البير كامو والمسرح العبثي وتناقضاته الفلسفية / جوزيف الفارس
مجلة الفنون المسرحية البير كامو والمسرح العبثي وتناقضاته الفلسفية / جوزيف الفارس
في عصرنا الحالي وفي ضمن مرحلتنا الراهنة والتي يعيشها شعبنا والتي فيها زعزعت وجود الفرد وزعزعت كيانه ووجوده في الكون , وعلى ضوء الاحداث الماساوية والتي ضاق بها ذرعا ودمرت بنيته التحتية , مما اظطر للبحث عن الخلاص , وتطهير ذاته من هذه الماسي التي يعيشها , فلا يجد تنفيسا يعالج من خلالها الحالات النفسية التي عمت على حياته وحياة المجتمع باكمله , والحالة هذه نطبقها على الشعب العراقي والعربي معا اثر حالات انعدام الامن والاستقرار للفرد والذي لم يجد ملاذا للخلاص من هذا العذاب والمعاناة الذي هو فيه ومثل هذه الحالات مرت بها شعوب العالم بعد الحرب العالمية الثانية , حيث اسفرت هذه الحروب والكوارث الاجتماعية والاقتصادية نتائج اكدت على انعدام القيم الانسانية وزعزعت كيان الانسان من القوى والتي بدات تهدد امنه ووجوده , وكما حصل في ماساة هيروشيما وبقية الحروب العالمية والتي افنت البشرية برمتها , وعلى اثر هذه الاحداث ظهر فلاسفة ومفكرين اخذوا يبحثون في كينونة الانسان وعن المعنى الحقيقي لوجوده , الا انهم لم يتوصلوا الى نتيجة تجدي في تفسير معنى لحياة الانسان ضمن هذه القيم البشرية ولا تاثيراتها لكينونته , عندها تاكد للانسان بانه يبحث طوال حياته عن معنى لاسباب وجوده في الحياة ولكنه لم يستقر على نتيجة الا في حالة واحدة هي الموت واللا مناص منه , لقد كان الانسان في بداية ايمانه بالدين وبالقوة اللاهوتية ( الميتافيزيقيا ) ومازال يسعى الى مبررات لوجوده في هذه الحياة , الا ان ظهور مفكرين ماديين حاولوا دحظ نظرية الايمان بالدين وبالقوة الميتافيزقيا كونها مبعث للخلاص النهائي للبشرية من هذا العالم المادي , الا ان الماديين كانوا يحاولون الاثبات بالادلة والبراهين بان الانسان هو جزء لكيان يحتل فراغا من الكون , وكيانه هذا مادام يحتل هذا الجزء من الفراغ فاذن هو موجود ,الا ان حياته لا معنى لها ان كانت نهايتها الفناء .
لقد حاول الانسان ومن بعد الحرب العالمية الثانية ان يجد قيمة لحياته , لوجوده , فلم يصل الى نتيجة تقنعه بقدر ماكانت استنتاجاته واستنتاجات بحوثه , على ان الانسان هو كائن حي يشغل حيز من الفراغ بقدر حجمه , اذن فاليحلو له ان يفعل مايريد ومن دون قيود تحد التزاماته بالعادات والتقاليد الاجتماعية والتي ورثها عن الاباء والاجداد والتي قد تقيد حريته وتحدد تفاعلاته مع الافكار المادية اليسارية ومع الافكار والمؤمنة بالعالم الميتافيزيقي , وانما وجد بان عليه ان يلهو وان يعيش وبموجب رغبته من اجل الاستمتاع بالحياة وكما يحلو له من اجل التنفيس عن ذاته بعد ان علم بان وجوده في الكون لا معنى له , فالحروب العالمية ولاسيما الحرب العالمية الثانية والتي زرعت الخوف عند الانسان وارهبته وجعلته في حالة من الكابة والمعاناة , هذه الحالة ادت الى ظهور كتاب وادباء مارسوا الكتابة لتجسيد كتاباتهم بافكارهم وفلسفتهم ونظرتهم للانسان ولحياته ومسيرته في الحياة , فتوصلوا الى نتائج سلبية لحيات الانسان التي يعيشها , حيث ولد وعاش في وسط تقاليد وعادات بالية جاهزة في المجتمع , الا ان وجهة نظر بعض الفلاسفة لم يعترفوا بهذه العادات والتقاليد بعد ان قادتهم كينونتهم في هذه الحياة الى العدم , ولهذا عمد المسرح العبثي الى خروج الانسان من الدائرة التقليدية ودعاه الى الابتذال لكافة العادات والتقاليد غايته تجسيد افكار فلاسفته وكتاب نصوصه , داعيا الى حرية الفرد في الحياة , وخروجه عن مفاهيم العادات والتقاليد والتي تقيد حريته , ولهذا وجد بعد الحرب العالمية الثانية فلاسفة العبث بنظرية مفادها : ( عدم وجود لمعنى كينونة وحياة الانسان مادام يعيش في ظل عادات وتقاليد تحدد من حريته ) , ولهذا كان لا بد من الخروج عن العادات والتقاليد البالية والتي طرحها المسرح التقليدي , لكونها فقدت عملية الاقناع , وبهذا يكون المسرح العبثي باطروحات نصوصه قد تمرد على نصوص المسرح التقليدي والذي يعيش تحت واقع تحكمه العادات والتقاليد , وبدأ يطرح الافكار والتي قد لا تتضمن العقلانية في الطرح وكما هو موجود في المسارح الواقعية , وكذالك المسرح العبثي يتميز ببعده عن الصراع لكونه يتفق مع بقية شخوصه بالمفاهيم والفلسفة المطروحة ومن خلال دايلوجات ليست محكمة في الاقناع والايمان بما يطرح .
ولهذا فان المسرح العبثي لا توجد في لغته معاني ثابته وحقيقية ومنطقية وعقلانية بقدر ماهي لغة مبطنة وتتضمن لغات ومفردات كلمات متشابهة باللفظ ومختلفة بالمعنى , وغايتها السخرية من بعض العادات والتقاليد .
ان فن الدراما في العبث يتضمن اللاوجودية والتي لا تعترف بالمنطق , ومؤكدة على الاشياء المستحيلة والغير المقبولة منطقيا , فتفسير الحرية في المسرح العبثي عدم الاعتماد على المنطق , لان تفسير الحرية في هذا المسرح لا يعتمد على تقييد الحركة , وكل مايطرح ومن خلال مفهوم المسرح العبثي هو مفهوم لا معقول كمثال على ذالك ( في مشهد لزوجة تحب زوجها فتضعه على جمرة من النار اي من خلال شواية اللحم , وتحاول شويه وموته من اجل انقاذه من الامه واوجاعه والتي هي السبب في معاناته وتعذيبه ) فعند العقل والمنطق هذا غير مقبول , او في الاونة الاخيرة ظهر في الطب ابرة الرحمة والتي تقضي على الانسان وتحقن المريض بها وبموجب موافقة ذوي المريض لانقاذه من العذاب والذي لا مناص منه , وهذه ايضا لا معقول وضد العقلانية والمنطق لان مجتمعنا مازال يعيش ضمن العادات والتقاليد والتي لا تقبل بهذا المنطق .
اذن ان ايمان مسرح اللامعقول مرفوض من لغة المعقول , لان المعقول هو عبارة عن لغة سطحية تتعامل مع الاشياء بشكل سطحي , فهذا المسرح يخلق علاقاته للفرد مع الايمان بالحرية اللامحدودة , اي الحرية المسمومة والتي تجعل الشخص يتعامل بسطحية مع الاشياء , ولهذا فان المسرح العبثي يحاول القاء الضوء على ان الحياة لا معنى لها ان لم تمارسها بحريتك وبرغبتك الشخصية وبعيدة عن التاثيرات الاجتماعية كالعادات والتقاليد والتي تفرض على الانسان فرضا , اضافة الى تسليط الضوء على واقع الانسان بانه يجب ان يعي على الواقع الحقيقي لوجوده في الحياة , ولهذا ففي المسرح العبثي توجد دراما متمردة على الحياة , ايمانا منه بان الحياة العبثية هي انطلاقة لممارسة الحرية والتي لا تعتمد على القيود والتقاليد الاجتماعية بقدر ما هي حرية تعتمد على اللامنطق وعلى اللاوعي , لان ما ينبعث من ردود افعال الذات هي حرية تعتمد على التنفيس والتطهير لذات الانسان والذي يؤمن بان حياته لا جدوى من استمرار نمطيتها وعلى ضوء ما تؤمن به بعض المجتمعات من تحديد حرية الفرد بالعقل والمنطق وممارسة العادات والتقاليد والتي ظهرت من زمن قديم و توارثها المجتمع ابا عن جد ليجد نفسه في داخل محيط من القيود تحدد نمط حياته والتواقة الى ممارسة الحرية ومن خلال تفكيره والذي يبتعد الى ابعد الحدود عن العقل والمنطق .
ان العبث يؤمن بلغة الخيال والتخيل والاحساس الذاتي للفرد , ولا يؤمن بلغة تحدد حريته وتجعله يعيش باوهام الواقع التقليدي والذي يجبر الانسان على ان يعيشه وهو غير مؤمن به , لانه يؤمن بان مثل هذا الايمان يقوده الى اللاجدوى .
ان الانسان العبثي يعيش في واقع وهمي وغير منطقي عندما يفكر وكانه مازال يعيش في رحم امه , وانما عقله وادراكه الحسي والداخلي يجعله يحلق في تفكيره الى اللامحدود وحتى النهاية والتي قد لا تكون منطقية او مقنعة للمجتمع ضمن واقع يعيش تحت تاثيرات العادات والتقاليد والمتوارثة من المراحل والازمنة الماضية والتي لا تتفق مع التطور الحضاري للانسان .
كانت لالبير كامو فلسفة خاصة لحياة الانسان في الوجود , فهو يؤكد وفي عدة نصوص بان الانسان يولد وله حرية الاختيار في كيفية ممارسة حياته اليومية , فهو حر في اختيار مايناسبه من مباهج الحياة , ولهذا فهو يحصد سعادته وبموجب ماتنتج عن حصاد اعماله في الحياة , ولقد عبر عن هذه الفلسفة في عدة نصوص ايضا اختارها لتجسيد فلسفته في الحياة , وكان دائم التسائل مع نفسه , هل ان الحياة تستحق منا التضحية من اجل ان نعيشها وكما يرغب الاخرين ؟ او هل من الصح ان نعيش الحياة وبموجب العادات والتقاليد والتي ورثناها عن اسلافنا ؟ , وهل من الواجب ان نعيش الحياة وعلى ضوء العادات والتقاليد والتي ورثناها عن المراحل الماضية من الزمن والتي لا تشبه الحالات الظرفية من حيث الظرف السياسي والاقتصادي والنفسي والثقافي والديني للظرف الحالي ؟ وهل ان الحياة تستحق ان نحياها وكما هي ؟ ام من الضروري ان نكيف ظروفنا اليومية والحياتية وكما هي من وجهة نظرنا ؟ اذن لنستمتع بها ونعيش سعادتنا وكما نحسها حتى وان كانت مخالفة للعادات والتقاليد الكلاسيكية والسائدة في المجتمع .
لقد بدأ هذا الفيلسوف حياته مجهريا يفحص كل مايجول من العلاقات الانسانية في المجتمع , لقد بدأ عالما نفسانيا يتفحص الحالات النفسية والتي تتمخض منها ردود افعال الذات للانسان ويحللها ويتسائل مع نفسه , هل من الضروري ان نعيش الحياة وللوقت الذي تحدده لنا الاقدار الخارجة عن قوانا وارادتنا ام لنتحكم بنهاية حياتنا متى ما علمنا بان النهاية المحتومة هي الموت لنختار الوقت المحدد لانهائها ؟
ان البير كامو اعلن التمرد على هذه العادات والتقاليد البالية , واعطى للانسان حرية الاختيار وبما تستحق حياته وعلى ضوء ضروفه الحياتية والتي يعيشها وكما يحلو له .
العبث عند البير كامو هو الصراع والتساؤل عن الكون والذي لا يتعامل مع العقل والمنطق , ولهذا كان البير كامو يتمرد على الكلاسيكية الموجودة في الحياة , فهو في محاولته هذه كسر القيود وخرج عن نطاق دائرة العلاقة المرسومة من غيره لحياة الفرد , استطاع ان يتوصل الى العلاقة بين التمرد والحرية والرغبة , فلقد تمرد على واقع المجتمع ورفضه رفضا قاطعا , وبهذا استطاع ان يعيش حريته وكما قادته رغبته الى تحقيق هذه الحرية , ومن خلال نظرته لذات الانسان وعلاقته بالكون , انا موجود اذن لامارس حريتي وكما يحلو لي وكما ارغبها , لا كما يرغبها الاخرون بفرض قوانينهم وانظمتهم الاجتماعية عليا , لاعيش حياتا مفروضة عليا وليست باختياري , وعليه فان كنت احس بالحياة والرغبة في تكملة مشواري فيها فانا موجود , وان لم اتحسس طعم الحياة ولم اشعر بها فاذن انا لست موجود , وعليه فان الشعور والاحساس الداخلي للانسان هو الذي يحدد رغبته في كيفية اختياره للحياة , لا كما يحلو للاخرين ان نحياها وكما يرغبون , فكل شيىء مسموح في حياتنا , لان هذا الشعار يحمل من الالم والماساة في ذاتنا اكثر مما يحمل السعادة والفرح , لانه وبموجب رغبة الانسان ومحبته لممارسة حريته , يعتقد بانه ليس هناك نظام او قانون يحاول ان يفرض على الانسان ومن دون رغبته , فان ارادة الانسان في الحياة يجب ان لا تكون بموجب المنطق والعقل , وانما يجب على الانسان ان يحقق رغبته الذاتية وتجسيد احاسيسه وشعوره وبما يحس ويرغب , ليكون سعيدا بتحقيق مايسعده ويلبي رغباته الذاتية , ولهذا يجب على الانسان ان يحدد بنفسه نهايته وبالكيفية التي يرغبها , لان هناك من الاعمال والتي تسفر عن نتائج تحقيق رغباته الذاتية منها مايخدم البشر , ومنها ما يسيىء اليهم , وعليه فان الاهداف التي توصل لها الانسان العبثي هو ان يعيش حاضره بروح متفائلة ومتفتحة البصيرة في كل لحظة من لحظات حياته .
لقد الرتبط اسم البير كامو بالعبث , الا انه وفي عدة مناسبات ولقاءات اكد انه ليس منتميا الى العبث واللامعقول , انما هو لم يكن يبالي بما كان يحيطه من العادات والتقاليد , والتي قام بكسر طوقها وخرج عن ممارسة قيودها , فلم يكن يبالي بما كانت تسفر عنها من نتائج ان كانت محمودة او بالعكس , ولقد اخذ بهذه النظرية كدراسة لتدريس هذا المذهب الادبي والذي ظهر في منتصف القرن التاسع عشر , نظرية وفلسفة ومدرسة خاصة به .
ولد هذا الفيلسوف البير كامو في الجزائر عام 1913 فقير الحال , يتيم الاب بسبب وفاته في الحرب العالمية الاولى , حيث عاش مع والدته الاسبانية في منزل بسيط في حي من احياء الشعبية والفقيرة في الجزائر , لقد حصل على البكالوريوس , وعمل باعمال ادارية وتجارية لمتابعة دراساته الفلسفية , انما في نهاية حياته اصابه مرض السل والذي منعه من حصوله على شهادة الاستاذية في الفلسفة .
لقد احب البير كامو المسرح , بحيث اسس فرقة مسرحية ومن خلال نصوص كتبها تجسدت افكاره الفلسفية وجسدها في عدة نصوصه المسرحية والتي اقتبسها من نصوص قديمة وجسد من خلالها جميع افكاره الفلسفية والتي خدمت اهدافه , سيما وان ظروف احداث تلك المسرحيات تختلف عن مراحل الحياة التي عاشها , انما قد تفيد الافراد في المجتمع الذي يعيش مرحلته الظرفية , وبالفعل قد اعجبت كتاباته العديد من المهتمين بالادب المسرحي .
وهكذا انتهت حياة هذا الفيلسوف وهو مؤمنا بان الحياة التي يحياها الانسان , لا جدوى منها لكونها لا تحقق حريته ورغبته واختياراته في الحياة .
وتبقى كلمة اخيرة بحق هذا الكاتب الفرنسي الجزائري , وكعادة معظم كتاب وادباء العالم , حينما يستعرضون حياتهم وتاثراتهم الفكرية , يحاولون التنصل من هذه التاثيرات وكما ان البير كاموا صرح ولعدة مرات متنصلا عن الفكر الوجودي والعبثي , وانه كان متاثرا بالحزب الشيوعي اليساري , وهناك خلافات حصلت بينه وبين الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر مما ادت الى افتراقهما لاختلافهما بالفكر والفلسفة .
انما بقيت افكار البير كامو مخفية مع نفسه حينما توفي وفارق الحياة , حيث تذكر بعض المصادر انه توفي نتيجة اصابته بمرض السل , ومصادر اخرى تذكر ان سبب وفاة كامو بحادث سير سيارة ومع السائق والذي كان يرافقه في السفر .
الا ان الحالتين هي النهاية الحتمية لحياته والذي لم تكن ياختيارات كامو , لقد فارق الحياة بعد ان خلف ارثا ثقافيا من النصوص الادبية منها : الطاعون , الموت السعيد , المنفى والمملكة , اسطورة سيسيفوس , الغريب , العادلون , الرجل الاول --- الخ .
0 التعليقات:
إرسال تعليق