بين الجدران... عرض مسرحي يترجح بين الكلاسيكية ومسرح الفرجة / د. سمير حنا خمورو
مجلة الفنون المسرحيةبين الجدران... عرض مسرحي يترجح بين الكلاسيكية ومسرح الفرجة / د. سمير حنا خمورو
لعبة ديناميكية وإيقاعية، هي التي لجأ لها المؤلف والمخرج ألكسيس ميشاليك Alexis MICHALIK في مسرحيته الجديدة "بين الجدران" التي تقدم على المسارح الباريسية وآخرها مسرح البيبنيير La Pépinière Théâtre في باريس، العملية الاخراجية تترك جزء من لعبة الاداء، لخمسة ممثليين متمكنين يتراوح بين التمثيل الكلاسيكي وأداء المهرجين والذين ينقلون للمشاهد عمق ومأساة قصصهم. يأخذنا المخرج والمؤلف ميشاليك إلى السجن في رحلة مدهشة حيث تتداخل مصائر شخصيات مؤثرة ومثيرة للأحاسيس .
الحكاية التي كتبها الممثل والكاتب المسرحي والمخرج ميشاليك، ويعتبر واحد من اهم الفنانيين المسرحين في السنوات الخمس الاخيرة في فرنسا، انه تخيل مسرحية داخل مسرحية بين جدران السجن. يأتي احد المخرجين ريشارد (بول جينسون) ليعطي دروسا في التمثيل المسرحي للمساجين، ترافقه زوجته السابقة (جان آرين) وهي ممثلة ايضا. ويأمل ان تكون هذه الدورة بداية لدورات اخرى، يحصل منها على مردود مالي. وقد سبق للمسؤول الاجتماعي في السجن ان أذاع الخبر وطلب ممن يرغب من المساجين بالتسجيل ان يتقدم في وقت ويوم معين. ولكن المفاجأة، ان اثنين فقط من السجناء سجلا في هذه الورشة، الاول "كيفن" (فيصل صافي) شاب متهور، ممتلئ بالكراهية، فوضوي، مضحك، وثرثار، ارتكب جرائم عدة منها السرقة بالسلاح الناري من الضواحي، وإنجل (برنارد بلانكان) رجل فض يبلغ الخمسين من عمره، لا يتحدث كثيرا، وهو هنا لمجرد مرافقة صديقه، وتحضر ايضا مشرفة اجتماعية (أليس دي لونسنك)، قليلة الخبرة ومندفعة وراغبة في التعلم وهي تنوب عن رئيسها، يصاب ريشارد بالإحباط في اول الامر، بسبب عدم حظور عدد كافي للورشة المسرحية.
- "بما ان العدد السجناء قليل فأنا اعتذر...ولهذا ارى ان علينا ان نلغي الدرس" ويحاول الخروج ولكن المشرفة الاجتماعية تحاول ان تثنيه، تقول "له انتظر، انتظر، اسمح لي...يبدو انك لا تقدر الجهد الذي بذلناه لاقناع إدارة السجن ... ثم انك لا تقدر جهد هذين السجينين ان ياتوا لحضور دروسك .. وأستطيع ان اشترك معهم..." وامام إصرارها يستمر المخرج في مهمته ويختار إعطاء الدرس. ولا يجد أمامه غير ان يطلب منهم ان يرتجلوا، عن طريق رواية قصص بعضهم لبعض، حكايات، وحوادث من حياتهم الشخصية، وان يقوموا بتنشيط ذاكرتهم باستعادة لحظات يعتبروها مؤثرة. المساعدة الاجتماعية تحذر المخرج في بداية الدرس: "لا تتحدث معهم عن أسباب حبسهم". وعلى الرغم من هذا الحظر ، فإن القصة شيئا فشيئا وبالتدريج ستركز فقط على ماضيهم الغني والذي لا يمكن التنبؤ به. يحاول المخرج ان يبدأ الدرس بشرح ما هو المسرح "الذي اريد ان أقوله لكم ان المسرح...، انتبهوا ان المسرح ليس علاجا نفسيا، اننا هنا ليس لمقاضتكم، أننا هنا لاكتشاف المشاعر".
لأن هذا هو المسرح، وهذا هو ما يعلمه ريتشارد "لتلاميذه" السجناء، التخيل الذي يفتح أبواب جميع السجون والمسرح يسمح لنا أن نعيش حياة حالمة بجوار تلك التي هي حقيقية... على الاقل ان تكون الحياة الحالمة جميلة، وإن لم تكن حقيقية، المشاهد يتلمس في هذا الاكتشاف قصة تقود إلى قصة أخرى، ومن ثم اخرى، مثل لعبة الدمى الروسية. وتدريجيا، يتم بناء وتشكيل القصة عن طريق تجميع نتف، واجزاء، مثل لغز الوصل الى حله يكشف أحيانا لحظات مدهشة ومفاجئة.
وشيئا فشيئا، يدخل السجينين والمشرفة، وزوجته السابقة وحتى هو في اللعبة المسرحية، يكشف كل واحد منهم حياة كانت مختفية في أعماقه، ويشعرون بالراحة من رواية واخبار بعضهم البعض، حكايات كانت مضمومة في عمق أعماقهم، تظهر امام المتفرجين ك"فلاش باك". الاحداث تتسارع وتلهث مثل فيلم اثارة. ان بناء النص والاخراج يعتمد على مجموعة من المشاهد، تحدث في الوقت الحاضر والماضي وقد استعار المؤلف هذه التقنية من السينما، وايضا اُسلوب الانتقال والمزج، وبعد مرور بعض الوقت في الاستماع الى السجناء يشعر المخرج انه بحاجة الى التطهير، وانه سجين مثلهم، فقد حبس في دواخله أحداثا قادته الى الفشل تلو الفشل، ويبدأ بمشاركتهم في الارتجال، يصبح هو ايضا جزء من اللعبة التي ادخل كل العناصر فيها، ويبدو انه حبس نفسه في النص ايضا، واقصد النص الذي صار يتشكل بالتدريج امام المتفرجين.
ولكي يتحدث عن نفسه يسأل المخرج انجل هل لديك اطفال، ولا ينتظر ولا يسمع الجواب فهو يريد ان يقص على نفسه وبصوت عالي مأساته ايضا، يقول بألم "اذن هذه هي الماساة عندما تريد ان يكون لك اطفال، ولا اطفال لديك، عندما تفقد المرأة التي تحب، وعندما تستيقظ في الصباح، وتقول ليس هناك احد بجانبي، انا ابكي عادة، عندما أكون وحدي واجلس على الكرسي وابكي"، ويترك الجواب لمشهد اخر نراه جالس الى مائدة مع الفتاة تقول له "تحاول ان توضح لي ان زوجتك مع رجل اخر، مع الرجل الذي اخذ مكانك في المركز الدراما الوطني ؟" المخرج "بالضبط"، وتنفجر المراة "يا لها من عاهرة" وبسرعة "آسفة”!
ومن هذه الأجزاء المتناثرة، تتكون وتكشف حقيقة حياة كل منهم، سوف تأخذ القصة منعطفاً غير متوقع، تترابط العلاقات وتتشابك فيما بينهم، انها مشاهد لحياة أناس عاشوا معاناة اجتماعية ونفسية وعاطفية، وليسوا مجرد سجناء بلا ملامح، مجرد كليشهات بالنسبة للمجتمع - للجمهور - ومن المستحيل ألا تندهش وتأسرك هذه المغامرة. انه سحر المسرح الذي يحمل مَنْ في القاعة المظلمة الى البعيد الى اجواء حالمة. يؤكد المؤلف المخرج بعد ثلاثة مسرحيات ناجحة، انه مقتدر في لعبة تداخل الازمنة فهو يكرر العودة الى الماضي، والحاضر، ويربط بينهما بطريقة سلسلة جدا ودقيقة.
من المشاهد الجميلة عندما يقوم كيفن بإعادة تمثيل دخوله الى محل وبيده مسدس ويهدد الجميع بالقتل، ويمثل كل من على المسرح، الزبائن المرعوبين. ويتعامل بعنف وحقد حتى انه يسحب فتاة تحاول الاختفاء من شعرها. ثم مشهد على انه محكمة، طاولة صغيرة وامرأة جالسة توجه كلامها له، لقد صدر الحكم عليك بالسجن 10 سَنَوات، انه مشهد في غاية البساطة من حيث التكوين وعلينا ان نتخيل ان هذه محكمة. ولكي يدلنا المخرج ان الشاب هو صوت انجل، وانه رجل بسيط لا شخصية له، رغم مظهره القوي، يسأله "، منذ متى وانت هنا"،.ولكن الإجابة تأتي من الشاب، "انا صار لي 14 سنة"، بهدوء يلتفت الرجل ويهمس في أذنه 28، فيعود كيفن الى تصحيح الرقم "28 سنة"، يوجه المخرج كلامه للرجل الصامت، ان 14 سنة و28 ليس نفس الشيء، انجل يقترب من صديقه الشاب ويهمهم، ثم عندها نسمع كيفن يجيب وكأنه انجل " امضيتُ 14 سنة، خرجتُ لمدة ستة اشهر، وهنا صار لي 14، وكذلك مشهد اكتشاف الفتاة ان والدها لم يمت بشكل طبيعي كما كانت تخبرها أمها بل قتل، فتواجهها بعنف محاولة معرفة ماذا حدث ؟
بالطبع ان النص والإخراج رغم جودته ليس بمسرح الفن الخالص، انها تقترب من مسرحية الفرجة، ولكن على الاقل براعة حرفية ممتازة، دون إغفال القيم الانسانية لدور المسرح بين الجماهير.
يستخدم المخرج عناصر قليلة من الديكور الذي يظهر ويختفي مع كل مشهد، طاولة صغيرة، سرير على عجلات، واربعة كراسي، خلفية داكنة، وأرضية المسرح سوداء، ومساحة مستطيلة رصاصية اللون محاط بشريط ابيض، هي منطقة التمثيل، تغير ملابس الممثلين بسرعة هي للدلالة على شخصية اخرى ليس إلا، والانتقال ما بين المشاهد يتم بالأستعانة الدقيق للإضاءة. واستخدم موسيقى حية لمرافقة الاحداث وابراز المشاعر، وايضا تأكيد رد فعل المتفرجين، مع اللجوء الى مؤثرات صوتية مضخمة كما في السينما. كل شيء مخطط له بدقة. لقد تم تشكيل الحركة والديكورات ببراعة منظمة.
يتأرجح النص بين مسرحية دراماتيكية، تتخللها بين فترة واُخرى ردود هزلية، في الجزء الأخير من خلف الجدران Intra Muros هو الأقل متعة من الناحية الفنية. بمجرد ان يتم تعرية الشخصيات، والإحساس بحقيقة وجودها، يتحول البناء السردي في الجزء الاخير الى المباشرة في مخاطبة الجمهور مما يؤدي الى الإخلال بالعمل المسرحي كوحدة بنائية. ومن المعيب في النص رواية النكات المباشرة للجمهور، واعتقد ان هذه النكات ادخلت على النص اثناء التمارين، او ربما لاطالة وقت المسرحية وايضا ان الجمهور الفرنسي بصورة عامة يستمتع بسماع النكات، وفِي النهاية يخرج الجمهور سعيدا وراضيا.
أداء الممثلين الخمسة رائع وفيه حيوية، وتظل عواطف ومشاعر المتفرجين مشدودة الى خشبة المسرح، ومتابعة للقصص، تارة تتدفق الدموع، وبعدها بلحظات تنفجر القاعة بالضحك العنيف. خاصة حيوية الممثلة الشابة أليس دي لونكوسان (وقد اثارت الانتباه في فيلم إصلاح المعيشة، للمخرجة كاتيل كويليفيري)، التي كان لها حظور ملفت في تقمص ادوار متعددة، وكذلك الممثلة المتمرسة جان أرين، وكل منهما حاصلة على جائزة موليير، وقادرتان على المحافضة على إيقاع النص. المسرحية هي استمرارية للمسرحيات الاخرى للمؤلف ميشاليك، الذي يستخدم الازمنة لكي يفضح الفوضى الاجتماعية.
هذا العمل المسرحي عرض حتى الان على ثلاثة مسارح، وسيعود مرة اخرى بعد أسبوعين على المسرح الاولى الذي عرض عليه، والسبب الإقبال الكبير من الجمهور والنجاح النقدي أيضاً. جميع العروض تذاكرها مباعة مسبقا، خاصة وان الكاتب والمخرج ميشاليك يعتبر اليوم احد افضل كتاب ومخرجي المسرح الفرنسي. وقد اعتبرها النقاد مما لا شك فيه انه واحد من أفضل النصوص في السنوات الأخيرة.
مؤلف هذه النص ليس اول من اهتم بالسجناء وأتخذ السجن مسرحا للأحداث، ففي مسرحية الهروب الكبير La Grande évasion تأليف يوسف بوشيخي yusuf bwshykhy، تحكي أيضا الحياة اليومية للسجناء المسجلين في ورشة المسرح للحصول على تقليص مدة العقوبة.
في حين ان مسرحية خلف الجدران Intra Muros تتناول اوضاع السجناء من زاوية مختلفة تمامًا من خلال تركيز على قصص السجناء وعلى ماضي الشخصيات، بدلاً من التركيز على الدروس نفسها.
حبكة المسرحية مدهشة وساحرة، أن أليكسيس ميشاليك يمتلك فن سرد القصص الحقيقية، يرافقها دائما بمهارة إخراجية، أن لديه فن الغوص في أعماق النفس البشرية دون أن يدعي انه فرويد. اعماله تترجح ما بين الاحتكاك بالواقع عبر شخوص مختلقة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق