مسرحية "ريسايكل".. المحاكاة الساخرة تكشف الهوة بين الناس
مجلة الفنون المسرحيةحنان عقيل - العرب
إسكتشات كوميدية تُقدِّم نقدا لاذعا للمشكلات التي يموج بها المجتمع المصري.
لا ينفصل المسرح عن حركة المجتمع وقضاياه وأزماته، فمن خلاله يمكن تجسيد ثقافات الشعوب بكل ما تحمله من عادات وتقاليد مُشكِّلة لهويتها، فضلًا عن دوره في نقد التغيرات السلبيّة التي تلحق بالمجتمعات عبر استغلال الكوميديا وغيرها من أدوات. وتُقدّم مسرحية “ريسايكل” التي تُعرض حاليًا على مسرح “الطليعة” في القاهرة، نقدًا لعدد من الظواهر والمشكلات التي يموج بها المجتمع المصري.
قد تؤدي الظروف المعيشية الضاغطة بالحياة الإنسانية إلى الهلاك، بحيث تصير نُتفا مشرذمة، تشير إلى أن ثمة حياة كانت هنا وتلاشت تحت تأثير ضغط غير محتمل وتغيرات ساحقة، وتبعًا لذلك يصير الإنسان بحاجة إلى مساءلة ذاته عما آل إليه من صورة لم تعد تشبهه والتفكُر في تلك الظروف التي دفعت به إلى مصير مذر.
لعب على تلك الثيمة العرض المسرحي “ريسايكل”، للمخرج محمد الصغير، من خلال عدد من الاسكتشات المُتفرقة والمختلفة مضمونًا وشكلاً، والتي تقدم تصورات نقدية حافلة بالمفارقات المضحكة المبكية.
معالجة كوميدية
وظّف صناع العمل عددا من الأنماط الكوميدية والدراما الحركية لنقد العديد من الظواهر السلبية المستشرية في المجتمع المصري، مثل التحرش وأزمة تأخر سن الزواج، والإسفاف في الفن، على وجه التحديد الأغاني الهابطة التي تُقدِم كلمات بلا معنى وبضجيج فارغ من اللحن.
كذلك ما يسمى بـ”كابوس الثانوية العامة” الذي يؤدي إلى إصابة الطلاب وأسرهم بأمراض وضغوط نفسية وعصبيّة، وتراجع أخلاقيات الوفاء، واحترام الآخر، ومساعدة المحتاجين.
احتل الزواج بفصوله المختلفة مكانة في عدد من الاسكتشات المتتالية في العرض، للإشارة إلى جاذبية العلاقة بين الطرفين في بداياتها والتحولات التي تطرأ عليها مع مرور السنوات، وتلك المستجدات الضاغطة التي تقود إلى التحول لنمط حياة روتينية تُعاد فيها الأيام بكل تفاصيلها، ما يقود إلى المشكلات بين الطرفين التي قد تتطور إلى الانفصال.
عبّرت المسرحية عن نقد لعدد من السلوكيات والعادات الاجتماعية، مثل المبالغة في الاحتفالات وما يعقبها من تبذير، خاصة في الأعياد التي تشهد مظاهر كرنفالية مبالغا بها، ورفض نفاق الموظفين لرؤسائهم في العمل، وهي ظاهرة باتت سمة غالبة عبر أدوات عديدة من التهكم والتورية، بأدوات ومعالجات كوميدية.
استخدم العرض المسرحي المحاكاة الساخرة بشكل جيد ليُبين تلك الهوة بين طبقات المجتمع، والإعلانات الدعائية التي تروج لأماكن سكنية بمدن جديدة ذات مواصفات تميزها عن غيرها من الأماكن وتقطع بأفضلية قاطني تلك الأماكن وما سواهم، وفي الآن ذاته السخرية من ثقافة الموت التي صارت تُعرض في كل مكان بحيث صارت الإعلانات التلفزيونية تروج لمقابر بمواصفات مثالية، ومبالغ طائلة تجعل حتى “الموت الكريم” بعيد المنال.
كانت الكوميديا السوداء حاضرة في مشاهد أخرى، فهناك الفتاة التي تُشبه الكثيرات، وقُمعت منذ طفولتها حتى صارت أضعف من أن تدفع عن نفسها الأذى إلى أن ماتت وانصرف عنها الجميع، ولم يهتم أحد بوجودها كما رحيلها.
وظهرت هذه الكوميديا في الحديث عن الأم المصرية التي تفني نفسها في تربية أولادها حتى ينصرف كل منهم إلى حياته الخاصة لتصير وحيدة تتسول سؤالًا أو اهتمامًا عابرًا، والتعبير عن أحلام الشباب المتهاوية واحدا تلو الآخر حتى تصير الحياة مجرد دوران في حلقة مفرغة بلا معنى.
الدراما الحركية
مشاهد تحاول استرضاء الجمهور
جاءت الرقصات التي صممها الفنان مناضل عنتر، كإحدى أفضل العناصر داخل العرض المسرحي، إذ عبّرت بصورة مميزة عن عدد من الإشكاليات، مثل قمع المرأة والتحرش والانتهاك الجسدي والنفسي المتكرر لها.
وفي مشهد آخر عبّرت الرقصات عن السعي الدؤوب من قبل المجتمع لقمع ثم قولبة المختلفين والمنصرفين عن القطيع، والإصرار على تدجينهم حتى يفقدوا كل شعور أو فكرة تميزهم عمّن سواهم.
وبدت السينوغرافيا كعنصر متميز في العرض، واستطاعت التعبير عن الأجواء حتى قبل بدايته، من خلال إبراز العديد من المخلفات والمنتجات المستهلكة التي رسمت فضاء المشهد المسرحي قبل بداية العرض، فضلًا عن وجود عدد من اللوحات التشكيلية ومنها لوحة “الصرخة” للفنان النرويجي إدوارد مونش، وتعد لوحة أيقونية تجسد ملامح الفزع والإشكاليات النفسيّة، التي يعاني منها الإنسان الحديث، ما جعل المنظر المسرحي في تماس مباشر مع مضمون العرض.
وظهرت الملابس في نتفها الممزقة والمتلاصقة بعشوائية، وتحمل أغلفة أو مخلفات لأطعمة ومشروبات تنتجها شركات عالمية، لتُقدِّم تأكيدًا على ذلك النمط من الحياة الاستهلاكية التي بات الإنسان الحديث أسيرًا لها.
كما وظفت الإضاءة بشكل جيد للتعبير عن الحالات النفسية المختلفة والمتقلبة ما بين المرح والحزن والتوتر، واستخدمت الإضاءة المرتعشة بشكل لافت للتأكيد على حالة التلوث في المشهد الذي يتعرض لأغاني المهرجانات، وما تقدمه من إسفاف ظاهر على المستويات كافة.
إدماج المشاهد
حالات نفسية مختلفة
رغم وجود العديد من عناصر التميز داخل العمل المسرحي، مثل الرقصات والأفكار المُقدّمة في بعض الاسكتشات، هناك بعض أوجه القصور التي كان من الممكن تلافيها؛ فثمة تكرار للأفكار في أكثر من “اسكتش” بأساليب مختلفة، وبدا ذلك أشبه بافتراض غباء المشاهد وحاجته إلى التكرار كي تصل إليه الفكرة ذاتها.
وفي أحيان أخرى سقطت بعض المشاهد في فخ النكات المتداولة، وكأن صناع العمل أرادوا استرضاء المشاهدين بمختلف أطيافهم، كي يندمجوا في العرض عبر مستويات عدة، وهو ما تأكد في تكرار المشاهد التي يُلغى بها الحاجز الرابع للتفاعل المباشر مع المشاهد واستجلاب الضحكات منه.
أفقدت تلك الرغبة العرض درجة ما من وحدته الأسلوبية والفنيّة، إذ كان من الممكن أن يصير أكثر تكثيفا بالاعتماد على بعض الاسكتشات اللافتة على مستوى المضمون والأسلوب الفني واستبعاد مشاهد أخرى ليست ذات صلة قريبة جدًا بمجمل المشاهد في العرض، مثل مشهد العزاء في وفاة “النكتة” ومشهد “الخراف” التي تنتظر الذبح في عيد الأضحى، للتأكيد على الفكرة الأكثر حضورًا في العرض.
تلك الحياة الاستهلاكية التي تنتهك حياة الإنسان وآدميته وأفقدته الكثير من قيمه وثوابته التاريخية، يستدعيها في نهاية العرض عبر التاريخ الفرعوني من خلال الملابس، وإلقاء أغنية “أنت المصري” كدليل على الهوية الأصيلة أمام محاولات طمسها وتشويهها.
والعرض المسرحي هو نتاج “ورشة الارتجال” بمسرح الطليعة، التي أقيمت لمدة أربعة أشهر، وقام بالتدريب فيها محمد الصغير، مناضل عنتر، سما إبراهيم، مصطفى سليم، وأحمد حمدي رؤوف، توقفت أثناء جائحة كورونا، لتعود مرة أخرى مع عودة النشاط المسرحي تدريجيًا.
وقد جاءت الموسيقى لأحمد حمدي رؤوف، وصمم الدراما الحركية مناضل عنتر، والأزياء من تصميم عبير البدراوي، أما الإخراج والسينوغرافيا فقام بهما محمد الصغير، الذي أخرج العديد من العروض مثل “تياترو مصر” في الموسمين الأول والثالث، و”نوت فروزن”، و”روميو وجولييت”، و”السيرة الهلامية”، و”شيزلونج”.
صناع العمل وظّفوا الأنماط الكوميدية والدراما الحركية لنقد العديد من الظواهر السلبية
0 التعليقات:
إرسال تعليق