أدوات تشرعن ما يقال وتتيح له التحرك ضمنها، والتي نراها في كتاب فوكو نفسه الموجود على الطاولة والأوراق الملصقة عليها التي لا يمكن زحزحتها ولا تحريكها، هي المولد المكتوب للشرعية والتي يتحرك الصوت حولها كـ”تعليق”، يحاورها ويسائلها لكن لا ينفيها، وهنا نراه يضرب على الطاولة وعلى صدره في إيقاعين مختلفين، ليشير لنا إلى الاختلاف بين المكتوب وبين الملفوظ، بين ما نردده في مكان محدد وبين النصوص التي تتيح ظهور ما نقول.

من المؤلف؟
التقنية الأهم في ضبط “الخطاب” هي المؤلف، من يكتب ماذا، ومتى، وماهي الخبرات التي شهدها وكيف يمكن لنا “قتله” خصوصا أنه يوقع باسمه على ما يكتب، ما يكسب “النص” شرعيّة تأتي من مكانة كاتبه، وهنا يتنكر بايرات بشكل فوكو، يضع “صلعة” و”نظارة” محاكيا فوكو وأسلوب كلامه ولفظه للأحرف، ليؤدّي لنا  دور “صاحب” الخطاب، مشيرا إلى كون المؤلف جزءا من المؤسسة نفسها تلك التي تنتج ما يقال وتشرعنه، وأحيانا يكون وجوده مصادفة، وهنا إشارة إلى حتمية ما يرتبط بتقنيات الخطاب، فما يقوله فوكو مرتبط بسلسلة من الألعاب والمناهج التي قبل بها ليكتسب شرعيّة ما يقول.

الرغبة بالحقيقة
التقنيات السابقة تشابه شبكة من العلاقات الخارجيّة والداخليّة، التي تستثني عبرها المؤسسة الخاطئ، والمجنون، واللاصحيح، وتجعل الخطاب بمنتصفها كعمران ثابت ترتبط بـ”الرغبة بالحقيقة” أو هوس مرضي بالمنطق الذي يحكم الحضارة الغربيّة،أشبه برغبة فيتيشية لاستثناء كل ما لا يتبع التقليد المنطقيّ، والحفاظ على بنيان يسمّى “الحقيقة” التي تختفي وراءها “الرغبة بالحقيقة” التي يشير إليها بايرات وهو يقف على الكرسي فوق كل شيء، هذه الرغبة بنفي كل ما هو مائع، مُتهور، لا عقلاني، مشكوك به، والذي يتمثل بالجنون، الذي لا خطاب له يضبطه، بل همسات ووشوشات، تمارس العقلانيّة عليها تقنيات النفي والاستثناء لضمان استمرار سلطتها.

نفي السلطة

تخدم الأدوات السابقة السلطة والنظام القائم، الذي ينفي كل ما يهدده بوصفه خطرا على التقليد العقلانيّ الذي ينهار المؤدي أمامه، فكل محاولاته لخلق خطاب عن الخطاب هشة لأن تقليد الحقيقة ونقلها يوظف الأدوات السابقة لينفي أي أسلوب آخر، ويجعله ساخرا أو تافها، ما يعني أن تغييرا بسيطا في شرط “الخطاب” يجعل ما يقال بلا معنى بسبب سياسات النفي التاريخيّة.

  يتركنا العرض نهاية أمام ثلاث تقنيات لتفكيك السلطة السابقة، وهي نفي سيادة المعنى، كونها تستثني “غير المفهوم” أو ما تعجز عن تفسيره، واعتبار الخطاب كحدث، أي ذو تأثير إيحائي يمكن نفيه ومساءلته والتشكيك به، ونهاية، مساءلة الرغبة بالحقيقة، إذ لماذا نرغب بالوضوح والتوازن والصلابة ومركزية المعرفة، خصوصا أن “الحقيقة” نفسها أثبتت فشلها فهي تحوي دوما أخطاء ومفارقات.

تشير دوكاية إلى أن هناك فانتازم من نوع ما يحيط بمحاضرات فوكو إذ لم تكن مسجلة، وكل من حضرها يمتلك ذكرى مختلفة عنها، لتبدو أقرب إلى حدث أو “فن أداء” لا يمكن رؤيته أو اختباره كليا إلا بحضوره، ليأتي أداء بايرات أشبه بأسلوب ومحاولة لاسترجاع تسلسل أفكار فوكو وأسلوب طرحه لها، والتركيز على مرحه وسعادته، للتأكيد على أن “الجديّة” لا تغير من “حقيقة” ما يقال أو معناه، بل تجعلنا أكثر شجاعة أثناء الحديث.

يستند العرض على كلمات فوكو وشخصيته، دون أخذ مسافة نقدية منها، هو يطرح أفكاره وعباراته الأخاذة، ويوظف الهالة المحيطة بها، ما يكسب العرض شاعرية وغموضا من نوع ما، خصوصا أن الموضوع شديد المفاهيميّة، ويأسر المستمع، لنرى أنفسنا أمام خطاب قوة آخر، يرتبط بالمؤلف نفسه، ونصه الذي يعتبر مؤسسا في الفكر الحديث.

الكثير من أفكار فوكو تعرضت للانتقاد، سواء على صعيد جهده كمؤرخ أو بسبب تغير الشرط التاريخي في الألفية الجديدة مع وسائل التواصل الاجتماعي وسيل الصور اللامتناهي الذي نواجهه يوميا، كما أصبحت تقنيات تقنين الخطاب والحقيقة التي ينتجها مهددة بل وضعيفة في عالم “ما بعد الحقيقة”، والتي تعجز ضمنه الدول ومؤسساتها عن “التحكم” بالمعرفة، إذ لا يمكن أن ننكر جهد فوكو في الإشارة إلى نظام إنتاج المعرفة وارتباطه بالقوة، لكن هذا “النظام” لم تعد أدوات صاحب “الكلمات الأشياء” كافية لفهمه أو تفكيكه، ليبدو العرض أقرب إلى نوستالجيا أو استعادة لزمن الستينات والسبعينات في فرنسا والأسماء الفكرية المرتبطة به.

0 التعليقات:

تعريب © 2015 مجلة الفنون المسرحية قوالبنا للبلوجرالخيارات الثنائيةICOption