مسرح ما بعد الحداثة: اشكالية العلاقة بين المخرج والنَّص
مجلة الفنون المسرحية
مسرح ما بعد الحداثة: اشكالية العلاقة بين المخرج والنَّص
مروان ياسين الدليمي
المتعة الجمالية المنتظرة في التجربة الفنية تعتمد على التجاوز والافتراق عما هو منتج ومتداول، أي أنها قائمة على فعل الإبداع، وقرائن الحس الجمالي الناتجة عنه، والمتجسدة بشكل مرئي في تركيبة بنيته التصويرية. وبناء على ذلك لم يعد المخرج المسرحي المعاصر ينطلق في جوهر عمله على ما يتيحه النص المسرحي من أبواب ونوافذ للدخول إلى التجربة، بل لم يعد المخرج يحتمل التعامل مع نفسه بهذه الصيغة من العلاقة التي تنحرف بتجربته خارج آفاق ما ينشده من خطاب فني، إنما أخذ يتطلع من خلال دوره الخلاق إلى إخضاع النص، وتطويعه لصالح بنية العرض المسرحي التي لا تنسجم مع أي عنصر لا يتوافق مع طبيعة الفضاء المسرحي وتقنياته المتحركة، بمعنى أن المخرج إنحاز لمنطق الخشبة وما تتيحه من مساحة فضفاضة للتخييل، مضحيا في مقابل ذلك بسلطة النص ومغادرا بها إلى سلطة نص جديد لا يتأكد حضوره على الورق إنما على الخشبة، ويغيب إذا ما غاب عنها، بمعنى أن لغته الجوهرية ليست الكلمات بذاتها بل بما تحمله من أفعال ودلالات وتجوال في غابة من التخيلات التي تطلقها مخيلته.
دينامية الفضاء المسرحي
بعد تجليات ما بعد الحداثة التي بدأت تتخذ أدوارها المتنوعة في معظم الفنون الإبداعية في ثمانينات القرن الماضي باتت النصوص المسرحية من وجهة نظر المخرج، مخططات أولية لمشاريع عروض مسرحية، وباعتبار المخرج يجد نفسه خالقا ومبتكرا ومكتشفا للعرض فإن حدود هذه المسؤولية تستدعي منه أن يصحب النصوص إلى محترفه الذاتي، ليسلط عليها مشرطه بدون الوقوف عند محددات نماذج معينة، مستندا في فاعلية دوره إلى منطق قائم في قواعده على الافتراض والتخييل لشكل العرض بدون أن يضع في اعتباره ضرورة الحفاظ على أي صلة مع النص، فالمهم بالنسبة له أن يكون خطابه مستمدا ديناميته من الفضاء المسرحي وليس من لغة النص .
ما يخطط له المخرج في افتراضاته البصرية والسمعية مصدرها قراءة ذاتية للنص، في محصلتها النهاية تكون بمثابة كتابة جديدة لنص آخر لا يصلح للقراءة إنما للتلقي في صالة العرض بكامل الحواس، وما يجمعه مع نص المؤلف علاقة انزياح تضعه في مواجهة نديّة معه، بالتالي ستنتج عن هذه العلاقة قراءات أخرى تتشكل ملامحها بعد انتهاء العرض من قبل مجموع المتلقين الذين بدورهم يستقبلون العرض وهم يحملون مشارطهم بحثا عن أسئلة وأجوبة جديدة بقيت بعيدة عن الظهور أمام المؤلف والمخرج على حد سواء.
بمثل هذا المنطق سيتم تشييد زمن جمالي جديد يتسع لكل ما هو مستور ومستقر في أنساق العرض السمعية والمرئية، والمخرج في هذا المنظور ينظر إلى التجربة المسرحية باعتبارها مغامرة فنية يلتمس من وراء الخوض في مجاهيلها تفكيك اللغة الفنية المتوارثة واقتحام سلطتها المحافظة وهدم أسوار لغتها المتعالية ليشكل فوق أنقاضها لغة أخرى تنحدر من مهيمنات الفضاء المسرحي.
هذا الفهم يتم الوصول إليه عبر تكثيف الجهد القائم على البحث والتأمل بشكل متواصل من أجل استنتاج تجارب فنية تنسف آلية العلاقة القائمة ما بين الجمهور والتجربة المسرحية.
رؤية تاريخية
مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين شهدت مناطق مختلفة من العالم تجارب مسرحية لمخرجين ينتمون لدول مختلفة تجلى فيها دور عدد من الأسماء وهي تحاول اكتشاف أسرار فن الإخراج وتقنينه بجملة ضوابط واشتراطات فنية، فقد سعى هؤلاء إلى إيجاد قواعد مفاهيمية للإخراج المسرحي، ونتج عن ذلك أفكارا جديدة، هيكلت العلاقة التي تجمع فن الإخراج مع النص المسرحي. فمن الناحية التاريخية يتفق الباحثون على أن دوق ساكس ماين نغن الألماني جورج الثاني (1826-1914) أول من ضع أسس فن الإخراج وارتبط ذلك بأول عرض مسرحي قدمته فرقته الخاصة عام 1874 الذي يعد تاريخ ولادة فن الإخراج، وتبعه اندريه انطوان في فرنسا حيث يؤرخ له في 30 اذار/مارس 1886بداية أول عرض مسرحي في باريس يقف خلفه مخرج مسرحي وليس المؤلف أو الممثل الأول كما كان متبعا، ولحق بهم الروسي ستانسلافسكس في الفترة نفسها.
ثياب ثقيلة
لا جدال في أن مخرجو المسرح الغربي لعبوا الدور الأبرز في التفكير بوظيفة المخرج والأخذ بها بعيدا عن سلطة المؤلف في مقدمتهم ماكس راينهارد هو مخرج وممثل نمساوي أمريكي (1873- 1943) والألماني اروين بيساكتور (1893-1966) والمصور والمزخرف والمخرج السويسري ادولف آبيا (1862- 1928) والمخرج الانكليزي ادوارد كوردن كريك (1872-1966) وأعقب هؤلاء في مراحل زمنية لاحقة أسماء أخرى توالت اجتهاداتها في مسارات فنية داخل منطقة الاشتغال الجمالي للإخراج المسرحي، غايتها نسف ما كان قد تلبّس تجربة العرض المسرحي من ثياب ثقيلة كان قد كدَّسها عليها كتاب النصوص المسرحية الذين اعتادوا أن يكتبوا من خلف مكاتبهم المنعزلة عن المشغل المسرحي، مثلما يفعل الروائيون والشعراء .
الخروج من الدائرة المغلقة
أن الحرية هي غاية المخرج، حرية الشكل، حرية التلقي، حرية القراءة، إذ لم يعد مجديا الركون إلى ارتباطات فنية مسبّقة لقيام التجربة المسرحية، لأن المسرح في جوهره فعل معرفة، وتقنية رؤيوية يعبر من خلالها الفنان عن تطلعات الإنسان وهواجسه ازاء ما يشغل وجوده في هذا الكون.
يمتلك الفن المسرحي افقا واسعا تتيحه معطيات مشغله التقني القائم على استمرارية عملية هدم وبناء الأفكار والأشكال المعبرة عنها طيلة فترة التمرين بقصد استيعاب المغامرة الفنية والأخذ بها إلى أقصى مدى من الانفصال عن ذات الفنان في حضور موضوعي قابل للإدراك الحسي، بما يجعلها في موضع متبلور يفضي إلى مجترحات وحلول جديدة، تتواصل مع الأسئلة المتحركة في ذات الإنسان حول القضايا المطروحة في العرض.
في تعامل المخرج مع النص الأدبي بدون أن يستجيب إلى مدركات النماذج النصية المتداولة فإنه بذلك يعيد اكتشافه من جديد متحركا في مواطن مغلقة لم تُستنطق من قبل المؤلف، بذلك يكون دوره متجاوزا ما يتحرك على السطح من مكاشفات، مصحوبا بعدته المسرحية القائمة على التقنيات والتخييل للخروج من النمذجة في التعاطي مع النص والتي لا ينتج عنها سوى حلقة مفرغة من التكرار والنمطية في بناء العرض، فهو ينظر إلى النص المسرحي باعتباره دائرة مغلقة من المعاني والدلالات المكتفية براهنيتها، ويجد العلاقة معه أشبه بالعلاقة ما بين خطين متوازيين لا يمكن لهما أن يلتقيا، وهذان الخطان هما: النص والمخرج قبل العرض، والمخرج والمتلقي بعد العرض. فالصراع هنا بغاية الثراء، ولا ينتهي، وعلى ذلك تتسع وتتعدد زوايا الرؤيا إلى الموضوعات والأفكار ما بين المؤلف والمخرج والمتلقي في إنتاج التجربة المسرحية.
وعليه فإن كل الصياغات الإجرائية في الحذف والتعديل والإضافة وإعادة التركيب من قبل المخرج ماهي إلا محايثة للنصوص بمعان جديدة للوصول بالعمل المسرحي إلى أن يكون حركيا في آلية تعامله مع النص ومشتبكا معه وليس مستسلما، وهذا الاشتباك لن يتوقف حتى بعد انتهاء العرض، بل تستدعي هذه العلاقة الجديدة كل عوامل التحريض على طرح الأسئلة والسير في طريق التأمل والتاؤيل.
عودة الروح إلى جسد العرض
في كتابه الموسوم “الدراما بين النظرية والتطبيق” للمؤلف ديفيد برتش الصادر عن المشروع القومي للترجمة في مصر يتطرق إلى الأزمة التي حصلت عام 1973 بين كل من جون اردن ومارغريتا دارسي مع مخرج العرض المسرحي المأخوذ عن نصهما الموسوم “جزيرة الأقوياء” الذي قدمته فرقة شكسبير اللندنية، حيث عبرا عن احتجاجهما الشديد على ما أقدَم عليه المخرج من تعديلات على النص بالشكل الذي جعل العرض يطرح أفكارا جديدة تبتعد كثيرا عما طرحه مُؤلِفَا النَّص، فلم يحتملا هذا الإجراء الذي أقدم عليه المخرج، ووجدا فيه خيانة للنص، لأنهما كانا يعتقدان أن لا أحد غير المؤلف المسرحي يمكنه أن يؤكِّد المعنى، وأن مهمة المخرج تقتصر على تفسير النص من خلال أفكار المؤلف، ووظيفة المخرج من وجهة نظرهما لا تكمن في تغيير الحقيقة التي هي أفكار المؤلف، إنما في عرضها على خشبة المسرح بدون أدنى مواربة، بمعنى أن المخرج ليس مسؤولا عن المعنى، إنما عن أسلوب وأداء التمثيل المسرحي.
في مسرح ما بعد الحداثة سيكون من المنطقي أن يجد مؤلفو النصوص المسرحية أنفسهم غرباء داخل صالة العرض وهم يشاهدون نصوصهم وقد خرجت من ملكيتهم ومملكتهم وحلقت في زمن آخر شكلته الحرية المشاعة لكل أطراف اللعبة المسرحية بما في ذلك المتلقي، بمعنى لم يعد النص مُنغلقا على الزمن الذي أراده المؤلف، بل تعداه إلى زمن مفتوح على دلالات يشكلها المخرج في الأرض البِكر للنص، وهذا الكشف الجديد في العلاقة ما بين المخرج والنص بمثابة عودة الروح إلى جسد العرض. وهنا بهذا السياق يبدي المؤرخ الأدبي البريطاني ستيفن كونور وجهة نظره حول اشكالية العلاقة بين المخرج والمؤلف، إذ يقول: “لو أن كل مؤلفي المسرح خافوا من حدوث تحطيم أو تمزيق أو تشويه أو انقطاع لاستمرارية النص من خلال عملية القراءة أو التفسير أو الإخراج وإنتاج النص ومن ثم عمل كل واحد منهم بتوجيه وتفسير أعماله المسرحية بنفسه، فسوف يكون ذلك مجالا لبسط سيطرة المؤلف والتحكم في عملية القراءة أو تداول العمل واستحضار أداء فكرة العمل وتوضيحها داخل النص المكتوب، وكذلك الأداء المسرحي”.
مسرح جديد
في مسرح ما بعد الحداثة ضاقت الأرض تحت أقدام المؤلف التقليدي وانزوى خارج اللعبة المسرحية ومسارها الجديد وانطوت صفحته، ليقفز عوضا عنه إلى الخشبة أو مساحة العرض المخرج/المؤلف الذي يشتغل وهو يفكر بلغة المعالجة الإخراجية للخطاب الذي ينوي ترويجهُ على الخشبة، فهو لا يستطيع الخروج من ثنائية: (التركيب + المعنى) عندما يخطط (للنص/العرض) لأن في ذلك يتجلى الدالين (النص+ العرض) في سياق واحد متراكب داخل أنساق تجربة العرض السمعية والبصرية، والتي تفرض علاقة تجانس وتوافق حتى في ما يبدو متناقضا بين عناصر تشكيل الصورة/المشهد. وهذا الفهم لطبيعة وظيفة المخرج في المسرح وعلاقته مع النص عبَّر عنه الكاتب المسرحي الانكليزي إدوارد بوند في المقدمة التي وضعها لنصه المسرحي الموسوم “الحزمة” حيث يقول: “إن الكاتب الدرامي يستطيع أن يساعد في خلق مسرح جديد، وذلك من خلال الطريقة التي يكتب بها، إذ يجب عليه ألاّ يمسرح القصة، لكن الأهم هو التحليل، فنوايا الكاتب لا تتغير، لأن قراءة التحليل والإنتاج وطريقة استقبال النصوص، كل ذلك أيضا يتغير، وإدراك ذلك يسمح لنا بتطوير المفهوم، فالمهم وهو المعنى المتغير، والذي يتغير من الكاتب إلى القارئ ومن المخرج إلى الممثل ومن الممثل إلى جمهور العرض”.
الإجهاز على المؤلف
حضور المخرج على هذه الصورة الاشكالية في علاقته مع النص لا يأتي إلا من خلال إعادة تفكيك مفاهيم التجربة المسرحية بعلاقتها المتشابكة أثناء التمرين والتحضير للعرض. يقول كاندس دالنغ: “إن النصوص تقول دائما لا أكثر ولا أقل من مقاصد مؤلفيها، أو أنها تقول ببساطة شيئا آخر”.
على ذلك عندما يرتبط المخرج مع نص ما فإنه سيحاول أن يكمل النقصان الحاصل داخله واستدعاء ما هو غائب عن لغة المؤلف عبر تقنيات مسرحية ليس لها مرجعيات في النص، وهذا يتأتى عبر سلسلة إجراءات لا تتوقف عند حدود معينة داخل مشغل التمارين إلى آخر يوم عرض، فعمل المخرج على هذا الفهم سيكون عبارة عن رحلة ابستمولوجية إضافة إلى جوهريتها الجمالية.
-----------------------------------------
المصدر :القدس العربي
0 التعليقات:
إرسال تعليق