دمون صبري مابين السينما والمسرح و القصة القصيرة / جوزيف الفارس
مجلة الفنون المسرحيةدمون صبري مابين السينما والمسرح و القصة القصيرة / جوزيف الفارس
كثيراما تلعب الظروف الاجتماعية في مقدرات حياة الافراد , فمنهم من يعلو شانه , ويصبح نجما لامعا وناشطا يشار له بالبنان , ومنهم من يهمش الدهر مسيرته وتحط من شانه , وقد تهمل مسيرته وبالرغم من انها مسيرة تحمل مضامين فكرية وثقافية فيها سمات من الحداثة والتطوير في الاساليب الكلاسيكية والمتداولة في حينها تدفعه رغبته في ريادة مدرسة يسعى من خلالها ترسيخ اساليب جديدة في الكتابة ان كانت في مجال القصة القصيرة او في مجال النصوص المسرحية .
ولهذا فان اي كاتب لا تتفاعل كتاباته و مضامينها مع هموم الشعب والمجتمع لا يلقى لها رواجا اعلاميا لتساهم في دعم هذه الانتاجات الادبية وتضعها بين ايدي القراء ليتفاعلوا معها لتثمر عن توعية ثقافية تساهم في تطوير الحركة الثقافية في المجتمع , لذالك كانت تجربة ادمون صبري الروائية والقصصية تجربة نابعة من واقع المجتمع مجسدا من خلالها المشاعر والاحاسيس الوجدانية من خلال مشاركة هموم الفقراء ومعاناتهم وتالمه لمنظر المتسولين من الصغار والكبار وهم يتجولون في الشوارع والازقة والحانات , ومنظر العائلات المتعففات والاتي لا يجدن لقمة عيش يسدون بها جوع بطونهم ,ومنظر العاطلون عن العمل يجوبون الشوارع طلبا للرزق الحلال ومن غير جدوى , جميع هذه الصور المأساوية كانت ترسم خطوط افكار متجسدة من خلال شخصيات قصصه ورواياته ونصوص مسرحياته , لقد ظهرت انتاجاته الادبية للعيان عن طريق ( مجموعات قصصية ) وعن طريق السينما في فلمين عراقيين ( سعيد افندي ) و ( من المسؤول ) وفي المسرح كانت نصوصه عبارة عن مضامين فكرية يسارية يعالج من خلالها الفوارق الطبقية وظاهرة البطالة وانتقاد الانظمة الحاكمة في حينها فجائت نصوصه ملحمة فيها من مشاعر الالم وتشخيص السلبيات وانتقاد العادات والتقاليد البالية في سخرية يعالج من خلالها امراض المجتمع في نصوص مسرحية واقعية مثل مسرحية ( الست حسيبه ) ومسرحية ( ايام العطالة ) ومسرحية ( مارس اله الحرب ) وانا من المخرجين الذين تاثروا بكتاباته مما اسفر هذا عن اخراجي لمسرحيته ايام العطالة والتي قدمت على المسرح القومي في بغداد وسجلت للنلفزيون من قبل المخرج الرائد المرحوم كارلو هارتيون في حينها .
كان الكاتب الروائي والقصصي والمسرحي العراقي ادمون صبري يعيش مأساة شعبه متاثرا بها باحثا عن الاسلوب الواقعي لتجسيد هذه الصور المأساوية في نصوص قصصية او روائية او مسرحية يطرحها للملاء معريا ومشخصا اسباب هذه المأسي باسلوب بعيدا عن التزويق بمفردات لغة بسيطة ترتقي بتعبيرها واحاسيسها الى صور يلتقطها من واقع المجتمع ترتقي باسلوب التجسيد الى مستوى كاتب وقصصي وروائي واقعي ثائر ,يحمل بين احاسيسه الام شعب يعيش محنة الفقر والجوع والتشرد والبطالة .
لقد اتخذ الكاتب والاديب ادمون صبري من المدرسة الواقعية اسلوبا في كتابات قصصه القصيرة ونصوصه المسرحية , اضافة انه كان يستعمل التورية الرمزية في مفردات جمله والتي كان يطلقها عن طريق شخوص نصوصه كما كانت في فيلم سعيد افندي وعن طريق الفنان ( يوسف العاني ) والنقد اللاذع لبعض الظواهر المدانة ليعالجها بشيىء من السخرية كما جاء في مسرحية ( الست حسيبه ) ومسرحية ( ايام العطالة ) وكذالك عمد الى الاسلوب الرمزي للتعبير عما كان يحسه ويعاني منه في مسرحيته الرمزية ( مارس اله الحرب ) والتي اخرجها الفنان المرحوم سالم شفيق وقد شاركت فيها يتجسيد شخصية مارس والتي قدمت من على مسرح المركز الثقافي السوفيتي في بغداد , ولهذا نالت انتاجات ادمون صبري الادبية اعجاب واستحسان معظم المثقفين المسرحيين والمنتجين والمخرجين السينمائيين مما حدا بهم الى انتاج فيلمين سينمائيين له , اولهما فيلم سعيد افندي والذي اخرجه المخرج كامران حسني اضافة الى فيلم من المسؤول .
والملاحظ ان اسلوب ادمون صبري في كتابة نصوصه ادت الى انقسام اراء بعض المثقفين مما عاصروه لكونه كان بعيدا في كتاباته عن التزويق وفنون التعبير الشعري , واخرون يرون في كتاباته صواب اسلوبه في معالجة هموم شعبه من خلال الدخول الى الاحداث الواقعية متناولا اياها باسلوب جاد ومباشر مجسدا من خلالها صور لحياة واقعية شابها التعبير للاحاسيس والمشاعر الوجدانية استطاعت ان تصل بشكل سهل ومباشر الى احاسيس القراء والادباء والمثقفين من معجبيه من هواة الادب والفن في عصره .
لقد وصلت انتاجات ادمون صبري الادبية الى العالم اجمع , وترجمت الى لغات عدة لاهتمام مضامينها بالفقراء وتصوير بؤسهم من حياة قاسية ومعانات مؤلمة وجائرة بحق شعب العراق عموما والذي على اثرها اعتقل في شباط سنة 1963 وحرقت مؤلفاته حرقا وتمزيقا حيث برز هذا الكاتب ومن خلال افكاره اليسارية في الخمسينيات من القرن الماضي كقاص ومترجم واديب كان له دورا فاعلا في الحركة الثقافية لغزارة انتاجاته الادبية في القصة والمسرح والسينما وبعد الافراج عنه عاد لمزاولة الكتابة باسلوبه الواقعي الرائع وتجسيد حياة المعتقلين ومعاناتهم وقساوة الظروف التي كانت تحيط بهم .
كان ادمون صبري مؤازرا ومدافعا ومناصرا لقضايا الانسان الفقير وصوته كان صوتا جماهيريا يعلو من خلال قلمه ومؤلفاته مستمدا معاناته من انتمائيته التي تنحدر من طبقة فقيرة عاشت في قرقوش وانحدرت الى الموصل ليتزوج من امراة عاشت معه الحياة القاسية والتي استقرت في بغداد ليشغل وظيفة الترجمة في وزارة الثقافة والاعلام في بغداد والذي تشرفت لزيارته ولعدة مرات في مقر عمله .
ادمون صبري والمدرسة الواقعية
ايام العطالة , هذه المسرحية تناول احداثها باسلوب واقعي صب فيها جم مالاقاه من معانات البطالة والحرمان , انها باكورة الاعمال المسرحية للمسرح العمالي والتي اخرجتها لمكتب نقابة البرق والمطابع والاعلام , وقد مثل ادوارها كل من الفنانة المسرحية مريم الفارس والفنانة سناء سليم وعماد بدن وصبحي العزاوي وعبد الرزاق الشريفي وسعيد سامي .
كان المرحوم الكاتب العراقي ادمون صبري يتابع التمارين اليومية وبشغف لمسرحية ايام العطالة , حيث كانت احداثها تعبر عن معاناته ضمن مرحلة من مراحل حياته , انها تجربة قاسية عاش ظروفها متناولا احداثها من الواقع المرير الذي عاشه , وكنت في وقتها في التمارين اليومية اراقبه من طرف عين لاشاهد ردود افعاله المرسومة على وجهه واتبين مدى تعاطفه مع العمل , فينتابني فرحا وانا اشاهد علامات البشاشة والابتسامة مرسومة على وجهه ,فمن باب الفضول كنت احب ان اتعرف عن رايه واطلع على اسباب هذه الابتسامات والمصحوبة بكلمة ( حلو ) فكان يجيبني , هسه داشوف نفسي واتذكر ايامي لمن جنت عاطل عن العمل , كان حضوره رحمه الله يشدني الى العمل اكثر لكوني كنت اتعرف على مدى مصداقية عملي ونتائجه المثمرة فيزيدني ببشاشته حماسا في العطاء اكثر مما كان عندي .
ادمون صبري والمدرسة الرمزية
قد يتصور البعض ان ادمون صبري اكتفى بالاسلوب الواقعي للتعبير عن رؤيته ومشاهداته ومفضلا الاسلوب الواقعي مدرسة له , وانما حبه للمدرسة الواقعية لم يمنعه من طرق ابواب تجربة المدرسة الرمزية حينما كتب مسرحيته مارس اله الحرب , هذه المسرحية كانت شخوصها عبارة عن امراض معدية منها الكوليرا والجدري والسل والذين هم ادوات مبيدة تسفر عن كوارث بيئية وصحية يستغلها مارس اله الحرب ليفتك من خلالها بالشعوب , فكان يرمز بشخصية مارس الاستعمار , وبقية الافات الجرثومية هي وسائله والتي من خلالها يفتك بالعالم وبالبشرية اجمع ( هذه المسرحية جسدت من خلالها شخصية مارس اله الحرب , والفنان المعتزل طارق القصاب , واسماعيل مشكور في شخصية الجدري , وابنة ادمون صبري من زوجته والتي جسدت شخصية الكوليرا , وقد اخرجها الفنان عضو الفرقة القومية للتمثيل المرحوم سالم شفيق في وقتها وعرضت من على قاعة المركز الثقافي السوفيتي في شارع ابي نواس في بغداد .
كان ادمون صبري يلجأ في بعض كتاباته الى المدرسة الرمزية في تشخيص سلبيات الواقع المرير للنظام السياسي في وقتها , والى الواقعية تارة اخرى ليكون ضمير الشعب وصوته الرافض للقمع والظلم والفساد الاداري ومحاربة العطالة والاوضاع الرديئة للبلد مناديا بالتحرر والانعتاق ناقدا وبسخرية منبعض الشخصيات التي كانت تلعب دورا في رسم سياسة العراق الداخلية والخارجية .
واخيرا رحل هذا القاص والاديب العراقي ادمون صبري نتيجة حادث مؤسف وهو عائد من محافظة الموصل الى بغداد بعد ان ترك بصمة ادبية فيها من الشجاعة وعدم الخوف من نتائج هذه الشجاعة في اقتحام ما هو موصود امامه ليفتح افاق الحرية والانعتاق من العبودية وعبادة الاصنام الحاكمة في زمنه ومن خلال مضامينه الفكرية , حيث انتشرت كتاباته ووصلت الى معظم انحاء العالم مترجمين قصصه وحكاياته القصيرة الى الفرنسية والروسية والى الانكليزية والتي نالت اعجاب الكبار من مشاهير كتاب العالم .
0 التعليقات:
إرسال تعليق