عزلة المسرح في زمن كورونا (10) في هذا الرعب المدمر، نحن بحاجة إلى اليوم الثامن.. يوم التلاقي المسرحي – عبد الكريم برشيد
عزلة المسرح في زمن كورونا (10) في هذا الرعب المدمر، نحن بحاجة إلى اليوم الثامن.. يوم التلاقي المسرحي – عبد الكريم برشيد
المسرح فن جماعي، وطبيعة جسد الفرجة المسرحية لا يتحقق جوهرها الا بالجماعة وفي الجماعة.. سواء على مستوى التشكل الابداعي من خلال التداريب والتحضير أو على مستوى التلقي والتفاعل الجماهيري الحي.
فماذا عن “عزلة المسرح في زمن كورونا”؟ وهل ما عرفته المنصات الوسائطية الالكترونية من مبادرات واسهامات “مسرحية الكترونية” قدم لهذا الفن الجماعي الحي والعابر، ما كسر شيئا من عزلته وانكماش فعله وفاعليته وتفاعله؟ هل تلبى رغبة الفرجة الحية بكبسولات فيديو ؟ وما تأثير الافكار المبتكرة الكترونيا على الفرجة المسرحية؟ المسرح وعاء ابداعي يحتضن الفنون جميعها.. فما تاثيرها على قواعده الثابتة والمتغيرة ؟ وما الفواصل بين التأثير الحقيقي والتاثير المزيف الزائل؟
ملف تشارك فيه مجموعة من الأسماء المسرحية العربية لإبداء الراي ومناقشة حاضر المسرح في الزمن المرتبط باكراهات الظروف المعطاة التي فرضتها الجائحة على الجميع… وما طبيعة النشاط المسرحي الإلكتروني الذي عرفه الظرف “الكروني”…
إعداد: عبد الجبار خمران |
في هذا الرعب المدمر، نحن بحاجة إلى اليوم الثامن.. يوم التلاقي المسرحي
عبد الكريم برشيد
يوم المسرح هو اليوم الثامن في الأسبوع…
في البداية، فإن أول شيء يمكن أن أشير إليه، هو أن هذا الزمن الذي نعيشه اليوم هو زمن شاذ واستثناني، وهو واقعي نعم، ولكن واقعيته مرعبة وغير حقيقية، وغير إنسانية، وليس من المنطقي أن نبني اليوم تصورا جديدا، وأن نؤسس فنونا أخرى، وذلك بناء فقط، على حالات شاذة واستثنائية وعابرة، وهل يصح صياغة قوانين قارة وحقيقية، انطلاقا فقط من حالات مرضية ظرفية عابرة؟
وأعتقد أن كل ما نعيشه اليوم، ينبغي وضعه بين قوسين، فهو الواقع الذي ينبغي أن يرتفع، من أجل أن نعود إلى حياتنا الحقيقية، ونعود إلى فنوننا الحية، ونعود إلى علاقاتنا الإنسانية المصادرة، وقد يتعايش السجين ـ مؤقتا ـ مع سجنه، ولكن ذلك لا يمنعه من أن يفكر في الحرية، وأن يحلم بالحرية، وباليوم الذي يستعيد فيه حريته، وهكذا هو الإنسان اليوم، فرض عليه أن يدخل بيته، وفرض عليه أن يعوض عاداته الحقيقية بعادات ظرفية طارئة، ووجد نفسه، وهو الكائن الحالم والشاعر والاجتماعي، يعيش كابوسا مزعجا، فهل يؤمن بهذا الكابوس المزعج أم يكفر به؟ هل يرسمه، ويعطيه المشروعية، أم يواجهه ويقاومه ويحاربه، وذلك حتى يستعيد حقيقته المصادرة، وحتى يحرر حياته اليومية الممنوعة والمقموعة؟
إن كل هذا الرعب لا ينبغي أن يرعبنا، وكل هذا الذي يحدث اليوم لا يعني أبدا أن التاريخ قد انتهى، وأن المسرح قد انتهى، وأن الحدائق والساحات العمومية والفضاءات العامة لم يعد لها أي مبرر لوجودها، هي مرحلة استثنائية إذن، في انتظار أن نعود إلى الحياة، وأن تعود إلينا الحياة، كما كانت، أو أجمل وأبهى مما كانت، وإذا نحن تغيرنا، استجابة لهذا الخواء الذي يهددنا، وإذا نحن فرطنا في فكرنا وفي علمنا وفي فننا وفي أجمل ما لدينا، فمعنى ذلك أننا قد انهزمنا، وأننا لا لا نستحق إنسانيتنا، ولا نستحق هذه الحضارة التي بناها الإنسان عبر كل تاريخه الطويل، المعركة إذن هي معركة وجود، أي نكون أو لا نكون، وأن وجودا كما نريد، وكما تشاء الحقيقة، وليس كما يفرض علينا،
وما أقوله اليوم ليس وليد هذا اليوم، فأنا الكاتب المنظر الذي آمن دائما بالفرح، وآمن بالحق في الفرح، وآمن بالتلاقي الإنساني، وآمن بحيوية الحياة، وأمن بأن الأصل في هذا الإنسان أنه مقاوم وجودي، وهو يناضل دائما، ليس من أجل أن يحيا أية حياة، كيفما، كانت هذه الحياة، وأن يقنع بأية ثقافة، كيفما كانت هذه الثقافة، ولكن من أجل حياة صادقة وحقيقية، ومن أجل ثقافة تليق بالإنسان العاقل والمفكر والعاشق للحياة وللجمال والكمال، وفي كتاب ( عبد الكريم برشيد وخطاب البوح ـ حول المسرح الاحتفالي) أقول ما يلي ( ما ظهر واختفى لا يمكن أن يعول عليه، ووحدها الأشياء الحقيقية هي التي تظهر وتبقى، وهي التي تنمو داخليا، وهي التي تتعدد في الفضاء الزمكاني، وهي التي تتجدد مع تجدد الأيام والأعوام، أما ( التيارات) التي تظهر سهوا، أو خطأ، وتختفي في غفلة من الزمان، فإنه لا يمكن أن يكون لها أي معنى )
ولأننا جميعا نخاف على مستقبل المسرح، ونخاف على مستقبل كل فنون الأداء القائمة أساسا على الحضور وعلى التلاقي،، فإنه لابد أن أتساءل :
ــ هذا الذي نسميه المسرح ماذا يكون؟
ــ هل هو التعييد والتجديد والفرح والحرية والتحرر والانفلات والعربدة، أم إنه مجرد صور وخيالات يمكن أن نراها في البيت أو في السجن أو في أي مكان مغلق؟
ــ وهل يمكن استبدال هذا المسرح، بكل فنونه وعلومه وصناعاته وآدابه وأخلاقه، وتعويضه بما يشبهه، أو بما يمكن أن يقوم مقامه؟
ــ وهل هناك شيء يمكن أن يعوض المسرح؟
ــ فهل عوض الراديو المسرح؟
ــ وهل عوضت السينما، رغم سحرية الصورة فيها، المسرح؟
ــ وهل عوض التلفزيون، والذي قام على مبدأ تقريب صورة الحياة من الناس، هل عوض المسرح؟
ــ ومتى كانت صور الأشياء يمكن أن تغني عن وجودها بشكل حسي ومادي حقيقي؟
بالتأكيد، فإن المسرح هو ( شيء) أكبر وأخطر من أن يكون مجرد فرجة بصرية، عابرة وطائرة في الفراغ أو في المطلق، أو يكون مجرد صور متحركة، صور يمكن أن نرى مثلها في الأحلام وفي الأوهام وفي الحكايات وفي الخرافات وفي المسلسلات وفي الأفلام وفي الأساطير القديمة أو المعاصرة، أو في تلك الصور المبهرة الأخرى، والتي يمكن أن يكون لها اليوم وجود على الشاشات الضوئية، وبهذا فقد أمكن أن نقول ما يلي: ليس بالصور وحدها يحيا الإنسان، ولكنه يحيا بملامسة الواقع والوقائع، وبالمعاناة اليومية الحقيقية، ولو كان ممكنا أن يعيش الإنسان فقط في العالم الافتراضي، لاكتفى بأن يعيش في الأحلام وحدها، ولكان من حقه أن يتخلى عن هذا الواقع وعن وقائعه المادية والحسية، وهل هذا هو المطلوب؟
في المسرح لا نرى فقط، ولا نسمع فقط، ولكننا نحيا، والأخطر في هذا الفعل المسرح هو أن يرانا الآخرون أيضا، ونحن فيه لا نتفرج على الحياة عن بعد، ولكننا نحيا الحياة، ونعيش مع الأحياء، ونتذوق لذة الحياة، وبهذا فقد كان أهم شروط هذا المسرح هو اللقاء، وهو التلاقي، وهو الحضور، وهو التفاعل، وهو المشاركة، وهو الاقتسام، وهو المناخ المسرحي، وهو الطقس المسرحي، وهو العيد المسرحي، والذي هو اليوم الثامن في الأسبوع، والدخول إلى المسرح هو دخول يوم ليس هو يوم الإثنين ولا هو يوم الثلاثاء ولا هو يوم الأربعاء ولا هو يوم الخميس ولا هو يوم الجمعة ولا هو يوم السبت ولا يوم يوحد، وفي كلمة واحدة هو يوم التعييد المسرحي، ومن حقنا أن نعيش هذا اليوم الإضافي في روتين حياتنا اليومية، وأن تخرج من العادي ومن المعروف ومن المألوف، وأن ندرك شعرية الأيام المسرحية الجميلة، وأن نصل إلى درجتها العالية والسامية.
في هذا المسرح نضحك، ومن حقنا ذلك، وقد نحزن ونبكي أيضا، ولكن أهم شروط الضحك هو أن يكن فعلا جماعيا، وأن يكون في الفضاء العام، وكل من يضحك وحده، أمام حاسوبه، أو أمام هاتفه، أو أمام شاشة تلفزيونه، لابد أن يكون مشكوكا في صحته النفسية وفي سلامته العقلية، وإذا كانت كورونا تصيب الناس بعدوى المرض القاتل، فقد كان هذا المسرح يصيب الناس دائما بعدوى الضحك وبعدوى الفرح وبعدوى التصفيق وبعدوى الإعجاب الجماعي، لأن الأساس في المسرح أنه سحر، وسحره ليس كمثله شيء.
والمسرح هو المرآة التي بها وفيها نتعدد ونتمدد ونتجدد، ونكون أمامها وفيها وخلفها، وهو الخروج من الذات الفردية باتجاه الجماعة، وهو الخروج من البيت الشخصي إلى البيت الجماعي، والذي قد يشبه المعبد، وقد يشبه المسجد، وقد يشبه المقهى، وقد ساحة المدينة، وقد يشبه الحديقة العمومية، أي هو المكان المشترك، وهو الفضاء المشترك، وهو الزمن المشترك، وهو الحس المشترك، وهو السؤال المشترك، وهو القضية المشتركة، وهو الفرح المشترك، وهل يمكن أن تقيم عرسا مثلا، في غياب الناس، وانطلاقا فقط من استحضار وتركيب صورهم ؟
إن المسرح هو الخروج من القوقعة، وهو التحرر من سجن البيت، وهو الانفلات من الغربة ومن المنفى، وأخوف ما أخافه اليوم هو أن ننقلب على النزعة الإنسانية فينا، وأن نتخلى عن غريزتنا الاجتماعية، وأن نعود بالإنسان إلى زمن الكهوف والمغارات والخوف من العالم الخارجي، وأن نتحول إلى كائنات آلية تأكل الطعام وتتفرج على الشاشات.
إن المسرح هو الحياة، وهو التأريخ الحي لهذه الحياة، وهو التأريخ لحياة الإنسان فيها وبها، وأن يكون ذلك بالصوت وبالصورة وبالحركة وبالضوء وبالظل وبالأشياء وبالعلاقات والانفعالات، وأن يتم بكل اللغات الكائنة والممكنة، وبهذا فهو ليس فنا من الفنون، ولكنه كل الفنون، وهو أيضا ليس علما واحدا من العلوم، ولكنه كل العلوم، وهذا المسرح الحياة، وهذا المسرح الفنون، وهذا المسرح العلوم، وذا المسرح المتعدد الأكوان والعوالم، هل يمكن اختزاله كله في صورة نتفرج عليها في لحظات ثم ننساها؟
ليس صدفة أبدا أن الإنسان قد أوجد المسرح، لقد ( اخترعه) أو ( اكتشفه) حتى يعيش ويرى نفسه في مرآته وهو يعيش، ويرى كيف يعيش، وهذا المسرح هو حقا مرآة الحياة، ومرآة الوجود والموجودات، ومرآة الواقع والوقائع، ومرآة التاريخ ، ولخل أخطر ما في هذه المرأة المسرحية هو أنها تعكس حركية عقل الإنسان الجوانية، وتكشف حركية روحه الخفية، وتكشف حركية وجدانه وحركية أحلامه وأوهامه وتصوراته وخيالته، وهذن كلها أشياء لا يمكن أن يحققها إلا التلاقي المسرحي في الفضاء المسرحي وفي الزمن المسرحي وفي المناخ المسرحي.
إنني أومن، إيمانا صادقا، بأنه لا شيء يمكن أن يكون بديلا عن أي شيء آخر، هكذا هي أجساد الناس وأرواحهم، وهكذا هي أجساد الأشياء المادية والمعنوية أيضا، وكل ولادة جديدة هي بالضرورة ذات أخرى جديدة مختلفة، ذات إضافية ينبغي أن تحمل اسمها الجديد، وإذا لم يكن ممكنا أن تسمى، فمعنى ذلك أنها غير موجودة، فعندما ظهر الراديو حمل معه اسمه، وعندما جاءت السينما جاءت باسمها معها، وعندما ظهر التلفزيون جاء ومعه اسمه أيضا، وعندما يعجز العاجزون اليوم عن تسمية بعض الأشياء، أو عن تسمية بعض (المخترعات) أو (المكتشفات) فإننا نجدهم يعودون إلى نفس الأسماء القديمة ويضيفون إليها كلمة واحدة فقط، معتقدين أنهم بذلك قد أوجدوا فنونا لم يكن لها وجود، وعلوما لم يكن له وجود، وهكذا نجد أنفسنا أمام كلمات مركبة من مثل (ما بعد الحداثة) و(ما بعد الدراما) ومن يدري، فقد نجد في الناس غدا من يكفر بالمسرح، ومن يرفع لافتة (اللامسرح) أو (الما بعد المسرح) وكل ذلك خوفا من الحياة وخوفا من الحياة العامة، وخوفا من فن عمره هو نفس عمر البشرية على الأرض.
شخصيا، إنني أومن بأنه لا شيء يمكن أن يعوض المسرح إلا المسرح، ولا شيء يمكن أن يتحدى المسرح إلا المسرح، أي ذلك المسرح الآخر الممكن الوجود، والذي يمكن أن يكون، أو ينبغي أن يكون، اليوم أو غدا، وأن يكون أكثر حقيقة وأكثر جمالا وأكثر إقناعا، وأكثر إمتاعا، وأكثر سحرا وأكثر إدهاشا وأكثر إنسانية وأكثر مدنية وأكثر حيوية وأكثر عفوية، وأكثر قربا من حياة الناس ومن أسئلة وقضايا الناس.
إن المسرح أساسا هو حياة وحيوية، وأن نستعيض عن المسرح بصوره الافتراضي، فإننا سنكون كمن يقتل الإنسان الحي ويكتفي بصوره، ويحتفي بالوهمي والشبحي بدل أن يحتفي بالحق وبالحقيقة.
إن الحياة ليست صورة نراها، وماذا تكون لهذه المسرحية الذي أرخت لوجدان الإنسان على امتداد قرون طويلة سوى أنها الحياة، وذلك في درجة الصق والمصداقية، وفي درجة الجمال والكمال وفي درجة الكائن والممكن وفي التلاقي والتفاعل والتواصل والتكامل والتحاور، الآني والحي؟
وفي فوضى العالم هذه الأيام، وفي خضم هذا الرعب المدمر، نكون بحاجة إلى يوم آخر جديد ومتجدد، يوم لا يشبه كل هذه الأيام البائسة والحزينة، والذي هو اليوم الثامن في الأسبوع، والذي لن يكون إلا يوم التلاقي المسرحي، ويوم التعييد لمسرحي، والذي تنتظره البشرية كلها بفارغ الصبر.
الهوامش:
1 ــ (عبد لكريم برشيد وخطاب البوح حول المسرح الاحتفالي) عبد السلام لحيابي ـ إيدسوفت ـ الدار البيضاء2015 ـ ص 160
عبد الكريم برشيد – المغرب
--------------------------------------------
المصدر:إعلام الهبئة العربية للمسرح
0 التعليقات:
إرسال تعليق