مونودراما "مهزلة الراعي" تأليف : د. موفق ساوا/ سيدني
مجلة الفنون المسرحية المشهد الأول
- على يسارِ خشبةِ المسرحِ،نرى ظِلالاً لأشخاصٍ - عبر السلايت-
وهم يَحْفِرونَ الأرضَ،
- على يمين خشبةِ المسرحِ،نرى ظِلَّ رجلٍ يَطوفُ بالأشخاصِ حاملا
مسدّسًا ويرميهم بالرصاصِ الواحدَ تلوَ الآخرِ فيسقطون جميعا أرضًا
- ثم نراه يكْسِرُ العصيَّ واحدةً فواحدةً و يغادرُ من يمينِ الخشبةِ
ضاحكًا …(يطلق عياراتٍ ناريةً و يختفي …)
المشهد الثاني
نَسْمَعُ صوتا جَهْوَرِيًّا:
مِنَ الناسِ مَن يعملُ في الليلِ بِلاَ قِناعٍ
وتحتَ لهيبِ الشمسِ لإشباعِ الجياعِ
ومِنَ الناس مَنْ يَنْتَحلُ صفاتٍ للخِداعِ
لإستدراج العوام والإيقاع بهم
لِحلْبِ قوتِهِمْ و غسْلِ أدمِغَتِهِمْ
فإنْ بــقـِيــتُــمْ كالخِــرْفانِ الصَــمّـاءِ
وعقولُـكم خَــرْقـــاءُ
فَسَـيُـصعَــقُ الإنسانُ في كلّ مكانٍ و زمانْ
ويــرقُـــدُ بــيْــنَــكُــمُ الشيـطــــــــــانُ في أمـــــــــــانْ
إذا كان الماضي قد مضى
ولم يَــعُـدْ يَـنْـــفَــعُ الـبكــــــاءْ
فلا تسْــتَـــعْــطِــفِ الذئــــابَ
لأنَّــها تعود دومــًا كالاوفياء
لكنْ في أقْــنِــعَـــةِ الكِـلابِ
المشهد الثالث
(قبل أن تلبسَ الشخصيةُ الرئيسيةُ رداءَ الراعي تَظْهَرُ على خشبةِ المسرحِ بملابسَ رثّــةٍ وكأنها من المُشَعْوِذيــنَ، تجولُ وهي تُمْسِكُ المسدّسَ بيدٍ و في اليدِ الأخرى عصًا على أنها صولجانٌ ثم تقول:
- ماذا أفعلُ؟؟
فأنا "تَـنـتـَابُــنـي دائمًا رغبةٌ جامحةٌ في القضاءِ على الأخضرِ واليابِسِ… تنتابُني الرغبةُ في السيطرةِ على عُقـولِـــــهِــمْ لجـعْـلِـــهِـــمْ كالخــرفــانِ …
فكيف العملُ ؟؟
سَـــلَـــكتُ شتّى الطُّــرُقِ لأسَيْطِرَ عليهِمْ فما استطعتُ…تعثّرتُ و وقعتُ.
جِــئــتَــهُم في النهارِ أمثّلُ دورَ الحمَلِ الوديعِ... فكشفوني …
جِــئــتَــهُم بالليلِ فقبضُوا عليَّ و عـرُّوا نـوايايَ و طـارَدُوني …
لم أجدْ سبيلاً لإحكامِ قبضتي عليهم، فما العملُ ؟
أنا أكرهُ السيرَ في الطرُقِ المُضاءةِ لأنها عُرْضةً للشُّبُهاتِ وللعيونِ المتطفّلةِ التي تتربّصُ بي.
أشارَ عليَّ الـنُّـصَحــاءُ أنْ أتطـهّـرَ بغَسُولِ الإستقامةِ وأغتسلَ بماءِ الحياةِ الصافي لكنني.. لم أفلِحْ في مغالبةِ تلك الرغبةِ الكامنةِ في أعماقي، رغـــبـــةٍ جامحـةٍ في القضاءِ على الأخضرِ واليابسِ …
فما العملُ ؟ ما العملُ !!!ما العملُ !!! أهااااااا الان الان تذكّرْتُ …
(يخرج هاتفه و يتصل)
- : هلو…هلو (لا ردّ) ولك، وينك …خومو نايِمْ
العراف: هلو هلو … هاي شبيك عصبي
- : هل أنتَ العـــرّافُ ؟
العراف: لا حفّارُ الــقُــبـورِ …طــبــعــًا أني العرافُ…تحتَ أمرِك
- : رجاءً أيها العرافُ، اقرأ طالعي وكلَّ ما تعرِفُه عنّي مِن خُبثٍ
ولُؤمٍ وكلَّ طُموحاتي اقرأها من رأسي حتّى أخمصَ قدميَّ واطرُدْ
طيشي وخُرافاتي.. اِكسِرْ رغبتي الجامحةَ في السطوِ والسيطرةِ
لعلّي أفيقُ من جنوني و تهــيُّـــؤاتـــي
العراف : صار تدلّلْ … والحساب؟
- : يمعود ليش ماكو ثقة
العراف : والله الثقة بهذا الزمان اختفت
- : عيني سيصل حسابك فورًا بس خلصني
العراف : صار من عيوني...(يدمدم بكلام غير مفعوم)
يا صاحبي، قلّبتُ فنجانَكَ مرّاتٍ و قرأتُــه مرّاتْ …
فكلُّ الجهاتِ فيه سُخامٌ في سُخامٍ…
- : لا بشرفك!!!
العراف: وفي قعرِ الفنجانِ بُقعةٌ سوداءُ سوداءُ في سَوادِ الشيطانِ وأكثرُ.
الشيطانُ يا صاحبي يُعَشِّشُ في سُوَيْدائِكَ، يعلّمك ألا حبَّ وألا
سلام، يقودك، ونت ضاغرًا، الى أقذرَ الحيلِ....وذاتَ يومٍ
سَـتــَنْــتـَــحلُ صفةً خطيرةً تكسِرُ بها إرادةَ بعض الناس …لكن حذارِ
ثمّ حذارِ يا صاحبي من الأسُودِ …حذارِ ثمّ حذارِ …
(يسكت صوتُ العرّافِ)
- : شكرا أيّها العرّافُ …(لنفسه) وأخــــيرا وسْوَسَ لي الشيطانُ أن
أفعلَ ما في داخلي وما أريدُ ... فأنا اللَّقيطُ ابنُ اللقيطِ ...
واليكم مني كل جديد ... أنا لهم …إلا أشَوَفـكُم نجوم الضحى
… إلا أشَوَفـكُم نجوم الضحى (وهو يخرج)
المشهد الرابع
(نسمع موصيقى...نرى دخانٌ كثيفٌ يُغطّي خشبةَ المسرحِ الفارغةَ…
يُسمَعُ ثغاءٌ مُتتالٍ لثلاثِ مجموعاتٍ من الخرفانِ مُوَزّعةٍ على يمينِ الخشبةِ ويسارِها وأقصى الخلْفِ …
حالَ سماعِ ِ موسيقى رهيبةٍ يَخفُتُ الثُّغاءُ تدريجيًّا…يهبِطُ من الأعْلى، وسَطَ خشبةِ المسرحِ صُندوقٌ أسودُ كبيرٌ نسبيًّا، وحالَما يَحُطُّ على الخشبةِ يُسمَعُ دقٌّ على براميلِ القُمامَةِ أو النِّفطِ التي اتُّخِذَتْ طبولاً و يُصاحِبُ الدقَّ ثُغاءُ الخرفانِ …
بعد ثلاثِ ضرَباتٍ قويّةٍ يُسمَعُ نشيدٌ خاصٌّ ثمّ يخرُجُ من الصندوقِ شخصٌ له هيْأةُ راعي الماشيةِ بِلِحْيَةٍ بيضاءَطويلةٍ وعلى رأسِهِ تاجٌ بثلاثةِ قُرونٍ، ويحمِلُ بِيَدِهِ عصًا طويلةً مُلوَّنةً بجميعِ الألوانِ…يُنجِزُ بعضَ الحرَكاتِ كالمُشعوِذينَ الدّراويشِ و يرْطِنُ بكلامٍ غيرِ مفهومٍ - أو مع موسيقى- ثمّ يجوبُ خشبةَ المسرحِ …يجولُ بين الخرفانِ ثمّ يقول:
أيّها الخِــرفــانُ الـوُدَعـــاءُ
أنا الوهْمُ الذي لا تراه عينٌ
مِن فِصامِ شخْصِكُم
جِئْتُ
ومن طنينِ ندائِكُم
و انتم …
منّي صُنِعْتُم فكيف يشتُمُني الذي
أمُدُّ له يدي؟!…
شجرًا جئتُكم وأنهارَا
فاشْرَبُوني ماءً
واقطِفوني ثمارَا
مُلَثَّمًا
جِئْتُكم،عليّ رداءٌ غيرُ رِدائي
فمَن في الظّلامِ لا يعرِفُني
ومَن ذا الذي في الشّكلِ والمَضمونِ
لا يُشبِهُني ؟!
جِئتُكُم
أزْرَعُ عظْمَ الهدهدِ بينكم
الفِتْنَةَ أريدُ و سفكُ الدّماءِ
مَطْلَبي …
أوْكَلْتُم إليَّ حِمايَتَكم
و ركعْتُم تبتَهِلون أيّاماً
سلّمْتُموني أمرَكُم
و بِتُّمْ خلْفَ الأبوابِ نِياما …
هيّأْتُم ليَ الأرض التي تمتَدُّ فيها عُرُوقي
و تَخْضَلُّ أوراقي و تُزْهِرُ أغْصاني …
(ثغاء)
أيّها الخِرفانُ
لا أحَدَ منكم يراني
فكيف نَمَا في حقلِكُم زُؤاني؟ !
طرَقْتُم أبْوابَ الوهمِ بابًا بابَا
و لِوَهْمِكُم وَهْمِي اسْتَجابا …
بِتُّ وهْمًا مُعَشِّشًا فيكم
ورائي تَرْكُضونْ
و بلا أمَلٍ تَزحَفونْ …
تَرْكُضون وراءَ سرابٍ ولا تمَلُّونْ
فما أنا إلّا سرابٌ في سرابٍ في سرابْ
(يُقَهْقِه ساخرًا )
(ثغاء)
ألمْ تقتُلوا بغبائِكُم ربيعَكُم
و بجَهْلِكُم عبَّدْتُم لي طريقَ الجبروتْ
فانْظُرُوا كيف أسْتَغِلُّ حماقَتَكُم
لأمَثِّلَ على خشَبَةِ هذا المسرحِِ
ما صنعَتْ أفكارُكُمُ العقيمةُ
كما كتَبَها قلمُ كاتبٍ جريءٍ
خرجَ على مُعْتَقَدِ القطيعِ ِ
فما أنا إلّا سرابٌ في. سرابٍ في سرابْ
(يُسمَعُ صوتُ بكاءٍ)
الراعي (بتعالٍ)
أنا الراعي الذي لا يراه أحدٌ
أنا الراعي الذي استجابَ لِنِدائِكُم
( ثغاء الخرفان)
أيّها الخرفان
إنْ أطعْتُم فلكمُ الجزَرَه
وإنْ لا، فالعصا لِمَن عَصَى
( ثغاء الخرفان)
كفى ثُغاءً أيّها الخرفانُ
و يا أيّتُها المخلوقاتُ المُطيعَةُ
غُضُّوا أبصارَكُم
وأسْمِعُوني التحيَّه…
هلِّلوا لِمَقْدَمي …
(يُسْمَعُ التهليلُ)
دُقُّوا الطبولَ و هُزُّوا الدُّفوفَ
تمجيدًا لِطَلْعَتي البهيَّه
(نسمع أصواتَ الدفوفِ والطبولِ)
أنا الراعي
"مالئُ الدُّنيا و شاغلُ الناسْ"
موْجودٌ أنا و غيرُ مَوْجودْ
كنتُ ولم أكُنْ
أراكُمْ ولا يراني أحدٌ
حتّى لو رفعْتُم أبصارَكُم فيَّ
( ثغاء جماعي)
أَصْغُوا إليَّ أيّها الخرفانُ
أنا …أنا الذي لا يرى
بِتُّ، بِفِعْلِكُم،
أرى الجنينَ في الأحشاءِ
أنا الذي لا يَسمَعُ
بتُّ، بِفِعْلِكُم،
أسْمَعُ دبيبَ النّمْلِ في اللّيلةِ الخرساءِ
(ثغاء جماعي)
بأمْري أنا، تُولدُ الأشياءُ …
كلُّ شيءٍ حين أقولُ له "كُنْ …يكونُ"
و بِأمْري أنا
تتوالَدون…تتكاثَرون
و بأمري أنا
تتحدّدُ السّاعةُ التي فيها تَمُوتُون !
فهلّا وعيْتُم من أحلامِكم والكوابيسُ
أنّني وهمٌ في هذا الكُونْ
(ثغاء جماعي)
كنتُ لا أرى ولا أسمعُ
فأصبحتُ بِفضلكُم سيِّدَ الكوْنِ
نسيجَ وحدي في الطُّولِ و العَرْضِ
لأنّني أنا، من وَهْمِكُم وُلِدْتُ
و وَهْمُكم دعاني من أعلى خشبةِ المسرحِِ
أن أمثِّلَ دوْرَ مُنقِذِكم من المحنِ
( ثغاء تعظيم)
أيّها الخرفانُ
النّائمُونَ الطيِّبون
أنا حُلْمُكم الهابطُ إليكُم من الأعالي
جئتُ ألاعِبُكُم، أسْرَحُ بكم في هذي البراري
تَرْعَوْنَ في سُهولي وعلى جِبالي
(ثغاء تعظيم)
أنا … ملِكُ السّماءِ و الغُيومِ و الأنوارِ
و أنا ملِكُ الأعاصيرِ والسُّدودِ و الأنهارِ
أنا مانحُ الأرزاقِ، وانا قاطِعُ الأرزاقِ
و ما أُبالي
إنْ ركعْتُم أمامي طوابيرَ
جياع
لا أبالي بثُغائِكُم الخافتِ
أو نفخِكُـم في الأبــواقِ
ما دامَ في يدِي السّيفُ
بتّارُ الأعناق ِ
( ثغاء)
أيّها الخرفانُ
أَصْغوا وعُوا
وإذا وعيْتُم فاعْتَبِرُوا
لقد بِتُّ أرى كلَّ شيءٍ
فأنا العينُ التي بها تُبْصِرُون
وأنا الهواءُ الذي تتنفَّسُون
و لا يُمسِكُ بي أحدٌ
لأنني كالنّورِ
لا يقبِضُ على خيوطِهِ أحدٌ
(ثغاء)
لو جلسْتُم فوقَ رصيفِ الصّبرِ
قُرونًا فلن تُبصِروني
لأنّي بلا شكلٍ ولا حجمٍ
لا طعْمَ لي وبلا لونِ
أنا حادثةٌ ما حدَثَتْ
منذُ بلايينِ القرونِ
( ثغاء تعظيم)
أيّها الخرفانُ
أنا الأوّلُ و الأخيرُ
أنا الوحيدُ والأعدلُ
فانْسَوْا ما قرأتُم
و انسَوْا ما كتبتُمْ
و امْسَحُوا أذهانَكُم من كلِّ عِلْمٍ
اِكْسِرُوا أقلامَكُم …واتْبَعُـونـي
(ثغاء استجابة)
أنا الظُّلْمَةُ تغمُرُكُـــم
و أنا النارُ تُحرِقُكُم
تُحْرِقُ حــقـولَكــــــم
و الأعشـــــــــابْ
( ثغاء خوف)
أسرَحُ بكم من الصباح ِ إلى المساءِ
خرفانًا في البرّيه
أضربُ، أسجُن، أقتُلُ مَن أشاءُ
بكلِّ حُرّيه
و أنتم صاغِرون تُقدِّمونَ ليَ الطاعةَ
الأبديّه
(ثغاء)
يدِي تَـلْـثُـمُـون…
قدمِي تُـقَـبِّـلون
واعلَمُوا أنّكُم أقْنانٌ
و عبيدٌ في نظامِ العبُوديه
( ثغاء)
أيْ عبيدي!
اُتْرُكوا أطفالَكم من غيرِ خبزٍ …واتبَعُوني
اُتْرُكُوا نِسوانَكُم من غيرِ بعْلٍ…واتْبَعُوني…
(ثغاء خنوعٍ)
مطَرٌ مطرٌ مطرْ
هل تُريدونَ المطرْ؟؟؟
مَن سوايَ يُرسِلُ لكُمُ المطرْ
مَن… سوايَ أنا ؟
(نسمع صوت تصاقط المطر)
أنا الرّاعي
فارفَعُوا رايَتي أعْلى مِن كلِّ القِمَمْ
ولْيَكُنْ تِمثالي أعْلى مِن جبالِ كلِّ الأمَمْ
عيْني على كلِّ بابٍ
فاحْذَرُوني!!!!!!
(ثغاء)
اِرْفَعُوا فوق زَرَائِبِكُم تصاويري
وبالشَّعْرِ غَطُّوني
في البَرْدِ أتدَفّأُ بِصُوفِكُم
في الصَّباحِ أُفْطِرُ بحليبِكُم
في المساءِ أشرَبُ خُمُورَكُم
في اللّيْلِ أضاجِعُ غِلمانَكُم
فأنا الراعي و أنتمُ الرعيّه
أنْكَحُ مَن أشاءُ… ومتى أشاءُ …
(ثغاء)
أنا بعْـلُـكُـمُ الوحيدُ
"فابعَـثُـوا زوجاتِكُم يَـحْـمِـلْـنَ مِنّي
و ابْعَـثُـوا أزْواجَـكُم كيْ يَشْـكُروني
اِنْـتَـقُـوا لي أصْغَرَ الزّوْجاتِ سِنًّا …
فأنا لستُ أشيخُ…
ولا جسَدي يَشيخُ…"
(ثغاء)
أُخْصيكُمُ فرْدًا فَرْدًا
قـبْـلَ مَماتي
أُهَـمِّـشُ أفْكارَكُـمْ كيْ لا تَكُونوا شـيْـئًا
في الزّمَنِ الآتي
أنا الدّهْـرُ و الإنسُ و الجانْ
ألْـبَـسُ ما أشاءُ
أشْـرَبُ ما أشاءُ
أفْـعَـلُ ما أشاءُ
فأنا شيْطانٌ يَخافُهُ الشيطانْ
وأنا " قِـدِّيسُـكُـم" في كلِّ مكانْ
بِإِصْبِعي هذا أغَـيِّــرُ ما أشاءُ، ومتى أشاءُ
أُحِــلُّ لي ما أُحَـرِّمُـهُ عليكُم…
و أُحَــرِّمُ الحلالْ …
فأنا سُلْطانُ هذا الزّمانْ
إنْ غَضِبتُ
فكما أشاءُ أغْضب ُ
فأُرسِـلُ الإعْصارَ و البُـرْكانَ
و الفيَضانَ و الطّوفانَ
يا ويْلَكُم !…إنْ غضبتُ …
أسدًا أكونُ، وكالصاعقةِ أَمْـحَـقُــكُـمْ
مِثلما الـذُّبابُ يُـمْـحَـقُ
قبل أن يَـصْـدُرَ عنه أزيزٌ
(ثغاء استرحام)
أُجَـرِّحُ أحَاسيسَــكُـم
أحَـطِّـمُ أحلامَـكُـــم
أحَــرِّفُ نواياكُــمُ
كما أشاءُ
فأنا شيطانٌ يَخافُه الشيطانُ
(ثغاء مرتعش من الخوف)
أعرفُ
أنَّـكُـم تَـلعَـنُـونَــني في الظلامِ
و أنّـكُـم تُصَـلّونَ في هيكلي
لأهـلَـِـكَ قـبلَ فــواتِ الأوانِ
و لكــنّــكــمْ
في ضوءِ النهارِ تَعـزِفـونَ لي
نشيدَ الســـــلامِ
بأصواتٍ كـَـفـَحـيــحِ الثعبانِ
أعرفُ
أنّكم بوجهــيْــنِ
وجهِ (إنسانٍ) و وجهِ (إبـلـيـسٍ)
أمّا أنا فلي وجهُ (قِدّيسٍ)
(ثغاء)
أعرفُ
أنّكم تـَرتـَجـفونَ خـوفـًا أمامي
وفي ظــلامِ الأقـبِــيــةِ
تُــشْـهِـرون أقلامَـكُم سُـيـوفـًا
على طيْفي
(ثغاء)
أصْدَقُـكُم أكْـذَبُـكُـم
شريـفُــكُـم أنـذَلُـكُم
و مُحرِمُـكُـــم زانٍ
(ثغاء استرحام)
أنا مزروعٌ في نبضاتِـكُـم
أُحِـسُّ وأسمعُ القيلَ والقالَ
وكلَّ ما يُـقـالُ
في السِـرِّ و العَـلـَـنِ …
وكـلَّ الأســرارِ
في هَـيْـكَـلي
تُـرَدِّدونَ ما أقـولُ، كالـبَـبَّـغـاءِ
وَ تَصـمُـتُـونَ عـمّا أفعـلُ بكمْ
في الظلامِ
لا تَـصرُخُـونَ، لأنّـكُـم خـرفانٌ…
مُـفَـتَّـحَـةٌ عيونُـكُم، لكـنّـكم نيامٌ
نيامٌ…
(ثغاء)
أيّها الخرفانُ
أنا الفاعلُ وأنتمُ المفعولُ
وأعرفُ أنَّـكم في هَـيْـكَـلي تُـصَـلُّونَ
لأهْـلَـكَ قـبلَ الأوانِ
(ثغاء)
أنا أقتُلُ كيْ لا تقتُلوني …
وأنا أشنُقُ كيْ لا تشنُقوني…
وأتغدّى بكم حتّى لا تتعشَّوْنَ بي
و أنا أدْفُنُكم في القبورِ
كيْ لا تدْفُنُوني
(ثغاء)
أنا الحـقُّ فلا تَـعْـصُوني
تَـتَـصلّـبُ شَرايـيـنُـكُـم
و قلوبُــكـم تَـتَـوقّـفُ
إنْ لـَمْ تُـطيعُـوني
أنا العاصِـفَـةُ الصفـراءُ
أكـنُـسُـكُـم كأوراقِ الخريفِ
أبـعَـثُـكُـمْ إلى الجحــيــمِ
إنْ سَـوّلتْ لكم أنـفُـسُـكُـمْ
أنْ تَـخْـدَعُـوني …
(ثغاء)
ضَـعُـوا في سـَلَّـتي أعْـنابَـكُـمْ
وإذا أنْـعَـمْـتُ عـلـيْـكُـم فاحْـمَـدُوني …
جِـىْـتُـكُــم وهــمــًا
جِــئْــتُــكُــم راعـيـًا
فاكـتُـبُوا تاريخَ ميلادي بلا زيْـفٍ
واذكُـروني …
(ثغاء القبول)
الأرضُ أرضِي
والسّماءُ سمائِي
فَـلْـتَـحْمَـدُوني إنْ جلستُ على صُـدُورِكُـم
ولْـتـحْمَـدُوني إنْ سـقـيْـتُـكُـم منَ الفيْضِ قطرةً
وَلْـتَـكُـونوا في بـيْـدَري خـرفـانـًا
تَـعْـلِفُ مِن فضْـلَـتي و بِـرازي
(ثغاء)
شَـرَفٌ أنْ تـأكُـلـوا حِـنطةَ جسـمِـي
شَـرَفٌ أن تـقـطِـفُـوا لوْزي وتِـيـنِـي
شـرفٌ أن تُـشبِهـوني
فأنا الأجمَلُ بينَ جميعِ ِ المارِقـينَ
وأنا بدرُ الدُّجى، وبياضُ الياسمينِ
(ثغاء)
أيّها الخِرفــــــانُ
كلُّ ما في الكوْنِ مِلكي
غازاتِهِ والسّــوائـِلَ
ماءَه والـكواكِـبَ
أنا الـقُـطبُ والعالَمُ حـوْلي يَـدورُ
فاتْـبَـعُـوني عسى و لعـلَّ
بَعْضًا مِن فضْـلَـتي تُـوهَـبونَ
(ثغاء ترحيب و موافقة)
أنا الذئبُ، أَنهَشُ لحـمَـكُم والعظـمَ إنْ جُـعـتُ
ودونَ أنْ أجوعَ …
أنا سُلطانُ هذا الزّمانِ
و كلِّ الأزمنةِ
أنتِفُ ريشَكُم في النّهارِ
وفي اللّـيـلِ جميـعَـكُـم
أضاجعُ …
جَسَدي المُـمْـتَـدُّ في هذا الكوْنِ لا يَـشيخُ …
وكُهـوفي المُظلمةُ لا تَـشيـخُ …
وجميع أجهزتي لا تشيخُ …
(ثغاء استكانة)
أنا الذي لا تراهُ العيونُ
جَـعَـلْـتُـمُـوني في أمخاخِـكُـم أُعَـشِّـشُ
وأنا كالهواءِ تَـتَـشَـرَّبُـني مسامُّـكُم والـدّمُ
تُطارِدُ حتّى الظِـلَّ مِنكُـم
في الليلِ و النهارِ
لا تَـمَـلُّ ولا تَـشيخُ …
(ثغاء)
أنا لا أقْـمَـعُ مَنْ يُـنْـشِـدُني الأشعارَ
و مَنْ لا يُخالِـفُـني الأفكارَ
فإنْ خرجـتُـم مِن ردائي
قَـمَـعْـتـُكُـم بالليلِ و النّهارِ …
نِظامي واضِحٌ
ومِـثْـلُ وجهي
في الصفاءِ…
(ثغاء)
كلُّ الوديانِ و السّواقي
تَصُبُّ في مُحـيـطاتي
أقـولُ للغـيْـمَـةِ إذْ أراها
"أمْـطِـرِي حيثُ شئتِ
فـنِـتـاجُـكِ مِن مُـمْـتَـلَـكاتِي
(ثغاء)
أنا الراعي و أنتمُ الرعيّةُ
فلا تَخْرُجوا عن تعاليمِي
و لا عليَّ
اِجْعَـلُوني لكُم نورًا و خيرًا ومُـنْـقِـذا
اِكْسِرُوا أصنامَكُم، مزِّقوا أوْراقَـكُم
واتبَعُوا وَهْمي وظِلّي…ولا تـسَّـاءَلوا
مَن أكـــونُ
فأنا مِن وَهْمِكُم وُلِدْتُ
وأنا بخُرافاتِكُم أعْلُو و أكـبُـرُ …
أنا صنيعَـتُـكُـمُ التي لها ركـعْـتُـمْ
فاتـبَـعُـوني و لا تسّاءَلوا …
قد حُـرِّمَ عليكُمُ السّـؤالُ
(ثغاء)
وأخيرًا يا خِرافي الوديعةَ
دَثِّـرُوني بأصوافِـكُـم
ولا تُسْـمِـعوني أصْواتَـكُـم
جَـهِّـزوا لي سريرًا مِن ذهبٍ
وافْـتَـرِشُـوا الأرضَ أنتُم
و تَـغَـطَّوا بالسّماءِ
خَـفِّـضُـوا أصواتَـكم
بلِ اخْـنُـقوها في الحناجِرِ …
ما لكم صامتونَ؟
ما لكم خانِعونَ؟
ما بالُـكُم تَركُضونَ وراءَ سَرابي؟
هل تَـلَـبَّـسَـكُـم ُ الشيطانُ
أمْ تُـراكُم "صُمٌّ بُـكْـمٌ فأنـتُـم لا تَـفْـقَـهُـون"
(يخرج يتبعه ثغاءُ الخرفانِ حتى يختفِيَ)
نسمع صوتًا يُنشد:
ياسارقَ إسـمِ السماء
دعْ عنكَ الرِّداء
انكشف عنك القِناعُ
وبانتْ صفحـتُـكَ السوداءُ
ظهرتْ تقـرُّحاتُـك العوراءُ
و إسْهالُ كلماتِـكَ الجوفــاءِ
و صداعُ جمَلكَ المصابةِ
بالتهابِ الأخطاءِ
ثم نسمع قصيدةَ الجواهري مغنّاةً:
نامي جياعَ الشعبِ نامي حرَستْكِ آلهةُ الطعامِ
نامي فإن لم تشبعي مِن يقْظةٍ فمِنَ المنامِ
إنتهت
..........................................
الإشراف اللغوي الاستاذة زينب حداد/تونس
مقالات نقدية
(1)
.. حين تتراجع الوضعية الحضارية عن روح
بقلم: أ. د. عقيل مهدي يوسف/ بغداد
يحاول الكاتب د. موفق ساوا.. في.. مونودراما.. مهزلة الراعي.. اللعب على مضمرات.. المفارقة.. أي.. البارادوكس.. فالشكل.. الوهمي.. المظهري يخفي وراءه أسرارا تخص شفرات التدليس والتنمر السلطوي وخيانة الامانة لمن يفترض فيه الحرص على مصير.. قطيعه.. الذي بات لا يفقه من دنياه سوى... الثغاء..؟.. والهلاهل.. وبالتالي اندرست لديه قيم الانسان بغسيل المخ والتلاعب بالعقول التي يحترف ادارتها من كان مؤتمنا على مصالح رعيته؟.. لا ان يسعى الى هلاكهم تحت صليل السيوف وقرع الطبول ونقر الدفوف.. لقبيلة من العبيد فقدت حريتها وارادتها.. وهم مسيرين مكرهين خلف راع سوغت له.. سفالته.. التنطع والتماهي مع رتبة.. الالهة...؟.. متنكرا.. بلحية بيضاء.. نابتة قرون في تاجه المقدس حاملا عصى قيادته الملونة بجميع الالوان. متماهيا مع.. الحرباء.. متفجرا على البسطاء والارامل والاطفال مثل أله البراكين الذي لا يبقي ويذر على كل من يتمرد ضد ارادة جبروته المطلقة.. فهو المتحكم بالوجود والعدم.. وبيده افانين.. السحر.. ونسج الخرافات... بسلوك دموي اخرق ... بسياسة الترغيب والترهيب... ما بين الجزرة والعصا.. يكرم من يشاء.. ويخسف الارض بمن يشاء.. ساعيا الى تكريس الكره بدل الحب. والحرب بدل السلام... في طوفان عات.. من الغل والعنصرية العارمة... الحقودة...
اتقدم بتحيتي للدكتور موفق ساوا في موقفه الانساني والإبداعي المسرحي الجاد.
(2)
مونودراما الراعي بين الوحدانيّة والرمزيّة
"مهزلة الرّاعي" للكاتب موفق ساوا
بقلم: الباحثة والناقدة: خيرة مباركي/ تونس
تكاثفت تجارب التحديث المسرحي عند العرب وذلك في إطار البحث عن أشكال أصيلة لمضامين معاصرة تؤرق الضمير العربي وتحفّزه على البحث عن طرائق للتعبير تكشف الواقع وتعرّيه من ترهّلاته التي باتت هاجسا للإنسان المعاصر، وتتبنّى رؤية إبداعيّة قادرة على استيعاب مشكلات المجتمع، وهو ما أفرز جملة من التوجهات النظريّة التي ارتبطت بذائقة فنيّة مجالها طبيعة الفن وما يعبّر عنه من جمال وأحاسيس، وكذلك من مواقف تجاه هذا الواقع، اقتضت تغيير الأشكال المسرحيّة وإنشاء بوادر مسرح جديد ولعلّ المسرح السياسي هو ذلك المجال التعبيري الذي يلوذ به المبدع لمناهضة القمع والاضطهاد خدمة للواقع عبر حركات تثويريّة تسعى إلى نظام اجتماعي جديد، وذلك وفق محتويات أيديولوجيّة تقاطعت فيها المشاغل الاجتماعيّة بالهمّ السياسي، كلّ ذلك في إطار تجريبي جمالي حاول فيه هذا المبدع أن يشكّل خطابه الخاص وفق رؤيته الذاتيّة في تخيّر وسائله الفنيّة، وهو فعل إبداعي يقوم أساسا على مساءلة الخطاب المسرحي بشقّيه النص والعرض. من هذا المنطلق لم يعد النص مركز الاستقطاب الوحيد بل هو عنصر ضمن منظومة من العناصر الدراميّة الأخرى التي تحولت من مجرّد مصاحبات نصيّة تجسّد النصّ ركحيّا إلى مكونات تستوجب بحثا مستفيضا ومحاورة له ممّا جعلها مرتكزات أساسيّة للعرض والجماليّة يتقاطع فيها الجمالي والإنشائي وكذلك الشعري والفني الدرامي. وفي خضمّ هذا التجريب يكون لكل مبدع يروم التميّز، الرغبة في البحث عن آلياته في هذه العمليّة التجريبيّة ومحاولة عرض مشروعه الجمالي وفق رؤيته وتصوّره، وهو ما نقف عنده في هذا النص المسرحي من المونودراما للكاتب موفق ساوا. هي شكل من أشكال التجريب المسرحي التي تطورت في القرن الثامن عشر مع رائدها الممثّل والكاتب المسرحي الألماني جوهان كريستيان براندس (Johann Christian Brandes) واتسعت رقعتها في القرن العشرين، قد تكون جذوره يونانيّة في التراث الملحمي اليوناني التي لعبت فيه العروض التراجيديّة دورها التربوي في مجالات المجتمع والأخلاق والسياسة، وقد يكون تطور التراجيديا من وضعيّة كان فيها الاختيار لممثل خاص من الجوقة إلى ظهور الممثّل الواحد ومهمّته محاورة قائد الجوقة، لكن موفق ساوا عدل عن المخاطَب - الجوقة إلى مخاطَب يقتضيه الواقع الاجتماعي والسياسي (الرعيّة) يجعل من النص المسرحي أو السيميائي مشهدا قوليّا يتحدّث فيه شخص واحد (الراعي) وهو المسؤول عن إيصال رسالة المسرحيّة ودلالاتها، وذلك ضمن خطاب فنّي يقوم على ثنائيّة نصّيّة: الإشارة المسرحيّة والحوار.
فأمّا الإشارة الركحيّة فهي إشارة وصفيّة تَصدَّرت النص وحدّدت الفضاء الركحي (خشبة المسرح فارغة) وهو إعلان عن وحدانيّة الممثل على الركح وحضوره فعلي مقابل شخصيّة غائبة على خشبة المسرح لكن حضورها فعلي في الخطاب وهو الجمهور، لعلّه من ضروب الحديث مع الغائب وهو حلّ من الحلول التي تجعل الممثّل الوحيد على المسرح يبحث له عمّن ينقذه من ورطة الوحدانيّة فيوجّه الحديث إلى آخر متخيّل ليكون الجمهور هو ذلك المتخيّل وهو ذاته الرّعيّة وجمهور المحاضرة التي يلقيها الرّاعي، وهذا من شأنه أن يضعف الصراع ويجعله خفيّا يكشف عنه الوصف في الإشارة الركحيّة (الجمهور في الصالة يفترش الأرض ... الجمهور ينهض حال هبوطه مبجّلين ومهلّلين ومصفّقين و بإشارة من يد الدرويش يرتدون قناع الخرفان... والجمهور يرقص على أصوات الطبول)، هي صورة الانقياد المطلق والتبعيّة للراعي تعمّق الانفصال من طرف الرّاعي، ومن ثمّ تكشف عن واقع سياسي متعفّن مأزوم أعلنت عنه صورة الانسحاق أمام سلطة الحاكم، إنّه شكل من أشكال التصوير التحريفي الذي يضخّم العيوب ويبالغ في عرضها من استكانة وطاعة عمياء، وجرّدها من آدميّتها في صورة رمزيّة ذات دلالات عميقة على الخوف والانقياد المطلق والاستلاب (يرتدون قناع الخرفان) وتدعم حركة الإذعان الموسيقى المصاحبة (سماع موسيقى مع أصوات الطبول... يرقص على أصوات الطبول وهي عبارة عن براميل النفط) هي رؤى إخراجيّة واشتغالات السينوغرافيا التي تدعم عنصر الفرجة وتجعله أكثر بروزا يمكن أن يعوّض فراغ الخشبة ووحدانية الممثل، فيحوّل الصمت إلى صخب يرافق العرض المونودرامي.
إنّها محاولة لتجاوز سلبيّة المتفرّج يتحوّل فيها الجمهور إلى مشارك في العرض، حاضر على الركح لكنّه غائب في الحوار. كلّ ذلك من شأنه أن يفتح على بوادر مسرح ملحمي تغريبي عبر بعض أسس التغريب مثل كسر الجدار الرابع وتحطيم مبدأ الاندماج في المسرح الكلاسيكي ممّا يجعل الجمهور شريكا فعليّا في الحدث المونودرامي باعتباره طرفا هامّا ومتقبّلا للخطاب، يهيئ للحدث دون وسيط سردي.
قد يكون إختيارًا متعمّدا ومقصودا للجمهور بهذه الشاكلة، وله دلالاته ومقاصده وذلك أن الجمهور هو نفسه الرعيّة التي اقتصر دورها على التهليل والتصفيق، فهم يفترشون الأرض ولعلّها صورة يكنّي بها عن واقع الحال من فقر وخصاصة، ولكنّهم (يفرشون للراعي سريرا من الذّهب وفراشا من الحرير) هنا قد نستحضر عبر هذه الصّورة قول أبي حيان التوحيدي "كما تكونون يُولّى عليكم".
فالجمهور الرّعيّة أو المتفرّج ينبغي أن يعي أهميّته في مثل هذا العرض السّلطوي، فكل ما يدور على الخشبة يستهدفه ويتوجّه إليه، بمعنى أن قيمة العرض مرهونة بالموقف الذي يتخذه ممّا يقع ويحدث، وهنا نقد ضمني للجمهور العربي وصغارته التي صنعها بنفسه أمام الراعي وانسحاقه في سلبيّة مميتة.
إنّه جمهور الوعي المستلب والذائقة المخرّبة التي تعيد إنتاج التخلّف والتبعيّة، وهو ما اختزله صوت الجواهري الشعري، جعله الكاتب بمثابة الخاتمة والنهاية التي يسدل فيها الستار، وهو صوت أشبه بالجوقة في المسرح الكلاسيكي تختزل الحدث الدرامي وتكون لسان حال الكاتب في لحظة حاسمة يعلن عبرها مواقفه ويفصح عنها على لسان المنقول، فيكون حدث النوم أشبه بالموت ومن ثمّ تكون النهاية أقرب إلى التراجيديا إذا ما اعتبرنا رمزية النوم وهو الموت الأصغر أمام الموت الأكبر، نوم أمة بأكملها اختارت الخنوع والاستسلام على المضي قدما في صناعة المجد.
وبين الإشارة الأولى الافتتاحيّة وإشارة النهاية يحضر الحوار وخطابه الانفعالي.
هو الحوار الدرامي المنطوق فوق الرّكح وهو من أهم العناصر الفعّالة والحيويّة التي يقوم عليها بناء المسرحيّة، وقد ورد في هذا النص أحاديّا، اقتصر الملفوظ على شخصيّة واحدة وهي شخصيّة الراعي وهذا ما جعل منه مخاطبة مطوّلة (réplique) يتلفّظ بها ممثّل واحد في شكل تيرادة (Tirade) يتحوّل فيها الفعل التبادلي إلى وحدانيّة وفعل ذاتي، يقوم الكاتب بتحفيز شخصيّة الراعي ويدفعها نحو التطور والنمو، وهو في هذا السياق يسعى إلى إنطاقه بخطاب سياسي يخاطب به الرعيّة في نبرة هجوميّة وخطاب تأثيري فيه مكاشفة ولوم وتقريع يعمّق عبره المفارقة بين صورة الراعي المتسلّط وصورة الرعيّة الخاضعة.
ويصعّد الحالة الدراميّة عبر خطاب شعري من خلال ما وظّفه من لغة شعريّة وإيقاعات داخليّة تقوم على الترديد أساسا فعلا تلفّظيّا يعمّق الهوة بين المخاطِب والمخاطَب (أنا الرّاعي وأنتم الرّعيّة ... رعيّتي يا أجبن الجبناء... أنا الراعي وأنتم الرّعيّة...) هو حوار مكاشفة تمتلك فيه الشخصيّة ديناميكيّتها على الخشبة ولغتها الحيويّة التي تستفزّ الضمير الجمعي وتستنفره بالخطاب المثقل بدلالات العنف تظهره سجلات لغويّة مختلفة مثل سجل القتل والتعذيب الجسدي (أضرب، أسجن، أقتل، أخصيكم...) وسجل ديني (شيطان، قدّيس، الحلال، الحرام، إبليس، الله، الرّحمة...) هذا فضلا عن المعجم السياسي (الراعي، الرّعيّة، الطاعة، الحريّة، السوط، السيف...) إضافة إلى المعجم الأخلاقي (الجبناء، ـ لعنوني، أصدّقكم، أكذّبكم، أسرق،...) وتتواشج هذه المعاجم لتشكّل مشهديّة حواريّة متلفّظة لفضاء تصوّري يجسّد فيه الممثّل مشاهد العنف والرّعب بين التهديد والوعيد، تدعمه هندسة إيقاعيّة قائمة على التقابل المحوري (الصباح/ المساء – الإنس/ الجان- أصدقكم/ أكذبكم – أشرفكم / أنذلكم ...) وهذا من شأنه أن يجعل هذه التيرادة عاصفة مدوّية نتيجة لضروب القسوة التي لجأ إليها المؤلّف، قد تكون على لسان الرّاعي، ولكنّها في الواقع لسان حال الرّعيّة، هو وعيها وضميرها يستعيره الحاكم ليعمّق شروخ تفكيرهم المتكلّس ووعيهم المحنّط من خلال هذه الصّدمة المزلزلة وهو يمعن في إهانتهم، وكأنّ الكاتب يستفزّ فيهم النخوة بهذه المبالغة في القسوة لعلّ الوعي بالعنف يؤدّي إلى عنف الوعي الذي يشحذ الهمم.
بذلك يمكن أن نخلص إلى القول إنّ المونودراما فعل إبداعي بقدر قساوة الموقف ودرجة الاستفزار تكون الإثارة للوعي والتنبيه إلى ما ينجرّ عن الاستبداد السياسي من سحق لكرامة الفرد وإجهاض لحريّته، أمام توسّع الهوّة بين القمّة والقاعدة، هو خطاب الاعتراف كما هو خطاب مكاشفة، استنفار الحاضر وتشكيل صورة قاهرة لوضع سياسي مترهّل لجمهور مترهّل يكتفي بالفرجة ويهيئ للراعي سريرا من حرير وذهب، إنّه مسرح التعرية حين يوظّف لمقاصد توعويّة تحقق مشروع الكاتب بين النقد والحلم بمستقبل أثير ولكن جياع الشعب نيام، يستفزّ وعيهم بالهزيمة ويستنهض هممهم وتكون المأساة الحقيقة الثابتة والمتجدّدة حين يعلن في الختام أنهم ينامون أرضا.
وضعيّة سلبيّة أمام مرآة الوهم المسرحي بين مطلق الإرادة وحدود الإمكان، ويبقى التجريب الفني محاولات المبدع المغامر للبحث عن آليات قادرة على استيعاب مشكلات الإنسان المعاصر.
0 التعليقات:
إرسال تعليق