المسرح الفرنسي في القرن العشرين... مواجهات صادمة مع الوجود الإنساني
مجلة الفنون المسرحية
المسرح الفرنسي في القرن العشرين... مواجهات صادمة مع الوجود الإنساني
رضاب نهار
ثار المسرح الفرنسي على النمط الواقعي الكلاسيكي الذي سار عليه المسرح العالمي طيلة قرون
يقول الأديب الفرنسي يوجين يونسكو (1909 ـ 1994): "إن رغبة المؤلف في مسايرة عصره دليلٌ على أنه تخلّف عنه".
تلخّص عبارة يونسكو منهج مسرحيي القرن العشرين الفرنسيين الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة تغيرات مخيفة طالت كافة نواحي الحياة لدى الإنسان الحديث. وما كان منهم إلا أن أنصتوا بصدق إلى قواهم العقلية والروحانية، فأبدعوا أشكالاً مسرحية جديدة، لم تساير العصر، إنما قرأته بوعيٍ ثقافي وفكري وقدّمت نقدها الموضوعي لتحولاته ضمن منظومة متكاملة من العناصر الفنية غير التقليدية على الإطلاق.
ويعتبر مسرح القرن العشرين في فرنسا، منذ بدايته وحتى نهايته، مختبراً للتجارب الجديدة التي التفتت بحقّ نحو المعاناة الإنسانية بعيداً عن التراجيديات الكلاسيكية والقواعد الصارمة المحددة للمؤلفين. وفي حين نجد أن هناك ثمة اختلافات واضحة بين مناهج هذا المسرح، نؤكّد أنها جميعها ناقشت مفاهيم الذات، الهوية، التشظّي الإنساني الحاصل بغض النظر عن الأسلوب والطريقة.
وإذا ما تتبعنا أصول التيار الفكري الجارف الذي غزا المسرح الفرنسي والحياة الثقافية والفنية الفرنسية طيلة القرن الماضي، نصل إلى الثورة الفرنسية التي عزّزت حرية التعبير وحرّضت على الإبداع، إذ أطلقت العنان للفكر بالتمرّد على الكثير من القواعد والأطر الكلاسيكية المقيّدة لحياة الإنسان في ذلك الوقت. ولقد أدى التطور الاجتماعي والسياسي الناتج عن الثورة إلى إعادة النظر في النظريات الفلسفية المعنية بالوجود الإنساني والتي تمظهرت في عدد من التيارات الدينية والفلسفية منها المذهب الأرواحي الذي ثار على الرؤية الكونية الخرافية بقيادة الفرنسي آلان كارديك (1804 ـ 1869).
صيغ وقوالب جديدة تناسب المحتوى الجديد
لكن، وبالعودة إلى المسرح، فإن الجهد الثوري في الكتابة المسرحية الفرنسية قد بدأ عندما وجد الكاتب المسرحي نفسه أمام تحديات زعزعت أسس ومفاهيم القيم بالنسبة إليه. وصار مطالباً بخلق صيغ وقوالب جديدة تناسب المحتوى المتغير للأفكار التي أصبح عليها شكل العالم الجديد. وعلى الرغم من أن هذه التجارب الطليعية انتشرت في كل أوروبا، وفي مناطق أخرى من العالم، إلا أن البصمة الخاصة كانت للأيدي الفرنسية التي بدأت بالتغيير وبتكسير القوالب الجامدة وبخرق القواعد الأرسطية متجسّدةً في عدة تيارات فنية وفكرية ما زال تأثير روّادها من المسرحيين الفرنسيين حاضراً على مسرح اليوم في جميع أنحاء العالم، من بينهم صموئيل بيكيت، يوجين يونسكو، جان جينيه، جان بول سارتر، أنطونان آرتو وجان كوكتو الذي تلا في العام 1962 الرسالة الأولى لليوم العالمي للمسرح.
وكان من الملاحظ أن تلك التجارب التي ظهرت مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، قد تميّزت بالفكر العدمي، كالدادائية ومن بعدها السريالية التي أسسها الشاعر الفرنسي أندريه بريتون (1896 ـ 1966) كمذهب يستند على اللاوعي الإنساني أو على العقل الباطن. وهو ما جعل المسرحيات السريالية شبيهة بالأحلام التي يفقد فيها العقل الواعي سيطرته على الأحداث.
ولا نستطيع أن نذكر المسرح السريالي دون أن نذكر المسرحي الفرنسي ألفريد جاري (1873 ـ 1907) الذي فتح الباب أمام السريالية في مسرحيته الشهيرة "أوبو ملكاً" المكتوبة وفق المعايير الكلاسيكية المسرحية المعهودة، والحاملة في مضامينها ثورة ضد عبدة السلطة ومجانينها ومنهجاً فكرياً جديداً بين السطور. وبهذا قدّمت تهكّماً قوياً لراهن ذلك الزمن الراسخ تحت الأنظمة البرجوازية المتعفنة، معتمدةً على إبراز الأحلام والغرائز الإنسانية المكبوتة.
مواجهة أخرى للواقع نجدها في "مسرح القسوة" الذي أوجده الكاتب والمخرج الفرنسي أنطونان آرتو (1896 ـ 1948) ساعياً من خلاله إلى صدام مباشر وشديد مع الجمهور. وهنا لا نتحدث عن نصوص بقدر ما نتحدث عن عروض بصرية تلجأ إلى عناصر وأغراض وأفعال تُمارس على خشبة المسرح، وتسيطر عليها ثيمة العنف من أجل الوصول إلى ما أطلق عليه آرتو اسم "التطهير النفسي" عند المتلقي.
وآرتو الذي قضى أواخر حياته في المصحات العقلية، تأثّر بالسريالية بعد أن وجد الواقع المعيش بحاجة إلى تغيير في الأسلوب المسرحي. فلجأ إلى تطوير عناصر المسرح لتعبّر عن واقعٍ استثنائي خارجٍ عن المألوف، لا يعكس الحياة اليومية العادية لكنه مستوحى من معنى الحياة بحد ذاتها.
الجهد الثوري في الكتابة المسرحية الفرنسية بدأ عندما وجد الكاتب المسرحي نفسه أمام تحديات زعزعت أسس ومفاهيم القيم بالنسبة إليه
لماذا تمّ التخلّي عن الواقعية في المسرح؟
ثار المسرح الفرنسي على النمط الواقعي الكلاسيكي الذي سار عليه المسرح العالمي طيلة قرون. ولم يعد للوحدات الثلاث سطوتها على نتاجات المسرحيين الجدد. تغيّر مفهوم الشخصيات المسرحية وتبدّلت حواراتها بما يعكس التشظّي الكبير الذي بدأ إنسان القرن العشرين بتلمّسه في شتى نواحي الحياة وأصبحنا أمام تيار جديد يسمّى بـ "العبث" صاغه الناقد مارتن إسلين من مقالة كتبها الفرنسي ألبير كامو عام 1942 حول عبثية الموقف الإنساني.
جاء "العبث" نتيجة حتمية لما عاشه المجتمع الفرنسي والعالمي بعد خوض أفظع وأشنع المصائب التي تسبّبت بها الحرب العالمية الأولى ومن بعدها الحرب العالمية الثانية، حيث لم يعد هناك قدرة للتعبير بواقعية عن واقع مجنون يفتقر إلى أدنى معايير الإنسانية. وأصبح "الخرس" سيّد الموقف وأبلغ تعبير عن الخوف، الضياع، وغيرها من المشاعر السلبية التي جعلت الإنسان يتقوقع على نفسه وسط عزلة فردية منعته من التواصل السليم مع ذاته ومع الآخرين حوله.
ازدادت هذه العزلة مع الثورات الصناعية التي عملت على تعزيز الطبقات والفروقات الاجتماعية، فضلاً عن كونها حوّلت الجوهر الحقيقي للحياة الإنسانية إلى ماديات وبالتالي فقد الإنسان هويته وكينونته متحولاً إلى مجرد شيء لا يسيطر على مجرى الأمور. فبعد أن كان هو المحور الرئيسي للأحداث أصبح مفعولاً به لا أكثر ولا أقل.
ويؤكّد محمد عبد المنعم في كتابه "المسرح السياسي" أنه "حينما قامت الحرب العالمية الثانية، تركت آثارها المدمّرة في النفس البشرية، إذ تعتبر امتداداً للحرب العالمية الأولى فيما خلّفته بويلاتها من خراب وفوضى، فتراكمت الآثار السلبية للحربين العالميتين، وحدثت أزمة في الضمير العالمي تمثّلت في موجة من الغضب شملت الأنساق الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة. خاصةً وقد أنهت أمريكا الحرب بإطلاق القنبلة الذرية، فصارت الحياة الإنسانية كلها مهدّدة بخطر الإبادة الشامل، فضلاً عن استخدام السلاح النووي في عملية ابتزاز دولي متبادل بين الأطراف، فخيّم على العالم في ظل الحرب الباردة رعب نووي كامن، مما أصاب إنسان هذا القرن بالحيرة وتناقض الأفكار والعواطف، والتأرجح بين واقعه الجديد ومعطيات عالمه الداخلي، الأمر الذي شعر معه بالضياع وفقدان الثقة واليقين في كل شيء، فتمخّضت عن ذلك مذاهب فكرية وفلسفية عديدة، كانت لها انعكاسات واضحة في الأدب المسرحي كالوجودية مثلاً".. وأشهر روّادها الفرنسي جان بول سارتر (1905 ـ 1980) الذي وجّه نقده لأخلاقيات المجتمع مؤكّداً على الأدب الملتزم الموجّه نحو قضايا الحرية والتبعية وغيرها من المواضيع السياسية والفلسفية.
إذاً وكما يرى عبد المنعم أنه وفي غمرة هذه الحيرة التي سيطرت على العالم بأسره، تصاعد شعور الإنسان في ذلك القرن بعبثية الكون والوجود، وعدم جدوى الحياة أو النشاط الإنساني، فالعدم يهدده ويتربّص له..
الشخوص المسرحية في مسرح "العبث" واقعية، بشرية من لحمٍ ودم لكنها تعيش وسط محيط غير معقول، يصعب تصديقه. تتصرف بعبثية وسريالية، لكل كلمة تنطق بها تأويلات فلسفية وجودية يمكن إسقاطها على ذلك الواقع المزدحم بعلاقات غير منطقية ولا يمكن حلّها. وغالباً نراها تعيش في دوامات لا منتهية، وتواجه مواقف وأحداثاً غامضة ولا يمكن حلها، ومن الصعب التوصّل إلى تحليلات منطقية حولها، ما يعني أن العبث هو الثيمة والمنهج والأسلوب. فمن هو "غودو" في مسرحية "في انتظار غودو" للإيرلندي الفرنسي صموئيل بيكيت (1906 ـ 1989) ؟ هل هو شخص من لحمٍ ودم؟ أم مجرد رمزٍ له معنى وجودي أكبر من حرفية الكلمة؟ بالطبع نعم..
تمادت ثورة مسرحيي العبث على الواقع السائد بأفكاره التي لم يعودوا يؤمنون بها حتى طالت اللغة نفسها. فنصوص تيارات مسرح العبث واللامعقول تعكس في عباراتها فقدان التواصل والتفاهم بين البشر، وتحيل إلى سخرية سوداء تحاكي التشاؤم الشديد في حقيقة الأمر. بالإضافة إلى أنها وصلت حد الفصام بدءاً منعناوين المسرحيات نفسها.. فلا وجود لمغنية صلعاء أبداً في مسرحية "المغنية الصلعاء" التي كتبها يوجين يونسكو لتعبّر عن اغتراب وفصام الإنسان في الواقع.
التغييرات التي طالت الكتابة المسرحية، امتدت آثارها إلى خشبة المسرح حتى احتضنت كل العملية الإخراجية التي استحوذت مع ستينيات القرن الماضي على اهتمام أكبر تنحّت أمامه أهمية النص كأدب مقروء. لكن هذا لا يعني أن الأدب المسرحي اضمحلّ نهائياً وتراجع حتى مات المؤلف. فثمة نصوص كثيرة ما زالت تقرأ الواقع برؤية معاصرة، وتعكس في صفحاتها المفاهيم الحداثية الجديدة التي فرضتها العولمة وثورة الاتصالات والتكنولوجيا في فرنسا وكل العالم، وهي موجودة بقوة وبكثرة على الساحة الأدبية في فرنسا. لكن وتحديداً، فيما يخصّ القارئ العربي، فالمشكلة تكمن في ندرة الترجمة التي تحوّل النصوص الفرنسية الحديثة إلى اللغة العربية.
وقد التفتت الدكتورة ماري الياس الحاصلة على دكتوراة المسرح من فرنسا، إلى هذه الأزمة في كتابها "أنتولوجيا المسرح الفرنسي الحديث" الذي ترجمت في جزئيه مجموعة من النصوص المسرحية كتب معظمها في الثلث الأخير من القرن العشرين، مبينةً أن بعض ما تمّ ترجمته في الكتاب هو نماذج لما يمكن أن نسمّيه الكتابة الجديدة في القرن العشرين.
والياس الحاملة للسعفة الأكاديمية فرنسا عن مهماتها الثقافية، كانت قد أشارت في مقدمتها أنه من الصعب تأطير هذه النصوص في تيار، حيث أن الكتابة اليوم بشكل عام تحمل سمةً أساسية: هي التحرر من أية قواعد أو أعراف مهما كانت، ومنها قواعد العرض الأولي التي تفترض وجود الشخصيات المكتملة والحوار إلخ...
وأكّدت أن الكتابة المسرحية الفرنسية الغزيرة في هذه المرحلة لا تحمل صفات النسبية وعدم الاكتراث التي توسم بها كتابة ما بعد الحداثة. فهذه النصوص، وخلافاً للمرحلة السابقة لها، ويقصد هنا مرحلة مسرح العبث أو حتى مسرحيات بيكيت المتأخرة، لا تنفي وجود المعنى خاصة على مستوى التفصيل ولا تتجاهل متلقيها، على العكس تماماً إنها تطرح إشكالية التلقي على كافة المستويات. وهي من ناحية أخرى لا تدّعي أنها تملك منظوراً متكاملاً للعالم. بمعنى أن النص لا يختزل العالم أو المجتمع ولا يطمح لذلك.
إذاً فإن نصوص المسرح الفرنسي في نهايات القرن العشرين غير محكومة بمدرسة فنية كما حصل مع التجارب الطليعية في بداياته وفي منتصفه. إنها موجودة كنتيجة لرؤى شخصية، تعرض قصصاً وحكايات من الواقع المعيش فعلاً، وتتمحور حول مفهوم "الأنا" دون الإنقاص من أهمية إلقاء نظرة تفحصية لكامل المحيط من حولها، خاصةً وأن هذه "الأنا" تعيش ضياعاً كبيراً في عزلتها الفردانية المتناقضة مع مجتمع مزدحم.
وبدورها تحدّثت الكاتبة والباحثة ماري كلود هبرت في كتابها "المسرح" عن أن الحد الفاصل بين المسرح والرواية يكاد يختفي حالياً في الكتابة المسرحية الفرنسية. فالكتابة الدرامية المعاصرة تقترب من السرد الخالص، حيث يميل الحوار في بعض الأحيان إلى التلاشي. ونجد أنفسنا أمام مونولوجات كثيرة ما زالت تقترب من العبثية.
إلى أين؟
يستحضر المسرح الفرنسي في الوقت الراهن موضوعات وأفكار مختلفة من كل زمان ومكان. لكنّ كتابه غالباً يفضّلون التعبير من خلاله عن الأزمات النفسية للفرد التي تعكس أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية تخصّ العالم كله.
وعلى الرغم من عدم قدرتنا للتنبؤ بمصير النصّ المسرحي، من ناحية الشكل والمضمون، نستطيع التأكيد على استمراريته بوصف أدباً حياً وفناً لا يتلاشى أبداً..
قالت الممثلة الفرنسية إيزابيل هيوبرت في كلمة يوم المسرح العالمي للعام 2017: "المسرح لديه حياة مزدهرة يتحدى بها الوقت والفضاء، أغلب المنمنمات المسرحية المعاصرة يتم تغذيتها من خلال إنجازات القرون الماضية، جل الكلاسيكيات السابقة في المسرح تصبح حديثة وتبث فيها الحياة من جديد بمجرد إعادة عرضها مرة أخرى، المسرح يبعث من جديد من خلال رماده، يظل المسرح مُحيا من خلال إعادة تدوير أشكاله القديمة وتشكيلها من جديد".
--------------------------------------------
المصدر : INDEPENDENT عربية
0 التعليقات:
إرسال تعليق